أمل الكردفاني - الإحساس بالمفردة

ا

كتبت قبل سنة تقريبا نصا قصيرا جدا مطلعه الآتي:
- أزرع الأوهام في عقلي
ويأكلها الصباح...

أو شيء قريب من ذلك...
المهم.. اعترض أحدهم مصححا بأن الصواب لغة استخدام حرف الفاء (فيأكلها) بدلا عن الواو..
لقد استعرضت له جوابي بصدق حول كيف أنني تعمدت ذلك.. لأن لحرف الواو هنا دلالته الزمنية التي تختلف عن حرف الفاء... فحرف الواو (ويأكلها).. تحدث انقطاعا زمنيا طويلا خلافا لحرف الفاء ، جاء محمد فعلي.. هذا المجيء المتتابع سريع جدا... ولكن جاء محمد وعلي .. هل جاءا معا أم تعاقبا ، هنا تحدث تلك الفجوة الزمنية..الاحساس بامتداد طويل لليل الذي تتغذى ساعاته بزراعة الأوهام والأحلام... يمتلك الليل هنا سطوة حضور أكبر ، أما الصباح فهو النهاية السريعة لكل تلك الساعات الليلية المظلمة. فالواو من ناحية أخرى لها دلالة الديمومة ؛ لذلك فقد كثرت معانيها وأنواعها. فقد جاء في التهذيب : الواوات لها معان مختلفة لكل معنى منها اسم يعرف به : فمنها واو الجمع كقولك : ضربوا ويضربون وفي الأسماء : المسلمون والصالحون ; ومنها : واو العطف والفرق بينها وبين الفاء في المعطوف أن الواو يعطف بها جملة على جملة ، لا تدل على الترتيب في تقديم المقدم ذكره على المؤخر ذكره ، وأما الفراء فإنه يوصل بها ما بعدها بالذي قبلها والمقدم هو الأول ، وقال الفراء : إذا قلت : زرت عبد الله وزيدا فأيهما شئت كان هو المبتدأ بالزيارة ، وإن قلت : زرت عبد الله فزيدا كان الأول هو الأول ، والآخر هو الآخر ، وقال في واو الدوام وهي كل واو تلابس الجزاء ومعناها الدوام ، كقولك : زرني وأزورك وأزورك ، بالنصب والرفع ، فالنصب على المجازاة ، ومن رفع فمعناه : زيارتك علي واجبة أديمها لك على كل حال.
فللحرف إحساس خاص وللمفردة إحساسها الخاص ، لا يوجد في اللغة مترادفات أبدا ، فلكل مفردة معنى مبطنا داخل حوايا استعمالها. فلأضرب مثلا بجملة: (فخرج الرجال) ، وجملة (غادر الرجال).. الخروج ليس المغادرة.. الخروج هو حركة تجاوز لنقطة مكانية وأخرى تكون النقطة الأخيرة هي الهدف. أما المغادرة فهي مفردة تجعل الحيز المكاني (الأول) هو الهدف. المكان الذي تمت مغادرته هنا شاغر ؛ نحن نرغب في أن نقول ذلك. غادر من هنا.. فالمكان شاغر...وهنا يكون المغادر حاضرا في ذلك الحيز الشاغر بثقل أدبي ما . فهنا كتلته المعنوية وضعت بصمتها في هذا الحيز. يكون الخروج عبورا (نحو) أما المغادرة فعبورا (من). دعنا نراجع الأمر معجميا لنتأكد من ذلك.
جاء في المعاجم:
(غادر: (اسم)غادر : فاعل من غَدَر َأَغْدَار: (اسم)أَغْدَار : جمع غَدَر
غَدَر: (اسم)الجمع : أَغْدَارٌ
الغَدَرُ : كلُّ موضع صعب كثير الحجارة والشُّقوق لا تكاد الدابة تنفذُ فيه
الغَدَرُ : الوَحلُ الذي يبقى في النهر إِذ ينضُب ماؤه والجمع : أَغْدار
رجل ثَبْتُ الغَدَر : ثَبْتٌ في القتال
وما أَثْبَتَ غَدَرَهُ : إِذا كان لسانُه يثبُت في موضع الخصومة والزَّلَل
وفرسٌ ثَبْتُ الغَدَرِ : يثبُتُ في موضع الزَّلل)
فنلاحظ هنا أن تلاهتمام منصب ليس بالمكان المغادر إليه بل المكان المغادر منه. والمكان هنا يرتبط بالمغادر ارتباطا معنويا وثيقا. فلنلاحظ لمعنى غدير كيف أن الغدير مياه (راكدة) أي هنا ؛ قليلة العمق ، (يغادرها) السيل.
وعلى العكس من ذلك ؛ يهتم الخروج بالهناك ؛ فلننظر في المعاجم:

خرج (المعجم لسان العرب)

" الخُروج : نقيض الدخول .
خَرَجَ يَخْرُجُ خُرُوجاً ومَخْرَجاً ، فهو خارِجٌ وخَرُوجٌ وخَرَّاجٌ ، وقد أَخْرَجَهُ وخَرَجَ به .
الجوهري : قد يكون المَخْرَجُ ((موضعَ الخُرُوج))ِ .
يقال : خَرَجَ مَخْرَجاً حَسَناً ، وهذا مَخْرَجُه .
والاستخراجُ : كالاستنباط .

لذلك فعندما نتمرس على الكتابة لا يحتاج المرء منا للبحث عن المعنى فالمعنى هنا يحس أولا ؛ ويكون لكل جملة مفرداتها الخاصة بها.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى