واعلم أن المحدثين أكثروا العجب بنوع من الشعر سموه البديع وظنوا أنهم أول من أخترعه وسبق إليه وابتدعه ولم يخترعوه ولا ابتدعوه بل لعمري قد صيروه كثيراً بعد أن كان نزراً يسيراً وتوهموا بكثرته في أشعارهم أنهم سبقوا إليه واستولوا عليه وكذلك أنا أدل على سبق المتقدمين إلى معرفته وتقدمهم في صنعته وقد قسموه أقساماً ونحلوه ألقاباً بك حاجة إلى معرفتها لئلا يرد عليك بيت لأبي الطيب يحتاج إلى مماثلة لهذا النوع فيبنى على أصلٍ وينطبق بعدلٍ، وقد ذكرت من ذلك جملة هي دون الطويل المستكثر وفوق القليل المشتزر. التشبيه: أمّا أقسام الشعر فهي إما مثل سائر أو تشبيه باهر أو استعارة لفظها فاخر، فالمثل السائر والتشبيه الباهر أشهر من أن يشكل عليك فتحتاج إلى إيضاح، غير أنا نورد عليك مثالاً منه، وإن قلّ، فمن الأمثال السائرة قول امرئ القيس:
فإِنّكَ لم يفخر عليك كفاخرٍ ... ضَعيفُ ولم يغلبك مثل مغلَّب
ومنه قول طرفة:
سَتُبدي لك الأيامُ ما كُنْتَ جَاهلاً ... ويأتيكَ بالأخبارِ من لمْ تَزَوِّدِ
ومن شعر المحدثين قول أبي الشيص:
إذا ما حمامُ المرء كان ببلدة ... دَعتهُ إليها حَاجة أو تطرّب
وقال دعبل:
تأنّ ولا تعجل بلومك صاحباً ... لَعلَ لَهُ عُذراً وأنْتَ تَلَومُ
وقال البحتري:
وَرُبمّا جاءَ بما يُرتَجى ... وبعض ما لا يُرتجى الدَّهرُ
وأما التشبيه الباهر فأحسن التشبيه عند أبي عمرو والأصمعي ما كان فيه تشبيهان في تشبيهين، وأحسن ذلك ما قاله امرء القيس:
كأنَّ قُلوبَ الطَّير رَطباً ويابساً ... لَدى وَكْرِها العُنّابُ والحشفُ البالي
فشبه القلوب الرطبة بالعُنّاب، واليابسة بالحشف، وخص قلوب الطير بأنها أطيبها فإذا صادت جاءت بقلوب الطير إلى أفراخها وذكر عن الأصمعي أنه قال) الجارح لا يأكل قلوب الطير وإنما خصها دون غيرها لبقائها في وكر العقاب للعّلة التي ذكرها .
وقد قال بشار: ما زلت مذ سمعت هذا البيت أزاول أن أقارن تشبيهين بتشبيهين فلا أستطيع حتى قلت:
كأنَّ مُثارَ النَّقع فوقَ رُؤوسنا ... وَأَسيافنا لَيلَ تهاوى كَواكِبهُ
ومن التشبيه المليح قوله:
مِنْ وَحْش وَجْرةَ موشّىً أكارعُهُ ... طَاوي المصير كَسيف الصَقِيل الفَردِ
أخذه الطرماح فقال:
يَبدو، وتُضمرُهُ البلادُ كأنَّنهُ ... سيفٌ على شرفٍ يُسلُّ ويُغمَدُ
فملح في قوله: (تضمره) وشبه شيئين بشيئين، وجود الطباق بقوله: ( يبدو، وتضمره، ويسل، ويغمد، ومثل ذلك ما أنشدنيه أبي رحمه الله قال: أنشدنا أبو الحسن لابن الأعرابي الوشاء. قال: أنشدني ابن الرومي لنفسه:
ومُهفهفٍ تَمت محاسنُه ... حَتى تَجاوز منية النفسِ
تَصبو الكؤوس إلى مراشفه ... وَنَحنُ في يده إلى الحبسِ
أبصرته والكأس بين فم ... مِنه وبين أنامل خمس
فكأنَّها وكأن شَاربِها ... قَمرٌ يقبل عَارض الشمس
ومثله لابن المعتز:
أهلاً وسَهلاً بالناي والعُود ... وَشِربِ كاسٍ من كفّ مَقْدود
قَدْ انقضتْ دَولةُ الصِّيام وَقَدْ ... بَشَّر سُقْم الهِلالِ بالعيدِ
يَتلو الثُريّا كفاغِرٍ شَرهِ ... يَفتحُ فاهُ لأكلِ عُنقودِ
الاستعارة:
وأما الاستعارة في البديع: فنحن نذكر منها مثالاً نقيس عليه، فمن ذلك ما رواه إسحاق بن إبراهيم قال: قال أبو عمرو بن العلاء: كانت يدي في يد الفرزدق قال: فأنشدته قول ذي الرمة:
أقامتْ بهِ حتّى ذَوى العودُ في الثَّرى ... وساقَ الثُّريَّا في مُلاءَتِه الفَجْرُ
فقال لي: أنشدك أم أدعك، فقلت: بل أنشدني قال: إنّ العود لا يذوي أو يجفّ الثرى، وإنما الشّعر، حتى ذوى العود والثرى، ولا أعلم كلاماً أحسن من قوله: ( وساق الثريا في ملاءته الفجر ) ولا ملاءة له، وإنما هي استعارة. وقال ابن المعتز: ( العود لا يذوي ما دام في الثرى)
وأول من استعار امرئ القيس فقال:
وَليلٍ كَموجِ البحْر مُرْحٍ سُدوله ... عليَّ بأنواعِ الهمومُ لِيبْتلي
فَقلتُ لهُ لمَا تَمطى بصلبه ... وأردفَ أعجازاً وناءً بكلكلِ
فذكر سدول الليل وجعلَ له صلباً وأعجازاً وكلكلاً، وقد قال زهير:
صَحا القلبُ عنْ سَلمى وأقْصرَ باطِلُه ... وعُرىَ أفْراسُ الصِبّا وَرواحِلُهْ
ولا أفراس للصبا ولا رواحل، ومن مليح الاستعارة قول جرير:
تُحيي الرّوامِسُ ربْعها فتُجدُّه ... بَعْدَ البِلى، وتُمِيتهُ الأَمطار
قال ابن المعتز: جمع هذا البيت المطابقة والاستعارة، بالإحياء والإماتة، (1/154) والبلى والجدّة، ومن ذلك قول أبي نواس:
ما زلْتُ أستلّ روح اللدَّنِّ في لُطُفٍ ... وأستقي دمهُ منْ جوْفِ مجْرُوح
حتى انْثنيت، ولي رُوحان في بَدنٍ ... والزقّ مُنْطَرِحٌ جِسْم بِلا روحِ
وقال ابن الأحنف:
وَلي جُفونٌ جَفاها الدمع فاتَّصلتْ ... أعجاز دمعٍ بأَناقِ الدَّمِ السَربِ
وقال ابن المعتز:
وقَدْ رَكَضَتْ بِنا خيلُ المَلاهِي ... وقَدْ طِرْنا بأجنحةِ السرورِ
وهذا مثال من هذا القسم كاف ولو استقصى لطال به الأمر وفيما ذكرناه دلالة على ما حذفناه. وقد أدخل إسحاق بن إبراهيم الموصلي في البديع شيئاً سماه الإشارة في الشِّعر، ذكر أنَّها من محاسنه، قيل له ما هي، فقال: جَعْلنا السيفَ بين الجيدِ مِنْه ... وبينَ سوادِ لِحْيته عِذارا ومثله قول جاهلي:
جَعلتُ يَديَّ وشاحاً لَهُ ... وبعضُ الفوارس لا يعتنِقْ
قال إسحاق قوله: ( جعلت يديّ وشاحاً له (إشارة بديعة بغير لفظ الاعتناق وهي دالة. ومثل ذلك من كلام المحدثين قول أبي تمام:
وإنّي لأرْجُو أن تُقَلَّد نحرَهُ ... قِلادةَ مأثور الذُّباب مُهَنَّدِ
فهذا ما لم يسمه هذه التسمية قبل إسحاق أحد.
الإشارة: وقد ذكر قدامة الكاتب الإشارة فقال:) هي اشتمال اللفظ القليل على المعاني الكثيرة، باللمحة الدالة (. كقول امرئ القيس:
عَلى هَيْكلٍ يُعطيك قَبْل سُؤاله ... أفانين جَرْيٍ غَيرَ كزّ ولا وان
المطابقة: ثم قال لمخاطبه: تأمل ما أستملت لفظه) أفانين (مما لو عدّ كان كثيراً وما اقترن بها من جميع أصناف الجودة طوعاً من غير طلب ولا مسألة، ثم نفى عنه الكزازة والوناء، وهما أكثر معائب الخيل التي تربطها الفرسان للمنازلة، ومن محاسن البديع، حسن المطابقة، وقد ذكر ذلك بعض المؤلفين المحدثين وقد سقت لك ما ذكر على وجهه وما قارب ذلك. قال أبو الحسن علي بن سليمان الأخفش، وكان من العلماء بالشعر، وقد سئل عن الطباق فقال: أجد قوماً يختلفون في الطباق فطائفة تزعم وهي الأكثر: أنه ذكر الشيء وضدّه يجمعهما اللفظ الواحد بهما لا المعنى. وطائفة تخالف ذلك وتقول: هو اشتراك المعنيين في لفظ واحد، مثل قول زياد الأعجم:
ونُبِّئتُهمُ يستصرخون بكاهلٍ ... وللؤم فِيهم كاهلٌ وسِنَامُ
فقوله: ( كاهل) للقبيلة، وقوله: ( كاهل) للعضو وهو عندهم المطابقة وقال هذا هو التجنيس، وقال: من ادعى أنه طباق، فقد ادعى خلافاً على الأصمعي والخليل. فقيل له: أفكانا يعرفان هذا؟ فقال: يا سبحان الله، وهل مثلهما في علم الشعر وتمييز خبيثه من طيبه؟ فسألته عن أحسن طباق للعرب فقال هو قول عبد الله بن الزبير الأسدي:
رَمَى الحدثان نسوةَ آل حَرْبٍ ... بِمقدارٍ سَمَدْنَ له سُمودا
فَردَّ شعورهنَّ السودَ بيضاً ... وَرَدّ وجوههنَّ البيض سُودا
وقال عمرو بن كلثوم بيتاً من الطباق المستحسن وهو:
بأنّا نُورد الرايات بِيضاً ... ونُصدِرُهُنَّ حُمْراً قَدْ رَوِينا
كان أبدع بيت للعرب في الطباق لأنه لا يكون قد طابق بين الإيراد والإصدار والبياض والحمرة، والظمأ والريّ، وقد تم هذا لأبي الشيص فقال:
فأوردها بيضاء ظماء صدورها ... وأصدرها بالريِّ ألوانُها حُمْرا
فصار أخذه مغفوراً بكمال معناه، وفسر أصل الطباق الأصمعي فقال:) معناه وضع الرجل في موضع اليد، وأنشد:
وَخيلٌ يُطابقن بالدارعينَ ... طِباقَ الكلابِ يطأن الهِراسَا
وقال الخليل:) يقال طابقت بين الشيئين إذا جمعتهما على حذو واحد وألصقتهما، وأحسن محاسن البديع المطابقة ويتلوها في الحسن المجانسة وقد سبق العرب إلى ذلك فمن ذلك قول الفرزدق:
لَعنَ الإِلهُ بَني كُليبٍ إِنَّهم ... لا يَقْدرونَ ولا يَفونَ لِجار
يَسْتَيقظونَ إلى نُهاقِ حَميرهمْ ... وَتنامُ أعينهمْ عنْ الأوتارِ
والمطابقة في شعر المحدثين كثيرة، من ذلك قول أبي تمام في الشيب:
لَهُ مَنْظرٌ في العينِ أبيضُ نَاصعُ ... ولكنَّهُ في القلْبِ أسْودُ أسْفعُ
ومنها قول دَعبل:
لا تَعْجبي يَا سلم مِنْ رجلٍ ... ضَحِكَ المشيب بِرأسهِ فَبكَى
وقال البحتري:
إِنَّ أيامَهُ مِن البيضِ بيضٌ ... ما رَأيْنَ المفارِقَ السودَ سُودا
ومن أحسن ما قيل في هذا المعنى قول القائل:
لِلسودِ في السودِ آثارٌ تركنَ بها ... لمعاً مِن البيضِ يَثْني أعْينَ البيض
فالسود الأول هي: الليالي، والسود الثانية هي: الشعرات السود والبيض الأول هي الشعرات البيض والثانية: النساء. وهذا كلام لفظه فصيح وتقسيمه صحيح.
يتلوه ذكر المجانسة وهي: مجيء كلمة تجانس أختها في مسمع حروفها دون معناها، ونحن نذكر لك من شعر العرب في ذلك مثالاً فمنه قول امرئ القيس:
لَقدْ طَمح الطّماحُ منْ بُعد أرضه ... لِيُلبسني مِنْ دائه ما تلبَّسا
ومنه قول الآخر:
وإني لا أزال أخا خروبٍ ... إذا لمْ أجْن كُنْتُ مجنَّ جَاني
ومثله لجرير:
ومَا زالَ معقولاً عقالٌ عَنْ الندى ... وما زالَ مَحبوساً عَنْ الخيرِ حَابِسُ
ومن التجنيس النازع قول رجل من عبس:
أبلغْ لَديكَ أبا سَعْدٍ مُغَلغَةً ... إنّ الذي بيننا قَدْ ماتَ أو دَنَفَا
وذَلكمْ أن ذلَّ الجار حَالفكُمْ ... وأنّ أنفكم لا يأنفُ الأنفَا
فهذا مثال من شعر العرب في هذا، ومن شعر المحدثين في المجانسة قول عبد الله بن طاهر:
وأنّي للثغرِ المخيف لكالئ ... ولِلثغرِ يَجْري طُلمه لِرشَوف
وقال أبو تمام:
أيام تُدمِي عَيْنهُ تِلْكَ الدُّمَى ... فِيها وَتقْمُرُ لُبَّهُ الأَقْمَارُ
بيض فهُنَّ إذا رُمِقْنَ سَوافِراً ... صُورُ وَهُنَّ إِذا رَمقْنَ صِوَار
وقال أشجع:
يوماً خلجتْ على الخليجِ نُفوسهم ... عصباً وأنْتَ بِمثلها مُسْتامُ
وقال البحتري:
إِذا ابتسمتَ تألقَ عارِضَاهَا ... على ضَربٍ تألّقُ فِي ضَريب
متى تُغْربُ ضِياء الشمسَ نُردَد ... سَناها مِنْ سنا تِلْكَ الغُروبِ
وفي هذا كفاية من معرفة هذا الجنس وقس عليه باقيه.
ويتلوه: رد أعجاز الكلام على صدوره.) ولزهير بن أبي سلمى (:
منْ يَلْقَ يوماً على عِلاته هَرماً ... يَلْقَ السماحةَ مِنْه والنَّدى خُلقا
ومثله للفرزدق:
أصْدِرْ هُمومك لا يْقتُلك وارِدُها ... فَكلُّ واردة يوماً لَها صَدرُ
ومنه للآخر:
سَريعٌ إلى ابن العم يَشْتِمُ عِرضَهُ ... وليسَ إلى دَاعي النَّدى بِسريعِ
وقال أبو حية النميري:
إذا مَا تقاضى المرء يومٌ ولَيلةٌ ... تَقاضاهُ شَيء لاَ يملُّ التقاضيا
وقال أبو نواس:
ظَنّ بي من قد كلفتُ بِه ... فَهو يَجفوني عَلى الظَنَن
وقال الآخر:
يا بَياضاً أذْرى دُموعي حَتَّى ... عَادَ مِنْها سَوادُ عَينْي بَيَاضَا
الترديد: وقد لقب بعض الأدباء هذا الفن) الترديد (وبعضهم يسميه التصدير وهو أن يبتدئ الشاعر بكلمة في البيت ثم يعيدها في عجزه أو نصفه ثم يردها في النصف الآخر، وهذا إذا نظم الشعر على هذه الصفة تيسر استخراج قوافيه قبل أن يطرق أسماع مستمعيه، وهذا الباب واسع يدل عليه هذا اليسير فأكتف به موفقاً إن شاء الله.
الالتفاف: وفي الشعر الالتفاف وهو: انصراف عن مخاطبة إلى إخبار وعن إخبار إلى مخاطبة.
من ذلك قول جرير:
مَتَى كانَ الخيامُ بِذي طُلوحٍ ... سُقِيت الغَيْثَ أيتُها الخِيامُ
أتنسى يوم تصقل عَارِضيها ... بعود بشامةٍ، سُقي البَشامُ
وحكى أسحق بن إبراهيم قال قال لي الأصمعي:) أ (تعرف التفات جرير؟ قلت لا، فأنشدني:
أتنسى إذْ تُودعنا سُليَمْى ... بفرعِ بشامة، سُقِي البَشامُ
هذه رواية إسحاق كذا وجدتها.
وقال أبو تمام:
وأنجدتم من بعدِ اتهام دَارِكُمْ ... فيا دَمعُ أنجدني على سَاكِني نَجْدِ
فهذا مثال في هذا.
ومن محاسن الشعر اعتراض كلام في كلام لم يتم معناه ثم يعود
الشاعر إليه فيتممه مرة واحدة، وربما سمي التفاتاً، من ذلك قول القائل:
فإنّي إنْ أفْتك يَفِتك مني ... فَلا تَسْبِق بِه عِلقٌ نفَيسُ
ومن أملح ذلك قول طرفة:
فَسقى دياركَ غَيرْ مُفسِدِها ... صَوْبَ الربيعِ وديمةُ تَهمْي
فقد تمم المعنى بقوله غير مفسدها، وقال نافع بن خليف الغنوي:
رجالُ إذا لم يُقْبل الحقّ مِنَهمْ ... ويعطوهُ، عادوا بالسيوفِ القَواضبِ
فتم المعنى بقوله: ويعطوه.
التتبيع:
ومن محاسن الشعر التتبيع: وهو أن يقول الشاعر شيئاً من معانيه ولا يأتي
اللفظ الدال عليه بل بلفظ تابع له فإذا دلّ التابع أبان عن المتبوع، من ذلك قول عمر:
بعيدةُ مَهوْى القُرط إما لنوفلٍ ... أبوها، وإما عبدُ شمسٍ وهاشم
وإنما ذهب إلى وصف طول الجيد، فلم يذكره بلفظه الخاص به بل أتى بمعنى هو تابع لذلك بقوله) بعيدة مهوى القرط (.
ومن ذلك حسن التضمين قال الأخطل:
وَلقدْ سَما للخيرمي فلم تَقلْ ... بَعْد الونى: لَكن تضايقَ مَقدمي
مثله لآخر:
خلقت على باب الأمير كأنَّني ... قِفَا نبكِ مِنْ ذِكرى حَبيبٍ ومنزلٍ
وقال ابن الرومي:
قَال لي عُمرها وَقدْ غَازلتَنْي ... لا تعرجْ بِدارس الأطلال
التقسيم: قد ذكرنا أصول الشعر من المثل الشرود والتشبيه السديد والاستعارة البديعة في الألفاظ الرفيعة، ثم صرنا إلى البديع فذكرنا محاسنه من المطابقة والمجانسة والالتفات والتوابع كذلك من ذكر الإشارة والتضمين وقد سمى المحدثون أسماء في الشعر ولقبوه ألقاباً لم يكن يعرفها المتقدمون ونحن نذكر منها ما يستدل به على معانيها حتى لا يفوتك شيء مما يتعلق بمعرفة نقد الشعر إلاّ أحكمته، فمن ذلك ما سمّوه التقسيم.
سئل علي بن هارون عنه فقال: هو أن
يستقصي الشاعر تفصيل ما ابتدأ به ويستوفيه، فلا يغادر قسماً يقتضيه المعنى إلا أورده.
كقول بشار:
بِضَرْبٍ يَذُوقُ الموتَ مِنْ ذَاقَ طَعْمَهُ ... وَنُدركُ من نَجَّى الفرارُ مَثَالُبُه
فراحوا: فريق في الأسار ومثلُهُ ... قتيل، ومثل لاذ بالبحرِ هَاربُه
قال من يقع به الطعن، ودارت رحى الحرب عليه غير ما ذكر وكان علي بن يحيى يقول: لم يقل في التقسيم أحسن من قول الشماخ:
مَتى تَقع أرساغُه مُطمِئنَّةً ... على حَجرٍ يَرفضُّ أو يَتَدحرج
وقال: ليس في الوطئ) الشديد (إلاّ أن يكون الحجر الموطئ رخواً أو صلباً فيدفع.
ثم قال أبو الحسن قال: أتى هارون بن علي، وأنا أقول أن أحسن ما قيل في ذلك قول القائل:
يطعُنهم ما ارتموا حتّى إذا اطّعنُوا ... ضاربَ حتّى إذا ما ضاربوا اعتنقَا
قال أبو الحسن: وأنا) أقول (:
إن يُلحقوا أكُرْر وإن يُستلحموا ... أشدد، وإن يُلقوا بضَنكٍ أنزلِ
المقابلة: وفي هذا المعنى بلغة كافية. يتلوه المقابلة، وذكر قدامة الكاتب - وكان من جهابذة الشعر - أن المقابلة:) هو أن يضع الشاعر معان يعتمد التوفيق بين بعضها وبعض
أو المخالفة، فيأتي في الموافق بما يوافق، وفي المخالف بما يخالف على الصحة أو يشترط شروطاً ويعدّد أحوالاً في أحد المعنيين، فيجب أن يأتي فيما يوافقه بمثل الذي شرطه وفيما يخالفه بأضداد ذلك.
قال: قلت له فأنشدني أحسن ما قيل فيه فقال قوله:
فيا عجباً كَيفَ اتّفقنا فَناصحٌ ... وَفيّ ومطويٌّ على الغِل غَادِرُ
وقال الطرماح بن الحكيم:
أسرناهُمْ فأنْعمنا عَليهم ... وأسقَينا دماءَهُمُ التِرابَا
فما صَبروا لبأس عنْد حَربٍ ... ولا أدّوا لِحسن يدٍ ثَوَابَا
فجعلوا إزاء أن سقوا دماءهم التراب وقابلوا أن يصبروا بازاء أن ينعموا عليهم أن يثيبوا. وقال: هذه المقابلة.
وقال علي بن هارون: كان يحيى بن علي يزعم أن أحسن ما قيل فيها قول النابغة:
فتىً تمَّ فيه ما يُسرّ صديقَهُ ... على أنّ فِيه ما يَسوء الأعادِيَا
ففي هذا المثال كفاية في هذا الباب.
التسهيم: ويتلوه التسهيم، سئل علي بن هارون عن التسهيم فقال: هو لقب نحن أخترعناه، وكان بصناعة الشعر عارفاً. قيل: فما هو فأجاب بجواب
لم يبرزه بعبارة جلية إلا أنّ مفهومه:) إن صفة المسهم أن يسبق السامع إلى قوافيه، قبل أن ينتهي إليها راويه، وقال) إن (أحسن ما قيل في ذلك قول جنوب أخت عمرو ذي الكلب:
فأقسمتُ يا عمرو لوْ نبَّهاك ... إذا نبّها منك داء عُضالا
إذا نَبها ليث عرّيسةٍ ... مُفتياً مفيداً نُفوساً ومَالا
وخرقٍ تجاوزت مَجهوله ... بِوجناءَ حَرْفٍ تشكَّي الكَلالا
فكنتَ النهار به شَمْسَه ... وكنتَ دُجى الليل فيهِ الهلالا
وفي هذا المعنى بلغة كافية، وهذا شعر حسن.
المطمع:
قال أبو محمد: لكن اللقب غير دال على المعنى ولفظه، وأرى الملقب لم يقصد غير الإعراب به، وهذا النوع الذي ذكره هو من الشعر ما كان معناه إلى قلبك أسرع من لفظه إلى
سمعك ويسمى المطمع، أي من يسمعه يطمع في قول مثله وهو من ذلك بعيد وقد أوردناه كما سمعناه ومثل ذلك في قلة الرشاقة لقب هو) التتبيع (وقد ذكرناه وذكر الملقب أن معناه:) أن يريد الشاعر معنى فلا يأتي باللفظ الدال عليه بل بلفظ تابع له. فإذا دلّ التابع أبان عن المتبوع وقد مضى هذا (. هذا قول صاحب التلقيب.
قال أبو محمد: ولا أرى ذلك واقعاً موقعه وهو في باب الإشارة أدخل وهو أن يريد الشاعر معنى فيأتي من غير لفظه بما يدل عليه، ومثل ذلك قول القائل:
وَقدْ كانَ متلافاً وصاحب نجدة ... ومرتفعاً عن جِفن عِينيه حَاجِبه
يقول لا يفعل ببيته ويغض فيها طرفه.
ومن الألقاب المحدثة التبليغ) وسماه قوم (الإيغال:) وهو أن يأتي الشاعر بالمعنى في البيت تاماً، قبل انتهائه إلى قافيته ثم يأتي بها لحاجة الشعر إليها لأن
بها يصير الشعر شعراً، فيزيد البيت رونقاً والمعنى بلوغاً إلى الغاية القصوى وأبرع ما قيل في ذلك قول امرئ القيس:
كأنَّ عُيونَ الوحشِ حولَ خِبائنا ... وأرحلنا الجزعُ الذي لَمْ يثقبِ
فقد أتى على التشبيه قبل القافية لأن عيون الوحش إذا ماتت وتغيرت هيأتها، أشبهت الجزع، ثم احتاج إلى القافية فبلغ الأمد البعيد في التأكيد لأنه إذا لم يثقب كان أوقع في التشبيه.
وزعم الأصمعي أنه إذا كان كذلك كان أصفى له وأحسن وحكى ابن دريد قال: قال له التّوزي: قلت للأصمعي من أشعر الناس؟ قال:) من يأتي إلى المعنى الحنسيس فيجعله بلفظه كبيراً، وينقضي كلامه قبل القافية فإذا احتاج إلى أفاد بها معنى (فقال: فقلت: نحو من؟ قال: نحو الأعشى حيث يقول:
كناطحٍ صخرةً يوماً ليفلقَها ... فَلَمْ يضِرها وأوهَى قَرنهُ الوعِلُ
فقد تم الكلام فلما أحتاج إلى القافية قال:) الوعل (فزاد معنى قال فقلت له: كيف صار الوعل مفضلاً على كل من ينطح؟ قال: لأنه ينحط من قلة الجبل على قرونه، فلا يضره. ومن ذلك قول ذي الرّمّة:
أظُنُّ الذي يُجدي عليك سؤالها ... دموعاً كتبديد الجُمان المفصَّلِ
فتم كلامه قبل قوله:) المفصّل (وزاد شيئاً أفاده بالقافية.
الاستثناء: يتلوه بعد ذلك ما سماه بعض الأدباء) الاستثناء (، وعبر عنه ابن المعتز بأن قال:) تأكيد مدح يشبه الذم (.
فمن ذلك قول النابغة:
ولا عيبَ فِيهمْ غَير أنّ سيوفَهُمْ ... بِهنّ فُلولٌ مِنْ قِراعِ الكَتائبِ
ومثله قول الآخر:
فَلا تُبعدن إلا مِنْ السوء إنني ... إليكَ وإن شطّتْ بِكَ الدار نَازعُ
ومثله قول بعض الأعراب: خَرقاء إِلا أنها صَنَاعُ ومثله قول النابغة الجعدي:
فتىً كملتْ أخلاقهُ غير أنَّهُ ... جوادٌ فَما يُبقي من المالِ بافِيَا
ومن مليح قول المحدثين في هذا قول أبي هفّان
فإِن تسألي عنا فإِنّا حُلى العُلا ... بني عامرٍ والأرض ذات المناكبِ
ولا عيبَ فينا غير أنّ سماحنا ... أضّر بنا والناس من كلّ جانبِ
فأفنى الردى أعمارنا غير ظالمٍ ... وأفنى الندى أموالنا غير عَائبِ
أبونا أبٌ لو كان للناس كلهِّم ... أباً واحداً أغناهُمُ بالمناقِبِ
وهذا مثال في هذا الفن كاف.
الاستطراد: يليه الاستطراد: حكى محمد بن يحيى الصولي قال: سمعت البحتري يقول: أنشدنا أبو تمام لنفسه يهجو عثمان بن إدريس:
وسابح هَطل التَّعداء هَتّان ... على الجراء أمينٍ غير خَوَّانِ
أظمى الفُصوصِ وما تظمئ قوائمه ... فَخَلَّ عينيكَ في ظمآن رَيّانِ
فَلو تَراهُ مُشيحاً والحصى زِيَمٌ ... بين السنابكِ من مَثْنى وَوحْدانِ
أيقنتَ إن لم تَثّبتْ أنَّ حافِره ... مِنْ صَخرِ تَدْمُر أو مَنْ وجهِ عُثمانِ
ثم قال لي: ما هذا من الشّعر؟ قلت: لا أدري، قال: هذا المستطرد يريد وصف الفرس، وهو ينوي هجاء عثمان، والزيم المنقطعة، واحتذى هذا البحتري فقال، في
قصيده يمدح بها علي بن محمد القمي، و) يصف (، فرساً، فقال:
وأغرَّ في الزمنِ البهيمِ مُحَجَّلٍ ... قَدْ رُحْتُ مِنْه على أغرَّ مُحَجَّلِ
كالهيكلِ المبِّني إلاَّ أنَّهُ ... في الحُسنِ جاء كَصورةٍ في هَيْكلِ
ملكَ العيونِ فإِنْ بدا أعْطيتهُ ... نَظَرَ المَحِبِّ إلى الحَبيبِ المقبلِ
ما إنْ يَعافُ قَذَىّ ولو أوْردَتهُ ... يوماً خلائقَ حَمْدَويهِ الأحْوَلِ
وكان) حمدويه (هذا عدواً للممدوح فاستطرد به. وحكى عن أصحاب البحتري أنه قيل له: إنك سرقت بهذا المعنى لأنك سرقته من أبي تمام، فقال: أعاب عليَّ أخذي من أبي تمام؟ والله ما قلت شعراً قط إلا بعد أن أخطرت شعره بفكري ثم أسقط البيت بعد ذلك من شعره، فلا يكاد يوجد إلاَّ في أقل النسخ.
قال أبو محمد: فليت حصل لنا من أبي الطيب المتنبي الذي زعم أنه قال:
الشعر، وما يعرف أبا تمام من الإقرار بأخذه عنه مثل ما حصل لنا من البحتري مع كثرة أخذ أبي الطيب منه على قلّة شعر أبي الطيب وكثرة شعر البحتري، وكان استعمال الصدق في من أراد أن يسرق النبوة أحسن به. ومثل ذلك قول زهير:
إنَّ البخيلَ ملومٌ حيثُ كانَ ول ... كن الجَواد عَلى علاَّتِه هَرِمٌ
أراد أن يستطرد بهرم، وهذا استطراد يخرج به من ذم إلى مدح. ويقال إن حماد عجرد لما هجا بشاراً فقال:
نُسِبْتَ إلى بُردٍ وأنتَ لِغَيره ... وَهَبك ابن بُرد نِكْت أمك منْ بُرد
فذكر رواية بشار، أنه لما سمع هذا البيت بكى، وقال: ما له لعنه الله أكنت أروم هذا المعنى لأهجوه به فلا يطردني ومثل هذا البيت:
أنْتَ ابن بِيضٍ لعَمْرِي لَسْتُ أنْكِرُهُ ... حقاٍّ يقيناً وَلَكِنْ مَنْ أبُو بيضِ
وقال في الاستطراد إسحاق بن إبراهيم:
وَصافيةٍ تَعْشى العيونَ ضِياؤها ... رَهينة عامٍ في الدِّنانِ وعَامِ
أدَرْنا بها الكأسَ الرَّويةَ موهناً ... مِنَ الليلِ حَتَّى إنجاب كُلُّ ظلامِ
فما ذرَّ قَرْنُ الشَّمس حَتّى ... من العَي نَحْكي أحْمد بن هُشامِ
وقد يقع استطراد من مدح إلى ذم كقول) بكر بن نطاح (في مالك بن طوق:
عرضت عليها ما أرادتْ مِن المنى ... لِترضى فَقَالتْ: قُمْ فَجِئني بِكوْكَبِ
فَقُلْتُ لَها: هَذا التَعنتُ كلُّهُ ... كَمِنَ يَشْتَهي لحم عنقاء مُغْربِ
سَلي كُلّ أمر يَسْتقيمُ طلابُهُ ... وَلاَ تَذْهَبي يا بدرُ بي كُلَّ مَذْهَبِ
فَأقسم لَوْ أصْبحتُ في عِزِّ مالكٍ ... وَقدرته أعيا بِما رَمَتْ مَطْلبيِ
فَتىً شَقِيتْ أموالُه بِسماحِه ... كما شَقِقَيتْ قَيس بأرماحِ تَغْلُبِ
الحشو السديد: يتلوه الحشو السديد في المعنى المفيد كقول بعض الأعراب القدماء:
وَعودٍ قَليلُ الذنْبِ عَاودتَ ضَرْبَهُ ... إِذا هَاجَ شَوْقي من مَعَاهِدِها ذِكْرُ
وَقُلتْ لَهُ ذلفاءُ، ويحك سبَّبتْ ... لَكَ الضربَ فأصبِرْ إِنَّ عَادتُكَ الصَبْرُ
وقال أبو الوليد عبد المليك بن الحريم الحارثي:
لو بِكَ لا يكن بِكَ لا عِنْدِي ... وَراحَ إلْيكَ البرى والتَقربِ
وقوله) لا يكن بك (حشو مليح،
وكقول، ابن المعتز:
وَخيل طَواها القَوْدُ حَتَّى كأنَّها ... أنابيبُ سُمْرٍ من قنا الخَطِّ ذُبَّلُ
صَبَينا عليه ظَالمين سِياطَنا ... فَطَارتْ بِها أيدٍ سِراع وأرجُلُ
فقوله:) ظالمين (حشو مليح في لفظ مفيد، وقال ابن الرومي:
محلّ أيادِيكم بحقٍّ وإنّها ... لَديكمْ بِلاَ حَقٍّ لمحتقراتِ
فقوله) بحق، وبلا حق (حشو مفيد، وتقسيم سديد. وأحسن من هذا كله ما تقدم ذكره في عيون الوحش لامرئ القيس ومثله له
جَمعتُ رُدَينياً كأنَّ سِنَانَهُ ... سَنَا لَهبٍ لَمْ يَسْتَعِرْ بِدُخَانِ
وهذا من النحو الذي يريد فيه الشاعر من كلامه ما هو من تمامه، وكم بين هذا وبين قول أبي العيال الهذليّ:
(1/185)
ذَكرتُ أخَي فَعَاودَنِي ... صُداعُ الرأسِ والوَصَبِ
فالصداع في الرأس حشو فارغ، ومثله قول الديك:
فَتنغمتْ في البيتِ إذْ مُزِجَتْ ... بِالماءِ، واستلَتْ سَنا اللهبِ
كَتنفُّسِ الريحانِ مازَجَهُ ... مِنْ وَرْدِ جُورٍ نَاضِرُ الشُّعبِ
فذكره) المزج (يعني) والماء (فضل لا يحتاج إليه، وقد قصر عن أبي نواس في قوله:
سلبوا قِناعَ الطّينِ عنْ رَمقٍ ... حيِّ الحياةُ مُشَارِفِ الحَتْفِ
فتنفستْ في البيتِ إذ مُزِجَتْ ... كتنفّسِ الرَّيحانِ في الأنْفِ
فهذا مثال في هذا الباب كاف.
الإغراق: باب يسميه المحدثون الإغراق ويسمى الغلوّ وطائفة من الأدباء يستحسنونه
قول الأفوه
ويقولون) أحسن الشعر أكذبه (والغلو يراد به المبالغة في مجيء الشاعر بما يدخل في المعدوم ويخرج عن الموجود وقد أتت طائفة من العلماء استحسان هذا الجنس لِما كان بخلاف الحقائق وخروجه عن اللفظ الصادق.
قال أبو محمد: وما أتوا بشيء لأن الشعراء لا يلتمس منهم الصدق إنما يلتمس منهم حسن القول، والصدق يلتمس من أخبار الصالحين وشهود المسلمين فمن هذا القول قول الأفوه:
وَتَرى الطَّيرَ على آثارنا ... رَأْيَ عَيْنٍ ثِقَةً أن ستمار
أخذه النابغة فقال:
إذا ما غَزوا بالجيش حَلّق فَوقهُمْ ... عَصائبُ طيرٍ تَهْتدي بِعصائبِ
جَوانح قَدْ أيقنَّ أن قبيلَهُ ... إذا ما التقى الجمعَانِ أوَّلُ غالِبِ
لَهُنَّ علْيهِم عادةٌ قَدْ عرفنها ... إذا عُرَّضَ الخَطيُّ فوقَ الكوائِبِ
واستجاد قوله بعض المحدثين من المؤلفين فقال مثل ابن الأفوه مثل ابتداء النابغة.
قال أبو محمد: وليس الأمر عندي كذلك لأن الأفوه سبق وأقتصر وشرح مراده في بيت وأطال النابغة، وأتى بإرادته في أبيات، وهذا حيف من قائله أو ضعف في النقد، ونقد الشعر صنعة، وما أكثر ما يعيب محاسنه عن كثير من العلماء وتستخرجه قرائح العقلاء، وقد أتبع هذا من المتأخرين مسلم فقال:
قَدْ عَوَّدَ الطَّيْرَ عادات وَثِقْنَ بِها ... فَهُنَّ يَتْبعنْهُ في كُلِّ مُرْتَحل
تَتأيَّأ الطيرُ غَدْوته ... ثِقَةً بالشّبْعِ من جَزَرِهْ
وزعم عمرو الوراق قال: قلت له ما تركت للنابغة شيئاً - فقال: أسكت -
فإن كان قد سبق) إليه (فما أسأت الإتباع.
قال أبو محمد: والمعنى المعنى بعينه، والسبب الذي ما أساء فيه الإتباع هو اختصار ما أطاله النابغة وما في قوله:) حلّق (دلالة على سبب التحليق، والطير اسم للجنس بعمّة وعصائب بعد عصائب منها فارغ.
وقال بعض الأعراب في صفة فرس:
جَاءَ كَلمعِ البرْقِ جَاءَ ماطِرُهْ ... يَسْبحُ أولاه وَيَطْفو آخرُهْ
فما يَمَسّ الأرضَ مِنْهُ حَافِرُهْ سرقه خلف الأحمر فقال في ثور وحشي:
فكأنَّما جَهَدتْ إلْيتُهُ ... ألاّ تَمسَّ الأرضَ أرْبَعُهُ
وقوع) كأنَّما (هاهنا يخرجه عن حد المحال وهو خبر أنّ أربعه لا تمس الأرض فكأنَّهُ أقسم على ذلك فهو مجتهد في أن يبر) إليته (وكان الشاعر الأول
أشد أعترافاً، والثاني أقرب إلى الصدق من الأول وأكثر توقياً ومثل ذلك قول القائل:
ما إنْ يَقِعْنَ الأرضَ إلاَّ فرطا ... كأنَّما يُعْجِلْنَ شيئاً لقْطا
فجوز الوقوع إلا أنه قليل. ومن الألفاظ قول مهلهل:
فلولا الريحُ أسْمعُ من بحِجر ... صَلِيلُ البِيض تُقْرَعُ بالذِكُورِ
وبين) حجر (والوقعة مسافة بعيدة، وقال سلم بن عوف:
فَلوْ أنّها تَجْري عَلى الأرضِ أدْرَكَتْ ... ولكنما يُطلينَ تِمثال طَائِرُ
وقول امرئ القيس أحسن من هذا ممن يستحسن الاقتصاد وقلة الإِحالة وذلك قوله:
كأنَّ غُلامي إذْ علاَ حال مِتْنَه ... عَلى ظَهْرِ بَازٍ في السماءِ مُحَلّقُ
فقوله:) كأنَّ غلامي (اقتصادي في القول. وكذلك قال معاوية بن مرداس:
يَكادُ في شأْوه لَوْلا أُسْكِّنهُ ... لَوْ طَارَ ذو حَافرٍ من سُرعةٍ طَارا
ومثله لبعض الأعراب:
فَلَو طَارَ ذو حَافرٍ قَبْلها ... لَطارَتْ ولكنَّهُ لَمْ يَطِرْ
فهذا مثال كاف في هذا الفن.
يتلوه: حسن الخروج المليح إلى الهجاء والمديح وهو في شعر المحدثين أكثر فمن ذلك في الهجاء قول حسّان:
إنْ كُنت كَاذِبة الذي حَدَّثَتْني ... فَنَجوت مَنْجى الحارث بِنْ هُشام
تَرَكَ الأحِبَّةَ أنْ يُقاتِلَ دُونهُمْ ... وَنَجا برأس طِمَّرةٍ وَلِجَام
وقد حكى علي بن هارون قال: سألت أبي عن أحسن تخلص يخلص منه شاعر إلى مدح أو ذم، فقال: هذا مذهب تفرد به المحدثون، وقلّما يتفق الإحسان لمحدث، فأمّا ما وجدت أهلي فجمعت على حسنه في التوصل إلى المدح، فكقول محمد بن يوسف:
ما زالَ يُلثِمُني مراشِفَهُ ... ويُعِلُّني الأبْريقُ والقَدَحُ
حَتى أستردّ اللْيلُ خَلْعَتهُ ... وَبدا خلال سَوادِهِ وَضَحُ
وبر الصبّاح كأنّ طَلَعتَهُ ... وَجْهُ الخَليفةِ حِينَ يُمتدحُ
قال أبو محمد: ومن أحسن ذلك عندي قول أبي تمام:
لا والَّذي هو عَالِم أنّ النوى ... صبرٌ وأنّ أبا الحُسَيْن كَرِيمُ
ما زلتُ عَنْ سننِ الوِدَادِ ولا غَدَتْ ... نَفْسي عَلى إِلفٍ سِواك تَحُومُ
وقال البحتري:
قَدْ قُلْتُ للغيث الرُّكامِ وَلَحّ في ... إبْراقِه، وألحَّ في إِرْعَادِهِ
لا تعرضنَّ لجَعْفر مُتشبّهاً ... لندى يَديْه فَلستَ مِنْ أنْدَادِهِ:
وقال أيضاً:
أقْسمت لا أجْعَل الإِعدامَ حادِثةً ... تُخْشَى) وعيسي بن إبراهيم (لي سَنْدُ
قال أبو محمد: ومما ابتدأه في هذا الباب مسلم في قوله:
أجدّكِ هَلْ تَدْرين أنْ رُبّ ليلة ... كأنَّ دُجَاها من قُرونكِ يُنْشَرُ
نصبت لها حَتَّى تجلّتْ بِغُرّةٍ ... كغُرةِ) يحيى (حِينَ يُذْكرْ) جَعْفَرُ (
قال ابن الجهم في السحابة:
فَلَما قَضَتْ حَقَّ العراقِ وأهْلِهِ ... أتاها من الرِّيح الشمال بَريدُها
فَمَّرتْ تَفوتُ الطْرفَ سبقاً كأنَّها ... جُنود عُبَيْد الله وَلّتْ بُنودُها
يريد انصراف أصحاب عبيد الله بن خاقان عن الجعفري إلى سرّ من رأى عند قتل المتوكل.
قال أبو محمد: وهذا المعنى مما عكسه ابن الجهم من قول أبي العتاهية:
وراياتٍ يحُلّ النّصْر فِيها ... كأنَّ زُهاءها قِطع السَّحابِ
فجعلها أبو العتاهية في رايات منصورة وجعلها ابن الجهم في مهزومة.
قال أبو محمد: وهذا من لطف صياغة الشاعر وفطنته أن يجعل الشيء مدحاً ويعكسه في ذم.
قال أبو محمد: وقد قدمت لك من هذه الأقسام ما تقوى به معرفتك بنقد الشعر فائقه ومقصره، وأطلعتك على سرائر رذله ومتخيره لتفاضل بين الشعراء بأصل وتنطق بعدل. ثم قد حسن الآن أن أورد ما قدمت الوعد به من شرح ما أخذه أبو الطيب، ولا أشرح إلا ما يقع فيه المعنى الذي لو كان له وقع بمثله وجماله، وحسن به مقاله أو ما قارب ذلك، فأمّا الأبيات الفارغات والمعاني المكررات المرددات فإني لا أشتغل بإيرادها ولا أطيل الكتاب باعتمادها ولكني أخاف أن يظن بنا غفلة عنها لا التجاوز لها فاحتاج إلى إيراد شيء من ذلك خوفاً مما ذكرت لك ولا يكون في غاية الفراغ من معنى يتعلق به، فإذا كان أبو الطيب يسهل عليه أخذ غير فائق ولا رائق لم يغفل عمّا اهتم به على أني لا أذكر المعاني التي قد كثّرت الشعراء استعمالها وواصلت استبدالها وصار موردها قد حصل له أسم السارق ولم يظفر بمعنى فائق، وذلك كتشبيه الوجه بالبدر، والريق بالخمر والمسك والماء الزلال، والقد بالغصن، وما أشبه ذلك من المتكرر المتردد والمألوف المتعود وإنما أعذر سارق هذه الألفاظ المتداولة والمعاني المتناولة إذا زاد في معناها أو تملح في ألفاظها كقول ابن المعتز في صفة القد:
يا غُصناً إنْ هزَّهُ مَشيهُ ... خَشِيتُ أنْ يَسْقُطَ رُمَّانُهُ
هذه الخشية من سقوط رمان الغصن وجمعه في البيت تشبيه الثدي والقد من أملح كلام وكقوله في تشبيه الوجه بالبدر:
مَوْسومةٌ بالحُسن مَعْشوقةٌ ... تُميت من شاءت وتُحييهِ
باتَ يُرِينِيها هِلالُ الدّجَى ... حَتَّى إذا غابَ أرتنيهِ
فهذا كلام وإن كانت فائدته فائدة قوله: وجهها مثل البدر فترتيب كلامه في) أ (بياته كل واحد منهما عن صاحبه في عينيه مليح جداً كقول ابن الرومي:
يا طيبَ ريقَ بَاتَ بدر الدُ ... جَى لمحة بَيْن ثَنَاياكا
يَروي ولا ينهال عنْ شُرْبه ... والماءُ يُرويكَ ويَنْهاكَا
أنظر كيف قرن تشبيه الريق بالماء بلفظ مليح صار به المألوف غريباً والمبتذل عجيباً هذا وما أشبهه من الألفاظ المتداولة والأبيات الفارغة. فإذا رأيتني أغفلته فلا يحمدّن حامد نفسك عندك استخراج سرقاتها، ولا يظنّ بنا عجزاً عمّا قدر عليه ولا جهلاً بما وصل إليه، لكنّا تركناه عمداً، وحذفناه قصداً ولولا خوفنا من ظنون هذه الطائفة لأوردنا المعنى الفائق، واللفظ الرائق الذي يتجمل به إذا كان إليه سابقاً وتقبيح به إذا كان سارقاً وحذفنا ما لا يكسب الأخذ فضيلة، ويلحقُ الأخذ رذيلة، ونحن نبدأ الآن بشعر أبي الطيب من أوله إلى آخره، والله المعين والموفق للصواب.
(1/196)
( بسم الله الرحمن الرحيم (أولُ شعرٍ قالهُ أبو الطيب أحمد بن الحسين قوله:
.../...
فإِنّكَ لم يفخر عليك كفاخرٍ ... ضَعيفُ ولم يغلبك مثل مغلَّب
ومنه قول طرفة:
سَتُبدي لك الأيامُ ما كُنْتَ جَاهلاً ... ويأتيكَ بالأخبارِ من لمْ تَزَوِّدِ
ومن شعر المحدثين قول أبي الشيص:
إذا ما حمامُ المرء كان ببلدة ... دَعتهُ إليها حَاجة أو تطرّب
وقال دعبل:
تأنّ ولا تعجل بلومك صاحباً ... لَعلَ لَهُ عُذراً وأنْتَ تَلَومُ
وقال البحتري:
وَرُبمّا جاءَ بما يُرتَجى ... وبعض ما لا يُرتجى الدَّهرُ
وأما التشبيه الباهر فأحسن التشبيه عند أبي عمرو والأصمعي ما كان فيه تشبيهان في تشبيهين، وأحسن ذلك ما قاله امرء القيس:
كأنَّ قُلوبَ الطَّير رَطباً ويابساً ... لَدى وَكْرِها العُنّابُ والحشفُ البالي
فشبه القلوب الرطبة بالعُنّاب، واليابسة بالحشف، وخص قلوب الطير بأنها أطيبها فإذا صادت جاءت بقلوب الطير إلى أفراخها وذكر عن الأصمعي أنه قال) الجارح لا يأكل قلوب الطير وإنما خصها دون غيرها لبقائها في وكر العقاب للعّلة التي ذكرها .
وقد قال بشار: ما زلت مذ سمعت هذا البيت أزاول أن أقارن تشبيهين بتشبيهين فلا أستطيع حتى قلت:
كأنَّ مُثارَ النَّقع فوقَ رُؤوسنا ... وَأَسيافنا لَيلَ تهاوى كَواكِبهُ
ومن التشبيه المليح قوله:
مِنْ وَحْش وَجْرةَ موشّىً أكارعُهُ ... طَاوي المصير كَسيف الصَقِيل الفَردِ
أخذه الطرماح فقال:
يَبدو، وتُضمرُهُ البلادُ كأنَّنهُ ... سيفٌ على شرفٍ يُسلُّ ويُغمَدُ
فملح في قوله: (تضمره) وشبه شيئين بشيئين، وجود الطباق بقوله: ( يبدو، وتضمره، ويسل، ويغمد، ومثل ذلك ما أنشدنيه أبي رحمه الله قال: أنشدنا أبو الحسن لابن الأعرابي الوشاء. قال: أنشدني ابن الرومي لنفسه:
ومُهفهفٍ تَمت محاسنُه ... حَتى تَجاوز منية النفسِ
تَصبو الكؤوس إلى مراشفه ... وَنَحنُ في يده إلى الحبسِ
أبصرته والكأس بين فم ... مِنه وبين أنامل خمس
فكأنَّها وكأن شَاربِها ... قَمرٌ يقبل عَارض الشمس
ومثله لابن المعتز:
أهلاً وسَهلاً بالناي والعُود ... وَشِربِ كاسٍ من كفّ مَقْدود
قَدْ انقضتْ دَولةُ الصِّيام وَقَدْ ... بَشَّر سُقْم الهِلالِ بالعيدِ
يَتلو الثُريّا كفاغِرٍ شَرهِ ... يَفتحُ فاهُ لأكلِ عُنقودِ
الاستعارة:
وأما الاستعارة في البديع: فنحن نذكر منها مثالاً نقيس عليه، فمن ذلك ما رواه إسحاق بن إبراهيم قال: قال أبو عمرو بن العلاء: كانت يدي في يد الفرزدق قال: فأنشدته قول ذي الرمة:
أقامتْ بهِ حتّى ذَوى العودُ في الثَّرى ... وساقَ الثُّريَّا في مُلاءَتِه الفَجْرُ
فقال لي: أنشدك أم أدعك، فقلت: بل أنشدني قال: إنّ العود لا يذوي أو يجفّ الثرى، وإنما الشّعر، حتى ذوى العود والثرى، ولا أعلم كلاماً أحسن من قوله: ( وساق الثريا في ملاءته الفجر ) ولا ملاءة له، وإنما هي استعارة. وقال ابن المعتز: ( العود لا يذوي ما دام في الثرى)
وأول من استعار امرئ القيس فقال:
وَليلٍ كَموجِ البحْر مُرْحٍ سُدوله ... عليَّ بأنواعِ الهمومُ لِيبْتلي
فَقلتُ لهُ لمَا تَمطى بصلبه ... وأردفَ أعجازاً وناءً بكلكلِ
فذكر سدول الليل وجعلَ له صلباً وأعجازاً وكلكلاً، وقد قال زهير:
صَحا القلبُ عنْ سَلمى وأقْصرَ باطِلُه ... وعُرىَ أفْراسُ الصِبّا وَرواحِلُهْ
ولا أفراس للصبا ولا رواحل، ومن مليح الاستعارة قول جرير:
تُحيي الرّوامِسُ ربْعها فتُجدُّه ... بَعْدَ البِلى، وتُمِيتهُ الأَمطار
قال ابن المعتز: جمع هذا البيت المطابقة والاستعارة، بالإحياء والإماتة، (1/154) والبلى والجدّة، ومن ذلك قول أبي نواس:
ما زلْتُ أستلّ روح اللدَّنِّ في لُطُفٍ ... وأستقي دمهُ منْ جوْفِ مجْرُوح
حتى انْثنيت، ولي رُوحان في بَدنٍ ... والزقّ مُنْطَرِحٌ جِسْم بِلا روحِ
وقال ابن الأحنف:
وَلي جُفونٌ جَفاها الدمع فاتَّصلتْ ... أعجاز دمعٍ بأَناقِ الدَّمِ السَربِ
وقال ابن المعتز:
وقَدْ رَكَضَتْ بِنا خيلُ المَلاهِي ... وقَدْ طِرْنا بأجنحةِ السرورِ
وهذا مثال من هذا القسم كاف ولو استقصى لطال به الأمر وفيما ذكرناه دلالة على ما حذفناه. وقد أدخل إسحاق بن إبراهيم الموصلي في البديع شيئاً سماه الإشارة في الشِّعر، ذكر أنَّها من محاسنه، قيل له ما هي، فقال: جَعْلنا السيفَ بين الجيدِ مِنْه ... وبينَ سوادِ لِحْيته عِذارا ومثله قول جاهلي:
جَعلتُ يَديَّ وشاحاً لَهُ ... وبعضُ الفوارس لا يعتنِقْ
قال إسحاق قوله: ( جعلت يديّ وشاحاً له (إشارة بديعة بغير لفظ الاعتناق وهي دالة. ومثل ذلك من كلام المحدثين قول أبي تمام:
وإنّي لأرْجُو أن تُقَلَّد نحرَهُ ... قِلادةَ مأثور الذُّباب مُهَنَّدِ
فهذا ما لم يسمه هذه التسمية قبل إسحاق أحد.
الإشارة: وقد ذكر قدامة الكاتب الإشارة فقال:) هي اشتمال اللفظ القليل على المعاني الكثيرة، باللمحة الدالة (. كقول امرئ القيس:
عَلى هَيْكلٍ يُعطيك قَبْل سُؤاله ... أفانين جَرْيٍ غَيرَ كزّ ولا وان
المطابقة: ثم قال لمخاطبه: تأمل ما أستملت لفظه) أفانين (مما لو عدّ كان كثيراً وما اقترن بها من جميع أصناف الجودة طوعاً من غير طلب ولا مسألة، ثم نفى عنه الكزازة والوناء، وهما أكثر معائب الخيل التي تربطها الفرسان للمنازلة، ومن محاسن البديع، حسن المطابقة، وقد ذكر ذلك بعض المؤلفين المحدثين وقد سقت لك ما ذكر على وجهه وما قارب ذلك. قال أبو الحسن علي بن سليمان الأخفش، وكان من العلماء بالشعر، وقد سئل عن الطباق فقال: أجد قوماً يختلفون في الطباق فطائفة تزعم وهي الأكثر: أنه ذكر الشيء وضدّه يجمعهما اللفظ الواحد بهما لا المعنى. وطائفة تخالف ذلك وتقول: هو اشتراك المعنيين في لفظ واحد، مثل قول زياد الأعجم:
ونُبِّئتُهمُ يستصرخون بكاهلٍ ... وللؤم فِيهم كاهلٌ وسِنَامُ
فقوله: ( كاهل) للقبيلة، وقوله: ( كاهل) للعضو وهو عندهم المطابقة وقال هذا هو التجنيس، وقال: من ادعى أنه طباق، فقد ادعى خلافاً على الأصمعي والخليل. فقيل له: أفكانا يعرفان هذا؟ فقال: يا سبحان الله، وهل مثلهما في علم الشعر وتمييز خبيثه من طيبه؟ فسألته عن أحسن طباق للعرب فقال هو قول عبد الله بن الزبير الأسدي:
رَمَى الحدثان نسوةَ آل حَرْبٍ ... بِمقدارٍ سَمَدْنَ له سُمودا
فَردَّ شعورهنَّ السودَ بيضاً ... وَرَدّ وجوههنَّ البيض سُودا
وقال عمرو بن كلثوم بيتاً من الطباق المستحسن وهو:
بأنّا نُورد الرايات بِيضاً ... ونُصدِرُهُنَّ حُمْراً قَدْ رَوِينا
كان أبدع بيت للعرب في الطباق لأنه لا يكون قد طابق بين الإيراد والإصدار والبياض والحمرة، والظمأ والريّ، وقد تم هذا لأبي الشيص فقال:
فأوردها بيضاء ظماء صدورها ... وأصدرها بالريِّ ألوانُها حُمْرا
فصار أخذه مغفوراً بكمال معناه، وفسر أصل الطباق الأصمعي فقال:) معناه وضع الرجل في موضع اليد، وأنشد:
وَخيلٌ يُطابقن بالدارعينَ ... طِباقَ الكلابِ يطأن الهِراسَا
وقال الخليل:) يقال طابقت بين الشيئين إذا جمعتهما على حذو واحد وألصقتهما، وأحسن محاسن البديع المطابقة ويتلوها في الحسن المجانسة وقد سبق العرب إلى ذلك فمن ذلك قول الفرزدق:
لَعنَ الإِلهُ بَني كُليبٍ إِنَّهم ... لا يَقْدرونَ ولا يَفونَ لِجار
يَسْتَيقظونَ إلى نُهاقِ حَميرهمْ ... وَتنامُ أعينهمْ عنْ الأوتارِ
والمطابقة في شعر المحدثين كثيرة، من ذلك قول أبي تمام في الشيب:
لَهُ مَنْظرٌ في العينِ أبيضُ نَاصعُ ... ولكنَّهُ في القلْبِ أسْودُ أسْفعُ
ومنها قول دَعبل:
لا تَعْجبي يَا سلم مِنْ رجلٍ ... ضَحِكَ المشيب بِرأسهِ فَبكَى
وقال البحتري:
إِنَّ أيامَهُ مِن البيضِ بيضٌ ... ما رَأيْنَ المفارِقَ السودَ سُودا
ومن أحسن ما قيل في هذا المعنى قول القائل:
لِلسودِ في السودِ آثارٌ تركنَ بها ... لمعاً مِن البيضِ يَثْني أعْينَ البيض
فالسود الأول هي: الليالي، والسود الثانية هي: الشعرات السود والبيض الأول هي الشعرات البيض والثانية: النساء. وهذا كلام لفظه فصيح وتقسيمه صحيح.
يتلوه ذكر المجانسة وهي: مجيء كلمة تجانس أختها في مسمع حروفها دون معناها، ونحن نذكر لك من شعر العرب في ذلك مثالاً فمنه قول امرئ القيس:
لَقدْ طَمح الطّماحُ منْ بُعد أرضه ... لِيُلبسني مِنْ دائه ما تلبَّسا
ومنه قول الآخر:
وإني لا أزال أخا خروبٍ ... إذا لمْ أجْن كُنْتُ مجنَّ جَاني
ومثله لجرير:
ومَا زالَ معقولاً عقالٌ عَنْ الندى ... وما زالَ مَحبوساً عَنْ الخيرِ حَابِسُ
ومن التجنيس النازع قول رجل من عبس:
أبلغْ لَديكَ أبا سَعْدٍ مُغَلغَةً ... إنّ الذي بيننا قَدْ ماتَ أو دَنَفَا
وذَلكمْ أن ذلَّ الجار حَالفكُمْ ... وأنّ أنفكم لا يأنفُ الأنفَا
فهذا مثال من شعر العرب في هذا، ومن شعر المحدثين في المجانسة قول عبد الله بن طاهر:
وأنّي للثغرِ المخيف لكالئ ... ولِلثغرِ يَجْري طُلمه لِرشَوف
وقال أبو تمام:
أيام تُدمِي عَيْنهُ تِلْكَ الدُّمَى ... فِيها وَتقْمُرُ لُبَّهُ الأَقْمَارُ
بيض فهُنَّ إذا رُمِقْنَ سَوافِراً ... صُورُ وَهُنَّ إِذا رَمقْنَ صِوَار
وقال أشجع:
يوماً خلجتْ على الخليجِ نُفوسهم ... عصباً وأنْتَ بِمثلها مُسْتامُ
وقال البحتري:
إِذا ابتسمتَ تألقَ عارِضَاهَا ... على ضَربٍ تألّقُ فِي ضَريب
متى تُغْربُ ضِياء الشمسَ نُردَد ... سَناها مِنْ سنا تِلْكَ الغُروبِ
وفي هذا كفاية من معرفة هذا الجنس وقس عليه باقيه.
ويتلوه: رد أعجاز الكلام على صدوره.) ولزهير بن أبي سلمى (:
منْ يَلْقَ يوماً على عِلاته هَرماً ... يَلْقَ السماحةَ مِنْه والنَّدى خُلقا
ومثله للفرزدق:
أصْدِرْ هُمومك لا يْقتُلك وارِدُها ... فَكلُّ واردة يوماً لَها صَدرُ
ومنه للآخر:
سَريعٌ إلى ابن العم يَشْتِمُ عِرضَهُ ... وليسَ إلى دَاعي النَّدى بِسريعِ
وقال أبو حية النميري:
إذا مَا تقاضى المرء يومٌ ولَيلةٌ ... تَقاضاهُ شَيء لاَ يملُّ التقاضيا
وقال أبو نواس:
ظَنّ بي من قد كلفتُ بِه ... فَهو يَجفوني عَلى الظَنَن
وقال الآخر:
يا بَياضاً أذْرى دُموعي حَتَّى ... عَادَ مِنْها سَوادُ عَينْي بَيَاضَا
الترديد: وقد لقب بعض الأدباء هذا الفن) الترديد (وبعضهم يسميه التصدير وهو أن يبتدئ الشاعر بكلمة في البيت ثم يعيدها في عجزه أو نصفه ثم يردها في النصف الآخر، وهذا إذا نظم الشعر على هذه الصفة تيسر استخراج قوافيه قبل أن يطرق أسماع مستمعيه، وهذا الباب واسع يدل عليه هذا اليسير فأكتف به موفقاً إن شاء الله.
الالتفاف: وفي الشعر الالتفاف وهو: انصراف عن مخاطبة إلى إخبار وعن إخبار إلى مخاطبة.
من ذلك قول جرير:
مَتَى كانَ الخيامُ بِذي طُلوحٍ ... سُقِيت الغَيْثَ أيتُها الخِيامُ
أتنسى يوم تصقل عَارِضيها ... بعود بشامةٍ، سُقي البَشامُ
وحكى أسحق بن إبراهيم قال قال لي الأصمعي:) أ (تعرف التفات جرير؟ قلت لا، فأنشدني:
أتنسى إذْ تُودعنا سُليَمْى ... بفرعِ بشامة، سُقِي البَشامُ
هذه رواية إسحاق كذا وجدتها.
وقال أبو تمام:
وأنجدتم من بعدِ اتهام دَارِكُمْ ... فيا دَمعُ أنجدني على سَاكِني نَجْدِ
فهذا مثال في هذا.
ومن محاسن الشعر اعتراض كلام في كلام لم يتم معناه ثم يعود
الشاعر إليه فيتممه مرة واحدة، وربما سمي التفاتاً، من ذلك قول القائل:
فإنّي إنْ أفْتك يَفِتك مني ... فَلا تَسْبِق بِه عِلقٌ نفَيسُ
ومن أملح ذلك قول طرفة:
فَسقى دياركَ غَيرْ مُفسِدِها ... صَوْبَ الربيعِ وديمةُ تَهمْي
فقد تمم المعنى بقوله غير مفسدها، وقال نافع بن خليف الغنوي:
رجالُ إذا لم يُقْبل الحقّ مِنَهمْ ... ويعطوهُ، عادوا بالسيوفِ القَواضبِ
فتم المعنى بقوله: ويعطوه.
التتبيع:
ومن محاسن الشعر التتبيع: وهو أن يقول الشاعر شيئاً من معانيه ولا يأتي
اللفظ الدال عليه بل بلفظ تابع له فإذا دلّ التابع أبان عن المتبوع، من ذلك قول عمر:
بعيدةُ مَهوْى القُرط إما لنوفلٍ ... أبوها، وإما عبدُ شمسٍ وهاشم
وإنما ذهب إلى وصف طول الجيد، فلم يذكره بلفظه الخاص به بل أتى بمعنى هو تابع لذلك بقوله) بعيدة مهوى القرط (.
ومن ذلك حسن التضمين قال الأخطل:
وَلقدْ سَما للخيرمي فلم تَقلْ ... بَعْد الونى: لَكن تضايقَ مَقدمي
مثله لآخر:
خلقت على باب الأمير كأنَّني ... قِفَا نبكِ مِنْ ذِكرى حَبيبٍ ومنزلٍ
وقال ابن الرومي:
قَال لي عُمرها وَقدْ غَازلتَنْي ... لا تعرجْ بِدارس الأطلال
التقسيم: قد ذكرنا أصول الشعر من المثل الشرود والتشبيه السديد والاستعارة البديعة في الألفاظ الرفيعة، ثم صرنا إلى البديع فذكرنا محاسنه من المطابقة والمجانسة والالتفات والتوابع كذلك من ذكر الإشارة والتضمين وقد سمى المحدثون أسماء في الشعر ولقبوه ألقاباً لم يكن يعرفها المتقدمون ونحن نذكر منها ما يستدل به على معانيها حتى لا يفوتك شيء مما يتعلق بمعرفة نقد الشعر إلاّ أحكمته، فمن ذلك ما سمّوه التقسيم.
سئل علي بن هارون عنه فقال: هو أن
يستقصي الشاعر تفصيل ما ابتدأ به ويستوفيه، فلا يغادر قسماً يقتضيه المعنى إلا أورده.
كقول بشار:
بِضَرْبٍ يَذُوقُ الموتَ مِنْ ذَاقَ طَعْمَهُ ... وَنُدركُ من نَجَّى الفرارُ مَثَالُبُه
فراحوا: فريق في الأسار ومثلُهُ ... قتيل، ومثل لاذ بالبحرِ هَاربُه
قال من يقع به الطعن، ودارت رحى الحرب عليه غير ما ذكر وكان علي بن يحيى يقول: لم يقل في التقسيم أحسن من قول الشماخ:
مَتى تَقع أرساغُه مُطمِئنَّةً ... على حَجرٍ يَرفضُّ أو يَتَدحرج
وقال: ليس في الوطئ) الشديد (إلاّ أن يكون الحجر الموطئ رخواً أو صلباً فيدفع.
ثم قال أبو الحسن قال: أتى هارون بن علي، وأنا أقول أن أحسن ما قيل في ذلك قول القائل:
يطعُنهم ما ارتموا حتّى إذا اطّعنُوا ... ضاربَ حتّى إذا ما ضاربوا اعتنقَا
قال أبو الحسن: وأنا) أقول (:
إن يُلحقوا أكُرْر وإن يُستلحموا ... أشدد، وإن يُلقوا بضَنكٍ أنزلِ
المقابلة: وفي هذا المعنى بلغة كافية. يتلوه المقابلة، وذكر قدامة الكاتب - وكان من جهابذة الشعر - أن المقابلة:) هو أن يضع الشاعر معان يعتمد التوفيق بين بعضها وبعض
أو المخالفة، فيأتي في الموافق بما يوافق، وفي المخالف بما يخالف على الصحة أو يشترط شروطاً ويعدّد أحوالاً في أحد المعنيين، فيجب أن يأتي فيما يوافقه بمثل الذي شرطه وفيما يخالفه بأضداد ذلك.
قال: قلت له فأنشدني أحسن ما قيل فيه فقال قوله:
فيا عجباً كَيفَ اتّفقنا فَناصحٌ ... وَفيّ ومطويٌّ على الغِل غَادِرُ
وقال الطرماح بن الحكيم:
أسرناهُمْ فأنْعمنا عَليهم ... وأسقَينا دماءَهُمُ التِرابَا
فما صَبروا لبأس عنْد حَربٍ ... ولا أدّوا لِحسن يدٍ ثَوَابَا
فجعلوا إزاء أن سقوا دماءهم التراب وقابلوا أن يصبروا بازاء أن ينعموا عليهم أن يثيبوا. وقال: هذه المقابلة.
وقال علي بن هارون: كان يحيى بن علي يزعم أن أحسن ما قيل فيها قول النابغة:
فتىً تمَّ فيه ما يُسرّ صديقَهُ ... على أنّ فِيه ما يَسوء الأعادِيَا
ففي هذا المثال كفاية في هذا الباب.
التسهيم: ويتلوه التسهيم، سئل علي بن هارون عن التسهيم فقال: هو لقب نحن أخترعناه، وكان بصناعة الشعر عارفاً. قيل: فما هو فأجاب بجواب
لم يبرزه بعبارة جلية إلا أنّ مفهومه:) إن صفة المسهم أن يسبق السامع إلى قوافيه، قبل أن ينتهي إليها راويه، وقال) إن (أحسن ما قيل في ذلك قول جنوب أخت عمرو ذي الكلب:
فأقسمتُ يا عمرو لوْ نبَّهاك ... إذا نبّها منك داء عُضالا
إذا نَبها ليث عرّيسةٍ ... مُفتياً مفيداً نُفوساً ومَالا
وخرقٍ تجاوزت مَجهوله ... بِوجناءَ حَرْفٍ تشكَّي الكَلالا
فكنتَ النهار به شَمْسَه ... وكنتَ دُجى الليل فيهِ الهلالا
وفي هذا المعنى بلغة كافية، وهذا شعر حسن.
المطمع:
قال أبو محمد: لكن اللقب غير دال على المعنى ولفظه، وأرى الملقب لم يقصد غير الإعراب به، وهذا النوع الذي ذكره هو من الشعر ما كان معناه إلى قلبك أسرع من لفظه إلى
سمعك ويسمى المطمع، أي من يسمعه يطمع في قول مثله وهو من ذلك بعيد وقد أوردناه كما سمعناه ومثل ذلك في قلة الرشاقة لقب هو) التتبيع (وقد ذكرناه وذكر الملقب أن معناه:) أن يريد الشاعر معنى فلا يأتي باللفظ الدال عليه بل بلفظ تابع له. فإذا دلّ التابع أبان عن المتبوع وقد مضى هذا (. هذا قول صاحب التلقيب.
قال أبو محمد: ولا أرى ذلك واقعاً موقعه وهو في باب الإشارة أدخل وهو أن يريد الشاعر معنى فيأتي من غير لفظه بما يدل عليه، ومثل ذلك قول القائل:
وَقدْ كانَ متلافاً وصاحب نجدة ... ومرتفعاً عن جِفن عِينيه حَاجِبه
يقول لا يفعل ببيته ويغض فيها طرفه.
ومن الألقاب المحدثة التبليغ) وسماه قوم (الإيغال:) وهو أن يأتي الشاعر بالمعنى في البيت تاماً، قبل انتهائه إلى قافيته ثم يأتي بها لحاجة الشعر إليها لأن
بها يصير الشعر شعراً، فيزيد البيت رونقاً والمعنى بلوغاً إلى الغاية القصوى وأبرع ما قيل في ذلك قول امرئ القيس:
كأنَّ عُيونَ الوحشِ حولَ خِبائنا ... وأرحلنا الجزعُ الذي لَمْ يثقبِ
فقد أتى على التشبيه قبل القافية لأن عيون الوحش إذا ماتت وتغيرت هيأتها، أشبهت الجزع، ثم احتاج إلى القافية فبلغ الأمد البعيد في التأكيد لأنه إذا لم يثقب كان أوقع في التشبيه.
وزعم الأصمعي أنه إذا كان كذلك كان أصفى له وأحسن وحكى ابن دريد قال: قال له التّوزي: قلت للأصمعي من أشعر الناس؟ قال:) من يأتي إلى المعنى الحنسيس فيجعله بلفظه كبيراً، وينقضي كلامه قبل القافية فإذا احتاج إلى أفاد بها معنى (فقال: فقلت: نحو من؟ قال: نحو الأعشى حيث يقول:
كناطحٍ صخرةً يوماً ليفلقَها ... فَلَمْ يضِرها وأوهَى قَرنهُ الوعِلُ
فقد تم الكلام فلما أحتاج إلى القافية قال:) الوعل (فزاد معنى قال فقلت له: كيف صار الوعل مفضلاً على كل من ينطح؟ قال: لأنه ينحط من قلة الجبل على قرونه، فلا يضره. ومن ذلك قول ذي الرّمّة:
أظُنُّ الذي يُجدي عليك سؤالها ... دموعاً كتبديد الجُمان المفصَّلِ
فتم كلامه قبل قوله:) المفصّل (وزاد شيئاً أفاده بالقافية.
الاستثناء: يتلوه بعد ذلك ما سماه بعض الأدباء) الاستثناء (، وعبر عنه ابن المعتز بأن قال:) تأكيد مدح يشبه الذم (.
فمن ذلك قول النابغة:
ولا عيبَ فِيهمْ غَير أنّ سيوفَهُمْ ... بِهنّ فُلولٌ مِنْ قِراعِ الكَتائبِ
ومثله قول الآخر:
فَلا تُبعدن إلا مِنْ السوء إنني ... إليكَ وإن شطّتْ بِكَ الدار نَازعُ
ومثله قول بعض الأعراب: خَرقاء إِلا أنها صَنَاعُ ومثله قول النابغة الجعدي:
فتىً كملتْ أخلاقهُ غير أنَّهُ ... جوادٌ فَما يُبقي من المالِ بافِيَا
ومن مليح قول المحدثين في هذا قول أبي هفّان
فإِن تسألي عنا فإِنّا حُلى العُلا ... بني عامرٍ والأرض ذات المناكبِ
ولا عيبَ فينا غير أنّ سماحنا ... أضّر بنا والناس من كلّ جانبِ
فأفنى الردى أعمارنا غير ظالمٍ ... وأفنى الندى أموالنا غير عَائبِ
أبونا أبٌ لو كان للناس كلهِّم ... أباً واحداً أغناهُمُ بالمناقِبِ
وهذا مثال في هذا الفن كاف.
الاستطراد: يليه الاستطراد: حكى محمد بن يحيى الصولي قال: سمعت البحتري يقول: أنشدنا أبو تمام لنفسه يهجو عثمان بن إدريس:
وسابح هَطل التَّعداء هَتّان ... على الجراء أمينٍ غير خَوَّانِ
أظمى الفُصوصِ وما تظمئ قوائمه ... فَخَلَّ عينيكَ في ظمآن رَيّانِ
فَلو تَراهُ مُشيحاً والحصى زِيَمٌ ... بين السنابكِ من مَثْنى وَوحْدانِ
أيقنتَ إن لم تَثّبتْ أنَّ حافِره ... مِنْ صَخرِ تَدْمُر أو مَنْ وجهِ عُثمانِ
ثم قال لي: ما هذا من الشّعر؟ قلت: لا أدري، قال: هذا المستطرد يريد وصف الفرس، وهو ينوي هجاء عثمان، والزيم المنقطعة، واحتذى هذا البحتري فقال، في
قصيده يمدح بها علي بن محمد القمي، و) يصف (، فرساً، فقال:
وأغرَّ في الزمنِ البهيمِ مُحَجَّلٍ ... قَدْ رُحْتُ مِنْه على أغرَّ مُحَجَّلِ
كالهيكلِ المبِّني إلاَّ أنَّهُ ... في الحُسنِ جاء كَصورةٍ في هَيْكلِ
ملكَ العيونِ فإِنْ بدا أعْطيتهُ ... نَظَرَ المَحِبِّ إلى الحَبيبِ المقبلِ
ما إنْ يَعافُ قَذَىّ ولو أوْردَتهُ ... يوماً خلائقَ حَمْدَويهِ الأحْوَلِ
وكان) حمدويه (هذا عدواً للممدوح فاستطرد به. وحكى عن أصحاب البحتري أنه قيل له: إنك سرقت بهذا المعنى لأنك سرقته من أبي تمام، فقال: أعاب عليَّ أخذي من أبي تمام؟ والله ما قلت شعراً قط إلا بعد أن أخطرت شعره بفكري ثم أسقط البيت بعد ذلك من شعره، فلا يكاد يوجد إلاَّ في أقل النسخ.
قال أبو محمد: فليت حصل لنا من أبي الطيب المتنبي الذي زعم أنه قال:
الشعر، وما يعرف أبا تمام من الإقرار بأخذه عنه مثل ما حصل لنا من البحتري مع كثرة أخذ أبي الطيب منه على قلّة شعر أبي الطيب وكثرة شعر البحتري، وكان استعمال الصدق في من أراد أن يسرق النبوة أحسن به. ومثل ذلك قول زهير:
إنَّ البخيلَ ملومٌ حيثُ كانَ ول ... كن الجَواد عَلى علاَّتِه هَرِمٌ
أراد أن يستطرد بهرم، وهذا استطراد يخرج به من ذم إلى مدح. ويقال إن حماد عجرد لما هجا بشاراً فقال:
نُسِبْتَ إلى بُردٍ وأنتَ لِغَيره ... وَهَبك ابن بُرد نِكْت أمك منْ بُرد
فذكر رواية بشار، أنه لما سمع هذا البيت بكى، وقال: ما له لعنه الله أكنت أروم هذا المعنى لأهجوه به فلا يطردني ومثل هذا البيت:
أنْتَ ابن بِيضٍ لعَمْرِي لَسْتُ أنْكِرُهُ ... حقاٍّ يقيناً وَلَكِنْ مَنْ أبُو بيضِ
وقال في الاستطراد إسحاق بن إبراهيم:
وَصافيةٍ تَعْشى العيونَ ضِياؤها ... رَهينة عامٍ في الدِّنانِ وعَامِ
أدَرْنا بها الكأسَ الرَّويةَ موهناً ... مِنَ الليلِ حَتَّى إنجاب كُلُّ ظلامِ
فما ذرَّ قَرْنُ الشَّمس حَتّى ... من العَي نَحْكي أحْمد بن هُشامِ
وقد يقع استطراد من مدح إلى ذم كقول) بكر بن نطاح (في مالك بن طوق:
عرضت عليها ما أرادتْ مِن المنى ... لِترضى فَقَالتْ: قُمْ فَجِئني بِكوْكَبِ
فَقُلْتُ لَها: هَذا التَعنتُ كلُّهُ ... كَمِنَ يَشْتَهي لحم عنقاء مُغْربِ
سَلي كُلّ أمر يَسْتقيمُ طلابُهُ ... وَلاَ تَذْهَبي يا بدرُ بي كُلَّ مَذْهَبِ
فَأقسم لَوْ أصْبحتُ في عِزِّ مالكٍ ... وَقدرته أعيا بِما رَمَتْ مَطْلبيِ
فَتىً شَقِيتْ أموالُه بِسماحِه ... كما شَقِقَيتْ قَيس بأرماحِ تَغْلُبِ
الحشو السديد: يتلوه الحشو السديد في المعنى المفيد كقول بعض الأعراب القدماء:
وَعودٍ قَليلُ الذنْبِ عَاودتَ ضَرْبَهُ ... إِذا هَاجَ شَوْقي من مَعَاهِدِها ذِكْرُ
وَقُلتْ لَهُ ذلفاءُ، ويحك سبَّبتْ ... لَكَ الضربَ فأصبِرْ إِنَّ عَادتُكَ الصَبْرُ
وقال أبو الوليد عبد المليك بن الحريم الحارثي:
لو بِكَ لا يكن بِكَ لا عِنْدِي ... وَراحَ إلْيكَ البرى والتَقربِ
وقوله) لا يكن بك (حشو مليح،
وكقول، ابن المعتز:
وَخيل طَواها القَوْدُ حَتَّى كأنَّها ... أنابيبُ سُمْرٍ من قنا الخَطِّ ذُبَّلُ
صَبَينا عليه ظَالمين سِياطَنا ... فَطَارتْ بِها أيدٍ سِراع وأرجُلُ
فقوله:) ظالمين (حشو مليح في لفظ مفيد، وقال ابن الرومي:
محلّ أيادِيكم بحقٍّ وإنّها ... لَديكمْ بِلاَ حَقٍّ لمحتقراتِ
فقوله) بحق، وبلا حق (حشو مفيد، وتقسيم سديد. وأحسن من هذا كله ما تقدم ذكره في عيون الوحش لامرئ القيس ومثله له
جَمعتُ رُدَينياً كأنَّ سِنَانَهُ ... سَنَا لَهبٍ لَمْ يَسْتَعِرْ بِدُخَانِ
وهذا من النحو الذي يريد فيه الشاعر من كلامه ما هو من تمامه، وكم بين هذا وبين قول أبي العيال الهذليّ:
(1/185)
ذَكرتُ أخَي فَعَاودَنِي ... صُداعُ الرأسِ والوَصَبِ
فالصداع في الرأس حشو فارغ، ومثله قول الديك:
فَتنغمتْ في البيتِ إذْ مُزِجَتْ ... بِالماءِ، واستلَتْ سَنا اللهبِ
كَتنفُّسِ الريحانِ مازَجَهُ ... مِنْ وَرْدِ جُورٍ نَاضِرُ الشُّعبِ
فذكره) المزج (يعني) والماء (فضل لا يحتاج إليه، وقد قصر عن أبي نواس في قوله:
سلبوا قِناعَ الطّينِ عنْ رَمقٍ ... حيِّ الحياةُ مُشَارِفِ الحَتْفِ
فتنفستْ في البيتِ إذ مُزِجَتْ ... كتنفّسِ الرَّيحانِ في الأنْفِ
فهذا مثال في هذا الباب كاف.
الإغراق: باب يسميه المحدثون الإغراق ويسمى الغلوّ وطائفة من الأدباء يستحسنونه
قول الأفوه
ويقولون) أحسن الشعر أكذبه (والغلو يراد به المبالغة في مجيء الشاعر بما يدخل في المعدوم ويخرج عن الموجود وقد أتت طائفة من العلماء استحسان هذا الجنس لِما كان بخلاف الحقائق وخروجه عن اللفظ الصادق.
قال أبو محمد: وما أتوا بشيء لأن الشعراء لا يلتمس منهم الصدق إنما يلتمس منهم حسن القول، والصدق يلتمس من أخبار الصالحين وشهود المسلمين فمن هذا القول قول الأفوه:
وَتَرى الطَّيرَ على آثارنا ... رَأْيَ عَيْنٍ ثِقَةً أن ستمار
أخذه النابغة فقال:
إذا ما غَزوا بالجيش حَلّق فَوقهُمْ ... عَصائبُ طيرٍ تَهْتدي بِعصائبِ
جَوانح قَدْ أيقنَّ أن قبيلَهُ ... إذا ما التقى الجمعَانِ أوَّلُ غالِبِ
لَهُنَّ علْيهِم عادةٌ قَدْ عرفنها ... إذا عُرَّضَ الخَطيُّ فوقَ الكوائِبِ
واستجاد قوله بعض المحدثين من المؤلفين فقال مثل ابن الأفوه مثل ابتداء النابغة.
قال أبو محمد: وليس الأمر عندي كذلك لأن الأفوه سبق وأقتصر وشرح مراده في بيت وأطال النابغة، وأتى بإرادته في أبيات، وهذا حيف من قائله أو ضعف في النقد، ونقد الشعر صنعة، وما أكثر ما يعيب محاسنه عن كثير من العلماء وتستخرجه قرائح العقلاء، وقد أتبع هذا من المتأخرين مسلم فقال:
قَدْ عَوَّدَ الطَّيْرَ عادات وَثِقْنَ بِها ... فَهُنَّ يَتْبعنْهُ في كُلِّ مُرْتَحل
تَتأيَّأ الطيرُ غَدْوته ... ثِقَةً بالشّبْعِ من جَزَرِهْ
وزعم عمرو الوراق قال: قلت له ما تركت للنابغة شيئاً - فقال: أسكت -
فإن كان قد سبق) إليه (فما أسأت الإتباع.
قال أبو محمد: والمعنى المعنى بعينه، والسبب الذي ما أساء فيه الإتباع هو اختصار ما أطاله النابغة وما في قوله:) حلّق (دلالة على سبب التحليق، والطير اسم للجنس بعمّة وعصائب بعد عصائب منها فارغ.
وقال بعض الأعراب في صفة فرس:
جَاءَ كَلمعِ البرْقِ جَاءَ ماطِرُهْ ... يَسْبحُ أولاه وَيَطْفو آخرُهْ
فما يَمَسّ الأرضَ مِنْهُ حَافِرُهْ سرقه خلف الأحمر فقال في ثور وحشي:
فكأنَّما جَهَدتْ إلْيتُهُ ... ألاّ تَمسَّ الأرضَ أرْبَعُهُ
وقوع) كأنَّما (هاهنا يخرجه عن حد المحال وهو خبر أنّ أربعه لا تمس الأرض فكأنَّهُ أقسم على ذلك فهو مجتهد في أن يبر) إليته (وكان الشاعر الأول
أشد أعترافاً، والثاني أقرب إلى الصدق من الأول وأكثر توقياً ومثل ذلك قول القائل:
ما إنْ يَقِعْنَ الأرضَ إلاَّ فرطا ... كأنَّما يُعْجِلْنَ شيئاً لقْطا
فجوز الوقوع إلا أنه قليل. ومن الألفاظ قول مهلهل:
فلولا الريحُ أسْمعُ من بحِجر ... صَلِيلُ البِيض تُقْرَعُ بالذِكُورِ
وبين) حجر (والوقعة مسافة بعيدة، وقال سلم بن عوف:
فَلوْ أنّها تَجْري عَلى الأرضِ أدْرَكَتْ ... ولكنما يُطلينَ تِمثال طَائِرُ
وقول امرئ القيس أحسن من هذا ممن يستحسن الاقتصاد وقلة الإِحالة وذلك قوله:
كأنَّ غُلامي إذْ علاَ حال مِتْنَه ... عَلى ظَهْرِ بَازٍ في السماءِ مُحَلّقُ
فقوله:) كأنَّ غلامي (اقتصادي في القول. وكذلك قال معاوية بن مرداس:
يَكادُ في شأْوه لَوْلا أُسْكِّنهُ ... لَوْ طَارَ ذو حَافرٍ من سُرعةٍ طَارا
ومثله لبعض الأعراب:
فَلَو طَارَ ذو حَافرٍ قَبْلها ... لَطارَتْ ولكنَّهُ لَمْ يَطِرْ
فهذا مثال كاف في هذا الفن.
يتلوه: حسن الخروج المليح إلى الهجاء والمديح وهو في شعر المحدثين أكثر فمن ذلك في الهجاء قول حسّان:
إنْ كُنت كَاذِبة الذي حَدَّثَتْني ... فَنَجوت مَنْجى الحارث بِنْ هُشام
تَرَكَ الأحِبَّةَ أنْ يُقاتِلَ دُونهُمْ ... وَنَجا برأس طِمَّرةٍ وَلِجَام
وقد حكى علي بن هارون قال: سألت أبي عن أحسن تخلص يخلص منه شاعر إلى مدح أو ذم، فقال: هذا مذهب تفرد به المحدثون، وقلّما يتفق الإحسان لمحدث، فأمّا ما وجدت أهلي فجمعت على حسنه في التوصل إلى المدح، فكقول محمد بن يوسف:
ما زالَ يُلثِمُني مراشِفَهُ ... ويُعِلُّني الأبْريقُ والقَدَحُ
حَتى أستردّ اللْيلُ خَلْعَتهُ ... وَبدا خلال سَوادِهِ وَضَحُ
وبر الصبّاح كأنّ طَلَعتَهُ ... وَجْهُ الخَليفةِ حِينَ يُمتدحُ
قال أبو محمد: ومن أحسن ذلك عندي قول أبي تمام:
لا والَّذي هو عَالِم أنّ النوى ... صبرٌ وأنّ أبا الحُسَيْن كَرِيمُ
ما زلتُ عَنْ سننِ الوِدَادِ ولا غَدَتْ ... نَفْسي عَلى إِلفٍ سِواك تَحُومُ
وقال البحتري:
قَدْ قُلْتُ للغيث الرُّكامِ وَلَحّ في ... إبْراقِه، وألحَّ في إِرْعَادِهِ
لا تعرضنَّ لجَعْفر مُتشبّهاً ... لندى يَديْه فَلستَ مِنْ أنْدَادِهِ:
وقال أيضاً:
أقْسمت لا أجْعَل الإِعدامَ حادِثةً ... تُخْشَى) وعيسي بن إبراهيم (لي سَنْدُ
قال أبو محمد: ومما ابتدأه في هذا الباب مسلم في قوله:
أجدّكِ هَلْ تَدْرين أنْ رُبّ ليلة ... كأنَّ دُجَاها من قُرونكِ يُنْشَرُ
نصبت لها حَتَّى تجلّتْ بِغُرّةٍ ... كغُرةِ) يحيى (حِينَ يُذْكرْ) جَعْفَرُ (
قال ابن الجهم في السحابة:
فَلَما قَضَتْ حَقَّ العراقِ وأهْلِهِ ... أتاها من الرِّيح الشمال بَريدُها
فَمَّرتْ تَفوتُ الطْرفَ سبقاً كأنَّها ... جُنود عُبَيْد الله وَلّتْ بُنودُها
يريد انصراف أصحاب عبيد الله بن خاقان عن الجعفري إلى سرّ من رأى عند قتل المتوكل.
قال أبو محمد: وهذا المعنى مما عكسه ابن الجهم من قول أبي العتاهية:
وراياتٍ يحُلّ النّصْر فِيها ... كأنَّ زُهاءها قِطع السَّحابِ
فجعلها أبو العتاهية في رايات منصورة وجعلها ابن الجهم في مهزومة.
قال أبو محمد: وهذا من لطف صياغة الشاعر وفطنته أن يجعل الشيء مدحاً ويعكسه في ذم.
قال أبو محمد: وقد قدمت لك من هذه الأقسام ما تقوى به معرفتك بنقد الشعر فائقه ومقصره، وأطلعتك على سرائر رذله ومتخيره لتفاضل بين الشعراء بأصل وتنطق بعدل. ثم قد حسن الآن أن أورد ما قدمت الوعد به من شرح ما أخذه أبو الطيب، ولا أشرح إلا ما يقع فيه المعنى الذي لو كان له وقع بمثله وجماله، وحسن به مقاله أو ما قارب ذلك، فأمّا الأبيات الفارغات والمعاني المكررات المرددات فإني لا أشتغل بإيرادها ولا أطيل الكتاب باعتمادها ولكني أخاف أن يظن بنا غفلة عنها لا التجاوز لها فاحتاج إلى إيراد شيء من ذلك خوفاً مما ذكرت لك ولا يكون في غاية الفراغ من معنى يتعلق به، فإذا كان أبو الطيب يسهل عليه أخذ غير فائق ولا رائق لم يغفل عمّا اهتم به على أني لا أذكر المعاني التي قد كثّرت الشعراء استعمالها وواصلت استبدالها وصار موردها قد حصل له أسم السارق ولم يظفر بمعنى فائق، وذلك كتشبيه الوجه بالبدر، والريق بالخمر والمسك والماء الزلال، والقد بالغصن، وما أشبه ذلك من المتكرر المتردد والمألوف المتعود وإنما أعذر سارق هذه الألفاظ المتداولة والمعاني المتناولة إذا زاد في معناها أو تملح في ألفاظها كقول ابن المعتز في صفة القد:
يا غُصناً إنْ هزَّهُ مَشيهُ ... خَشِيتُ أنْ يَسْقُطَ رُمَّانُهُ
هذه الخشية من سقوط رمان الغصن وجمعه في البيت تشبيه الثدي والقد من أملح كلام وكقوله في تشبيه الوجه بالبدر:
مَوْسومةٌ بالحُسن مَعْشوقةٌ ... تُميت من شاءت وتُحييهِ
باتَ يُرِينِيها هِلالُ الدّجَى ... حَتَّى إذا غابَ أرتنيهِ
فهذا كلام وإن كانت فائدته فائدة قوله: وجهها مثل البدر فترتيب كلامه في) أ (بياته كل واحد منهما عن صاحبه في عينيه مليح جداً كقول ابن الرومي:
يا طيبَ ريقَ بَاتَ بدر الدُ ... جَى لمحة بَيْن ثَنَاياكا
يَروي ولا ينهال عنْ شُرْبه ... والماءُ يُرويكَ ويَنْهاكَا
أنظر كيف قرن تشبيه الريق بالماء بلفظ مليح صار به المألوف غريباً والمبتذل عجيباً هذا وما أشبهه من الألفاظ المتداولة والأبيات الفارغة. فإذا رأيتني أغفلته فلا يحمدّن حامد نفسك عندك استخراج سرقاتها، ولا يظنّ بنا عجزاً عمّا قدر عليه ولا جهلاً بما وصل إليه، لكنّا تركناه عمداً، وحذفناه قصداً ولولا خوفنا من ظنون هذه الطائفة لأوردنا المعنى الفائق، واللفظ الرائق الذي يتجمل به إذا كان إليه سابقاً وتقبيح به إذا كان سارقاً وحذفنا ما لا يكسب الأخذ فضيلة، ويلحقُ الأخذ رذيلة، ونحن نبدأ الآن بشعر أبي الطيب من أوله إلى آخره، والله المعين والموفق للصواب.
(1/196)
( بسم الله الرحمن الرحيم (أولُ شعرٍ قالهُ أبو الطيب أحمد بن الحسين قوله:
.../...