العربي مفضال - تكسير جدار الصمت -5- بناء سجن تزمامارت

بعض السلوكات العسكرية لازمتني لفترة غير قصيرة في حياتي المدنية ما أثار سخرية زملائي
في أوائل صيف 1967، تم نقل فصيلنا إلى جوار قرية تسمى “تزمامارت”، وتقع على بعد كيلومترات شمال الريش، ووضعنا رهن إشارة مساعد أول (أجودان شاف)، كان يشرف على إنجاز مجموعة من البنايات العسكرية. أقمنا في الخيام واستخدمنا أسرة التخييم، واستمر مقامنا هناك حتى أواخر الخريف. وعانينا بسبب الحرارة الشديدة في الفترة الأولى، وقساوة البرد في الفترة الثانية، وكنا في النصف الأخير من الخريف، نستخدم في الليل معظم ألبستنا بما فيها “الشنضاي (تريكو زيتي)”، ولباس الميدان والمعطف الكبير، إضافة إلى الأغطية الفردية.. ورغم كل ذلك لم نكن ننعم بالدفء الكافي.
اشتغلنا طيلة تلك الفترة في إعداد “البريك”، وفي مساعدة البنائين المدنيين بإعداد وإيصال “البغلي” ونقل الأحجار. وفي أوقات الراحة والفراغ، استكشفنا مرتفعات المنطقة، ودلنا بعض العارفين بها إلى المواقع التي رابطت فيها قوات “عدي أوبيهي”، عامل تافيلالت حين أعلن تمرده على الحكومة بداية 1957. وقام بعضنا باصطياد “الضب” وظل أحدهم، وكان يتحدر من إقليم ورزازات، يردد على مسامعنا “أكل الضب على مائدة الرسول” عليه السلام. بطبيعة الحال، فإن لا أحد منا دار بخلده يومئذ، أن ما ساهمنا في بنائه بأيدينا سيتحول إلى أبشع سجن ستعرفه البلاد، خلال سبعينات وثماننات القرن الماضي، سجن تازمامارت الرهيب.
في أواخر نونبر عدنا إلى القنيطرة، حيث المقر الرئيسي لفوج الهندسة العسكرية، وتمت ترقيتنا إلى رتبة عريف، «كابورال»، وبعد ذلك تم تسريحنا وتخصيص شهر دجنبر عطلة لنهاية الخدمة.
بعد نهاية عطلة نهاية السنة، عدت في يناير 1968 إلى الثانوية التي غادرها عدد من زملائي الذين حصلوا على الباكلوريا، ووجدتني وقد تبخرت فرحة إنهاء الخدمة العسكرية، أعود إلى المحفظة نفسها وإلى الدراجة الهوائية نفسها، وإلى الطريق نفسه، الرابطة بين «درب ميلان» (عمر بن الخطاب حاليا) وثانوية عبد الكريم لحلو قرب درب غلف.
وبقيت خلال ذلك الشهر في حالة شرود داخل القسم، خاصة أثناء دروس الإنجليزية والفرنسية، وبعد ذلك التقطت أنفاسي واستجمعت قواي وانتفضت على نفسي، وبذلت جهودا ذاتية في هاتين اللغتين، وأصبحت بعد فترة من الأوائل في الإنجليزية أشارك في الممارسة الشفهية لهذه اللغة، واكتب بها نصوصا قصيرة كنت أعرضها على أستاذي الأمريكي، وكان الأخير ينوه بمجهوداتي الإضافية، فضلا عن ذلك تحسن مستواي في الفرنسية وأصبحت مسايرتي لدروسها وفروضها مقبولة.
لم أتحدث عن المواد الأدبية والاجتماعيات، لأنني كنت متفوقا فيها باستمرار، ولم أعد إلى دروس الفلسفة بفروعها، لأنني أشرت على تفوقي فيها سابقا إلى حد دفع أستاذي إلى نصح تلاميذه بأداء الخدمة العسكرية للتقدم في الدراسة.
والطريف في الأمر أن بعض السلوكات العسكرية لازمتني لفترة غير قصيرة في حياتي المدنية، وعلى سبيل المثال، فعندما كان يناديني أحد الأساتذة، كنت انتصب واقفا بصورة أوتوماتيكية وسط ضحكات وقهقهات زملائي.
لكن ما تميزت به في مجمل فترات حياتي من جدية والتزام وانضباط، لا يعود في معظمه إلى تجربة الخدمة العسكرية بل يعود إلى ما زرعته الوالدة فينا.
في ختام الحديث عن الخدمة العسكرية الإجبارية، أود إذا سمحت لي، أن أعبر عن استغرابي مما جاء في شهادة الروائي الكبير المغربي الفرنسي الطاهر بنجلون حول موضوع هذه الخدمة، ، فقد اكتفى بنجلون بوجه واحد للموضوع، لم يكن الوجه الأساسي، ويتعلق الأمر بقمع الشباب والتحكم فيه أعقاب انتفاضة 23 مارس 1965، لكن الكاتب اللامع انساق في رد فعله المتشنج إلى تجربة مر عليها أكثر من نصف قرن.. نسي أن التجنيد الإجباري لم يقتصر على الشبيبة المتمردة، في الثانويات والجامعات، بل شمل شرائح واسعة من أبناء العالم القروي وأبناء الأحياء الشعبية العاطلين، فضلا عمن كانوا يزاولون أعمالهم في عدة قطاعات، ولقد تمكن الكثير من هؤلاء، من اكتساب مهنة محترمة أمنت لهم العيش الكريم، بعد إتمام واجبهم الوطني، أما الشدة والفظاظة والقسوة التي كان يتلقاها المجندون من قبل مدربيهم المباشرين، .. فقد كانت سمات عادية لأسلوب متبع في تداريب كافة جيوش العالم، بل إنها كانت أقل شراسة في الجيش المغربي. ولقد غمرني السرور قبل سنوات عندما علمت أن أفضال فترة الخدمة العسكرية ما تزال متواصلة، وأنها ستحتسب في التقاعد جنبا إلى جنب مع بقية الخدمة الأخرى.


أعلى