سأتحدث لكم كيف وصلت الأرض الليبية : لقد كان يوماً ذا ريح لا ندري هل ستمطر أم تهدأ وتصحو. أنا في عمان – الأردن. وفي الطريق إلى "العبدلي" حيث شركات النقل البري، دفعت ورقة بمائة دولار أجرة لحافلة نقل المسافرين إلى بنغازي عبر العقبة وسيناء.
كان صباح تتوزعه الغيوم ويتوزعه القلق والتردد وخَشيةُ ماسيجيء. ثم رحلة مربكة تخللتها مزعجات انتظار في العقبة، فاتتنا العبّارة وعلينا الانتظار حتى تجيء الثانية في الصباح. قضينا الليل أمام الله والكون في الريح والعراء عزاؤنا إننا تحت سماء الله، السقف الأبدي الذي يغطي الجميع.
ومن الانبهار ومن التعب الذي صحبنا ومن هوس التطلع إلى سيناء موسى والتوجس من حدث، من تيه عبر تلال التاريخ الجرد والاهتزاز في الحافلة باتجاه مصر، وجدنا استراحة، فندقاً - مطعماً ومسافرين قبلنا وصلوا ... بعض استطاع أن يتناول طعاماً، بعض أكتفى بالشاي، بعض، وهم الكثر، لا يملكون نقوداً، فقد دفعوا أجرة السفر، وبانتظار الوصول ويلقاهم أحد.
توقفت الحافلة في القاهرة، نصف ساعة، ساعة، ونواصل السفر، لكنها طالت أكثر من ساعتين، فرصة للتجوال في المنطقة القريبة، للأقتراب لعالم القاهرة، لكن حدود الحرية واضحة، جوازات سفرنا لدى الشرطي، فلا مجال سوى أن نظل باتجاه الصحراء الليبية.
أبدلوا الحافلة، لعطب، أو لسبب لا ندريه، الحافلة الجديدة الآن في الطريق إلى الإسكندرية، وإلى مرسي مطروح وإلى السلوم، ومنها إلى طبرق أولى المدن من البلاد التي تسمى ليبيا، والتي وحدها كانت ترحب بالعرب المهاجرين، الباحثين عن عمل. أنا باتجاه طبرق حيث العمل الموعود وحيث سأقضي سنين.
ليس ما كان كلاما. هو سهر وانتفاخ ساقين وخوف من مجهول أو طارئ وعدم اطمئنان من سلامة القرار ... أنا الوحيد من ركْب الحافلة، نزلت في طبرق، لتواصل الحافلة المصرية قطع الصحراء ، (فالأردنية أوصلتنا إلى العقبة وعادت...)
أتخذت تاكسي إلى شركة نفط الخليج، إلى الأستراحة الثانية، لأعيش سنين. هكذا كنت النزيل الجديد والاسم الجديد المضاف إلى العاملين هناك . ناس من أصقاع شتى. تذكرت الخانات في الطرق البعيدة، أنا بين بشر من ألمانيا، صربيا، مصر، السودان فضلاً عن الانكليز والليبيين للإشراف غالباً والإدارة، هم مهندسون، تقنيون، كهربائيون وأصحاب حرف يحتاج لها النفط ليخرج وليُحَمَّل ويُباع...
هو الاستقرار أو بدء الحياة الجديدة ، وهي "الاستراحة الثانية" يسمونها، فهناك "الاستراحة الأولى" للمتزوجين، والاستراحة الثانية هذه مبنى لا يبدو منتظماً، سلم للأسفل وغرف جانبية، وهي على هضبة صخرية تتصل برمل الصحراء من قاعدتها وتمتد إلى البحر.. حدثني ليبي عارف بتاريخها، قال : هي مركز قيادة عسكرية في حرب العلمين، طوّرت من بعد لتكون دار ضيافة وسكن للمهندسين والعاملين في شركة نفط الخليج. من يدري فقد تكون غرفتك هذه مكان نوم ضابط استشهد أو قائد عاد سالماً ولكن بجراح، وقد تكون جزءاً من مخزن ذخيرة، لك ما تشاء.
كانت أياماً طيبة بعد قلق، غرفتي مكيفة لها نافذة استطيع منها أن أرى البحر وإن بعُدَ قليلاً، وخدمات دار الاستراحة متكاملة، ثلاث وجبات طعام وغسل وكي ملابس والعمل لطيف غير متعب، والمبهج، الذي اكتشفته لاحقا، أن أقرأ كتباً من بقايا مكتبة الجيش البريطاني والتي تقع على مبعدة دقائق في السيارة عنا، وأحصل على دفاتر الشركة الصغيرة المستطيلة الخضر فرحتُ أكتبت أوراق سفر و مقطوعات شبه قصائد..
طبرق بلدة حيية حميمة التماس وأضواؤها في الليل بهيجة للقادمين لها في البحر.
مرةً في الأسبوع، مرتين، ننحدر إلى البلدة، إلى أزقتها ومخازنها الصغيرة والدكاكين، نشتري ما يصادفنا ليكون هدايا نحتفظ بها لعودتنا، ونشتري فواكه ونتجه بعد ذلك، أحياناً قبل ذلك، إلى البريد لنتصل بأهلنا في العراق البعيد.
اتصالات قديمة، تلفون عادي وحصول خط من البدالة المحلية والبدالة المركزية في العاصمة طرابلس ليتم التحويل إلى بغداد. يومأ يمكن التواصل، أياماً لا يمكن. لكن البريد ملاذ عواطفنا الأخيرة ومحطتنا التي نلتقي ونشعر فيها بالقرب من البلد والبيت.
يوماً دخلت مبنى البريد، استقبلنا الموظف الليبي طيب القلب، وعدني بالحصول على خط للعراق وبقيت أنتظر، دفعت الباب بلطف ودخلت فتاة ليبية وديعة ذات جمال من ذلك النادر الذي يتخفى فلا يُرى الا صدفةً فهي من الصحراء القديمة والعريقة التي تخبئ ذهباً واقاصيص أو من الأزقة والمدائن التي لا يعرفها أحد، وجه خفيف السمرة صاف وعينان تقولان لك أنا من تلك السلالات التي لا يعرفها أحد ... بسيطة هادئة، كان بيننا حديث كريم عن الغائبين في الأصقاع، عن العراق والقصص التي تسمعها عنه وعن انتظار خط للكلام مع الأبناء، هي أشواق ومتاعب الغرباء ... سؤال موجع حملته رقتها والحنان الصافي : لماذا يكثر العراقيون هذه الأيام هنا، ماذا في بلادكم جميلة التاريخ والقصص؟
ارتياح متبادل، رضا جميل، عواطف ناعمة اتضحت ولمحات مهذبة حَذرة في الكشف...، وهبت العاصفة! عاصفة رملية اكتسحت ما واجهته وهذا اكتسح ما واجهه فلا تسمع إلا تساقط الصفيح والعويل الصحراوي المخيف. لم تبق حامية ولا ظل كشك وتطايرت قطع من حديد وعلب وخرق وحجار. أختض مبنى البريد وظل يرتج علينا بعد غلق الباب حتى خشينا أن تقتلعه العاصفة، لا ندري في ذلك الهول مصائرنا، حتى إذا هدأت وبدأ الوضوح، فتحنا باب مبنى البريد وقد اختفت مُحَدّثتي. اختفت وريثة الجمال الذي خسِرَتْهُ عبر السنين الحياة.
في اليوم الثاني، الساعة نفسها، كنت في مبنى البريد لعلي أراها، الأسبوع التالي وفي اليوم نفسه والساعة نفسها كنت هناك، لعلها تفكر بلقاء مثلي وأنها مثلما انتظر، تنتظر، ولم تأت. سنة مرت، سنة ثانية وأنا كلما نزلت إلى البلدة، طبرق، اجوب الأزقة بحجة المخازن، بحجة شراء فاكهة ... لعلي أراها. لم ألتق بها وقد انتهت السنة الثانية..
اليوم كنت أشتري هدايا لأولادي، فهي إجازتي اقتربت، انتقل من مخزن صغير في طبرق إلى آخر وعيناي تبحثان عما تريد الروح وما أنفكت تريد أن ترى. ليست معجزة، لكنها كانت أمامي صُحْبَة امها العجوز المحَمَّلة بالمصوغات القديمة والوشم! توقفتُ من المفاجأة وتوقفتْ. هنا الكلام مع النساء بتحفظ، بحذر، لكني تقدمت وحييتها، قلت تذكرت البريد، تذكرت يوم اكتسحت العاصفة الحياة كلها وغبتِ. وطول هاتين السنتين انتظر أن أراك ... بحياء شجي، بأسف لا أدري ما وراءه، ربما بنوع من الانكسار، نطقت واهنةً بعسر. رفعت عينيها وخفضتهما كما بلا حولٍ ، كما بيأس عميق : "مصحوباً بالسلامة ، لا تبحث عن شيء ضاع في العاصفة". وغابت مرة ثانية...
كان صباح تتوزعه الغيوم ويتوزعه القلق والتردد وخَشيةُ ماسيجيء. ثم رحلة مربكة تخللتها مزعجات انتظار في العقبة، فاتتنا العبّارة وعلينا الانتظار حتى تجيء الثانية في الصباح. قضينا الليل أمام الله والكون في الريح والعراء عزاؤنا إننا تحت سماء الله، السقف الأبدي الذي يغطي الجميع.
ومن الانبهار ومن التعب الذي صحبنا ومن هوس التطلع إلى سيناء موسى والتوجس من حدث، من تيه عبر تلال التاريخ الجرد والاهتزاز في الحافلة باتجاه مصر، وجدنا استراحة، فندقاً - مطعماً ومسافرين قبلنا وصلوا ... بعض استطاع أن يتناول طعاماً، بعض أكتفى بالشاي، بعض، وهم الكثر، لا يملكون نقوداً، فقد دفعوا أجرة السفر، وبانتظار الوصول ويلقاهم أحد.
توقفت الحافلة في القاهرة، نصف ساعة، ساعة، ونواصل السفر، لكنها طالت أكثر من ساعتين، فرصة للتجوال في المنطقة القريبة، للأقتراب لعالم القاهرة، لكن حدود الحرية واضحة، جوازات سفرنا لدى الشرطي، فلا مجال سوى أن نظل باتجاه الصحراء الليبية.
أبدلوا الحافلة، لعطب، أو لسبب لا ندريه، الحافلة الجديدة الآن في الطريق إلى الإسكندرية، وإلى مرسي مطروح وإلى السلوم، ومنها إلى طبرق أولى المدن من البلاد التي تسمى ليبيا، والتي وحدها كانت ترحب بالعرب المهاجرين، الباحثين عن عمل. أنا باتجاه طبرق حيث العمل الموعود وحيث سأقضي سنين.
ليس ما كان كلاما. هو سهر وانتفاخ ساقين وخوف من مجهول أو طارئ وعدم اطمئنان من سلامة القرار ... أنا الوحيد من ركْب الحافلة، نزلت في طبرق، لتواصل الحافلة المصرية قطع الصحراء ، (فالأردنية أوصلتنا إلى العقبة وعادت...)
أتخذت تاكسي إلى شركة نفط الخليج، إلى الأستراحة الثانية، لأعيش سنين. هكذا كنت النزيل الجديد والاسم الجديد المضاف إلى العاملين هناك . ناس من أصقاع شتى. تذكرت الخانات في الطرق البعيدة، أنا بين بشر من ألمانيا، صربيا، مصر، السودان فضلاً عن الانكليز والليبيين للإشراف غالباً والإدارة، هم مهندسون، تقنيون، كهربائيون وأصحاب حرف يحتاج لها النفط ليخرج وليُحَمَّل ويُباع...
هو الاستقرار أو بدء الحياة الجديدة ، وهي "الاستراحة الثانية" يسمونها، فهناك "الاستراحة الأولى" للمتزوجين، والاستراحة الثانية هذه مبنى لا يبدو منتظماً، سلم للأسفل وغرف جانبية، وهي على هضبة صخرية تتصل برمل الصحراء من قاعدتها وتمتد إلى البحر.. حدثني ليبي عارف بتاريخها، قال : هي مركز قيادة عسكرية في حرب العلمين، طوّرت من بعد لتكون دار ضيافة وسكن للمهندسين والعاملين في شركة نفط الخليج. من يدري فقد تكون غرفتك هذه مكان نوم ضابط استشهد أو قائد عاد سالماً ولكن بجراح، وقد تكون جزءاً من مخزن ذخيرة، لك ما تشاء.
كانت أياماً طيبة بعد قلق، غرفتي مكيفة لها نافذة استطيع منها أن أرى البحر وإن بعُدَ قليلاً، وخدمات دار الاستراحة متكاملة، ثلاث وجبات طعام وغسل وكي ملابس والعمل لطيف غير متعب، والمبهج، الذي اكتشفته لاحقا، أن أقرأ كتباً من بقايا مكتبة الجيش البريطاني والتي تقع على مبعدة دقائق في السيارة عنا، وأحصل على دفاتر الشركة الصغيرة المستطيلة الخضر فرحتُ أكتبت أوراق سفر و مقطوعات شبه قصائد..
طبرق بلدة حيية حميمة التماس وأضواؤها في الليل بهيجة للقادمين لها في البحر.
مرةً في الأسبوع، مرتين، ننحدر إلى البلدة، إلى أزقتها ومخازنها الصغيرة والدكاكين، نشتري ما يصادفنا ليكون هدايا نحتفظ بها لعودتنا، ونشتري فواكه ونتجه بعد ذلك، أحياناً قبل ذلك، إلى البريد لنتصل بأهلنا في العراق البعيد.
اتصالات قديمة، تلفون عادي وحصول خط من البدالة المحلية والبدالة المركزية في العاصمة طرابلس ليتم التحويل إلى بغداد. يومأ يمكن التواصل، أياماً لا يمكن. لكن البريد ملاذ عواطفنا الأخيرة ومحطتنا التي نلتقي ونشعر فيها بالقرب من البلد والبيت.
يوماً دخلت مبنى البريد، استقبلنا الموظف الليبي طيب القلب، وعدني بالحصول على خط للعراق وبقيت أنتظر، دفعت الباب بلطف ودخلت فتاة ليبية وديعة ذات جمال من ذلك النادر الذي يتخفى فلا يُرى الا صدفةً فهي من الصحراء القديمة والعريقة التي تخبئ ذهباً واقاصيص أو من الأزقة والمدائن التي لا يعرفها أحد، وجه خفيف السمرة صاف وعينان تقولان لك أنا من تلك السلالات التي لا يعرفها أحد ... بسيطة هادئة، كان بيننا حديث كريم عن الغائبين في الأصقاع، عن العراق والقصص التي تسمعها عنه وعن انتظار خط للكلام مع الأبناء، هي أشواق ومتاعب الغرباء ... سؤال موجع حملته رقتها والحنان الصافي : لماذا يكثر العراقيون هذه الأيام هنا، ماذا في بلادكم جميلة التاريخ والقصص؟
ارتياح متبادل، رضا جميل، عواطف ناعمة اتضحت ولمحات مهذبة حَذرة في الكشف...، وهبت العاصفة! عاصفة رملية اكتسحت ما واجهته وهذا اكتسح ما واجهه فلا تسمع إلا تساقط الصفيح والعويل الصحراوي المخيف. لم تبق حامية ولا ظل كشك وتطايرت قطع من حديد وعلب وخرق وحجار. أختض مبنى البريد وظل يرتج علينا بعد غلق الباب حتى خشينا أن تقتلعه العاصفة، لا ندري في ذلك الهول مصائرنا، حتى إذا هدأت وبدأ الوضوح، فتحنا باب مبنى البريد وقد اختفت مُحَدّثتي. اختفت وريثة الجمال الذي خسِرَتْهُ عبر السنين الحياة.
في اليوم الثاني، الساعة نفسها، كنت في مبنى البريد لعلي أراها، الأسبوع التالي وفي اليوم نفسه والساعة نفسها كنت هناك، لعلها تفكر بلقاء مثلي وأنها مثلما انتظر، تنتظر، ولم تأت. سنة مرت، سنة ثانية وأنا كلما نزلت إلى البلدة، طبرق، اجوب الأزقة بحجة المخازن، بحجة شراء فاكهة ... لعلي أراها. لم ألتق بها وقد انتهت السنة الثانية..
اليوم كنت أشتري هدايا لأولادي، فهي إجازتي اقتربت، انتقل من مخزن صغير في طبرق إلى آخر وعيناي تبحثان عما تريد الروح وما أنفكت تريد أن ترى. ليست معجزة، لكنها كانت أمامي صُحْبَة امها العجوز المحَمَّلة بالمصوغات القديمة والوشم! توقفتُ من المفاجأة وتوقفتْ. هنا الكلام مع النساء بتحفظ، بحذر، لكني تقدمت وحييتها، قلت تذكرت البريد، تذكرت يوم اكتسحت العاصفة الحياة كلها وغبتِ. وطول هاتين السنتين انتظر أن أراك ... بحياء شجي، بأسف لا أدري ما وراءه، ربما بنوع من الانكسار، نطقت واهنةً بعسر. رفعت عينيها وخفضتهما كما بلا حولٍ ، كما بيأس عميق : "مصحوباً بالسلامة ، لا تبحث عن شيء ضاع في العاصفة". وغابت مرة ثانية...