رسائل الأدباء أربع رسائل بين د. عبدالسلام العجيلي و جوليين بيترز

-1-

فندق رويال ، إشبيلية ، أيلول 1951

إلى السيد عبد السلام ،

هذا أنا في إشبيلية منذ يومين و لم أكتب إليك بعد لأني كنت أبحث في كل مكان عن فيلمك. أنا آسفة حقا على كوني لم أعثر عليه. في قرطبة نزلت مثلك في فندق أوغستين ، و هم يتذكرونك فيه جيدا ، بل إنهم حدثوني عن ورقة اليانصيب التي كنت تحملها ، ولكنهم لم يجدوا الفيلم. أما في إشبيلية فقد نزلت في فندق آخر ، إلا أني ذهبت إلى " نوبيا أوروبا " ، فلم يجدوه أيضا و هم متأكدون من أنه لم يفقد عندهم. وفي الألكازار استقبلني المدير بنفسه، و كان في غاية اللطف. لقد أمر بالبحث عنه بين الأشياء المفقودة من الزائرين، ولم يجد شيئا. لعله ضاع منك في الحدائق و التقطه أحد المارة. أنا آسفة جدا يا سلام ، وكنت أحب كثيرا أن أؤدي لك خدمة في مقابل لطفك الذي غمرتني به في مدريد. زرت في قرطبة الجامع. إنه بالغ الروعة ، ولكن كان ينقصني فيه دليلي العزيز الذي رافقني في طليطلة و في مدريد. المتحف هنا في إشبيلية جميل و لكنه ليس في ضخامة متحف مدريد ، ولا في سحره. أما في ألكازار ، فقد كنت من شدة التأثر بجمال الفن العربي بحيث أني بكيت ، يا عزيزي سلام ، وأنا أتذكرك!

وأخيرا... إني مغتبطة كثيرا هنا وأعتزم البقاء بضعة أيام أخرى. آمل أن ألقاك في باريس عند عودتي. وإذا لم يتح لي هذا الحظ فهذا هو عنواني في بروكسل ، وهكذا تستطيع دوما أن تجدني. إذا شئت أن تكتب لي كلمة قصيرة فإن ذلك سيسرني كثيرا.

إلى لقاء قريب إذن. مع أحلى الذكريات.

جوليين

العنوان : جوليين بيترز ، 123 شارع فيليكس ويفلاير

فوريه ، بروكسل. بلجيكا

***

-2-


" إلى جوليين بيترز المقيمة في فوريه ببروكسل ، والتي بكت متأثرة بجمال الفن العربي في ( ألكازار إشبيلية ) أهدي هذه القناديل".

قال البروفيسور آلسيدو – بهذا قدمته إليّ الراقصة الساحرة العينين ، وهو يفرغ الكأس الأولى في جوفه :

- هل تحتقر ابن عمك إذا كلّمك بغير لغته ؟ سمعتك تتكلم الفرنسية بطلاقة ، فاسمح لي بأن أحادثك بها.

فأومأت برأسي موافقا ، وموَّطنا النفس على سماع حديث هذا الطفيلي إلى نهايته.

قال : رأيتك امتعضت من دعابة هياسنتا. إنها دعابة تجرح ، ولكنك لست المقصود بها يا ابن العم. كنت سهما مسددا إلي، لو لا أن جلدي أصبح في غلظ جلد التمساح ... إلخ.

( تقرأ تتمة قصة " قناديل إشبيلية " ، التي كتبت في عام 1952 ونشرت لأول مرة في مجلة الأديب ، في المجموعة القصصية التي تحمل هذا الاسم ، و قد ظهرت طبعتها الأولى عن دار الأديب في عام 1956، وظهرت طبعاتها التالية عن دار الشرق العربي في بيروت، وترجمت إلى اللغات الأسبانية والفرنسية والإيطالية )


****


- 3 –

فوريه ، 28 تشرين الأول 1951

عزيزي سلام ،

تلقيت بطاقتك من ميلانو ورسالتك اللطيفة التي أثرت بي كثيرا. لا أستطيع يا سلام أن أقول لك كم حملت لي في هذه الرسالة من سرور وسعادة. كنت حزينة حقا لأني في عودتي إلى باريس لم أستطع رؤيتك ، ولكني عدت في الثالث من هذا الشهر ، وهو آخر أيام صلاحية بطاقتي للسكة الحديدية. ولم أكن أحمل مالا ، كما كنت أعتقد أنك غادرت باريس منذ أول الشهر. عدت من غرناطة رأسا إلى بروكسل ، في ثلاث ليال متتابعة في القطار. بعد تركي لمدريد لم أتوقف عن التفكير بك وكنت أتمنى من كل قلبي رؤيتك. لقد احتفظت من هذين اليومين اللذين قضيناهما معا بذكرى رائعة ، إنها تمثل أجمل الساعات ، لا في رحلتي إلى أسبانيا وحدها ، بل أعتقد أنها كذلك في كل حياتي ، هذه الساعات التي قضيتها بالقرب منك.

لأول نظرة يا سلام ، إذا كنت تذكر ، على باب الحافلة عندما كنا نبحث عن أمكنتنا فيها ، شعرت مباشرة بأن شيئا ما يجذبني إليك. وكنت جدّ سعيدة بأن يكون مجلسك إلى جانبي في العربة. كنت أتساءل دوما أثناء زيارة ألكازار.. طليطلة والكنائس إذا ما كنت سأفقدك في اختلاطنا بمجموعات السائحين الآخرين. كنت أصغي إلى أقوال الدليل وعيناي تبحثان عنك ، وبدلا من تمتعي برؤية روائع طليطلة كنت أتمتع برؤيتك أنت ، وأرى أن هذا أجمل من تلك بكثير. وحينما ذهبنا لتناول العشاء كنت قلقة وأنا أتمنى على الله أن يجعل مجلسنا الواحد قرب الآخر. ولذا فإنك تدرك مبلغ سروري حين رأيت أنك تريد أن تتعشى إلى جانبي.

كثيرون ممن كانوا معنا تصوروا أننا أصدقاء منذ زمن طويل ، غير شاكّين في أننا التقينا اليوم لأول مرة ، وربما قد لا يرى أحدنا الآخر أبدا بعد اليوم ... أليس كذلك ؟

كثيرا ما تحسن الصدف صنع الأمور. ولكن لماذا جعل الإله سورية على هذا البعد من بلجيكا ؟ إني أتوق كثيرا إلى رؤيتك ثانية يا سلام ، وأتساءل عما إذا كان هذا سيتحقق في يوم من الأيام. لعلك لن تعود مطلقا إلى أوروبا ، أو غزو بروكسل ، ومن غير المحتمل أن آتي أنا إلى سورية في ذات يوم. وحتى إذا عدت أنت إلى أوروبا ، هل ستفكر بي عندئذ؟ أم تراك ستنسى تلك الساعات التي قضيناها في أسبانيا معا ؟ من ناحيتي أنا يا سلام ، أشعر بأني لن أستطيع نسيانك بسهولة. صورتك الفوتوغرافية موجودة أمامي أتطلع إليها بصورة دائمة ، كما إن ذكراك لا تفارقني طوال اليوم. هل تدري أني حين فارقتك بكيت في القطار ؟ لقد تصورت أن مسرات عطلتي في أسبانيا قد بلغت نهايتها. وأنت لا تعلم أن هذه كانت أول مرة أرافق فيها شابا أيام العطلات...

ما زلت أتذكر جيدا كل لحظة عشناها معا. في العودة ، أمضيت نهارا كاملا في مدريد. تجولت في الغرانبيا ، وزرت مرة أخرى بحيرة نبتون ، ودائرة البريد ، حيث التجأنا أمدا طويلا في انتظار توقف المطر عن الهطول. كنت في أحسن حال بقربك يا سلام آنذاك، وكنت أحس بأني أعرفك منذ زمن طويل. وأنا الآن أفتقد تلك الساعات كثيرا. ذهبت بعد ذلك إلى الحديقة العامة. مرة أخرى رأيت البحيرة والمقهى الصغير ، ومعه جنرالنا في تمثاله. وحتى تلك الشجيرات التي رأيت أنت من خلالها القمر بكل بهائه. عادت إلى ذاكرتي الأمنية التي تمنيتها أنا آنذاك ، وكذلك أمنيتك أنت يا سلام عادت إلى خاطري. كانت جميلة جدا أمنيتك...

فوجئت بها حقا. تأثرت واضطربت ، وسعدت بها. في كل حياتي لن تقع عيني على القمر بدرا إلا وفكرت بك ، وبأمنيتك و بذلك المساء في أسبانيا.

في رحلتنا إلى طليطلة كنت ، في العودة ، أتمنى أن تصاب حافلتنا بعطل طارئ ، أو تتعرض لحادث يؤخرنا عن العودة إلى مدريد . فقد كنت أتوقع أن تكون مدريد نقطة تفرق ركاب الحافلة. وما كنت أدري إذا كنت ترغب في رؤيتي في المساء. ملهانا " التابيرنا خيتانا " كان كذلك رائعا ، أندلسيا وصفيّا ، لم أر ما يماثله بعد ذلك ، وإن كنت سمعت في غيره من الملاهي أغنية " سيرّانا "... هل تذكر؟ لقد أحببت ذلك المغني الأسباني الصغير القد وأغنياته الفلامنغو. ولكني أحببت أكثر بكثير رفيقي الذي كان يفوق في نظري كل المغنين الأسبان ، والآخرين أيضا.

هل تدري يا سلام ؟ بعد أن تركتك رحت أبذل جهدا كبيرا لئلا أكتب إليك كل يوم كما كنت أكتب لوالديّ.

كنت في شوق زائد إلى أن ألقاك مرة أخرى ، وبالكتابة أحس بأني أتحدث إليك. وإنما كنت أخشى أن تعتبرني بذلك مجنونة. لذلك لم أجرؤ على أن أفعل. ولكني في مراكش ، وعندما رأيت العرب وكتابتهم في كل الشوارع ، لم أفكر بإنسان غيرك أنت الذي تفهمهم. أدركت هناك أكثر مني في أي مكان كم لا أزال متعلقة بك.

أختم الآن رسالتي إليك متمنية أن تتلقاها وأنت مستغرق في عملك ، وأنت تجد مع ذلك وقتا تفكر فيه بأوروبا ، وبي أيضا. أكتب لي بسرعة رسالة طويلة. إني أنتظرها بصبر نافد. أرسل إليك أجمل ذكرياتي ، مع قبلة ضخمة ... أترى هذا مسموحا به؟

جوليين


************


- 4 –

صيف 2000

السيدة آني سنيكرز. فيليب دلتور وابنتهما أورور

أسرات : بيترز ، سنيكرز ، ووترز ، دلتور ، وشورمان

يؤلمهم أن يعلموكم مع الأسى العميق وفاة السيدة جوليين بيترز أرملة السيد جوزيف سنيكرز. ولدت في فوريه في 10 آب 1922 وتوفيت فيها في 8 أيار 2000 .

تقام مراسيم الجنازة المدنية في الساعة الرابعة عشرة من يوم الثلاثاء في 16 أيار ، في محرقة فيلفورد ، في حي ( هافنداكلان ) ، ويتبعها إحراق الجثمان ، وبعثرة الرماد.

* هذه القصة منشورة في رؤى ثقافية – العدد ( 5 ) ، 27 أيلول ، 2003، دمشق.

تعليقات

لا توجد تعليقات.

هذا النص

ملف
رسائل الأدباء (ملف)
المشاهدات
610
آخر تحديث
أعلى