كثيرا ما تهتم الرواية بالبحث في العلاقة بين الذات والآخر، فلا يمكن تصور الذات (الفرد) بدون تصور الآخر (العالم)، والروائي ينظر إلى الآخر من خلال ذاته، أي من خلال تمثله له، وصورة كل من الأنا والآخر، وهي صورة متخيلة مبنية وفقا لمرجعيات ثقافية متنوعة، كانت واضحة سواء في الأعمال التي عالجت العلاقة مع الآخر الغربي في فضائه مثل "عصفور من الشرق" و"الحي اللاتيني" و"موسم الهجرة إلى الشمال"، أو التي تعاملت مع الآخر في فضاء "الأنا" كما في بيضاء يوسف إدريس أو "أصوات" سليمان فياض، غير أن مسألة الذات والآخر لم تعد بنفس الوضوح الذي كانت عليه مثلا، والحدود بينهما يشوبها التداخل والالتباس أحيانا، فالذات قد تنقسم على نفسها، ليصبح بعضها هو الآخر، كما أن الآخر لم يعد دائما هو الغرب عدوا أو غريما، وبحسب قول جيمس بالدوين "الأنا والآخر مولودان معا"، وهكذا لا تتكون صورتنا للذات بمعزل عن تصورنا للآخر.
استلاب الذات
الروائي المصري محمد بركة يقدم في "أشباح بروكسل"، رواية سيرية أو أوتوبيوجرافيه، تتمحور حول شخصية وحيدة هي شخصية الراوي مكاوي، فلا نرى إلا ما يراه، ويقدم لنا الأحداث والأماكن والشخصيات الأخرى من خلال عدسته هو، والرواية السيرية هي دائما رواية فردية تعتمد على الحكي والتذكر، يبدأ روايته واصفا النسيم المنعش البارد بأنه هدية السماء وهي ترقب بعين فضولية قافلة صغيرة تسير عبر شريط ترابي ضيق بمحاذاة بحيرة فضية اللون لا حد لفتنتها.
مكاوي يستغرق كثيرا في علاقته بكارلا، ويترك أعمال المكتب إلى منصور مساعده المصري وخديجة سكرتيرته المغربية
هذا من وجهة نظر الراوي مكاوي، الذي يبلغ تأثره بالطبيعة مداه فينعكس على رؤيته لصديقته كارلا "الشقراء التي نحتها بديع السماوات من صلصال الغواية ورشها بعطر اللامبالاة، فجاء قدها ممشوقاً مثل غصن صنوبر، طرياً مثل أنفاس الصباح". هكذا ومنذ الصفحة الأولى يقر باستلابها لذاته، يقول: "قدري أن ألملم وراءها الشظايا المتناثرة". ويترك لها مهمة الدفاع عنه في مواجهة برناردينو، تقول: "هو ليس عربياً، هو مصري ينتمي إلى حضارة كليوباترا التي ركع أمامها قادة روما"، ليرد برناردينو بانفعال: "أليست العربية لغته، فهو بحق الجحيم عربي، ثم إنني لم أقل إنه إرهابي أو محتقر للنساء رغم أن البعض قد يرى أنه كمسلم من الشرق الأوسط ربما كان كذلك".
كلام برناردينو يعيد رسم الصورة النمطية للعربي المسلم في الغرب، وكارلا كانت معنية فقط بنفي تلك الصورة عن مكاوي وحده، أما هو فالتزم الصمت وكأن الأمر لا يعنيه، أو كأن كارلا نطقت بلسانه حينما رأته مصريا وليس عربيا، هكذا تعبر الرواية مبكرا عن تشظي الذات، المنشغلة بنفسها وبحاضرها فقط، فلم يتذكر عن ماضيه إلا ما يدفعه للخروج، يحكي عن عمله صحفيا في جريدة قومية، "حذروني بشكل مهذب من أن انتقادي للسلطة الجديدة حتى لو كان عبر منابر إعلامية أخرى يضعهم في حرج بالغ حيث إنني محسوب شئت أم أبيت عليهم"، يتم نقله وتخفيض مزاياه، ولما لم ينفع معه العقاب حاولوا غوايته بنقله إلى بروكسل مديرا لمكتب الجريدة هناك، ويزيدوا في إغرائهم له "هناك زميل يعمل مراسلاً لنا بعقد مؤقت سينتقل من باريس إليك ليكون مساعداً لك. هو يجيد الفرنسية التي يتحدث بها إقليم بروكسل ولديه مصادر مهمة في البرلمان الأوروبي والمفوضية الأوروبية وسيتولى إعداد معظم الرسائل التي سننشرها باسم مكتب بروكسل. ألم أقل إنه ليس مطلوباً من سيادتك سوى الدلع والاستجمام؟".
مكاوي يقبل الرشوة راضيا، ويلتزم بشروط الاتفاق، حتى مع نفسه، لم يتذكر ولا مرة أي موقف من مواقفه المعارضة والتي جعلته مستحقا لمثل تلك الرشوة الباهظة، فقط يشير إلى الحر والزحام في وطنه، ويتذكر عرضا طليقته لمرة واحدة، وكأن طلاقه منها كان طلاقا من الوطن كله، بما يسمح له الاستغراق في علاقته بكارلا، التي تنتقل معه إلى بروكسل.
تدنيس الملاذ
يحكي له المستشار الإعلامي عن تحايل المقيمين العرب على القانون من أجل الحصول على إعانة بطالة، نقرأ: "إنهم طيبون لحد السذاجة، يصدقون سريعاً ما تقول ولا يتوقعون منك أن تكون مخادعاً أو تتلاعب بهم، وهذا ما التقطه أشقاؤنا العرب المهاجرون، برعوا في إخفاء عملهم الحقيقي وتقديم الأوراق التي تثبت حقهم في الإعانة الاجتماعية".
استلاب حضاري
تختار الذات المستلبة من الحكايات والذكريات ما يحفظ توازنها نفسيا، لم يختبر الراوي صدق أو عمومية ما قيل له، وحينما يصحو على صخب حملة أمنية تلقي القبض على جاره المغربي، يتذكر فقط أنه كان غامضا، ومن عينيه الضيقتين تلوح نظرة تجمع بين السخرية والغضب. يقتنع سريعا بأن جاره إرهابي، حتى قبل إدانته، ويوقف السرد ليعد تقريرا عن اللاجئين السوريين، يقدم خلاله معلومات غزيرة عن طرق التهريب وكيفية وصول اللاجئين إلى بروكسل عبر طرق غير شرعية، هكذا يتحول الغرب إلى ملاذ آمن يدنسه الفارون إليه هربا من الفقر أو القمع أو الموت.
المؤامرة
يستغرق مكاوي كثيرا في علاقته بكارلا، ويترك أعمال المكتب إلى منصور مساعده المصري وخديجة سكرتيرته المغربية، يصد خديجة بعنف حينما تحاول غوايته، فيتآمران عليه، تختلس خديجة مفاتيح شقته ويقوم منصور بتركيب كاميرات سرية يوثق بها علاقة مكاوي بكارلا، ويستخدمان الفيديوهات في الإطاحة به ليجد نفسه مطالبا بمغادرة بروكسل، التي كانت له بمثابة الفردوس، لكن الإرهابيين الذين تسببوا في أن تشهد بروكسل للمرة الأولى مظاهرات حاشدة ضد العرب والمسلمين، وكذلك خديجة ومنصور، كانوا بمثابة الأشباح التي طاردته حتى أجبرته على الخروج، ليس إلى الوطن، ولكن إلى التيه كبطل "أديب" لطه حسين، وإذا كان جنون أديب هو ما حال دون رجوعه كما عاد غيره ممن سافروا إلى فضاء الآخر، إلا أن مكاوي رفض العودة حتى بعدما طردته بروكسل، هرب مع كارلا إلى "كوخ رائع في غابة اسكندنافية بعيدة"، هكذا يرى التيه رائعا، وفي ذلك تأكيد لعمق أزمة ذاته التي تعاني استلابا حضاريا أفقدها هويتها
استلاب الذات
الروائي المصري محمد بركة يقدم في "أشباح بروكسل"، رواية سيرية أو أوتوبيوجرافيه، تتمحور حول شخصية وحيدة هي شخصية الراوي مكاوي، فلا نرى إلا ما يراه، ويقدم لنا الأحداث والأماكن والشخصيات الأخرى من خلال عدسته هو، والرواية السيرية هي دائما رواية فردية تعتمد على الحكي والتذكر، يبدأ روايته واصفا النسيم المنعش البارد بأنه هدية السماء وهي ترقب بعين فضولية قافلة صغيرة تسير عبر شريط ترابي ضيق بمحاذاة بحيرة فضية اللون لا حد لفتنتها.
مكاوي يستغرق كثيرا في علاقته بكارلا، ويترك أعمال المكتب إلى منصور مساعده المصري وخديجة سكرتيرته المغربية
هذا من وجهة نظر الراوي مكاوي، الذي يبلغ تأثره بالطبيعة مداه فينعكس على رؤيته لصديقته كارلا "الشقراء التي نحتها بديع السماوات من صلصال الغواية ورشها بعطر اللامبالاة، فجاء قدها ممشوقاً مثل غصن صنوبر، طرياً مثل أنفاس الصباح". هكذا ومنذ الصفحة الأولى يقر باستلابها لذاته، يقول: "قدري أن ألملم وراءها الشظايا المتناثرة". ويترك لها مهمة الدفاع عنه في مواجهة برناردينو، تقول: "هو ليس عربياً، هو مصري ينتمي إلى حضارة كليوباترا التي ركع أمامها قادة روما"، ليرد برناردينو بانفعال: "أليست العربية لغته، فهو بحق الجحيم عربي، ثم إنني لم أقل إنه إرهابي أو محتقر للنساء رغم أن البعض قد يرى أنه كمسلم من الشرق الأوسط ربما كان كذلك".
كلام برناردينو يعيد رسم الصورة النمطية للعربي المسلم في الغرب، وكارلا كانت معنية فقط بنفي تلك الصورة عن مكاوي وحده، أما هو فالتزم الصمت وكأن الأمر لا يعنيه، أو كأن كارلا نطقت بلسانه حينما رأته مصريا وليس عربيا، هكذا تعبر الرواية مبكرا عن تشظي الذات، المنشغلة بنفسها وبحاضرها فقط، فلم يتذكر عن ماضيه إلا ما يدفعه للخروج، يحكي عن عمله صحفيا في جريدة قومية، "حذروني بشكل مهذب من أن انتقادي للسلطة الجديدة حتى لو كان عبر منابر إعلامية أخرى يضعهم في حرج بالغ حيث إنني محسوب شئت أم أبيت عليهم"، يتم نقله وتخفيض مزاياه، ولما لم ينفع معه العقاب حاولوا غوايته بنقله إلى بروكسل مديرا لمكتب الجريدة هناك، ويزيدوا في إغرائهم له "هناك زميل يعمل مراسلاً لنا بعقد مؤقت سينتقل من باريس إليك ليكون مساعداً لك. هو يجيد الفرنسية التي يتحدث بها إقليم بروكسل ولديه مصادر مهمة في البرلمان الأوروبي والمفوضية الأوروبية وسيتولى إعداد معظم الرسائل التي سننشرها باسم مكتب بروكسل. ألم أقل إنه ليس مطلوباً من سيادتك سوى الدلع والاستجمام؟".
مكاوي يقبل الرشوة راضيا، ويلتزم بشروط الاتفاق، حتى مع نفسه، لم يتذكر ولا مرة أي موقف من مواقفه المعارضة والتي جعلته مستحقا لمثل تلك الرشوة الباهظة، فقط يشير إلى الحر والزحام في وطنه، ويتذكر عرضا طليقته لمرة واحدة، وكأن طلاقه منها كان طلاقا من الوطن كله، بما يسمح له الاستغراق في علاقته بكارلا، التي تنتقل معه إلى بروكسل.
تدنيس الملاذ
يحكي له المستشار الإعلامي عن تحايل المقيمين العرب على القانون من أجل الحصول على إعانة بطالة، نقرأ: "إنهم طيبون لحد السذاجة، يصدقون سريعاً ما تقول ولا يتوقعون منك أن تكون مخادعاً أو تتلاعب بهم، وهذا ما التقطه أشقاؤنا العرب المهاجرون، برعوا في إخفاء عملهم الحقيقي وتقديم الأوراق التي تثبت حقهم في الإعانة الاجتماعية".
استلاب حضاري
تختار الذات المستلبة من الحكايات والذكريات ما يحفظ توازنها نفسيا، لم يختبر الراوي صدق أو عمومية ما قيل له، وحينما يصحو على صخب حملة أمنية تلقي القبض على جاره المغربي، يتذكر فقط أنه كان غامضا، ومن عينيه الضيقتين تلوح نظرة تجمع بين السخرية والغضب. يقتنع سريعا بأن جاره إرهابي، حتى قبل إدانته، ويوقف السرد ليعد تقريرا عن اللاجئين السوريين، يقدم خلاله معلومات غزيرة عن طرق التهريب وكيفية وصول اللاجئين إلى بروكسل عبر طرق غير شرعية، هكذا يتحول الغرب إلى ملاذ آمن يدنسه الفارون إليه هربا من الفقر أو القمع أو الموت.
المؤامرة
يستغرق مكاوي كثيرا في علاقته بكارلا، ويترك أعمال المكتب إلى منصور مساعده المصري وخديجة سكرتيرته المغربية، يصد خديجة بعنف حينما تحاول غوايته، فيتآمران عليه، تختلس خديجة مفاتيح شقته ويقوم منصور بتركيب كاميرات سرية يوثق بها علاقة مكاوي بكارلا، ويستخدمان الفيديوهات في الإطاحة به ليجد نفسه مطالبا بمغادرة بروكسل، التي كانت له بمثابة الفردوس، لكن الإرهابيين الذين تسببوا في أن تشهد بروكسل للمرة الأولى مظاهرات حاشدة ضد العرب والمسلمين، وكذلك خديجة ومنصور، كانوا بمثابة الأشباح التي طاردته حتى أجبرته على الخروج، ليس إلى الوطن، ولكن إلى التيه كبطل "أديب" لطه حسين، وإذا كان جنون أديب هو ما حال دون رجوعه كما عاد غيره ممن سافروا إلى فضاء الآخر، إلا أن مكاوي رفض العودة حتى بعدما طردته بروكسل، هرب مع كارلا إلى "كوخ رائع في غابة اسكندنافية بعيدة"، هكذا يرى التيه رائعا، وفي ذلك تأكيد لعمق أزمة ذاته التي تعاني استلابا حضاريا أفقدها هويتها