رسائل الأدباء رسالة من أحمد بوزفور إلى عبدالقادر وساط

فتلازما عند الفراق صبابة....

حج مبرور ياصديقي العزيز. كم أتمنى أن أزور مثلك مدينة الشعراء، ومع الجاحظ هذه المرة، فإني أتهيب الشيخ الوقور ابن قتيبة. ولكنني لا أستطيع إلى ذلك سبيلا في الوقت الحاضر. فهل لك أن تقضي عني حاجة، ( أو حجة، فالقادر يحج عن العاجز )، إذا زرت مدينة الشعراء في الحلم القادم؟
وهي أن تبحث في ضواحي هذه المدينة عن قرية يسكنها الهواة الغاوون الذين يعشقون الشعر ويتبعون الشعراء. فإذا وصلتها فابحث بين بيوتها عن بيت الفقيه أبي السائب المخزومي. ( وأنت تعرف أنه من ظرفاء الفقهاء. وفقهاء الحجاز عموما أظرف وأخف دما وروحا من فقهاء الشام والعراق ). فإذا وجدت البيت ولقيت الفقيه فسلم عليه وأبلغه تحياتي، واسأله أن يدعو لي بالشفاء من حب ابتُليتُ به وأنا شيخ كبير، فأقعدني وأضناني. وقد قرأت أنه كان في حجه يتعلق بأستار الكعبة ويدعو الله أن يرحم العشاق. وقرأت أنه طرق باب بيت لصديق له في الفجر، حتى إذا دخل وسلم سأله صاحبه:
- ألك حاجة؟
قال:
- نعم. أبيات لعروة بن أذينة بلغني أنك سمعتها منه بالعقيق.

فأنشده صاحبه أبيات عروة الآتية:

إنَّ التي زعَـــمَتْ فؤادك مَـــلَّها = خُلقَتْ هواك كما خُلقتَ هوى لها
فبك الذي زعمَتْ بها، وكلاكما = أبدى لصــــاحبه الصبـــابةَ كلَّـها
وإذا وجدت لها وساوس سلوة = شفع الضميرُ إلى الفــؤاد فسَـلَّها
بيضاء باكرها النعيمُ فصاغها = بلبـــــاقة فــأدَقَّـــها وأجَــــــــلَّها
لمَّا عرضتُ مسلِّماً، ليَ حاجةٌ = أخشى صــعوبتها وأرجو ذلَّـها
منعَتْ تحيتها فقلتُ لصــاحبي: = ما كان أكـــثرَها لــنا وأقـــلَّها!
فدنا وقال: لـــعلها معــــذورةٌ = في بعض رقبتها، فقلت: لــعلها

فطرب أبو السائب وقال:
- هذا والله دائم الصبابة صادق العهد، لا الذي يقول:(إن كان أهلُكِ يمنعونكِ رغبةً/عني، فأهلي بي أَضَنُّ وأرغَبُ).إني لأرجو أن يغفر الله لعروة لحسن ظنه بصاحبته وطلب العذر لها.
ولما عرض عليه صاحبه الطعام قال:
- لا والله، ما كنتُ لأخلط بهذه الأبيات طعاما حتى الليل.
وانصرف.
وقرأت أنه كان يوما في متنزه العقيق مع صديق له يتناشدان الأشعار، فأنشده صديقه قول العرجي:

باتا بأنــــعم ليلة حــتى بـدا = صبحٌ تنوَّرَ كالأغـــرِّ الأشـــقرِ
فتلازما عند الفراق صبابةً = أخذَ الغريم بفضل ثوبِ المُعسِرِ

فأقسم أن لا ينطق بحرف غير هذين البيتين حتى يعود إلى بيته. وتابع الصديقان جولتهما في العقيق، وأبو السائب يردد البيتين، فلقيا عبد الله بن الحسن بن عليّ بن أبي طالب، فسلم عليهما وقال: كيف أنت يا أبا السائب؟ فرد عليه: ( فتلازما عند الفراق صبابةً.... )، فالتفت عبد الله إلى صديق أبي السائب وقال له: منذ متى أنكرت صاحبك؟ قال: منذ اليوم، فانصرف وهو يقول: إنا لله. أيّ كهل أُصيبت به قريش!.. وتابع الصديقان تجوالهما فلقيا قاضي الدينة على بغلة له ومعه غلامه، فسلم عليهما وقال: كيف أنت يا أبا السائب؟ فرد: ( فتلازما عند الفراق صبابةً... ). قال القاضي لصديقه: منذ متى أنكرت صاحبك؟ قال: آنفا. فتعجب وتولى لينصرف، فقال له صديق أبي السائب ( وكان مرحا وصاحب مقالب ): أفندعه هكذا؟ أخشى أن يرمي نفسه في بعض آبار العقيق. قال القاضي: صدقت. ياغلام. القيد. فجاء الغلام بقيد البغلة فقيد القاضي والآخران أبا السائب وهو يحتج بترديد البيتين فلا يأبهون له، وأركبه القاضي بغلته وقال لغلامه: لا تفارقه حتى تُلحقه بأهله. قال صديق أبي السائب: فلما غابا عنا قلت للقاضي الحقيقة، فضحك وقال: قبحك الله. فضحت شيخ قريش وفضحتنا معه.
ألا يستحق هذا الفقيه الظريف العاشق للشعر والداعي للعشاق والشعراء ياصديقي أن نزوره ونتبرك به ونسأله الدعاء؟ أولا يستحق صاحبك العاشق العميد على كبر، أن تتشفع له عند هذا الفقيه البركة حتى يدعو له بالتوبة والرجوع إلى رشده ووقاره؟

تعليقات

لا توجد تعليقات.

هذا النص

ملف
رسائل الأدباء (ملف)
المشاهدات
518
آخر تحديث
أعلى