الخلاصة:
تنهض هذه الدراسة باستقراء التصورات الميتافيزيقية الضمنية المبثوثة في حكايات (ألف ليلة وليلة) من خلال البحث في السرد الحكائي في صيغتيه الواقعية والعجائبية، وسواء أكان هذا السرد حكايات فرعية مفردة أم حكايات إطارية شاملة فإن الليالي تتكشف عن وحدة تصورية شاملة للوجود. إذ بعد الإلمام بتعريف إجرائي مناسب للميتافيزيقا، كانت هناك جولة واسعة لاستخلاص التصورات ذات الطبيعة الميتافيزيقية التي يمكن للقراءة المحكمة أن تنهض بها على أساس من تأويل الأبعاد الكبرى لفعل السرد نفسه، ومن الفهم العميق لطبيعة ما اكتنف هذا السرد من وقائع بعضها واقعي/ تاريخي وبعضها غرائبي. وهكذا تم لنا الكشف عن البنية الميتافيزيقية الكامنة في الحكايات جميعاً. وقد اقتضى ذلك منا البحث عميقاً في مكونات السرد: الشخصيات، والأحداث، والزمكان، والحبكة، والتحولات في الهيأة (من إنسان إلى حيوان أو بالعكس) وما تفرزه هذه المكونات من الدلالات الميتافيزيقية. وقد انتهت الدراسة إلى جملة من النتائج المهمة.
**
إذا كان مفهوم الميتافيزيقا، من حيث الجوهر، دالاً على علاقة منقطعة عما هو مادي وملموس بحكم أن الميتافيزيقا مكرسة للبحث في جواهر الأشياء و فيما يتجاوز الواقع الحسي، فإنها تكون قد اختارت الإقامة الأبدية داخل سجن اللغة أو اللوغوس؛ وإذا كانت الحكايات، و بخاصة الغرائبية والفنطازية والأسطورية منها، ليست سوى نوع من تجليات اللغة في تجسيدها للعلاقة المفترضة مع ما يتجاوز كلاً من الحواس ومنطق اللوغوس المحايث، فإن العلاقة بين الميتافيزيقا والحكايات الغرائبية، ولاسيما (ألف ليلة وليلة)، التي سنطلق عليها اسم ’الليالي‘ من الآن فصاعداً، ليست مجرد علاقة تجاور ومساكنة في عالم اللغة بقدر ما هي تعبير عن ترابط وثيق بين تصورات لسانية ودلالية وسيميائية متناسجة مع بعضها، وذلك على الرغم من التناقض الظاهري بين منطق الحكايات القائم على الخلق الخيالي الحر الذي يتمرد على الضبط المنهجي والعقلي من جهة، ومنطق الميتافيزيقا الذي يستجيب للأسس المنهجية العامة في الفكر الفلسفي من جهة أخرى. بيد أننا لا نرى أن مفهومي الميتافيزيقا والسرد الحكائي العجائبي والفنطازي منقطعي الصلة بالعالم الخارجي الواقعي، وبالتجربة اليومية للإنسان. فما الميتافيزيقا والسرد الحكائي العجائبي إلا تمثيلات وتصورات رمزية مختلفة شكلاً ووسائل ومتفقة هدفاً؛ وينهض الإنسان بمهمة انتاجهما لكي يفهم نفسه وعالمه ومصيره. ولما كان الرمز جزءاً من التجربة البشرية يستخدم لتمثيل [و أيضاً لفهم] جزء آخر منها، كما يقول وايتهيد.1 فإن من المنطقي أن يتكامل الأداء الخيالي في الليالي مع الأنساق العقلية المنهجية للميتافيزيقا. فالحكايات في الليالي تتحدث للبشر عن مصائرهم كما يقول باحث فرنسي،2 وكذلك تفعل الميتافيزيقا في غاياتها الكبرى. وفي كلامه عن الليالي، يرى تودوروف “إن المحكي يساوي الحياة، بينما يساوي غياب المحكي الموت. فإذا لم تعد شهرزاد تجد حكايات تحكيها، فإنها ستعدم.”3 هكذا يكون سرد شهرزاد لحكاياتها مرتبطاً على نحو عضوي مع حدين من حدود التجربة البشرية هما الحياة بكل مظاهرها الحقيقية و الملموسة، والموت أو العدم وما ينطوي عليه من غموض وإبهام كثيفين يغريان الميتافيزيقا، في مفهومها التقليدي، بالاشتغال التأملي. وهذا المنطلق سيمكننا من أن ننظر إلى القيم الفكرية ذات الجوهر الميتافيزيقي التي عبرت عنها الليالي ضمناً أو صراحة، وإلى الحكايات نفسها بوصفها تجليات رمزية لمحاولات الإنسان التعبير عن مسعاه الحثيث لفهم محنة التجربة الوجودية في شتى تجلياتها. فليست حكايات الليالي إلا ترميز للحياة بغناها وتنوعها كما يقول البعض في النصف الأول من القرن العشرين.4 ولكن العلاقة بين العقلي والمادي تظل حاضرة كما يصرح بذلك كازانتزاكي، إذ أنه “حتى أكثر المشكلات الميتافيزيقية تتخذ هيئة فيزيقية (مادية) حارة لها رائحة البحر والتراب والعَرَق الإنساني.”5 وإذا كانت هذه الآراء تريد ترميز الحكايات بالواقعي والحسي، فإننا نضيف أن الحكايات، بكل ما تنطوي عليه من تجليات سردية واقعية أو خيالية، إنما تعبر رمزياً أيضاً عن المشكلات الروحية والعقلية التي اكتنفت تجربة الإنسان الوجودية منذ أقدم الأزمنة.
مرة أخرى نسأل: ما الميتافيزيقا؟
تعرف الموسوعة البريطانية الميتافيزيقا بالقول إنها قسم من الفلسفة يعنى بالطبيعة الجوهرية والأساسية للواقع وللكينونة، وهي تتضمن الأنطولوجيا أو علم الوجود ontology، وعلم الكونيات أو الكوزمولوجيا cosmology؛ وغالباً ما يضاف إليها نظرية المعرفة أو الأبستمولوجيا epistemology، وتضيف الموسوعة أن الميتافيزيقا تعني الدراسات الفلسفية المجردة. أي أنها فرع من الفلسفة يدرس البنية النهائية للواقع وتركيبه الأساسي. وقد فُهِمَتْ الميتافيزيقا في الغرب بطرق مختلفة: فقد قال البعض أنها بحث في المقولات الأساسية للأشياء الكائنة (العقلية والمادية)؛ ونظر إليها آخرون على أنها دراسة للواقع بالمقارنة مع المظهر؛ أو بكونها دراسة للعالم في كليته؛ أو بوصفها نظرية للمبادئ الأولى. ومن أهم المشكلات الأساسية التي كانت موضع بحث وجدل في تاريخ الميتافيزيقا، مشكلة طبيعة المفاهيم والتصورات العمومية أو الكليات universals وعلاقتها بما يطلق عليه الخصوصيات particulars؛ ووجود الخالق أو المطلق creator، ومشكلة العقل والجسد mind-body problem؛ ومشكلة المادة material، والمظهر الخارجي external، والأشياء objects. أما أهم الاتجاهات والمدارس الميتافيزيقية فهي الأفلاطونية، والأرسطية، والتوماوية (نسبة إلى القديس توما الأكويني Thomas Aquinas) والديكارتية، والمثالية، والواقعية والمادية.”6 ومن خلال فحص طريقة تصنيف الميتافيزيقية إلى اتجاهات ومدارس، نلاحظ أمراً مهما هو أنها تتضمن مدارس توصف بالمثالية وأخرى توصف بالواقعية أو حتى بالمادية. و هذا يعني أن الميتافيزيقا، من حيث هي، يمكن أن تستوعب أطراف المفاهيم المختلفة جوهرياً التي تعبر عن طبيعة تصور الإنسان لجوانب التجربة الوجودية كافة.
و يكتب پيتر ڤان إنڤايگن Peter van Inwagen، محرر مادة الميتافيزيقا في موسوعة ستانفورد الفلسفية، موضحاً أن من الصعب أن نقرر ما هي الميتافيزيقا. فقد زعم الفلاسفة القدماء وفلاسفة العصر الوسيط إن الميتافيزيقا ربما تكون قابلة للتعريف من خلال موضوعها: فالميتافيزيقا هي “العلم” الذي يدرس “الوجود من حيث هو” أو “الأسباب الأولى للأشياء” أو “الأشياء التي لا تتغير”. والحقيقة أنه لم يعد ممكناً تعريف الميتافيزيقا على هذه النحو، لسببين: الأول، لأن الفيلسوف الذي ينكر وجود تلك الأشياء التي عدت في وقت ما أهم ما يشكل موضوع الميتافيزيقا – الأسباب الأولى أو الأشياء التي لا تتغير – قد يعدُّ الآن ممن ينشئون بهذه الطريقة توكيداً ميتافيزيقياً فيقع في فخ الانتساب للمفاهيم التي عمل على نقضها. و الثاني، أن هناك الكثير من المشكلات التي تعدُّ الآن مشكلات ميتافيزيقية (أو في الأقل مشكلات ميتافيزيقية جزئياً) التي هي قطعاً لا تمت بصلة إلى الأسباب الأولى أو الأشياء التي لا تتغير، مثل مشكلة حرية الإرادة بإزاء الإكراهات الوجودية والاجتماعية، أو مشكلة ما هو عقلي بإزاء ما هو مادي أو ما هو بدني. واستناداً إلى ما سبق، يضع الباحث تقسيماً ثنائياً لمشكلات الميتافيزيقيا القديمة التي تركز على مقولات الكينونة والوجود the categories of being، و مشكلات الميتافيزيقا الجديدة التي تشتمل على قضايا من قبيل الكيفية وكون الشيء ذا صيغة مشروطة modality، ومشكلات المكان والزمان، ومشكلة الإرادة الحرة، ومشكلات بنية المادة، وأغلب هذه القضايا تؤول إلى ما يسمى بقضية حدس الكينونة the intuition of Being،7 التي يقول عنها بريتشارد في عبارة ختامية حاسمة إن “حدس الكينونة – وهي التجربة الميتافيزيقية في أرفع صورها – مهمة ووثيقة الصلة لأنها تمثل الأصل التكويني لاهتمامات الإنسان العملية حول نفسه، وعالمه، ضمن منظور هو الأعم والأكثر شمولاً. إن حدس الكينونة يوقظ وعي الإنسان على آفاق جديدة للتجربة – وهي آفاق لا حدود لها. ولذلك فإن الفرد، من دون بعض الإحساس بالميتافيزيقا وبالتجربة الميتافيزيقية، سيكون أقل حكمة، وأقل سعادة، وأقل إنسانية.”8 وإذا ما وضعنا هذا المنظور الفلسفي للحظة متميزة هي جزء أصيل من البنية الفكرية للميتافيزيقا، نقصد بها لحظة حدس الكينونة، فإنه سيؤسس، منهجياً وفكرياً، لشرعية انتساب الميتافيزيقا الأصيل إلى التجربة البشرية العامة. ونؤكد هنا أنه قد كان لسارتر موقف أكثر وضوحاً حين يقرر أن الميتافيزيقا نفسها “ليست نقاشاً عقيماً حول الأفكار التجريدية، … إنها مجهود حي ينبثق من داخل الموقف الإنساني في كليته.”9 وهكذا ينزل سارتر الميتافيزيقا من عليائها لتكون حالة تعبير عن الانغماس بالتجربة اليومية الإنسانية مما يسمح بتحولها إلى موقف إنساني ينبض بالحياة؛ موقف يقدم أجوبة لقضايا الواقع المحتدمة وتجارب الإنسان الحية والمباشرة.
وإذ لا يتسع المجال للبحث في مشكلات الميتافيزيقيا لتعددها وتعقيدها الجسيم، ولكون هذه الدراسة ليست بحثاً مكرساً في الميتافيزيقا من حيث هي، فسنكتفي بالعرض السابق، وفي الوقت نفسه، نقترح تعريفاً إجرائياً مخصوصاً وضيقاً يتسم بالدقة من الناحية الفلسفية من جهة، ويتفق مع افتراضات وحاجات الدراسة من جهة أخرى، حتى يكون الأساس الذي تعتمده الدراسة. فالميتافيزيقا، على وفق هذا التعريف، تشمل الجوانب المتصلة بطبيعة خبرة الإنسان اليومية في تأرجحها بين الواقع والخيال، وتصوراته عن الحياة والموت، والأمل و اليأس، و الأنا والآخر، والعدل و الظلم وحدود القدرات البشرية إزاء جبروت السلطة المدنية أو الدينية أو الفيزيقية، وكذلك موقفه من هيمنة المطلق على مصيره. واستناداً إلى هذا التصور، فإننا سوف نبحث في تجليات هذه القضايا الميتافيزيقية في الليالي على النحو الآتي:
1. إن الميتافيزيقا، بوصفها تفوهات فكرية ذات جوهر فلسفي، قد تتردد أثناء سرد الحكايات على لسان الراوي العليم، أو على ألسنة الشخصيات في الحكايات.
2. ستكون الميتافيزيقا، في الأساس، ذات وظيفة مهمة في تفسير ترابط البنية الداخلية للحكايات، وتأويل الأحداث والرموز ومصائر الشخصيات.
3. وأخيراً، يمكن أن تكون الميتافيزيقا مفتاحاً لتأويلات الصيرورة الكلية والنهائية للعملية السردية في الليالي.
و لأن ’الليالي‘ تنتسب إلى عالم السرد العجائبي في كثير من حكاياتها، فإننا نسأل: كيف ينظر النقد الأدبي إلى وظيفة العجائبي والغرائبي في الأدب عامة و في الليالي خاصة؟ مما لا شك فيه أن للنقاد والباحثين مواقف متباينة بشأن مفهوم الغرابة ووظائفها في الأدب. على سبيل المثال، ينسب تودوروف ثلاثة وظائف للعنصر العجائبي في الأدب إذ يقرر أن العجائبي: “يخلق، أولاً، أثراً خاصاً، خوفاً أو هولاً، أو مجرد حب استطلاع – وهو الشيء الذي لا تستطيع الأجناس أو الأشكال الأخرى أن تولده – ثانياً، يخدم العجائبي السرد ويحافظ على التوتر حيث يتيح حضور العجائبي تنظيماً للحبكة مضغوطاً على نحو خاص، وثالثاً، فإن للعجائبي، ومن النظرة الأولى، وظيفة هي تحصيل حاصل إذ أنه يسمح بوصف عالم عجائبي وهذا العالم ليس له مع ذلك حقيقة خارج اللغة؛ فالوصف والموصوف ليسا من طبيعتين متباينتين.”10 و يمكن وصف الوظيفة الأولى، التي يعزوها تودوروف للعجائبي، بالوظيفة النفسية وما تتركه من أثر في المتلقي، والوظيفة الثانية بالفنية وما تقدمه من خدمة لتنظيم الحبكة والمحافظة على توترها الداخلي. أما فيما يخص الوظيفة الثالثة، فإن من الواضح أن عبارة تودوروف بشأن العالم الذي ليس له وجود خارج اللغة إنما تتعلق بطريقة فهمنا، نحن البشر، للعلاقة بين اللغة والحكاية العجائبية. وهي عبارة تظهر تأثيرات من جاك دريدا؛ فاللغة ستكون شيئاً عجيباً ومفارقاً للواقع، استناداً إلى زعم تودوروف بأن الوصف (اللغة أو المظهر اللساني للحكاية) و الموصوف (العالم العجائبي) ليسا من طبيعتين متباينتين. و لكننا نجد أن هذه الثنائية وهذا الافتراق إلى خارج اللغة و داخل اللغة يمكن أن يؤولا إلى وحدة حقيقية لأن الإنسان، وهو الكائن الذي يستخدم اللغة لإنتاج تصورات وحكايات تمثل استجابته لتحديات العالم الخارجي من جهة، ولهواجسه وتأملاته الداخلية من جهة أخرى، يمثل العنصر الذي يوحد بين ما هو حسي ويقع خارج اللغة وما هو عقلي أو خيالي ويقع داخل اللغة. وهكذا يغو واضحاً أن الحكايات ليست سوى إحدى تجليات محاولات الإنسان لفهم نفسه واستيعاب جوانب تجربته الوجودية في شتى أبعادها.
و لكن كيف ينظر بعض الباحثين إلى مشكلة العجائبي في الليالي على وجه الخصوص؟ يرى الدكتور محسن الموسوي أن حضور الحكايات العجائبية في السرد يجعلنا نتبين أنها “محركة للسرد، ناقلة إياه من حال إلى حال، من الاستقرار إلى الحركة. لكن العنصر الخارق، العفريت أو الجن، يمكن أن يتمدد هو الآخر، يتقلب في عدة أشكال، لغرض آخر هو مفاجأة القناعات الساذجة، والتصورات البشرية المتصالحة،”11 وهنا نقع على وظيفتين أخريين للعجائبي هما تحريك السرد ونقلة من حالة السكون إلى حالة الحركة، وهي وظيفة فنية لا تكرر الوظيفة الفنية عند تودوروف لأنها تتعلق بالصيرورة وليس بالنهج الفني للحبكة من جهة؛ ومفاجأة القناعات الساذجة، والتصورات البشرية المتصالحة من جهة أخرى؛ أي أنها وظيفة عقلية وإدراكية تنهض بإثارة الأسئلة الكبرى المقلقة أو الأسئلة الميتافيزيقية. وبذلك سيكون عدد وظائف العجائبي في الحكاية والسرد خمس وظائف لا ثلاثاً. وينبغي لنا أن ننوه بأهمية الوظيفة الخامسة والأخيرة لأنها تمثل عنصراً فكرياً يربط بين التأمل والحياة، لأننا نفهم عبارة “مفاجأة القناعات الساذجة والتصورات البشرية المتصالحة” على أنها تعني أن السرد الحكائي العجائبي يقوم بتعريض هذه القناعات و التصورات البشرية إلى هزة فكرية شاملة وجذرية تجعلنا نعيد النظر بموقفنا من الحياة والموت والنجاح والفشل، من الحاكم والمحكوم، ومن الشهوة الأيروسية والرفعة العقلية. و مما لا شك فيه أن هذه الهزة الفكرية الجذرية الشاملة تمثل وظيفة فلسفية مهمة تدفعنا إلى إعادة تدبر حدود التجربة الوجودية الكبرى، وإلى إعادة صوغ تصوراتنا عن أنفسنا وعن تجاربنا وعن العالم الذي نعيش فيه، وهي تصورات تقع في الصلب من المشكلات الميتافيزيقية الأساسية.
ويرى عبد الفتاح كيليطو أن الغرابة أو العجيب “لا تعني … الشيء الذي لم تره العيون ولم تسمع به الآذان؛ إنها على العكس متعلقة بشيء معروف ومألوف، إلا أنه منسي ومدفون في أعماق النفس، ووظيفة الشعر [و الأدب عامة] هي نشر هذا المطوي و إبراز هذا المخفي.”12 والحقيقة أننا يمكن أن ننسب وظيفة الكشف عن الكيفية التي يقوم بها الشعر بنشر المطوي وإبراز المخفي إلى النقد الأدبي نفسه حين يقوم بالعملية النقدية. إذن، فإن الكشف عن الغرابة في المألوف، وهي وظيفة الشعر والأدب من خلال النظر بعين الدهشة والخيال إلى الواقع اليومي الغفل، هي بالقدر نفسه وظيفة النقد بوصف أن النقد ينتج تصورات فكرية تروم تقديم صورة الوعي ’العلمي‘ أو في الأقل ’المنهجي‘ في المدونة الأدبية من خلال عملية الكشف هذه. وهنا يمكننا أن نضيف السرد إلى الشعر في إنجاز هذه الوظيفة لأن الاختلاف بين الأجناس الأدبية لا ينفي وحدتها في إنجاز الوظائف الجمالية المتكاملة. ولأن السرد أكثر إيغالاً في التعامل مع ما هو موضوعي أو واقعي من الشعر، وهو، أي السرد نفسه، مطالب في الوقت نفسه بأن يحقق للقارئ الكشف عما هو مطوي ومخفي ليحقق الدهشة. فإذا كان السرد متسماً بالغرابة والفنطازيا فضلاً انغماسه فيما هو واقعي، كما هو الحال في الليالي، فإن مهمة النقد ستكون البحث في الكيفية التي عبر فيها السرد عما هو مطوي و مخفي من دلالات ميتافيزيقية في الليالي وهي تقدم لنا حكايات تحفل بذلك المزيج المتقن والجميل بين الواقعي والمتخيل والغرائبي حتى أنه لا يعود بالإمكان تعيين الحدود الفاصلة بين ما هو واقعيّ وبين ما هو تخيّليّ وحلمي …، إذ لا يمكننا أن نحدد بدقّة متى ينتهي الواقعيّ ومتى يبدأ التخيّلي.13 و لكن، لما كان الغرائبي و العجائبي يعدان تجسيداً لفعل المخيلة، فإن ذلك يدعونا إلى إثارة سؤال آخر عن ماهية وظيفة الخيال في الأدب عامة وفي السرد خاصة.
و لن نذهب إلى عرض موسع لما قيل بصدد الخيال، فذلك أمر يضيق به المجال، ولكننا سنناقش مقولة كولريدج في تعريف الخيال إذ يقرر أن الخيال هو: “تلك القوة التركيبية السحرية …، التي تكشف عن ذاتها في خلق التوازن أو التوافق بين الصفات المتضادة أو المتعارضة.”14 و ذ نتفق مع هذه المقولة فإن اتفاقنا هذا يستند إلى أن هذا التعريف للخيال يركز على الوظيفة التي تؤديها المخيلة في النص الأدبي من دون الدخول في المشكلات الفلسفية والأخلاقية المتعلقة بالصدق والكذب في علاقتها بالخيال، أو بالمشكلات المعرفية فيما يخص طبيعة الصلة بين الخيال و الواقع. فالخيال، حين ’يخلق‘ حالة من التوازن أو التوافق بين الصفات المتضادة أو المتعارضة، فإنه ينقلها إلى مفهوم أعلى يوحدها هو مفهوم ’وحدة الأضداد‘ ومن دون أن ينتهي صراعها داخل العمل الأدبي؛ أي أنه سيكون عنصراً فعالاً وإيجابياً في عملية الخلق الفني. ومن هنا فإن عمل المخيلة في الليالي سيكون عنصراً فاعلاً في دمج الواقعي بالأسطوري والغرائبي. ويرى مرسيه إلياد أن العجائبي، و هو أحد أهم تمظهرات الخيال، يتميز بالإقحام الفظ للسري الغامض في إطار الحياة اليومية، وهذا الإقحام، من حيث الجوهر، يشكل قطعاً للنظام المعروف للحدوث والصيرورة، وبروزاً مفاجئاً لغير المعقول، ضمن ما هو ثابت ومألوف في تجربة الحياة اليومية. أما من حيث الوظيفة، فإن العجائبي يقدم لنا تجربة فريدة تتمثل في تقديمه لنا أناساً مثلنا، يعيشون معنا في عالمنا الواقعي، ولكنهم يوضعون فجأة في وضع غير مفهوم.15 وهذا يعني أن العجائبي والمتخيل يتيحان للإنسان عملية دمج الواقعي والمحسوس والملموس بالخيالي والمتصور والمتعالي في صيغة رمزية دالة على وحدة الذات البشرية في تطلعها نحو فهم جوانب التجربة الوجودية كافة.
في الدراسات المكرسة لنحو الخطاب السردي، يرى غريماس أن “الفكر الأسطوري، ومن المحتمل خيالنا الجمعي [أيضاً] يأبى الاعتراف القـَبْلي بالقيم السائدة مُؤثراً تعويضها بعالم قيمي فوقي مفترضاً إمكانية التواصل بين العالمين.”16 وهذا يعني أن النصوص السردية التي تنتسب إلى مرحلة سيادة الفكر الأسطوري، وهي النصوص التي لا يمكن ردها إلى مؤلف معين، والليالي جزء أصيل من هذه النصوص، تنهض تلقائياً بعملية إحلال عالم القيم الفوقية، أو لنقل منظومة القيم الميتافيزيقية، محل منظومة القيم السائدة أو المستمدة من العالم الواقعي. وهكذا ينشأ في صلب عملية السرد نوع من التناقض والصراع بين قيم الواقع اليومي المألوف وقيم الفكر التأملي أو الميتافيزيقي. ولو عدنا لحكايات الليالي لرأينا أنها تحتشد وتتدفق بهذا المعنى الإيجابي للميتافيزيقا. فهذه الحكايات تقدم لنا الإنسان وهو يمر في مواقف حاسمة تهدد وجوده نفسه مما يتطلب منه أن يبذل جهوداً كبيرة وفاعلة لكي ينعم بالخلاص من كل ما يهدد كينونته أو يعمل على تدميرها. ونلاحظ هنا أن الشخصيات والمواقف التي تعرضها الليالي تتصف بالتطرف السلوكي من الفاعلين من جهة، و ممن يقع عليهم الفعل من جهة أخرى، نتيجة انغماس هذه الشخصيات في حالات من العشق ومن الكراهية والمكر والغضب والهيام بما هو خارق للمألوف؛ ولما كان الأمر يتطلب أننا “لكي نفهم شيئاً عن الجنس البشري، فمن الضروري أن نمعن النظر في الحالات المتطرفة”17 فإننا نستنتج بالضرورة أن حكايات الليالي وشخصياتها التي تعيش حالات من التطرف إنما تعبر عن مواقف وجودية ضمنية من دون أن تغادر شرطها الذاتي والنفسي والاجتماعي اليومي.
لقد حافظت الليالي، بما تتضمنه من حكايات واقعية وغرائبية وخرافية وفنطازية، على أهميتها الفنية والفكرية الدائمة انطلاقاً من أسس تكوينية متضافرة: الأول كون تلك الحكايات تشتغل على الإمتاع من خلال المزج بين ما هو خيالي و يتجاوز العالم الحسي وما هو محسوس وملموس؛ والثاني أنها تعمل على إرضاء الشغف بالحكايات، وهو شغف أصيل في النفس البشرية ربما يكون التطهير الأرسطي أحد أهم أسبابه؛ والثالث أنها تعبر، على نحو ضمني، بصفتها تجليات فنية و جمالية، عن مستوى فكري و فلسفي يرتبط بالهموم الميتافيزيقية الكبرى التي شغلت الإنسان، وما زالت تشغله، منذ الأزل وإلى الأبد.18 فالإنسان كائن فانٍ، و قد مثل الموت والفناء هاجساً أزلياً منذ أن انطلق گلگامش باحثاً عن عشبة الخلود. وتمثل لحظة الموت قيمة استثنائية في جميع الحضارات في كل العصور لأنها “اللحظة الأهم التي تربط بين المؤقت والخالد، … وهي أيضاً اللحظة التي يُرَدّ فيها الإنسان إلى طبيعته الأولى وإلى ضعفه وإلى أنه سيموت، على خلاف الإله الذي لا يموت” كما يقول أبو بكر الشرايبي.19
وانطلاقاً من فرضية أن الليالي تتضمن بعداً فلسفياً ميتافيزيقياً يتجاوز النزعة الحسية المشهدية فيوغل في الخيال، ويعبر عن هموم فكرية كونية تلامس الحاجات النفسية والمشكلات الروحية للبشر كافة، كان لا بد لنا من قراءة متن الليالي وبنيتها كونها تتألف من حكاية إطارية رئيسية كبرى (حكاية شهريار وشهرزاد)، وحكايات إطارية فرعية مثل (حكاية حاسب كريم الدين) و(الحمال والثلاث البنات) للوقوف على شتى التجليات الدرامية والنصية لهذا النص المركب لاستخلاص الأبعاد الميتافيزيقية الراشحة من بنيه الفنية نفسها. وتفترض الدراسة أن هذا التلازم الجدلي الوثيق بين الحسي والمتخيل في الليالي يكشف عن بعد فلسفي ميتافيزيقي شامل يكتنف كليات النص وجزئياته ويمنحه مذاقاً خاصاً ومكانة فريدة بين آداب العالم؛ وهو واحد من أهم أسباب ذيوع النص ودوام انتشاره الكبير في شتى الثقافات والأزمان. فالشخصيات والأحداث والأفعال البشرية والزمان والمكان في النص السردي عموماً، وفي الليالي على وجه الخصوص، توحي دائماً بما يتجاوز ذواتها أنفسها لأن ما هو لا نهائي حاضر فيها. وهنا تظهر الحاجة إلى التأويل لرصد البعد الميتافيزيقي الراسخ في الليالي التي لم تكن أبداً خلواً من أية غاية، كما يزعم البعض.20
ولكي تنبني الدراسة على أسس علمية ومنهجية رصينة، وتحافظ على كثافة الرؤى والتأملات من دون الوقوع في دائرة النزعة التصنيفية، فقد كان لزاماً علينا أن نطلع على أهم الدراسات التي تناولت الليالي في اللغتين العربية والإنجليزية، والاقتصار على ما كان له علاقة وثيقة بما تتضمنه فرضية البحث. أما بخصوص الليالي، فقد كان علينا أن نعمد إلى اختيار الإشارة المكثفة إلى بضع الحكايات والنصوص التي وردت في الليالي لتكون عينة للبحث حتى لا يتحول البحث إلى النزعة المسحية الاستعراضية أو يتضخم حجماً بسبب من طول الاقتباسات النصية من الحكايات.
يمكن تقسيم الليالي إلى الحكاية الإطارية الأولى الممهدة لظهور شهرزاد في المشهد السردي و من ثم توليها مهمة السرد. وهي حكاية ذات بنية إطارية واضحة على الرغم من أنها تأتي قبل تولي شهرزاد عملية سرد الليالي لأن الحكاية الأولى نفسها تتكون من ثلاث من الحكايات هي: حكاية الملكين الأخوين شهريار و شهرزمان و خيانة زوجيهما لهما، ثم حكاية العفريت والفتاة المختطفة التي مارست الجنس مع مائة رجل على الرغم من كونها حبيسة صندوق مقفل بإحكام ويحمله العفريت على ظهره حيثما ذهب، ثم حكاية الثور والحمار والمزارع. وتكون حكاية الملكين الأخوين الإطار العام للحكاية الأولى؛ ووظيفة هذه الحكاية أن تكون المقدمة الممهدة لتولي شهرزاد مهمة رواية حكايات الليالي. و في الحكاية المقدمة، يكون الراوي العليم غير المشارك في الإحداث narrator omniscient هو من يتولى السرد. ولكن وظيفة هذه الحكاية تتجاوز مهمة التوطئة لبقية الحكايات لأنها تقوم باستثمار السرد من خلال جعله وسيلة لإثارة الأسئلة الوجودية التي ستتولى بقية الحكايات مهمة صوغ مغامرة البحث عن أجوبة عنها بوساطة السرد. ونلاحظ هنا أن تلك الأسئلة تمثل صيغة فكرية حكائية ذات جوهر ميتافيزيقي يمثل تجسيداً لمقولة أن الإنسان غافل غفلة أنطولوجية ontological inattention، و أن النسيان الذي جعل شقيق الملك شهريار يعود أدراجه ليكتشف أن زوجته تمارس المتعة الحسية مع أحد عبيده في فراش الزوجية ليس مجرد عيب إنساني في ذاكرة شخص فرد هو الملك شهريار نفسه بقدر ما هو حدث رمزي لفعل قدري يوطئ لليقظة من تلك الغفلة الأنطولوجية من خلال التطور اللاحق للحكاية الذي يؤول إلى تكوين موقف انفعالي سلبي ساخط ومدمر إزاء الجنس الآخر (الأنثى) لدى الملكين شهريار وشاه زمان. وللوقوع على حقيقة هذا البعد الأنطولوجي الضمني، فإننا سنفسر وصية شهرزاد لإختها دنيازاد حين تخاطبها قائلة: “يا أختاه، افهمي ما أوصيك به، أنا إذا طلعت إلى السلطان أرسلُ خلفك فإذا طلعت و رأيتي أن السلطان قضى حاجته مني قول لي يا أختاه إن كنت غير نائمة فحدثينا من أحاديثك الحسنة نقطع بها سهر ليلتنا هذا فهي سبب نجاتي و خلاص العالم من مصيبته و إخراج الملك عن سنته…”21 و هذا يعني أن نجاة شهرزاد و خلاص العالم من محنته و إخراج الملك من سنته الرهيبة بقتل عروسه صبيحة اليوم اللاحق أمور خططت لها شهرزاد لتحقق ثلاثة أهداف هي: شفاء الملك من صدمة الخيانة الزوجية، وتخليصه مما آل إليه من غفلة وجودية ثانية أدت إلى تصور مغلوط يطلق عليه الدكتور صبري حافظ تسمية (الوعي الزائف)،22 و من ثم إنقاذ شهرزاد لنفسها ولبنات جنسها من الأثر المدمر للوعي الزائف الذي ولدته حالة الغفلة الأنطولوجية. وتأتي حكايات ’الليالي‘ لتشكل، شيئاً فشيئاً، أساساً للتجربة النفسية التي ستفضي إلى تحقيق نبوءة شهرزاد بالكامل فينتقل شهريار من الغفلة الأنطولوجية و الوعي الزائف إلى اليقظة الأنطولوجية والوعي الصحيح.
و الحقيقة أن الغفلة الأنطولوجية لم تكن افتراضاً محضاً بقدر ما كانت نتاج صيرورة سردية تضمنتها الحكاية الافتتاحية لليالي. إذ أنه بعد أن يقتص شاه زمان، شقيق شهريار، من الملكة والعبد بقتلهما، يذهب لزيارة شقيقه الملك شهريار للتسرية عن نفسه، فإذا به يمر بأحداث تعمل على تعزيز حدث الخيانة الأولى بخيانة حسية استعراضية تقوم بها الملكة زوجة شهريار مع جملة من جواريها وعبيدها؛ فيفعل هذا التعزيز فعله في ترسيخ اعتقاد الملك شاه زمان أن الجنس الآخر (الأنثى) مجبول على الخيانة فيقلل ذلك من حدة حالته النفسية المتدهورة لأنه يكتشف أن الأمر لا يخص حياته الشخصية فحسب، فهناك خيانات أخرى تمارسها النساء الملكات. ويعقب ذلك الكشف المثير أن يهيم الملكان الشقيقان على وجهيهما من هول الصدمة. وتأتي حكاية العفريت الذي يظهر من البحر حاملاً صندوقاً زجاجياً ذا أقفال أربعة، وفيه فتاة جميلة كان العفريت قد اختطفها في ليلة عرسها، لتقدم دليلاً إضافياً يعزز الاعتقاد الأول لدى شهريار و شاه زمان بخيانة المرأة سواء أكانت ملكة متزوجة تتمتع بالسلطة والجاه، كما هو حال زوجتي الملكين الشقيقين، أو فتاة مستلبة الإرادة لأنها مختطفة من عفريت ومرغمة على حياة معزولة دونها حياة السجون الانفرادية. وهنا تكتمل حلقة الإدانة، صورياً، في عقل الملك شهريار لتكون دليلاً على خيانة النساء كافة؛ وليبدأ فصل القتل المنهجي للفتيات العذراوات اللائي يتزوجهن شهريار في الليل ليأمر بقطع رؤوسهم في صباح اليوم التالي. ونلاحظ هنا أن ما أعقب الغفلة الأنطولوجية الأولى لم يكن اليقظة الحقيقية، وإنما هو نوع من الوعي الزائف كما سبق التنويه. وستكون حكايات شهرزاد، بكل ما تتميز به من خصائص غرائبية، هي السبيل لتخليص الملك من وعيه الزائف بإظهار أن التجربة البشرية بتنوعها وشمولها لا تختزن صورة واحدة للمرأة. ولذلك فإن شهرزاد لا تنجح في إنقاذ نفسها وبنات جنسها من الموت فقط وإنما تنجح أيضاً في إنقاذ الملك من غفلته الأنطولوجية الثانية التي وقع فيها نتيجة هيمنة الوعي الزائف على تفكيره وعلى مواقفه وتصرفاته. وفي هذا السياق، يرى مرسيه إلياد أن الحكي العجيب الغريب في الليالي قد “أسهم في تصحيح مجرى حياة شهريار، وإنقاذ العذارى من الموت، وأنسى العجائبي شهريار (بفعل الحكي) حياة الخيانة الزوجية فأدرك أن الحكي يدفعه إلى المعرفة الحقيقية.”، وإذ نضع مصطلح اليقظة الأنطولوجية بديلاً لمصطلح المعرفة الحقيقية لأن الأخير يقع في خانة نظرية المعرفة، وهو ليس مشتقاً من حكايات الليالي، فإننا نستخلص من سياق السرد العجائبي نفسه أن هذه الحكايات تؤثر عميقاً في حياة المرء الخاصة فيكون لها أثر بيداغوجي إيجابي مهم، بمعنى أن الليالي يمكن أن تفهم على أنها رواية تعلم، أو ما يصطلح عليه bildungsroman،23 و لكنها تختلف عن رواية التعلم التقليدية في مسألة بنيوية أساسية لأنها تركز على أثر الفعل الخارجي الذي ينتجه فعل السرد الغرائبي نفسه الذي يقدمه الراوي (شهرزاد)، و ما يتركه في نفس المروي له (شهريار) أكثر من تركيزها على الحياة الداخلية للفرد الذي يخوض تجربة التعلم، و ما يعانيه من تجارب قبل أن يرتقي بذاته من خلال فعل المعاناة المباشرة للتجربة؛ وهو الأمر الذي تتميز به رواية التعلم التقليدية. فالتجربة النفسية الداخلية المباشرة لشهريار محجوبة عن المتلقي وهي متوقفة عن التطور الملحوظ منذ وقت مبكر من الحكايات، بالأحرى منذ شروع شهرزاد بسرد حكاياتها، و حتى الحكاية الختامية في الليلة الحادية بعد الألف. وهناك لازمة أو عبارة مكررة هي: “بلغني أيها الملك السعيد ذو الرأي السديد أن …” لتذكيرنا بوجود هذا الملك الضال المدعو شهريار الذي يملك أن يأمر بقطع رأس شهرزاد إذا شعر بالملل، أو أن يصبر عليها ما دام متمتعاً بالإصغاء إلى سردها الجميل. ولعلنا لا نجافي الحقيقة إذا قلنا إن هذا الفرق الجوهري بين رواية التعلم في المفهوم الغربي و رواية التعلم كما جسدتها الليالي إنما يؤشر فرقاً جوهرياً مماثلاً في البنيتين العقليتين الغربية و العربية. ففي روايات التعلم الغربية، تكون التجربة الذاتية للبطل الذي يعاني حالة الانتقال من الفطرة أو من حالة ما قبل التعلم إلى التعلم هي العنصر التكويني المهم و الحاسم الذي تعرضه الرواية للقارئ، أما في ’الليالي‘ العربية، فإن إصغاء شخصية من شخصيات الليالي هو الملك للحكاية، أو الكلام، هو العامل الأساس في عملية التعلم للشفاء من الأثر المدمر للتجربة الذاتية. و هذا يعني تقديم الكلام أو اللوغوس على التجربة العملية الذاتية من خلال منح اللوغوس طاقة تأثير أعظم من تلك التي ترتبط بالتجربة نفسها.24
و هكذا فإنه يمكننا القول إن الوظائف الضمنية الأساسية للحكايات في الليالي تقوم على كسر المألوف والتوقع، وخرق قواعد الخبرة البشرية السائدة، وإدامة حالة التوتر الناتجة عن تردد الذات بين الواقع و الخيال بحيث ترتقي إلى مصاف تتحدى فيه “… فرضياتنا الراسخة عن الواقع بالنسبة للكثير من الأمور المهمة، بما في ذلك طبيعة العالم، و مكان الإنسان فيه، وعرضية الحياة نفسها، وطبيعة قيمه الأخلاقية، وحدود عالمه العياني وقدرته الجسدية، ومحدودية الزمان والمكان، والانحصار في حدود جنس واحد و جسد واحد.”25 ومن الواضح أن هذه المفاهيم المستمدة من التجربة الاجتماعية و الوجودية البشرية تشكل عناصر تكوينية مهمة و أساسية في أية بنية فلسفية ميتافيزيقية من جهة، وهي حاضرة بكثافة في الليالي ضمناً أو صراحة و في هذه الحكاية أو تلك من جهة أخرى.
الأبعاد الميتافيزيقية لحكايات الرحلة في الليالي
شكلت الحكايات التي تقوم على موضوعة الرحلات نسبة كبيرة من مجموع حكايات الليالي إذ لا تكاد تخلو حكاية منها، ومن أشهرها حكاية السندباد البحري وحكاية حاسب كريم الدين. وقد كانت هذه الرحلات ذات قيمة رمزية وجودية كبيرة لأنها تتضمن المرور بتجربة مهمة ومؤثرة تنطوي على الكشف الذي قد ينقذ الإنسان من الغفلة الأنطولوجية، هذا فضلاً عن كونها تجربة تغني الخبرات الشخصية الذاتية للبطل، وهي في أحيان كثيرة، قد تؤدي إلى تغيير في منزلته الاجتماعية. فهذه الرحلات قد تشتق دوافعها من حركة الواقع، مثل الحاجة إلى الكسب المادي و والتخلص المعاناة من الثبات والجمود اليوميين، لكنها تؤول في نهاية المطاف إلى التعبير عن نزوع إنساني راسخ في النفس البشرية نحو التغيير واستطلاع آفاق جديدة. وهناك صلة وثيقة تربط بين هذا النزوع من جهة، والجانب الميتافيزيقي الغامض والسري من الوجود البشري من جهة أخرى. فالرحلة، كما يقول فراس السواح، من حيث كونها حركة سفر وانتقال إنما تترجم الرغبة في العبور من (الهنا) إلى (الهناك)، ومن الأليف إلى المجهول، ومن الضيق الخانق إلى المطلق الفسيح، فالرحلة ليست حدث سفر و تجوال في المكان أو الوهم والخيال فحسب، بل هي ترجمة فعلية لرغبة الكائن في التخلص من الزمان والمكان والعدم. وهكذا تتأسس العلاقة بين ظاهرة الرحلة، من حيث هي حدث قصصي يتكرر باستمرار في الليالي، والقيمة الرمزية والفلسفية التي تنشأ نتيجة النظر إلى أفعال الإنسان الواقعية على أنها صور فكرية وتعبيرات غير مباشرة عن مواقف وجودية.
و نلاحظ هنا أن الكلام عن الرحلة قد اقترن بالكلام عن الصيرورة الزمكانية. وهذه سمة جوهرية من سمات أي فعل إنساني من حيث كونه مشروطاً بزمكان معين. وقد قيل الكثير عن خصوصية المكان الشرقي وبهاء القصور وجمال ما تحتويه من ريازة ورياش. وقد زعموا أن وصف المكان الشرقي هو السبب الأساس في دهشة القارئ الأوروبي وإعجابه بالليالي من دون الالتفات إلى أن هذه الحكايات قد نشأت، في الأصل، بصورة عفوية لمخاطبة مستمع شرقي يعرف حقائق المكان الشرقي ويألفها من دون تزويق. وعلى أية حال، فإن الزمان في الليالي ينطوي على أهمية خاصة لأن بنية الليالي برمتها هي بنية زمانية في الجوهر. وإذا ما قلنا إن قارئ الليالي يلاحظ، في الحكايات، أثر الصيرورة التي تجعل الإحساس بسريان الزمان ممكناً، فإن الإحساس بالآن، ونعني بـ(الآن) آن القراءة بوصفها لحظة مدركة في زمان التلقي، سيتكشف عن توسيع قدرة الإنسان، وهو القارئ المحدود حكماً، على التعامل مع الزمن من خلال إدراكه أنه يتجاوز ذاته في هذه اللحظة الآنية من خلال ما تقدمه الليالي من تجليات زمانية ومكانية متنوعة، وما تنطوي عليه من صيرورة متحولة تمزج بين الواقع و الخيال باستمرار مما يعطيه إمكانات رحيبة للانفلات من قبضة الآن المحكمة.26
وإذا كان العجيب هو كل ما يبعد عن ساحة المألوف من الأشياء، فإنه، من الناحية الأدبية، توجده وسائط فوق طبيعية مثل: آلهة الأساطير، أو الشياطين والملائكة، أو كائنات عالم الجن.27 ومن حيث الوظيفة، يؤتى بالعجائبي في الأدب غطاءً لتجاوز الضوابط الاجتماعية والتخلص من الحواجز والممنوعات والمحرمات taboos المفروضة على الإنسان في بيئته الاجتماعية. وهو الأمر الذي يؤدي إلى مزيج عجائبي فتكون النتيجة تشكلاً فنياً مدهشاً يجمع بين المتخيل والملموس. ومن أمثلة هذا المزج، حكاية الصياد الذي يمثل عنصر الوجود البشري الواقعي من حيث القدرات والمهنة والهيئة، والجني الذي يمثل العنصر العجائبي أو الفنطازي، فهو كائن جسيم موجود في حيز ضيق، وهو يملك القدرة على التحول إلى دخان أو العودة إلى شكله الغريب من حيث الهيئة.28 ومما لا شك فيه أن هذا الانتقال بين الحسي والمجرد، بين الواقعي والمتخيل، هو مما يدعم القول بثراء ’الليالي‘، شكلاً ومضموناً، بالأبعاد التأويلية الفلسفية التي تنبني على أسس ميتافيزيقية ضمنية.
ففي حكايات الرحلات، نرى كيف تمتزج حكايات الرحلة مع العناصر الحكائية العجائبية لتضيف بعداً جمالياً يكسر رتابة الواقع المعيش وجموده من جهة، ويفتح أفق المخيلة على ما يرتقي بها إلى آفاق تأملية رفيعة من جهة أخرى. ولعل مراجعة بسيطة لرحلات السندباد تمثل دليلاً نصياً حياً على هذا القول. ففي هذه الحكايات هناك رحلتان: الأولى واقعية تتخذ من السفينة ومن الحقائق المكانية بعداً وصفياً لها لتكون توطئة للرحلة الثانية الخيالية حيث يتولى السرد مهمة تزيين التجربة المعيشة (هنا والآن) بما هو متخيل وعجائبي (هناك، وفي وقت سابق)، بمعنى أن هناك رحلة أولى هي سردية متخيلة يرويها البطل السندباد، ورحلة ثانية هي رحلة نفسية خاصة يقوم بها متلقي النص. وتعمل الرحلة الأولى على استيلاد بعد خامس في نفس من يقوم برحلة التلقي إذ تمنحه فرصة تجاوز الأبعاد الأربعة للمكان والزمان. ومن الواضح أن هذا الأثر ذو جوهر ميتافيزيقي مكين.
وكما سبق القول، فإن الليالي ذات بنية زمانية واضحة؛ فهي تتألف من ألف ليلة وليلة. وهذه الليالي تمثل نهجاً زمنياً خطياً واقعياً؛ وهو زمن إطاري يغلف أبعاداً زمنية متعددة ومتنوعة ضمن مسارات متنافذة بين زمان الحكي الإطاري (قصة شهرزاد و شهريار)، والأزمنة المتفرعة عن الحكايات الثانوية أو الفرعية التي يغلب على بعضها حضور أزمنة ميتافيزيقية غامضة، مثل أزمنة الجن وأزمنة المسخ والتحول وأزمنة المدن المرصودة. ولكن نلاحظ أيضاً أن بعض هذه الأزمنة ذا ملامح تاريخية مثل الحكايات التي تذكر الخليفة العباسي هارون الرشيد. بيد أن زمن الحكي الإطاري، الذي يتألف من ألف ليلة وليلة، لا يتضمن أية إشارات إلى انقطاعات بسبب العمل، فالملك شهريار لم يسافر أو ينشغل بأي أمر من أمور المملكة قد يتطلب منه أن ينصرف عن سماع الحكايات، وهو ما يمكن أن يفهم على أنه مؤشر على أن الحكايات قد هيمنت على اهتمامات الملك. أما شهرزاد، فلم نجد أنها قد تعرضت إلى ما يعيق سردها للحكايات على الرغم من أننا نكتشف في النهاية، و من دون أي تمهيد، أنها قد حملت و وضعت ثلاث مرات. ولعل حالة حمل شهرزاد ووضعها ثلاثاً هي من قبيل المفاجأة المفهومة في إطار كون النص مجموعة من المرويات الشفاهية التي قد تحتوي على فجوات أو مفاجئات غير مسوغة فنياً. ويناقش أحد الباحثين وجود الليلة الواحدة التي تتبع واو العطف قائلاً “لنقلْ على سبيل الختام إنّ هذه الليلة الفائضة، سواء وضعناها أعلى أو أسفل الألف هي، على التوالي، زمن توليد الحسّ و زمن إيقاظ العقل. والحال أنّ الحسّ و العقل … يشيعان في النص و ليس خارج النص.”29 وهكذا نرى أن هذه الليالي ليست إطاراً زمنياً مجرداً، وأنما هي حافلة بالقضايا الفكرية المهمة. وفي هذا السياق، يشير د. الموسوي إلى حقيقة أن أغلب حكايات الليالي يكتظ بتأملات عن معنى الحرية، وخطيئة الغرور والطمع، وقداسة الواجب، والعمل، وتفاهة أمور الدنيا؛ كما يؤكد أن لحمة الليالي تستبطن خيطاً أخلاقياً رفيعاً.30 و نرى أن طرح مفاهيم الحرية والأخلاق والخطيئة والواجب في حكايات شعبية عجائبية يكشف عن غايات كامنة في المخيال الجمعي لمعالجة قضايا ذات طبيعة ميتافيزيقية في صيغة سردية سلسة مما يمنح هذه المفاهيم قدراً أكبر، و إن يكن غير مباشر، في التأثير في المتلقي. و يمكن أن يفهم هذا التأثير على نحو سلبي حين يقال أن المعالجات الخيالية للقضايا الواقعية هو نوع من التعويض عن العجز عن تقديم معالجات فعلية؛ أو يفهم على نحو إيجابي حين يقال أنها تكشف للمتلقي قبح ودمامة واقعه اليومي، فتدفعه إلى التمرد والثورة. وهكذا تبدو الميتافيزيقا حاضرة، في الليالي، في الكليات وفي الجزئيات والتفاصيل، ولكنه يظل حضوراً ضمنياً يستلزم حفريات نقدية لتشخيص تجلياتها الجميلة والمبهرة والخفية في آن واحد.
الهوامش و الملاحظات:
1. ينظر: Ballard, E. G. (1957) Art and Analysis, Springer, Netherland. pp. 185.
2. نقل الدكتور محسن جاسم الموسوي زعم رتشارد بيرتون أن ’الليالي‘ تكشف بعض الدراسات عن ملامح نزعة فلسفية ضمنية في الليالي. ينظر، على سبيل المثال، مقالة جلبرت گراندگيوم، “الليالي تتحدث للبشر عن مصائرهم” بالفرنسية. و قد وردت المقالة ضمن الجزء التاسع من ملف كتاب الليالي من تحرير الأستاذ نقوس المهدي على الموقع: http://www.matarmatar.net/threads/
3. تزفيتان تودوروف، “الناس – المحكيات ألف ليلة وليلة” ترجمة: الصديق بوعلام. و المقالة هي الفصل الثالث من كتاب Poétique de la prose, Editions du Seuil, 1971-1978. و قد وردت من ضمن الجزء الخامس من ملف كتاب الليالي من تحرير نقوس المهدي على الموقع: http://www.matarmatar.net/threads/
4. نقلاً عن: د. محسن جاسم الموسوي، “صيغ الكلام و أوجه الكتابة في ألف ليلة وليلة” مجلة (فصول) المجلد الثالث عشر، العدد الأول. الجزء الثاني. الصفحات 20-46، ص 20.
5. ينظر نيكوس كازانتزاكي “تقرير إلى غريكو” ترجمة ممدوح عدوان. دار الجندي للطباعة و النشر. دون تاريخ. ص 42.
6. ينظر: “metaphysics.” Encyclopædia Britannica. Encyclopædia Britannica Ultimate Reference Suite. Chicago: Encyclopædia Britannica, 2013.
7. ينظر: van Inwagen, Peter, “Metaphysics”, The Stanford Encyclopedia of Philosophy (Winter 2013 Edition).
8. ينظر: Pritchard, Stanford, ‘Metaphysics and the Metaphysical Experience’ in International Philosophical Quarterly, June, 1966.
9. ينظر: كرانستون، موريس، (سارتر بين الفلسفة والأدب)، ترجمة: مجاهد عبد المنعم مجاهد. الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1981. ص. 38.
10. تودوروف، تزفيتان، (تعريف الأدب العجائبي)، ترجمة أحمد منوَّر. مجلة ’المساءلة‘ العددان 4 و 5، ربيع العام 1993. ص. 99.
11. د. محسن جاسم الموسوي، “صيغ الكلام و أوجه الكتابة في ألف ليلة وليلة” مجلة (فصول) المجلد الثالث عشر، العدد الأول. الجزء الثاني. الصفحات 20-46، ص 26.
12. عبد الفتاح كيليطو، ( الحكاية و التأويل: دراسات في السرد العربي)، ط.1، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، المغرب. ص. 20.
13. د. محمد عبد الرحمن يونس، “حكايات ألف ليلة وليلة بين المرجع الواقعي والمرجع التخييلي”. ضمن الدراسات و المقالات التي جمعها و نشرها نقوس المهدي في العاشر من مايو 2014 في موقع (مطر):
http://www.matarmatar.net/threads/1969
14. عثمان موافي، (في نظرية الأدب: من قضايا الشعر والنثر العربي القديم) ج1. دار المعرفة الجامعية للطباعة و النشر، القاهرة. 2005. ص. 141.
15. ينظر (بالفرنسية): Mercia Elliad, (1995) Aspets du Myth. Edition Gallimard, Paris. P.p. 177-198.
16. نقلاً عن الدكتور عبد الناصر العجيمي، (في الخطاب السردي: نظرية غريماس) الدار العربية للكتاب، تونس. 1991. ص. 43.
17. المصدر السابق. ص. 40.
18. ينسب الدكتور صبري حافظ لليالي أربعة وظائف هي: التشويقية، والإرجائية، والتوليدية، والفنطازية. ينظر، د. صبري حافظ، (جدليات البنية السردية المركبة في ليالي شهرزاد ونجيب محفوظ)، مجلة فصول، المجلد الثالث عشر، العدد الثاني، صيف 1994. الصفحات 20-70. ص. 26.
19. ينظر: أبو بكر الشرايبي، “السلطة و الدين في ألف ليلة وليلة”، ترجمة: ماتياس هورلبيكا. ينظر الصفحة الثانية من موقع (مطر) المتعلقة بدراسات كتاب الليالي: http://www.matarmatar.net/threads/1969/page-2
20. يرى ريتشارد بيرتون أن ’الليالي‘ قد نجحت لأنها تتضمن بهاءً خيالياً و خوارق عجيبة و مشاهد مبهرة، و هي خارجة على التقليد الأدبي. و هذا مما يشكل بعضاً من جوانب نجاحها العظيم. و لكن الباحث نفسه يزعم أن ’الليالي‘ “خالية من أية غاية وعظية أو تعليمية.” ينظر: د. محسن جاسم الموسوي في كتابه “ألف ليلة وليلة في نظرية الأدب الإنجليزي: الوقوع في دائرة السحر” منشورات مركز الإنماء القومي، بيروت، 1986. ص. 16.
21. “ألف ليلة وليلة من المبتدأ إلى المنتهى” طبعة مصورة عن طبعة برسلاو. الطبعة الرابعة. المجلد الأول. مطبعة دار الكتب و الوثائق القومية، القاهرة. 2010. ص. 31.
22. د. صبري حافظ، مصدر سابق.
23. رواية التعلم نوع من الروايات التي تسرد قصة التطور الروحي و النفسي و الأخلاقي للبطل، و من أمثلتها في الأدب الغربي: (فلهلم مايستر) لجوته، و(ديفيد كوبرفيلد) لتشارليس ديكنز، و(صورة الفنان شاباً) لجيمس جويس، و(دميان) لهيرمان هسه؛ أما في الأدب العربي، فهناك (حي بن يقضان) لابن طفيل، و(كتاب خالد) لأمين الريحاني، و(الثلاثية: بين القصرين، وقصر الشوق والسكرية) لنجيب محفوظ.
24. نتذكر هنا قصة “حي بن يقظان” لأبي بكر محمد بن عبد الملك بن محمد بن محمد بن طفيل القيسي الأندلسي )1100م -1185م(، حيث ينشأ البطل في بيئة طبيعية بكر وخالية من أية مؤثرات ثقافية ومعرفية إلا أنه يتمكن من الإلمام باللغة والدين والأخلاق والعلم على نحو خارق للمألوف وتنطوي القصة على فكرة رمزية هي أن اللغة والدين والأخلاق والعلم كامنة في النفس، وليست نتاجاً للتجربة والتعلم في بيئة اجتماعية وثقافية معينة، و هو مما يعني ضمناً تقديم اللوغوس على التجربة الذاتية.
25. ينظر Kathryn Hume, (1984) Fantasy and Mimesis: Responses to Reality in Western Literature. London, Methuen. P. 164.
26. على الرغم من أن إشكالية الزمن الوجودية وتجلياتها في الليالي جزء من مهم من التجليات الميتافيزيقية، و لكنها بحاجة إلى دراسة مستقلة نظراً لطبيعتها الفنية الخاصة.
27. ينظر: Elliad, Mercia (ibid) pp. 177-179.
28. د. محسن جاسم الموسوي، “ألف ليلة وليلة في نظرية الأدب الإنجليزي: الوقوع في دائرة السحر” منشورات مركز الإنماء القومي، بيروت، 1986. ص. 22.
29. سلطاني برنوسي، “ألف ليلة وليلة: ما وراء العنوان” ترجمة إسماعيل أزيا. مجلة ’التواصل اللساني‘، المجلد الثالث، العدد الأول، 1991، ص. 69.
30. د. محسن جاسم الموسوي، م. س. الصفحتان 22 و 24.
alnaked-aliraqi.net
باقر جاسم محمد : السرد والميتافيزيقا .. (ألف ليلة وليلة) إنموذجاً – الناقد العراقي
باقر جاسم محمد : السرد والميتافيزيقا .. (ألف ليلة وليلة) إنموذجاً 2018/11/05 ادب, نقد اضف تعليق السرد والميتافيزيقا (ألف ليلة وليلة) إنموذجاً باقر جاسم محمد كلية التربية ال....
تنهض هذه الدراسة باستقراء التصورات الميتافيزيقية الضمنية المبثوثة في حكايات (ألف ليلة وليلة) من خلال البحث في السرد الحكائي في صيغتيه الواقعية والعجائبية، وسواء أكان هذا السرد حكايات فرعية مفردة أم حكايات إطارية شاملة فإن الليالي تتكشف عن وحدة تصورية شاملة للوجود. إذ بعد الإلمام بتعريف إجرائي مناسب للميتافيزيقا، كانت هناك جولة واسعة لاستخلاص التصورات ذات الطبيعة الميتافيزيقية التي يمكن للقراءة المحكمة أن تنهض بها على أساس من تأويل الأبعاد الكبرى لفعل السرد نفسه، ومن الفهم العميق لطبيعة ما اكتنف هذا السرد من وقائع بعضها واقعي/ تاريخي وبعضها غرائبي. وهكذا تم لنا الكشف عن البنية الميتافيزيقية الكامنة في الحكايات جميعاً. وقد اقتضى ذلك منا البحث عميقاً في مكونات السرد: الشخصيات، والأحداث، والزمكان، والحبكة، والتحولات في الهيأة (من إنسان إلى حيوان أو بالعكس) وما تفرزه هذه المكونات من الدلالات الميتافيزيقية. وقد انتهت الدراسة إلى جملة من النتائج المهمة.
**
إذا كان مفهوم الميتافيزيقا، من حيث الجوهر، دالاً على علاقة منقطعة عما هو مادي وملموس بحكم أن الميتافيزيقا مكرسة للبحث في جواهر الأشياء و فيما يتجاوز الواقع الحسي، فإنها تكون قد اختارت الإقامة الأبدية داخل سجن اللغة أو اللوغوس؛ وإذا كانت الحكايات، و بخاصة الغرائبية والفنطازية والأسطورية منها، ليست سوى نوع من تجليات اللغة في تجسيدها للعلاقة المفترضة مع ما يتجاوز كلاً من الحواس ومنطق اللوغوس المحايث، فإن العلاقة بين الميتافيزيقا والحكايات الغرائبية، ولاسيما (ألف ليلة وليلة)، التي سنطلق عليها اسم ’الليالي‘ من الآن فصاعداً، ليست مجرد علاقة تجاور ومساكنة في عالم اللغة بقدر ما هي تعبير عن ترابط وثيق بين تصورات لسانية ودلالية وسيميائية متناسجة مع بعضها، وذلك على الرغم من التناقض الظاهري بين منطق الحكايات القائم على الخلق الخيالي الحر الذي يتمرد على الضبط المنهجي والعقلي من جهة، ومنطق الميتافيزيقا الذي يستجيب للأسس المنهجية العامة في الفكر الفلسفي من جهة أخرى. بيد أننا لا نرى أن مفهومي الميتافيزيقا والسرد الحكائي العجائبي والفنطازي منقطعي الصلة بالعالم الخارجي الواقعي، وبالتجربة اليومية للإنسان. فما الميتافيزيقا والسرد الحكائي العجائبي إلا تمثيلات وتصورات رمزية مختلفة شكلاً ووسائل ومتفقة هدفاً؛ وينهض الإنسان بمهمة انتاجهما لكي يفهم نفسه وعالمه ومصيره. ولما كان الرمز جزءاً من التجربة البشرية يستخدم لتمثيل [و أيضاً لفهم] جزء آخر منها، كما يقول وايتهيد.1 فإن من المنطقي أن يتكامل الأداء الخيالي في الليالي مع الأنساق العقلية المنهجية للميتافيزيقا. فالحكايات في الليالي تتحدث للبشر عن مصائرهم كما يقول باحث فرنسي،2 وكذلك تفعل الميتافيزيقا في غاياتها الكبرى. وفي كلامه عن الليالي، يرى تودوروف “إن المحكي يساوي الحياة، بينما يساوي غياب المحكي الموت. فإذا لم تعد شهرزاد تجد حكايات تحكيها، فإنها ستعدم.”3 هكذا يكون سرد شهرزاد لحكاياتها مرتبطاً على نحو عضوي مع حدين من حدود التجربة البشرية هما الحياة بكل مظاهرها الحقيقية و الملموسة، والموت أو العدم وما ينطوي عليه من غموض وإبهام كثيفين يغريان الميتافيزيقا، في مفهومها التقليدي، بالاشتغال التأملي. وهذا المنطلق سيمكننا من أن ننظر إلى القيم الفكرية ذات الجوهر الميتافيزيقي التي عبرت عنها الليالي ضمناً أو صراحة، وإلى الحكايات نفسها بوصفها تجليات رمزية لمحاولات الإنسان التعبير عن مسعاه الحثيث لفهم محنة التجربة الوجودية في شتى تجلياتها. فليست حكايات الليالي إلا ترميز للحياة بغناها وتنوعها كما يقول البعض في النصف الأول من القرن العشرين.4 ولكن العلاقة بين العقلي والمادي تظل حاضرة كما يصرح بذلك كازانتزاكي، إذ أنه “حتى أكثر المشكلات الميتافيزيقية تتخذ هيئة فيزيقية (مادية) حارة لها رائحة البحر والتراب والعَرَق الإنساني.”5 وإذا كانت هذه الآراء تريد ترميز الحكايات بالواقعي والحسي، فإننا نضيف أن الحكايات، بكل ما تنطوي عليه من تجليات سردية واقعية أو خيالية، إنما تعبر رمزياً أيضاً عن المشكلات الروحية والعقلية التي اكتنفت تجربة الإنسان الوجودية منذ أقدم الأزمنة.
مرة أخرى نسأل: ما الميتافيزيقا؟
تعرف الموسوعة البريطانية الميتافيزيقا بالقول إنها قسم من الفلسفة يعنى بالطبيعة الجوهرية والأساسية للواقع وللكينونة، وهي تتضمن الأنطولوجيا أو علم الوجود ontology، وعلم الكونيات أو الكوزمولوجيا cosmology؛ وغالباً ما يضاف إليها نظرية المعرفة أو الأبستمولوجيا epistemology، وتضيف الموسوعة أن الميتافيزيقا تعني الدراسات الفلسفية المجردة. أي أنها فرع من الفلسفة يدرس البنية النهائية للواقع وتركيبه الأساسي. وقد فُهِمَتْ الميتافيزيقا في الغرب بطرق مختلفة: فقد قال البعض أنها بحث في المقولات الأساسية للأشياء الكائنة (العقلية والمادية)؛ ونظر إليها آخرون على أنها دراسة للواقع بالمقارنة مع المظهر؛ أو بكونها دراسة للعالم في كليته؛ أو بوصفها نظرية للمبادئ الأولى. ومن أهم المشكلات الأساسية التي كانت موضع بحث وجدل في تاريخ الميتافيزيقا، مشكلة طبيعة المفاهيم والتصورات العمومية أو الكليات universals وعلاقتها بما يطلق عليه الخصوصيات particulars؛ ووجود الخالق أو المطلق creator، ومشكلة العقل والجسد mind-body problem؛ ومشكلة المادة material، والمظهر الخارجي external، والأشياء objects. أما أهم الاتجاهات والمدارس الميتافيزيقية فهي الأفلاطونية، والأرسطية، والتوماوية (نسبة إلى القديس توما الأكويني Thomas Aquinas) والديكارتية، والمثالية، والواقعية والمادية.”6 ومن خلال فحص طريقة تصنيف الميتافيزيقية إلى اتجاهات ومدارس، نلاحظ أمراً مهما هو أنها تتضمن مدارس توصف بالمثالية وأخرى توصف بالواقعية أو حتى بالمادية. و هذا يعني أن الميتافيزيقا، من حيث هي، يمكن أن تستوعب أطراف المفاهيم المختلفة جوهرياً التي تعبر عن طبيعة تصور الإنسان لجوانب التجربة الوجودية كافة.
و يكتب پيتر ڤان إنڤايگن Peter van Inwagen، محرر مادة الميتافيزيقا في موسوعة ستانفورد الفلسفية، موضحاً أن من الصعب أن نقرر ما هي الميتافيزيقا. فقد زعم الفلاسفة القدماء وفلاسفة العصر الوسيط إن الميتافيزيقا ربما تكون قابلة للتعريف من خلال موضوعها: فالميتافيزيقا هي “العلم” الذي يدرس “الوجود من حيث هو” أو “الأسباب الأولى للأشياء” أو “الأشياء التي لا تتغير”. والحقيقة أنه لم يعد ممكناً تعريف الميتافيزيقا على هذه النحو، لسببين: الأول، لأن الفيلسوف الذي ينكر وجود تلك الأشياء التي عدت في وقت ما أهم ما يشكل موضوع الميتافيزيقا – الأسباب الأولى أو الأشياء التي لا تتغير – قد يعدُّ الآن ممن ينشئون بهذه الطريقة توكيداً ميتافيزيقياً فيقع في فخ الانتساب للمفاهيم التي عمل على نقضها. و الثاني، أن هناك الكثير من المشكلات التي تعدُّ الآن مشكلات ميتافيزيقية (أو في الأقل مشكلات ميتافيزيقية جزئياً) التي هي قطعاً لا تمت بصلة إلى الأسباب الأولى أو الأشياء التي لا تتغير، مثل مشكلة حرية الإرادة بإزاء الإكراهات الوجودية والاجتماعية، أو مشكلة ما هو عقلي بإزاء ما هو مادي أو ما هو بدني. واستناداً إلى ما سبق، يضع الباحث تقسيماً ثنائياً لمشكلات الميتافيزيقيا القديمة التي تركز على مقولات الكينونة والوجود the categories of being، و مشكلات الميتافيزيقا الجديدة التي تشتمل على قضايا من قبيل الكيفية وكون الشيء ذا صيغة مشروطة modality، ومشكلات المكان والزمان، ومشكلة الإرادة الحرة، ومشكلات بنية المادة، وأغلب هذه القضايا تؤول إلى ما يسمى بقضية حدس الكينونة the intuition of Being،7 التي يقول عنها بريتشارد في عبارة ختامية حاسمة إن “حدس الكينونة – وهي التجربة الميتافيزيقية في أرفع صورها – مهمة ووثيقة الصلة لأنها تمثل الأصل التكويني لاهتمامات الإنسان العملية حول نفسه، وعالمه، ضمن منظور هو الأعم والأكثر شمولاً. إن حدس الكينونة يوقظ وعي الإنسان على آفاق جديدة للتجربة – وهي آفاق لا حدود لها. ولذلك فإن الفرد، من دون بعض الإحساس بالميتافيزيقا وبالتجربة الميتافيزيقية، سيكون أقل حكمة، وأقل سعادة، وأقل إنسانية.”8 وإذا ما وضعنا هذا المنظور الفلسفي للحظة متميزة هي جزء أصيل من البنية الفكرية للميتافيزيقا، نقصد بها لحظة حدس الكينونة، فإنه سيؤسس، منهجياً وفكرياً، لشرعية انتساب الميتافيزيقا الأصيل إلى التجربة البشرية العامة. ونؤكد هنا أنه قد كان لسارتر موقف أكثر وضوحاً حين يقرر أن الميتافيزيقا نفسها “ليست نقاشاً عقيماً حول الأفكار التجريدية، … إنها مجهود حي ينبثق من داخل الموقف الإنساني في كليته.”9 وهكذا ينزل سارتر الميتافيزيقا من عليائها لتكون حالة تعبير عن الانغماس بالتجربة اليومية الإنسانية مما يسمح بتحولها إلى موقف إنساني ينبض بالحياة؛ موقف يقدم أجوبة لقضايا الواقع المحتدمة وتجارب الإنسان الحية والمباشرة.
وإذ لا يتسع المجال للبحث في مشكلات الميتافيزيقيا لتعددها وتعقيدها الجسيم، ولكون هذه الدراسة ليست بحثاً مكرساً في الميتافيزيقا من حيث هي، فسنكتفي بالعرض السابق، وفي الوقت نفسه، نقترح تعريفاً إجرائياً مخصوصاً وضيقاً يتسم بالدقة من الناحية الفلسفية من جهة، ويتفق مع افتراضات وحاجات الدراسة من جهة أخرى، حتى يكون الأساس الذي تعتمده الدراسة. فالميتافيزيقا، على وفق هذا التعريف، تشمل الجوانب المتصلة بطبيعة خبرة الإنسان اليومية في تأرجحها بين الواقع والخيال، وتصوراته عن الحياة والموت، والأمل و اليأس، و الأنا والآخر، والعدل و الظلم وحدود القدرات البشرية إزاء جبروت السلطة المدنية أو الدينية أو الفيزيقية، وكذلك موقفه من هيمنة المطلق على مصيره. واستناداً إلى هذا التصور، فإننا سوف نبحث في تجليات هذه القضايا الميتافيزيقية في الليالي على النحو الآتي:
1. إن الميتافيزيقا، بوصفها تفوهات فكرية ذات جوهر فلسفي، قد تتردد أثناء سرد الحكايات على لسان الراوي العليم، أو على ألسنة الشخصيات في الحكايات.
2. ستكون الميتافيزيقا، في الأساس، ذات وظيفة مهمة في تفسير ترابط البنية الداخلية للحكايات، وتأويل الأحداث والرموز ومصائر الشخصيات.
3. وأخيراً، يمكن أن تكون الميتافيزيقا مفتاحاً لتأويلات الصيرورة الكلية والنهائية للعملية السردية في الليالي.
و لأن ’الليالي‘ تنتسب إلى عالم السرد العجائبي في كثير من حكاياتها، فإننا نسأل: كيف ينظر النقد الأدبي إلى وظيفة العجائبي والغرائبي في الأدب عامة و في الليالي خاصة؟ مما لا شك فيه أن للنقاد والباحثين مواقف متباينة بشأن مفهوم الغرابة ووظائفها في الأدب. على سبيل المثال، ينسب تودوروف ثلاثة وظائف للعنصر العجائبي في الأدب إذ يقرر أن العجائبي: “يخلق، أولاً، أثراً خاصاً، خوفاً أو هولاً، أو مجرد حب استطلاع – وهو الشيء الذي لا تستطيع الأجناس أو الأشكال الأخرى أن تولده – ثانياً، يخدم العجائبي السرد ويحافظ على التوتر حيث يتيح حضور العجائبي تنظيماً للحبكة مضغوطاً على نحو خاص، وثالثاً، فإن للعجائبي، ومن النظرة الأولى، وظيفة هي تحصيل حاصل إذ أنه يسمح بوصف عالم عجائبي وهذا العالم ليس له مع ذلك حقيقة خارج اللغة؛ فالوصف والموصوف ليسا من طبيعتين متباينتين.”10 و يمكن وصف الوظيفة الأولى، التي يعزوها تودوروف للعجائبي، بالوظيفة النفسية وما تتركه من أثر في المتلقي، والوظيفة الثانية بالفنية وما تقدمه من خدمة لتنظيم الحبكة والمحافظة على توترها الداخلي. أما فيما يخص الوظيفة الثالثة، فإن من الواضح أن عبارة تودوروف بشأن العالم الذي ليس له وجود خارج اللغة إنما تتعلق بطريقة فهمنا، نحن البشر، للعلاقة بين اللغة والحكاية العجائبية. وهي عبارة تظهر تأثيرات من جاك دريدا؛ فاللغة ستكون شيئاً عجيباً ومفارقاً للواقع، استناداً إلى زعم تودوروف بأن الوصف (اللغة أو المظهر اللساني للحكاية) و الموصوف (العالم العجائبي) ليسا من طبيعتين متباينتين. و لكننا نجد أن هذه الثنائية وهذا الافتراق إلى خارج اللغة و داخل اللغة يمكن أن يؤولا إلى وحدة حقيقية لأن الإنسان، وهو الكائن الذي يستخدم اللغة لإنتاج تصورات وحكايات تمثل استجابته لتحديات العالم الخارجي من جهة، ولهواجسه وتأملاته الداخلية من جهة أخرى، يمثل العنصر الذي يوحد بين ما هو حسي ويقع خارج اللغة وما هو عقلي أو خيالي ويقع داخل اللغة. وهكذا يغو واضحاً أن الحكايات ليست سوى إحدى تجليات محاولات الإنسان لفهم نفسه واستيعاب جوانب تجربته الوجودية في شتى أبعادها.
و لكن كيف ينظر بعض الباحثين إلى مشكلة العجائبي في الليالي على وجه الخصوص؟ يرى الدكتور محسن الموسوي أن حضور الحكايات العجائبية في السرد يجعلنا نتبين أنها “محركة للسرد، ناقلة إياه من حال إلى حال، من الاستقرار إلى الحركة. لكن العنصر الخارق، العفريت أو الجن، يمكن أن يتمدد هو الآخر، يتقلب في عدة أشكال، لغرض آخر هو مفاجأة القناعات الساذجة، والتصورات البشرية المتصالحة،”11 وهنا نقع على وظيفتين أخريين للعجائبي هما تحريك السرد ونقلة من حالة السكون إلى حالة الحركة، وهي وظيفة فنية لا تكرر الوظيفة الفنية عند تودوروف لأنها تتعلق بالصيرورة وليس بالنهج الفني للحبكة من جهة؛ ومفاجأة القناعات الساذجة، والتصورات البشرية المتصالحة من جهة أخرى؛ أي أنها وظيفة عقلية وإدراكية تنهض بإثارة الأسئلة الكبرى المقلقة أو الأسئلة الميتافيزيقية. وبذلك سيكون عدد وظائف العجائبي في الحكاية والسرد خمس وظائف لا ثلاثاً. وينبغي لنا أن ننوه بأهمية الوظيفة الخامسة والأخيرة لأنها تمثل عنصراً فكرياً يربط بين التأمل والحياة، لأننا نفهم عبارة “مفاجأة القناعات الساذجة والتصورات البشرية المتصالحة” على أنها تعني أن السرد الحكائي العجائبي يقوم بتعريض هذه القناعات و التصورات البشرية إلى هزة فكرية شاملة وجذرية تجعلنا نعيد النظر بموقفنا من الحياة والموت والنجاح والفشل، من الحاكم والمحكوم، ومن الشهوة الأيروسية والرفعة العقلية. و مما لا شك فيه أن هذه الهزة الفكرية الجذرية الشاملة تمثل وظيفة فلسفية مهمة تدفعنا إلى إعادة تدبر حدود التجربة الوجودية الكبرى، وإلى إعادة صوغ تصوراتنا عن أنفسنا وعن تجاربنا وعن العالم الذي نعيش فيه، وهي تصورات تقع في الصلب من المشكلات الميتافيزيقية الأساسية.
ويرى عبد الفتاح كيليطو أن الغرابة أو العجيب “لا تعني … الشيء الذي لم تره العيون ولم تسمع به الآذان؛ إنها على العكس متعلقة بشيء معروف ومألوف، إلا أنه منسي ومدفون في أعماق النفس، ووظيفة الشعر [و الأدب عامة] هي نشر هذا المطوي و إبراز هذا المخفي.”12 والحقيقة أننا يمكن أن ننسب وظيفة الكشف عن الكيفية التي يقوم بها الشعر بنشر المطوي وإبراز المخفي إلى النقد الأدبي نفسه حين يقوم بالعملية النقدية. إذن، فإن الكشف عن الغرابة في المألوف، وهي وظيفة الشعر والأدب من خلال النظر بعين الدهشة والخيال إلى الواقع اليومي الغفل، هي بالقدر نفسه وظيفة النقد بوصف أن النقد ينتج تصورات فكرية تروم تقديم صورة الوعي ’العلمي‘ أو في الأقل ’المنهجي‘ في المدونة الأدبية من خلال عملية الكشف هذه. وهنا يمكننا أن نضيف السرد إلى الشعر في إنجاز هذه الوظيفة لأن الاختلاف بين الأجناس الأدبية لا ينفي وحدتها في إنجاز الوظائف الجمالية المتكاملة. ولأن السرد أكثر إيغالاً في التعامل مع ما هو موضوعي أو واقعي من الشعر، وهو، أي السرد نفسه، مطالب في الوقت نفسه بأن يحقق للقارئ الكشف عما هو مطوي ومخفي ليحقق الدهشة. فإذا كان السرد متسماً بالغرابة والفنطازيا فضلاً انغماسه فيما هو واقعي، كما هو الحال في الليالي، فإن مهمة النقد ستكون البحث في الكيفية التي عبر فيها السرد عما هو مطوي و مخفي من دلالات ميتافيزيقية في الليالي وهي تقدم لنا حكايات تحفل بذلك المزيج المتقن والجميل بين الواقعي والمتخيل والغرائبي حتى أنه لا يعود بالإمكان تعيين الحدود الفاصلة بين ما هو واقعيّ وبين ما هو تخيّليّ وحلمي …، إذ لا يمكننا أن نحدد بدقّة متى ينتهي الواقعيّ ومتى يبدأ التخيّلي.13 و لكن، لما كان الغرائبي و العجائبي يعدان تجسيداً لفعل المخيلة، فإن ذلك يدعونا إلى إثارة سؤال آخر عن ماهية وظيفة الخيال في الأدب عامة وفي السرد خاصة.
و لن نذهب إلى عرض موسع لما قيل بصدد الخيال، فذلك أمر يضيق به المجال، ولكننا سنناقش مقولة كولريدج في تعريف الخيال إذ يقرر أن الخيال هو: “تلك القوة التركيبية السحرية …، التي تكشف عن ذاتها في خلق التوازن أو التوافق بين الصفات المتضادة أو المتعارضة.”14 و ذ نتفق مع هذه المقولة فإن اتفاقنا هذا يستند إلى أن هذا التعريف للخيال يركز على الوظيفة التي تؤديها المخيلة في النص الأدبي من دون الدخول في المشكلات الفلسفية والأخلاقية المتعلقة بالصدق والكذب في علاقتها بالخيال، أو بالمشكلات المعرفية فيما يخص طبيعة الصلة بين الخيال و الواقع. فالخيال، حين ’يخلق‘ حالة من التوازن أو التوافق بين الصفات المتضادة أو المتعارضة، فإنه ينقلها إلى مفهوم أعلى يوحدها هو مفهوم ’وحدة الأضداد‘ ومن دون أن ينتهي صراعها داخل العمل الأدبي؛ أي أنه سيكون عنصراً فعالاً وإيجابياً في عملية الخلق الفني. ومن هنا فإن عمل المخيلة في الليالي سيكون عنصراً فاعلاً في دمج الواقعي بالأسطوري والغرائبي. ويرى مرسيه إلياد أن العجائبي، و هو أحد أهم تمظهرات الخيال، يتميز بالإقحام الفظ للسري الغامض في إطار الحياة اليومية، وهذا الإقحام، من حيث الجوهر، يشكل قطعاً للنظام المعروف للحدوث والصيرورة، وبروزاً مفاجئاً لغير المعقول، ضمن ما هو ثابت ومألوف في تجربة الحياة اليومية. أما من حيث الوظيفة، فإن العجائبي يقدم لنا تجربة فريدة تتمثل في تقديمه لنا أناساً مثلنا، يعيشون معنا في عالمنا الواقعي، ولكنهم يوضعون فجأة في وضع غير مفهوم.15 وهذا يعني أن العجائبي والمتخيل يتيحان للإنسان عملية دمج الواقعي والمحسوس والملموس بالخيالي والمتصور والمتعالي في صيغة رمزية دالة على وحدة الذات البشرية في تطلعها نحو فهم جوانب التجربة الوجودية كافة.
في الدراسات المكرسة لنحو الخطاب السردي، يرى غريماس أن “الفكر الأسطوري، ومن المحتمل خيالنا الجمعي [أيضاً] يأبى الاعتراف القـَبْلي بالقيم السائدة مُؤثراً تعويضها بعالم قيمي فوقي مفترضاً إمكانية التواصل بين العالمين.”16 وهذا يعني أن النصوص السردية التي تنتسب إلى مرحلة سيادة الفكر الأسطوري، وهي النصوص التي لا يمكن ردها إلى مؤلف معين، والليالي جزء أصيل من هذه النصوص، تنهض تلقائياً بعملية إحلال عالم القيم الفوقية، أو لنقل منظومة القيم الميتافيزيقية، محل منظومة القيم السائدة أو المستمدة من العالم الواقعي. وهكذا ينشأ في صلب عملية السرد نوع من التناقض والصراع بين قيم الواقع اليومي المألوف وقيم الفكر التأملي أو الميتافيزيقي. ولو عدنا لحكايات الليالي لرأينا أنها تحتشد وتتدفق بهذا المعنى الإيجابي للميتافيزيقا. فهذه الحكايات تقدم لنا الإنسان وهو يمر في مواقف حاسمة تهدد وجوده نفسه مما يتطلب منه أن يبذل جهوداً كبيرة وفاعلة لكي ينعم بالخلاص من كل ما يهدد كينونته أو يعمل على تدميرها. ونلاحظ هنا أن الشخصيات والمواقف التي تعرضها الليالي تتصف بالتطرف السلوكي من الفاعلين من جهة، و ممن يقع عليهم الفعل من جهة أخرى، نتيجة انغماس هذه الشخصيات في حالات من العشق ومن الكراهية والمكر والغضب والهيام بما هو خارق للمألوف؛ ولما كان الأمر يتطلب أننا “لكي نفهم شيئاً عن الجنس البشري، فمن الضروري أن نمعن النظر في الحالات المتطرفة”17 فإننا نستنتج بالضرورة أن حكايات الليالي وشخصياتها التي تعيش حالات من التطرف إنما تعبر عن مواقف وجودية ضمنية من دون أن تغادر شرطها الذاتي والنفسي والاجتماعي اليومي.
لقد حافظت الليالي، بما تتضمنه من حكايات واقعية وغرائبية وخرافية وفنطازية، على أهميتها الفنية والفكرية الدائمة انطلاقاً من أسس تكوينية متضافرة: الأول كون تلك الحكايات تشتغل على الإمتاع من خلال المزج بين ما هو خيالي و يتجاوز العالم الحسي وما هو محسوس وملموس؛ والثاني أنها تعمل على إرضاء الشغف بالحكايات، وهو شغف أصيل في النفس البشرية ربما يكون التطهير الأرسطي أحد أهم أسبابه؛ والثالث أنها تعبر، على نحو ضمني، بصفتها تجليات فنية و جمالية، عن مستوى فكري و فلسفي يرتبط بالهموم الميتافيزيقية الكبرى التي شغلت الإنسان، وما زالت تشغله، منذ الأزل وإلى الأبد.18 فالإنسان كائن فانٍ، و قد مثل الموت والفناء هاجساً أزلياً منذ أن انطلق گلگامش باحثاً عن عشبة الخلود. وتمثل لحظة الموت قيمة استثنائية في جميع الحضارات في كل العصور لأنها “اللحظة الأهم التي تربط بين المؤقت والخالد، … وهي أيضاً اللحظة التي يُرَدّ فيها الإنسان إلى طبيعته الأولى وإلى ضعفه وإلى أنه سيموت، على خلاف الإله الذي لا يموت” كما يقول أبو بكر الشرايبي.19
وانطلاقاً من فرضية أن الليالي تتضمن بعداً فلسفياً ميتافيزيقياً يتجاوز النزعة الحسية المشهدية فيوغل في الخيال، ويعبر عن هموم فكرية كونية تلامس الحاجات النفسية والمشكلات الروحية للبشر كافة، كان لا بد لنا من قراءة متن الليالي وبنيتها كونها تتألف من حكاية إطارية رئيسية كبرى (حكاية شهريار وشهرزاد)، وحكايات إطارية فرعية مثل (حكاية حاسب كريم الدين) و(الحمال والثلاث البنات) للوقوف على شتى التجليات الدرامية والنصية لهذا النص المركب لاستخلاص الأبعاد الميتافيزيقية الراشحة من بنيه الفنية نفسها. وتفترض الدراسة أن هذا التلازم الجدلي الوثيق بين الحسي والمتخيل في الليالي يكشف عن بعد فلسفي ميتافيزيقي شامل يكتنف كليات النص وجزئياته ويمنحه مذاقاً خاصاً ومكانة فريدة بين آداب العالم؛ وهو واحد من أهم أسباب ذيوع النص ودوام انتشاره الكبير في شتى الثقافات والأزمان. فالشخصيات والأحداث والأفعال البشرية والزمان والمكان في النص السردي عموماً، وفي الليالي على وجه الخصوص، توحي دائماً بما يتجاوز ذواتها أنفسها لأن ما هو لا نهائي حاضر فيها. وهنا تظهر الحاجة إلى التأويل لرصد البعد الميتافيزيقي الراسخ في الليالي التي لم تكن أبداً خلواً من أية غاية، كما يزعم البعض.20
ولكي تنبني الدراسة على أسس علمية ومنهجية رصينة، وتحافظ على كثافة الرؤى والتأملات من دون الوقوع في دائرة النزعة التصنيفية، فقد كان لزاماً علينا أن نطلع على أهم الدراسات التي تناولت الليالي في اللغتين العربية والإنجليزية، والاقتصار على ما كان له علاقة وثيقة بما تتضمنه فرضية البحث. أما بخصوص الليالي، فقد كان علينا أن نعمد إلى اختيار الإشارة المكثفة إلى بضع الحكايات والنصوص التي وردت في الليالي لتكون عينة للبحث حتى لا يتحول البحث إلى النزعة المسحية الاستعراضية أو يتضخم حجماً بسبب من طول الاقتباسات النصية من الحكايات.
يمكن تقسيم الليالي إلى الحكاية الإطارية الأولى الممهدة لظهور شهرزاد في المشهد السردي و من ثم توليها مهمة السرد. وهي حكاية ذات بنية إطارية واضحة على الرغم من أنها تأتي قبل تولي شهرزاد عملية سرد الليالي لأن الحكاية الأولى نفسها تتكون من ثلاث من الحكايات هي: حكاية الملكين الأخوين شهريار و شهرزمان و خيانة زوجيهما لهما، ثم حكاية العفريت والفتاة المختطفة التي مارست الجنس مع مائة رجل على الرغم من كونها حبيسة صندوق مقفل بإحكام ويحمله العفريت على ظهره حيثما ذهب، ثم حكاية الثور والحمار والمزارع. وتكون حكاية الملكين الأخوين الإطار العام للحكاية الأولى؛ ووظيفة هذه الحكاية أن تكون المقدمة الممهدة لتولي شهرزاد مهمة رواية حكايات الليالي. و في الحكاية المقدمة، يكون الراوي العليم غير المشارك في الإحداث narrator omniscient هو من يتولى السرد. ولكن وظيفة هذه الحكاية تتجاوز مهمة التوطئة لبقية الحكايات لأنها تقوم باستثمار السرد من خلال جعله وسيلة لإثارة الأسئلة الوجودية التي ستتولى بقية الحكايات مهمة صوغ مغامرة البحث عن أجوبة عنها بوساطة السرد. ونلاحظ هنا أن تلك الأسئلة تمثل صيغة فكرية حكائية ذات جوهر ميتافيزيقي يمثل تجسيداً لمقولة أن الإنسان غافل غفلة أنطولوجية ontological inattention، و أن النسيان الذي جعل شقيق الملك شهريار يعود أدراجه ليكتشف أن زوجته تمارس المتعة الحسية مع أحد عبيده في فراش الزوجية ليس مجرد عيب إنساني في ذاكرة شخص فرد هو الملك شهريار نفسه بقدر ما هو حدث رمزي لفعل قدري يوطئ لليقظة من تلك الغفلة الأنطولوجية من خلال التطور اللاحق للحكاية الذي يؤول إلى تكوين موقف انفعالي سلبي ساخط ومدمر إزاء الجنس الآخر (الأنثى) لدى الملكين شهريار وشاه زمان. وللوقوع على حقيقة هذا البعد الأنطولوجي الضمني، فإننا سنفسر وصية شهرزاد لإختها دنيازاد حين تخاطبها قائلة: “يا أختاه، افهمي ما أوصيك به، أنا إذا طلعت إلى السلطان أرسلُ خلفك فإذا طلعت و رأيتي أن السلطان قضى حاجته مني قول لي يا أختاه إن كنت غير نائمة فحدثينا من أحاديثك الحسنة نقطع بها سهر ليلتنا هذا فهي سبب نجاتي و خلاص العالم من مصيبته و إخراج الملك عن سنته…”21 و هذا يعني أن نجاة شهرزاد و خلاص العالم من محنته و إخراج الملك من سنته الرهيبة بقتل عروسه صبيحة اليوم اللاحق أمور خططت لها شهرزاد لتحقق ثلاثة أهداف هي: شفاء الملك من صدمة الخيانة الزوجية، وتخليصه مما آل إليه من غفلة وجودية ثانية أدت إلى تصور مغلوط يطلق عليه الدكتور صبري حافظ تسمية (الوعي الزائف)،22 و من ثم إنقاذ شهرزاد لنفسها ولبنات جنسها من الأثر المدمر للوعي الزائف الذي ولدته حالة الغفلة الأنطولوجية. وتأتي حكايات ’الليالي‘ لتشكل، شيئاً فشيئاً، أساساً للتجربة النفسية التي ستفضي إلى تحقيق نبوءة شهرزاد بالكامل فينتقل شهريار من الغفلة الأنطولوجية و الوعي الزائف إلى اليقظة الأنطولوجية والوعي الصحيح.
و الحقيقة أن الغفلة الأنطولوجية لم تكن افتراضاً محضاً بقدر ما كانت نتاج صيرورة سردية تضمنتها الحكاية الافتتاحية لليالي. إذ أنه بعد أن يقتص شاه زمان، شقيق شهريار، من الملكة والعبد بقتلهما، يذهب لزيارة شقيقه الملك شهريار للتسرية عن نفسه، فإذا به يمر بأحداث تعمل على تعزيز حدث الخيانة الأولى بخيانة حسية استعراضية تقوم بها الملكة زوجة شهريار مع جملة من جواريها وعبيدها؛ فيفعل هذا التعزيز فعله في ترسيخ اعتقاد الملك شاه زمان أن الجنس الآخر (الأنثى) مجبول على الخيانة فيقلل ذلك من حدة حالته النفسية المتدهورة لأنه يكتشف أن الأمر لا يخص حياته الشخصية فحسب، فهناك خيانات أخرى تمارسها النساء الملكات. ويعقب ذلك الكشف المثير أن يهيم الملكان الشقيقان على وجهيهما من هول الصدمة. وتأتي حكاية العفريت الذي يظهر من البحر حاملاً صندوقاً زجاجياً ذا أقفال أربعة، وفيه فتاة جميلة كان العفريت قد اختطفها في ليلة عرسها، لتقدم دليلاً إضافياً يعزز الاعتقاد الأول لدى شهريار و شاه زمان بخيانة المرأة سواء أكانت ملكة متزوجة تتمتع بالسلطة والجاه، كما هو حال زوجتي الملكين الشقيقين، أو فتاة مستلبة الإرادة لأنها مختطفة من عفريت ومرغمة على حياة معزولة دونها حياة السجون الانفرادية. وهنا تكتمل حلقة الإدانة، صورياً، في عقل الملك شهريار لتكون دليلاً على خيانة النساء كافة؛ وليبدأ فصل القتل المنهجي للفتيات العذراوات اللائي يتزوجهن شهريار في الليل ليأمر بقطع رؤوسهم في صباح اليوم التالي. ونلاحظ هنا أن ما أعقب الغفلة الأنطولوجية الأولى لم يكن اليقظة الحقيقية، وإنما هو نوع من الوعي الزائف كما سبق التنويه. وستكون حكايات شهرزاد، بكل ما تتميز به من خصائص غرائبية، هي السبيل لتخليص الملك من وعيه الزائف بإظهار أن التجربة البشرية بتنوعها وشمولها لا تختزن صورة واحدة للمرأة. ولذلك فإن شهرزاد لا تنجح في إنقاذ نفسها وبنات جنسها من الموت فقط وإنما تنجح أيضاً في إنقاذ الملك من غفلته الأنطولوجية الثانية التي وقع فيها نتيجة هيمنة الوعي الزائف على تفكيره وعلى مواقفه وتصرفاته. وفي هذا السياق، يرى مرسيه إلياد أن الحكي العجيب الغريب في الليالي قد “أسهم في تصحيح مجرى حياة شهريار، وإنقاذ العذارى من الموت، وأنسى العجائبي شهريار (بفعل الحكي) حياة الخيانة الزوجية فأدرك أن الحكي يدفعه إلى المعرفة الحقيقية.”، وإذ نضع مصطلح اليقظة الأنطولوجية بديلاً لمصطلح المعرفة الحقيقية لأن الأخير يقع في خانة نظرية المعرفة، وهو ليس مشتقاً من حكايات الليالي، فإننا نستخلص من سياق السرد العجائبي نفسه أن هذه الحكايات تؤثر عميقاً في حياة المرء الخاصة فيكون لها أثر بيداغوجي إيجابي مهم، بمعنى أن الليالي يمكن أن تفهم على أنها رواية تعلم، أو ما يصطلح عليه bildungsroman،23 و لكنها تختلف عن رواية التعلم التقليدية في مسألة بنيوية أساسية لأنها تركز على أثر الفعل الخارجي الذي ينتجه فعل السرد الغرائبي نفسه الذي يقدمه الراوي (شهرزاد)، و ما يتركه في نفس المروي له (شهريار) أكثر من تركيزها على الحياة الداخلية للفرد الذي يخوض تجربة التعلم، و ما يعانيه من تجارب قبل أن يرتقي بذاته من خلال فعل المعاناة المباشرة للتجربة؛ وهو الأمر الذي تتميز به رواية التعلم التقليدية. فالتجربة النفسية الداخلية المباشرة لشهريار محجوبة عن المتلقي وهي متوقفة عن التطور الملحوظ منذ وقت مبكر من الحكايات، بالأحرى منذ شروع شهرزاد بسرد حكاياتها، و حتى الحكاية الختامية في الليلة الحادية بعد الألف. وهناك لازمة أو عبارة مكررة هي: “بلغني أيها الملك السعيد ذو الرأي السديد أن …” لتذكيرنا بوجود هذا الملك الضال المدعو شهريار الذي يملك أن يأمر بقطع رأس شهرزاد إذا شعر بالملل، أو أن يصبر عليها ما دام متمتعاً بالإصغاء إلى سردها الجميل. ولعلنا لا نجافي الحقيقة إذا قلنا إن هذا الفرق الجوهري بين رواية التعلم في المفهوم الغربي و رواية التعلم كما جسدتها الليالي إنما يؤشر فرقاً جوهرياً مماثلاً في البنيتين العقليتين الغربية و العربية. ففي روايات التعلم الغربية، تكون التجربة الذاتية للبطل الذي يعاني حالة الانتقال من الفطرة أو من حالة ما قبل التعلم إلى التعلم هي العنصر التكويني المهم و الحاسم الذي تعرضه الرواية للقارئ، أما في ’الليالي‘ العربية، فإن إصغاء شخصية من شخصيات الليالي هو الملك للحكاية، أو الكلام، هو العامل الأساس في عملية التعلم للشفاء من الأثر المدمر للتجربة الذاتية. و هذا يعني تقديم الكلام أو اللوغوس على التجربة العملية الذاتية من خلال منح اللوغوس طاقة تأثير أعظم من تلك التي ترتبط بالتجربة نفسها.24
و هكذا فإنه يمكننا القول إن الوظائف الضمنية الأساسية للحكايات في الليالي تقوم على كسر المألوف والتوقع، وخرق قواعد الخبرة البشرية السائدة، وإدامة حالة التوتر الناتجة عن تردد الذات بين الواقع و الخيال بحيث ترتقي إلى مصاف تتحدى فيه “… فرضياتنا الراسخة عن الواقع بالنسبة للكثير من الأمور المهمة، بما في ذلك طبيعة العالم، و مكان الإنسان فيه، وعرضية الحياة نفسها، وطبيعة قيمه الأخلاقية، وحدود عالمه العياني وقدرته الجسدية، ومحدودية الزمان والمكان، والانحصار في حدود جنس واحد و جسد واحد.”25 ومن الواضح أن هذه المفاهيم المستمدة من التجربة الاجتماعية و الوجودية البشرية تشكل عناصر تكوينية مهمة و أساسية في أية بنية فلسفية ميتافيزيقية من جهة، وهي حاضرة بكثافة في الليالي ضمناً أو صراحة و في هذه الحكاية أو تلك من جهة أخرى.
الأبعاد الميتافيزيقية لحكايات الرحلة في الليالي
شكلت الحكايات التي تقوم على موضوعة الرحلات نسبة كبيرة من مجموع حكايات الليالي إذ لا تكاد تخلو حكاية منها، ومن أشهرها حكاية السندباد البحري وحكاية حاسب كريم الدين. وقد كانت هذه الرحلات ذات قيمة رمزية وجودية كبيرة لأنها تتضمن المرور بتجربة مهمة ومؤثرة تنطوي على الكشف الذي قد ينقذ الإنسان من الغفلة الأنطولوجية، هذا فضلاً عن كونها تجربة تغني الخبرات الشخصية الذاتية للبطل، وهي في أحيان كثيرة، قد تؤدي إلى تغيير في منزلته الاجتماعية. فهذه الرحلات قد تشتق دوافعها من حركة الواقع، مثل الحاجة إلى الكسب المادي و والتخلص المعاناة من الثبات والجمود اليوميين، لكنها تؤول في نهاية المطاف إلى التعبير عن نزوع إنساني راسخ في النفس البشرية نحو التغيير واستطلاع آفاق جديدة. وهناك صلة وثيقة تربط بين هذا النزوع من جهة، والجانب الميتافيزيقي الغامض والسري من الوجود البشري من جهة أخرى. فالرحلة، كما يقول فراس السواح، من حيث كونها حركة سفر وانتقال إنما تترجم الرغبة في العبور من (الهنا) إلى (الهناك)، ومن الأليف إلى المجهول، ومن الضيق الخانق إلى المطلق الفسيح، فالرحلة ليست حدث سفر و تجوال في المكان أو الوهم والخيال فحسب، بل هي ترجمة فعلية لرغبة الكائن في التخلص من الزمان والمكان والعدم. وهكذا تتأسس العلاقة بين ظاهرة الرحلة، من حيث هي حدث قصصي يتكرر باستمرار في الليالي، والقيمة الرمزية والفلسفية التي تنشأ نتيجة النظر إلى أفعال الإنسان الواقعية على أنها صور فكرية وتعبيرات غير مباشرة عن مواقف وجودية.
و نلاحظ هنا أن الكلام عن الرحلة قد اقترن بالكلام عن الصيرورة الزمكانية. وهذه سمة جوهرية من سمات أي فعل إنساني من حيث كونه مشروطاً بزمكان معين. وقد قيل الكثير عن خصوصية المكان الشرقي وبهاء القصور وجمال ما تحتويه من ريازة ورياش. وقد زعموا أن وصف المكان الشرقي هو السبب الأساس في دهشة القارئ الأوروبي وإعجابه بالليالي من دون الالتفات إلى أن هذه الحكايات قد نشأت، في الأصل، بصورة عفوية لمخاطبة مستمع شرقي يعرف حقائق المكان الشرقي ويألفها من دون تزويق. وعلى أية حال، فإن الزمان في الليالي ينطوي على أهمية خاصة لأن بنية الليالي برمتها هي بنية زمانية في الجوهر. وإذا ما قلنا إن قارئ الليالي يلاحظ، في الحكايات، أثر الصيرورة التي تجعل الإحساس بسريان الزمان ممكناً، فإن الإحساس بالآن، ونعني بـ(الآن) آن القراءة بوصفها لحظة مدركة في زمان التلقي، سيتكشف عن توسيع قدرة الإنسان، وهو القارئ المحدود حكماً، على التعامل مع الزمن من خلال إدراكه أنه يتجاوز ذاته في هذه اللحظة الآنية من خلال ما تقدمه الليالي من تجليات زمانية ومكانية متنوعة، وما تنطوي عليه من صيرورة متحولة تمزج بين الواقع و الخيال باستمرار مما يعطيه إمكانات رحيبة للانفلات من قبضة الآن المحكمة.26
وإذا كان العجيب هو كل ما يبعد عن ساحة المألوف من الأشياء، فإنه، من الناحية الأدبية، توجده وسائط فوق طبيعية مثل: آلهة الأساطير، أو الشياطين والملائكة، أو كائنات عالم الجن.27 ومن حيث الوظيفة، يؤتى بالعجائبي في الأدب غطاءً لتجاوز الضوابط الاجتماعية والتخلص من الحواجز والممنوعات والمحرمات taboos المفروضة على الإنسان في بيئته الاجتماعية. وهو الأمر الذي يؤدي إلى مزيج عجائبي فتكون النتيجة تشكلاً فنياً مدهشاً يجمع بين المتخيل والملموس. ومن أمثلة هذا المزج، حكاية الصياد الذي يمثل عنصر الوجود البشري الواقعي من حيث القدرات والمهنة والهيئة، والجني الذي يمثل العنصر العجائبي أو الفنطازي، فهو كائن جسيم موجود في حيز ضيق، وهو يملك القدرة على التحول إلى دخان أو العودة إلى شكله الغريب من حيث الهيئة.28 ومما لا شك فيه أن هذا الانتقال بين الحسي والمجرد، بين الواقعي والمتخيل، هو مما يدعم القول بثراء ’الليالي‘، شكلاً ومضموناً، بالأبعاد التأويلية الفلسفية التي تنبني على أسس ميتافيزيقية ضمنية.
ففي حكايات الرحلات، نرى كيف تمتزج حكايات الرحلة مع العناصر الحكائية العجائبية لتضيف بعداً جمالياً يكسر رتابة الواقع المعيش وجموده من جهة، ويفتح أفق المخيلة على ما يرتقي بها إلى آفاق تأملية رفيعة من جهة أخرى. ولعل مراجعة بسيطة لرحلات السندباد تمثل دليلاً نصياً حياً على هذا القول. ففي هذه الحكايات هناك رحلتان: الأولى واقعية تتخذ من السفينة ومن الحقائق المكانية بعداً وصفياً لها لتكون توطئة للرحلة الثانية الخيالية حيث يتولى السرد مهمة تزيين التجربة المعيشة (هنا والآن) بما هو متخيل وعجائبي (هناك، وفي وقت سابق)، بمعنى أن هناك رحلة أولى هي سردية متخيلة يرويها البطل السندباد، ورحلة ثانية هي رحلة نفسية خاصة يقوم بها متلقي النص. وتعمل الرحلة الأولى على استيلاد بعد خامس في نفس من يقوم برحلة التلقي إذ تمنحه فرصة تجاوز الأبعاد الأربعة للمكان والزمان. ومن الواضح أن هذا الأثر ذو جوهر ميتافيزيقي مكين.
وكما سبق القول، فإن الليالي ذات بنية زمانية واضحة؛ فهي تتألف من ألف ليلة وليلة. وهذه الليالي تمثل نهجاً زمنياً خطياً واقعياً؛ وهو زمن إطاري يغلف أبعاداً زمنية متعددة ومتنوعة ضمن مسارات متنافذة بين زمان الحكي الإطاري (قصة شهرزاد و شهريار)، والأزمنة المتفرعة عن الحكايات الثانوية أو الفرعية التي يغلب على بعضها حضور أزمنة ميتافيزيقية غامضة، مثل أزمنة الجن وأزمنة المسخ والتحول وأزمنة المدن المرصودة. ولكن نلاحظ أيضاً أن بعض هذه الأزمنة ذا ملامح تاريخية مثل الحكايات التي تذكر الخليفة العباسي هارون الرشيد. بيد أن زمن الحكي الإطاري، الذي يتألف من ألف ليلة وليلة، لا يتضمن أية إشارات إلى انقطاعات بسبب العمل، فالملك شهريار لم يسافر أو ينشغل بأي أمر من أمور المملكة قد يتطلب منه أن ينصرف عن سماع الحكايات، وهو ما يمكن أن يفهم على أنه مؤشر على أن الحكايات قد هيمنت على اهتمامات الملك. أما شهرزاد، فلم نجد أنها قد تعرضت إلى ما يعيق سردها للحكايات على الرغم من أننا نكتشف في النهاية، و من دون أي تمهيد، أنها قد حملت و وضعت ثلاث مرات. ولعل حالة حمل شهرزاد ووضعها ثلاثاً هي من قبيل المفاجأة المفهومة في إطار كون النص مجموعة من المرويات الشفاهية التي قد تحتوي على فجوات أو مفاجئات غير مسوغة فنياً. ويناقش أحد الباحثين وجود الليلة الواحدة التي تتبع واو العطف قائلاً “لنقلْ على سبيل الختام إنّ هذه الليلة الفائضة، سواء وضعناها أعلى أو أسفل الألف هي، على التوالي، زمن توليد الحسّ و زمن إيقاظ العقل. والحال أنّ الحسّ و العقل … يشيعان في النص و ليس خارج النص.”29 وهكذا نرى أن هذه الليالي ليست إطاراً زمنياً مجرداً، وأنما هي حافلة بالقضايا الفكرية المهمة. وفي هذا السياق، يشير د. الموسوي إلى حقيقة أن أغلب حكايات الليالي يكتظ بتأملات عن معنى الحرية، وخطيئة الغرور والطمع، وقداسة الواجب، والعمل، وتفاهة أمور الدنيا؛ كما يؤكد أن لحمة الليالي تستبطن خيطاً أخلاقياً رفيعاً.30 و نرى أن طرح مفاهيم الحرية والأخلاق والخطيئة والواجب في حكايات شعبية عجائبية يكشف عن غايات كامنة في المخيال الجمعي لمعالجة قضايا ذات طبيعة ميتافيزيقية في صيغة سردية سلسة مما يمنح هذه المفاهيم قدراً أكبر، و إن يكن غير مباشر، في التأثير في المتلقي. و يمكن أن يفهم هذا التأثير على نحو سلبي حين يقال أن المعالجات الخيالية للقضايا الواقعية هو نوع من التعويض عن العجز عن تقديم معالجات فعلية؛ أو يفهم على نحو إيجابي حين يقال أنها تكشف للمتلقي قبح ودمامة واقعه اليومي، فتدفعه إلى التمرد والثورة. وهكذا تبدو الميتافيزيقا حاضرة، في الليالي، في الكليات وفي الجزئيات والتفاصيل، ولكنه يظل حضوراً ضمنياً يستلزم حفريات نقدية لتشخيص تجلياتها الجميلة والمبهرة والخفية في آن واحد.
الهوامش و الملاحظات:
1. ينظر: Ballard, E. G. (1957) Art and Analysis, Springer, Netherland. pp. 185.
2. نقل الدكتور محسن جاسم الموسوي زعم رتشارد بيرتون أن ’الليالي‘ تكشف بعض الدراسات عن ملامح نزعة فلسفية ضمنية في الليالي. ينظر، على سبيل المثال، مقالة جلبرت گراندگيوم، “الليالي تتحدث للبشر عن مصائرهم” بالفرنسية. و قد وردت المقالة ضمن الجزء التاسع من ملف كتاب الليالي من تحرير الأستاذ نقوس المهدي على الموقع: http://www.matarmatar.net/threads/
3. تزفيتان تودوروف، “الناس – المحكيات ألف ليلة وليلة” ترجمة: الصديق بوعلام. و المقالة هي الفصل الثالث من كتاب Poétique de la prose, Editions du Seuil, 1971-1978. و قد وردت من ضمن الجزء الخامس من ملف كتاب الليالي من تحرير نقوس المهدي على الموقع: http://www.matarmatar.net/threads/
4. نقلاً عن: د. محسن جاسم الموسوي، “صيغ الكلام و أوجه الكتابة في ألف ليلة وليلة” مجلة (فصول) المجلد الثالث عشر، العدد الأول. الجزء الثاني. الصفحات 20-46، ص 20.
5. ينظر نيكوس كازانتزاكي “تقرير إلى غريكو” ترجمة ممدوح عدوان. دار الجندي للطباعة و النشر. دون تاريخ. ص 42.
6. ينظر: “metaphysics.” Encyclopædia Britannica. Encyclopædia Britannica Ultimate Reference Suite. Chicago: Encyclopædia Britannica, 2013.
7. ينظر: van Inwagen, Peter, “Metaphysics”, The Stanford Encyclopedia of Philosophy (Winter 2013 Edition).
8. ينظر: Pritchard, Stanford, ‘Metaphysics and the Metaphysical Experience’ in International Philosophical Quarterly, June, 1966.
9. ينظر: كرانستون، موريس، (سارتر بين الفلسفة والأدب)، ترجمة: مجاهد عبد المنعم مجاهد. الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1981. ص. 38.
10. تودوروف، تزفيتان، (تعريف الأدب العجائبي)، ترجمة أحمد منوَّر. مجلة ’المساءلة‘ العددان 4 و 5، ربيع العام 1993. ص. 99.
11. د. محسن جاسم الموسوي، “صيغ الكلام و أوجه الكتابة في ألف ليلة وليلة” مجلة (فصول) المجلد الثالث عشر، العدد الأول. الجزء الثاني. الصفحات 20-46، ص 26.
12. عبد الفتاح كيليطو، ( الحكاية و التأويل: دراسات في السرد العربي)، ط.1، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، المغرب. ص. 20.
13. د. محمد عبد الرحمن يونس، “حكايات ألف ليلة وليلة بين المرجع الواقعي والمرجع التخييلي”. ضمن الدراسات و المقالات التي جمعها و نشرها نقوس المهدي في العاشر من مايو 2014 في موقع (مطر):
http://www.matarmatar.net/threads/1969
14. عثمان موافي، (في نظرية الأدب: من قضايا الشعر والنثر العربي القديم) ج1. دار المعرفة الجامعية للطباعة و النشر، القاهرة. 2005. ص. 141.
15. ينظر (بالفرنسية): Mercia Elliad, (1995) Aspets du Myth. Edition Gallimard, Paris. P.p. 177-198.
16. نقلاً عن الدكتور عبد الناصر العجيمي، (في الخطاب السردي: نظرية غريماس) الدار العربية للكتاب، تونس. 1991. ص. 43.
17. المصدر السابق. ص. 40.
18. ينسب الدكتور صبري حافظ لليالي أربعة وظائف هي: التشويقية، والإرجائية، والتوليدية، والفنطازية. ينظر، د. صبري حافظ، (جدليات البنية السردية المركبة في ليالي شهرزاد ونجيب محفوظ)، مجلة فصول، المجلد الثالث عشر، العدد الثاني، صيف 1994. الصفحات 20-70. ص. 26.
19. ينظر: أبو بكر الشرايبي، “السلطة و الدين في ألف ليلة وليلة”، ترجمة: ماتياس هورلبيكا. ينظر الصفحة الثانية من موقع (مطر) المتعلقة بدراسات كتاب الليالي: http://www.matarmatar.net/threads/1969/page-2
20. يرى ريتشارد بيرتون أن ’الليالي‘ قد نجحت لأنها تتضمن بهاءً خيالياً و خوارق عجيبة و مشاهد مبهرة، و هي خارجة على التقليد الأدبي. و هذا مما يشكل بعضاً من جوانب نجاحها العظيم. و لكن الباحث نفسه يزعم أن ’الليالي‘ “خالية من أية غاية وعظية أو تعليمية.” ينظر: د. محسن جاسم الموسوي في كتابه “ألف ليلة وليلة في نظرية الأدب الإنجليزي: الوقوع في دائرة السحر” منشورات مركز الإنماء القومي، بيروت، 1986. ص. 16.
21. “ألف ليلة وليلة من المبتدأ إلى المنتهى” طبعة مصورة عن طبعة برسلاو. الطبعة الرابعة. المجلد الأول. مطبعة دار الكتب و الوثائق القومية، القاهرة. 2010. ص. 31.
22. د. صبري حافظ، مصدر سابق.
23. رواية التعلم نوع من الروايات التي تسرد قصة التطور الروحي و النفسي و الأخلاقي للبطل، و من أمثلتها في الأدب الغربي: (فلهلم مايستر) لجوته، و(ديفيد كوبرفيلد) لتشارليس ديكنز، و(صورة الفنان شاباً) لجيمس جويس، و(دميان) لهيرمان هسه؛ أما في الأدب العربي، فهناك (حي بن يقضان) لابن طفيل، و(كتاب خالد) لأمين الريحاني، و(الثلاثية: بين القصرين، وقصر الشوق والسكرية) لنجيب محفوظ.
24. نتذكر هنا قصة “حي بن يقظان” لأبي بكر محمد بن عبد الملك بن محمد بن محمد بن طفيل القيسي الأندلسي )1100م -1185م(، حيث ينشأ البطل في بيئة طبيعية بكر وخالية من أية مؤثرات ثقافية ومعرفية إلا أنه يتمكن من الإلمام باللغة والدين والأخلاق والعلم على نحو خارق للمألوف وتنطوي القصة على فكرة رمزية هي أن اللغة والدين والأخلاق والعلم كامنة في النفس، وليست نتاجاً للتجربة والتعلم في بيئة اجتماعية وثقافية معينة، و هو مما يعني ضمناً تقديم اللوغوس على التجربة الذاتية.
25. ينظر Kathryn Hume, (1984) Fantasy and Mimesis: Responses to Reality in Western Literature. London, Methuen. P. 164.
26. على الرغم من أن إشكالية الزمن الوجودية وتجلياتها في الليالي جزء من مهم من التجليات الميتافيزيقية، و لكنها بحاجة إلى دراسة مستقلة نظراً لطبيعتها الفنية الخاصة.
27. ينظر: Elliad, Mercia (ibid) pp. 177-179.
28. د. محسن جاسم الموسوي، “ألف ليلة وليلة في نظرية الأدب الإنجليزي: الوقوع في دائرة السحر” منشورات مركز الإنماء القومي، بيروت، 1986. ص. 22.
29. سلطاني برنوسي، “ألف ليلة وليلة: ما وراء العنوان” ترجمة إسماعيل أزيا. مجلة ’التواصل اللساني‘، المجلد الثالث، العدد الأول، 1991، ص. 69.
30. د. محسن جاسم الموسوي، م. س. الصفحتان 22 و 24.
alnaked-aliraqi.net
باقر جاسم محمد : السرد والميتافيزيقا .. (ألف ليلة وليلة) إنموذجاً – الناقد العراقي
باقر جاسم محمد : السرد والميتافيزيقا .. (ألف ليلة وليلة) إنموذجاً 2018/11/05 ادب, نقد اضف تعليق السرد والميتافيزيقا (ألف ليلة وليلة) إنموذجاً باقر جاسم محمد كلية التربية ال....