( بسم الله الرحمن الرحيم )
أولُ شعرٍ قالهُ أبو الطيب أحمد بن الحسين قوله:
بأبي مَنْ وَددْتُهُ وافَترقْنا ... وَقَضَى اللهُ بَعْدَ ذَاكَ اجْتِماعا
وافترقْنا حَوْلاً فَلمّا التقينا ... كانَ تَسْلِيمُهُ عَليَّ وَدَاعَا
البيت الأول هو الفارغ قلت لا ألتمس له استخراج سرقة. والبيت الثاني هو بيت المعنى وهو مأخوذ من قول أبي الحسن جحظة أنشدنيه أبي رحمه الله:
زائرٌ نَمَّ عليه حُسْنه ... كيفَ يُخفي الليلُ بدراً طَلعَا؟
راقَبَ الغفلة حَتَّى أمكنتْ ... ورعا الحَارس حَتَّى هَجَعَا
ركب الأهْوالَ في زَوْرتِه ... ثُمَّ ما سَلم حَتَّى وَدّعَا
قال أبو محمد: ولا أعرف في بيت أبي الطيب زيادة يفضل بها من سرق منه وهذا الجنس من مساواة الآخذ المأخوذ منه في الكلام حتى يزيد نظام على نظام السابق أولى ببيتيه، وأنشدت لأبي الشيص:
يا حبّذا الزورُ الذي زَارا ... كَأنَّهُ مُقتبسٌ نَارا
نَفْسِي فِداء لكَ من زائرٍ ... مَا حَلَّ حتَّى قِيلَ قَدْ سَارا
مَرَّ بِبابِ الدَارِ فاجْتازها ... يَا ليْتَه لَوْ دَخَلَ الدَارا
يتلو هذين البيتين ثلاثة أبيات أولها:
أبلى الهَوى أسفاً يَوْم النَّوى بَدني ... وَفرَّقَ الهَجْرُ بينَ الجَفْنِ والوَسَنِ
فهذا فارغ لا ذكر فيه وثانيه قوله:
روحٌ تَردّدُ في مِثْلِ الخلال إذَا ... أطارتْ الرّيحُ عَنْه الثَّوْب لَمْ يَبِنِ
وإنما ذكرنا لك هذا البيت لنذكر لك استحالة لفظه، فأمّا معناه فمستعمل ولفظه مستبذل لأن تشبيه جسمه بالخلال كثير جداً ومنه قول ديك الجن:
ارحمْ اليوم ذِلَتي وَخضوعي ... فَلَقدْ صُرْتُ ناحلاً كالخِلالِ
فالتشبيه كالتشبيه سواء: فإن قلت: ففي بيت أبي الطيب زيادة في أنّ الريح إذا أطارت عنه الثوب لم يبن والخلال يبين للناظر ولا يثبت الثوب على مثل الخلال وإن كان أخفّ ثوب وإنما نبهه على هذا بشار في قوله:
سَلَبت عِظَامي لَحْمها فَتركْتَها ... عَواري في أجْلادِها تَتكسرُ
وأخليت منها مخها فَتركتُها ... أنابيبَ في أجْوافِهَا الريح تَصفرُ
خذن بِيدي ثُمَّ ارْفعي الثوبَ فانْظري ... ضَنى جَسدي لكنَّني أتَسَتَّرُ
وليسَ الذي يَجْري مِن العَين مَاؤها ... ولكنها نَفْسٌ تَذوب فَتَقْطرُ
وهذا أصح على مذهب من جهد الاقتصاد، وذلك أنه خبر عن ضنَّى يسير بستره ثوبه على بدن لا يتبين للناظر وهي مبالغة مستحيلة، وللشعراء مبالغتان ممكنة ومستحيلة والممكن أحسن عند كثير من الأدباء من المستحيل، فمن ذلك قول القائل:
مَنَعَتْ مهابتُكَ القلوبَ كَلامها ... بالأمرِ تَكْرههُ وإنْ لَمْ تَعلمِ
فبالغ وأحسن فادعى ممكناً في الهيبة، وأراد أبو نواس المبالغة في الهيبة فقال ما أسرف فيه وهو:
وَأخفتَ أهْلَ الشّرْكِ حَتَّى إنَّهُ ... لَتخافُكَ النُّطفُ التي لَمْ تُخلقِ
قال أبو محمد: فهذا الكلام وإن أمكن المنتصر له أن يقول قد قيل أحسن الشعر أكذبه وإنما يريد أن يخرج عن حدّ الموجود إلى حدّ المفقود ليدلّ بوصفه الغاية وتجاوز النهاية، فأراد أبو نواس أن يدل على أنّ المخلوق من الممدوح على نهاية الخوف، إذ كان يطلق الخوف على من لم يخلق، ولا يجوز عليه الأمن والخوف.
قال أبو محمد: قلنا له هذه إرادته لا محالة ولكن إرادة الشاعر الذي قبله عند من حمد الأقتصاد، وفضل هذا الممكن أفضل وهذا الباب أكثر من أن يحصى وليس مما قصدنا له فيستحصى، وهذا مثال في علم المبالغة كاف، وقد قدمت، ذكر شيء منه في الرسالة والبيت الثالث قوله:
كَفى بجسمي نُحولاً أنَّني رَجلٌ ... لَوْلا مُخَاطَبتي إِيّاكَ لَمْ تَرَني
أخذه من قولِ القائل:
برى ضنىً لمْ يَدعْ مني سوى شجى ... لَوْ لَمْ أقلْ هَاأنا لِلَّناسِ لَمْ أبِنِ
ولا فرق بين اللفظين والمعنيين وهذا من باب مساواة الآخذ المأخوذ منه وصاحب البيت الأول أولى به.
وقد قال آخر:
هَا فانظُروني سَقيماً بَعْد فِرْقتكمْ ... لَوْ لَمْ أقلْ هَاأنا لِلناسِ لَمْ أبنِ
لَوْ أن إبرةَ رَفّاءٍ أكلّفُها ... جَريتُ في ثُقْبها منْ دقّةِ البدنِ
وبعد ذلك أبيات في جرذ قتله رجلان، لو كان طرحها من ديوانه لاستغنى عنها ولا يلتمس لمثلها استخراج سرقه لفراغها. أولها:
لَقَدْ أصْبحَ الجُرذْ المستغيرُ ... أسِيرَ المنايا صَريعَ العَطَبْ
وأتبعها بأبيات سقط عن راويها، النصف الأول من ابتدائها وذلك قوله: سَيْفُ الصّدُودِ على أعْلى مُقلِّدِهِ بغير تمام، وذلك يدلك على أنها غير مقروءة عليه وإذا كان سيف الصدود على مقلده، فلا معنى لا على مختص به وهو حشو لا يحتاج إليه، يليه بعده:
ذَمَّ الزَّمانُ إلْيهِ مِنْ أحبَّته ... ما ذَمَّ منْ دَهْرِه في حَمْدِ أحْمدِهِ
هذا البيت كما ترى كأنَّه رقية عقرب، وقد تكلف بعض أدباء عصرنا تفسيره فقال) الهاء (في) إليه (عائدة على) العاشق (ورواه:
م ذَمَّ مِنْ بَدْرِه في حَمْدِ أحْمدِهِ
و( البدر ) هو معشوقه، وصير ( المعشوق ) بدر الزمان مبالغة في حسنه و( أحمد ) يعني نفسه وجعل نفسه أحمد الزمان، أي ليس في الزمان أحمد مثله. والمعنى: أن هذا العاشق كان يتذمر من معشوقه الذي هو بدر الزمان جفاءه فاجتمع الزمان معه على ذمّ تلك الحال من معشوقه في حال حمد الزمان لأحمده أي فالزمان معه يذمّ هجر أحبته، وأحمد لفضله ونجابته: قال أبو محمد: وليس هذا المعنى مما يلتمس له استخراج سرقة وإنما ذكرته لِما أشترطه في ذكر غث كلامه. وقد تكلف المفسرون مشقة في تفسير غير مفيد ولا سديد، وهذا الكلام القليل الفصول الكثير الفضول البيّن التكلف المشبه ألفاظ
أهل التصوف، وأتبع ذلك بأن قال بيتاً زاده هذا المفسر لم أجده عندي وهو:
شَمْسٌ إذا الشَّمْسُ لاقَتُه على فَرَسٍ ... تَردَّدَ النُّورُ فيها مِنْ تَرَدُّدِهِ
قال أبو محمد: فقوله: ( على فرس (كلام سخيف ونسيج ضعيف لأنه جعله) شمساً يتردّد النور فيها من تردده (ما كان على فرس، ويسقط هذا الوصف عنه عند نزوله عنه إذا وقفه لا يتردد والمعنى في الشمس لأبن الرومي ما هو أجزل من هذا، وهو قوله:
عُجبتُ لِلشمسِ لمْ تكسَفْ لمهلكهِ ... وهو الضِّياء الذي لَوْلاه لمْ تَقِد
قال أبو محمد: وهذا من الأقسام المذمومة، لأنه نقل جزلاً إلى رذل ثم قال:
إنْ يَقْبحُ الحُسْنُ إلا عنْدَ طَلعْتِهِ ... فالعبْدُ يقبحُ إلاَّ عِنْدَ سَيِّدِهِ
فسر هذا بعض المتكلفين فقال) إن (معناه: إنّ الحسن ليقبح عند إضافته إلى إشراق حسنه لنقصانه عنه كما أن العبد لا يحسن عند أحد حسنه عند مولاه.
قال أبو محمد: وهذا تفسير غير واضح ومعنى غير لائح لأن هذا التفسير إنّما يصح لو كان البيت لا يقبح الحسن إلا عند طلعته كالعبد يقبح إلاّ عند سيّده
على أنّي لا أعرف هذا التشبيه ما هو، وقد يمكن أن يستحسن الناس شيئاً لا يستحسنه مولاه ويتمنّون ملك من لا يعبأ به مالكه ولا أعلم في هذا الشعر أصلح من قوله:
نَفْسٌ تُصغّرُ نَفْسَ الدَّهْر من كِبَرٍ ... لَها نُهَى كَهْلِه في سن أمْردِهِ
ومثله قول البحتري:
حَدثٌ يوقّرُهُ الحجى، فكأنّما ... أخذ الوقار منْ المَشيبِ الشَّاملِ
وأخذه جميعاً قول مسلم:
كَبيرهُمْ لا تَقومُ الرَّاسياتُ لَهُ ... حِلْماً وطِفْلُهُم في هدي مُكْتهِلِ
ويتلوها قصيدة أولها:
أهْلاً بدارٍ سَباكَ أغْيدها ... أبْعدَ ما بانَ عَنْك خُرَّدُها
نذكر ما بلغه علمنا من مسروقها فمن ذلك:
ظَلت بِها تَنْطوي على كبدٍ ... نَضيجةٍ فَوْق خِلبها يَدُها
قال أبو محمد: هذا مأخوذ من أبيات أنشدها محمد بن داود الجراح.
لَهُ من فوق وَجْنته ... يَدٌ ويَدٌ على كَبدِهِ
يَسكنُ قَلْبُه بيدٍ ... ويمنحُ غَيره بِيدهِ
فالشعر المأخوذ أعذب لفظاً، وقد خبر عن شغل يديه وفر فملح وأوضح،
وهذا من السرقة المذمومة، لأنه قد زاد الأول في المعنى فأتم به، فلفظه أعذب فهو أرجح وأحق بما قال.
وقال المتنبي:
يا حادَيي عِيرِها وأحْسبُني ... أُوجَدُ مَيتاً قُبيْلَ أفقدُها
قال أبو محمد: هذا متداول المعنى مبتذل المبنى فمنه قول ابن أبي فنن:
تَنادوا بليلٍ إن رحلتنا غداً ... وناديت إنْ كانَ الفِراق غداً مِتُّ
وقال ابن المعتز:
قَالوا: الرَحيل غداً لا شَكَّ قُلت لَهُمْ ... بَلْ موت نَفْسي من قَبْل الرحيلِ غَدا
إني إذاً لصبورٌ إنْ بَقيتُ وَقدْ ... قَالوا الرحيلَ وإنْ لم يَرحلوا أبَدا
فالبيت الأول من قسم المساواة في الكلام والبيت الثاني زيادة في المعنى ما هو من تمامه.
وقال المتنبي:
قِفا قليلاً بِها عليَّ فَلا ... أقلَّ من نظرةٍ أُزوَّدُها
قال أبو محمد: معنى هذا البيت غير غريب، ولكن أبا الطيب لا يحقر شيئاً بل يأخذ الشعر الرفيع والوضيع، وهو في الأخذ كما قال ابن المعتز في العِشق:
قَلبي وثّابٌ إلى ذَا وذا ... لَيْسَ يرى شيئاً فيأباهُ
يَهيمُ بالحسنِ كما يَنْبغي ... ويَرهمُ القُبحَ فَيهواهُ
وقال أبو محمد: فيجب علينا الاهتمام بما أهتم به وهذا البيت من قول ذي الرمّةِ:
فإِنْ لَمْ يكُنْ إلاّ تعلّلَ ساعةٍ ... قَليل، فإِني نَافعٌ لي قَليلها
وهو من قسم المساواة. وقال ابن أبي فنن:
مَا ضر لوْ زودت خِلك نَظْرةً ... قَبل الرحيلِ وقلت قولاً تجَمل
وقال) المتنبي (:
فَفي فؤادِ المُحبّ نارُ هوىً ... أقل نار الجَحيم أبْردُها
من قول ابن الرومي:
وَقَدْ أملتكَ النفسُ بعد تخوم ... وأبردُ مِنْ هذا على كبدي الخَمر
قال أبو محمد: وهذا من باب مساواة الآخذ) من أخذ (منه.
وقال المتنبي:
شَابَ من الهجْرِ فَرقُ لِمَّته ... فَصارَ مِثْلَ الدمقْس أسْودُها
تخصيصه بالشيب في اللمة ضيق عطن بلفظ يعم جملة اللحة وكان ينبغي إذا خصص فرق اللمة بالشيب أن) يقول (فصار مثل الدمقس أسوده لعودة) الهاء (على المذكر، ولو قال:
شَابتْ لهجر الحبيبِ لِمّته ... فَصار مثْل الدمقس أسودُها
كان في الصنعة أمدح، وهو مأخوذ من القائل:
يبني عَنه أبانَ في شِ ... عْري أبيضهُ بَعد حُسن أسْوده
في هذا البيت مجانسة من ذكر) البين (و) الإبانة (وفيه مطابقة وفيه ضرب من استخراج معنى من) معنى (احتذى عليه وإن فارق ما قصد به إليه من ذلك قول امرئ القيس:
فظلّ العذَارى يَرتمين بِلحْمها ... وشحمَ كهُدّاب الدِّمقْسِ المفتَّل
فشبه الأبيض بالأبيض، فنقل أبو الطيب هذا التشبيه من الشحم إلى الشيب وشبه الأبيض بالأبيض، ففي هذا البيت رجحان على ما قاله أبو الطيب، والسابق أولى به. وقال المتنبي:
بانوا بخرعوبةٍ لها كَفَلٌ ... يكادُ عندَ القيامِ يُقْعِدُها
أخذه من ابن الرومي:
إذا تَمشى يَكادُ يُقْعده ... رَدفٌ كَمثل الكُثيبِ رجْرَاحُ
ولأبي المعتصم:
إنْ نهضت أقعدها ... منْ رَدْفُها دَعص نقى
وهذه الأبيات تدخل في باب مساواة الآخذ المأخوذ منه في الكلام.
وقال المتنبي:
كيف يَحيكُ الملامُ في هَمَمٍ ... أقْرَبُها مِنْكَ عنك أبْعَدُها
قال أبو محمد: ظاهر هذا الكلام متناقض ولا يجوز أن يكون أقرب شيء أبعد شيء إنما كان يصح لو قال:) أقربها مِنْكَ بَعيد (والذي يمكن أن يوجه لكلامه من المعنى أنه أراد: أقربها منك عندك أبعدها في الحقيقة عنك.
وقال المتنبي:
بِئْسَ اللّيالي سَهِرتُ مِنْ طَربي ... شَوقاً إلى من يَبيتُ يَرْقُدُها
الطرب خفة يعتري عند الفرح وعند الحزن جميعاً والمراد بها هاهنا الحزن، والمعنى للبحتري في قوله:
يكْفيك أنّكَ لمْ تَذُقْ ... سَهراً وأنّي لمْ أنمْ
وهذا أعذب لفظاً وهو من نقل العذب من القوافي إلى المستكره الجافي والسابق إلى اللفظ الرطب والمعنى العذب أولى بما سبق إليه.
وقال المتنبي:
لا ناقتي تَقْبلُ الرَّديفَ ولا ... بالسَّوْطِ يَوْمَ الرّهانِ أجْهِدُها
شِراكُها كُورُها وَمِشْفرُها ... زمامُها والشُّسوع مِقْودُها
أراد أنه ركب نعلة فقصد الإغراب، وقد سبقه إلى هذا أبو نواس فقال:
إليْكَ أبا العَبَّاس مِنْ خَير منْ مَشَى ... عَليها إمْتطْينا الحضْرِميّ المُلسَّنا
قلائِص لمْ تَعْرفْ حنيناً إلى طلا ... ولمْ تَدْرِ ما قرْعُ الفنيق ولا الهَنا
فأعرب بمخالفتها حال القلائص في عدم الحنين على الطلاء والجهل يقرع الفنيق وجاء به في أحسن كلام وأوضح نظام فهو أرجح لفظاً من أبي الطيب وأولى بما سبق إليه.
وقال المتنبي:
إلى فَتىً يُصْدِرُ الرّماحَ وَقَدْ ... أنْهلها في القُلُوبِ مَوْدِدُها
قال أبو الشيص في هذا المعنى:
فَأوردها بيضاً ظماء صدورها ... وأصْدرها بالمرِّ ألوانها حُمْرا
فاجتمع لأبي الشيص من التطبيق من الورد والصدر والبياض والحمرة والظمأ والريّ ما رجح به على عمرو بن كلثوم في قوله:
بأنّا نُورد الراياتِ بيضاً ... ونُصدرُهنّ حُمْراً قَدْ رَوينا
فزاد أبو الشيص بالظمأ والريّ عليه فاستوفى أقسامه وجوّد نظامه فهو أولى بما قال ممن لم يتفق له فصار أبو الشيص أولى بما قال: وقال المتنبي:
لَهُ أيادٍ إليَّ قَدْ سَلَفَتْ ... أعَدُّ مِنْها وَلا أُعدّدُها
ملح في قوله أعد منها ولا أعددها، وقد جاء بهذا في قصيدة أخرى فشرح وأوضح:
فاغفرْ فدىً لك وأحْبُني من بَعْدِها ... لتخُصني بعطّيةٍ مِنْها أنا
والمعنيان المأخوذان من قول الحمار:
لا تَنتفني بَعْدَ أنْ رَشَتْنِي ... فَإِنّني بَعْضُ أياديكا
وكلام أبي الطيب أجزل فهو يستحق ما قال بالجزالة.
وقال المتنبي:
أفْرُسها فارساً وأطولُها ... باعاً ومِغْوارُها وسَيِّدُها
قال بعض النحويين إن فارساً منصوب على الحال لا على التمييز وهو
بيت فارغ.
وقال المتنبي:
شَمْسُ ضُحاها، هِلالُ لَيلتها ... دُرُّ تقاصيرها، زَبرْجَدُها
هذا البيت في فساد الأقسام وضعف النظام أشبه بيت ببيت أبي تمام في قوله:
خَلقُ كالمَدامِ أو كَرُضابِ المس ... ك أو كالعَبِير أو كالملاَب
والناس يرتفعون من الدون إلى الأعلى وهذا يرتفع من الأعلى إلى الدون جعل خلقه كالمدام أو كالمسك، والمسك أطيب من المدام والعنبر والملاب. وقد ذكر أبو بكر الصولي أن بيت أبي تمام له مخرج من ذلك، قال المعنى كالمدام فإن قال قائل قد أفرطت قال: كالعنبر أو كالملاب.
قال أبو محمد: وهذا تفسير لا يدل عليه ظاهر الكلام ومفسره يدخل في جملة مخرجي الضمير: قال أبو بكر أنه أراد تقديم المسك في النية وإن أخره في اللفظ لاستواء القافية. ومنها أن يحمل ذلك على قول الله تعالى:) من بعد وصية يوصي بها أو دين (فالدين قبل الوصية، وعلى جميع ذلك كلام العرب.
فالجواب الأول قد عرفتك أنه بقول المنجمين المخرجي الضمير أشبه منه بقول المفسرين، وأما قوله، أراد استواء القافية ونوى التقديم والتأخير فإن إرادة القافية باستواء المعنى أن يساغ وصار قياساً وقع في الشعر من التخليط ما تفسر به معانيه ويستولي على كثير من قوافيه. وأمّا قوله إن هذا محمول على قول الله عز وجل:) من بعد وصية يوصي بها أو دين (فليس بحجة وإن كان الدين قبل الوصية لأن الدّين والوصية ليسا ممّا كنّا فيه من الأعلى إلى الدون، إذ ليس بين الدين والوصية تفاضل من العلوّ إلى الدّنوّ، ولولا أن الشريعة دلت على تقديم الوصيّة لما عرفنا الأعلى منهما من الأدنى وأنواع الطيب متفاضلة، فإذا شبه أبو تمام بالأفضل غني عن الأرذل وقول أبي الطيب:) شمس ضحاها (.
لا يوجب قوله:) هلال ليلتها (وكان أشبه أن يقول) بدر ليلتها (وكذلك قوله:) درّ تقاصيرها، زبرجدها (التقصار: القلادة القصيرة، ولم يعتمد في هذا البيت على الطول والقصر فيها وإنما مراده أنك في قومك كالدّر نفاسة، وقوله:) درّها يغنيه عن زبرجدها (لأنه أنتقل من الأفضل إلى الأرذل، وقد قال إبراهيم بن العباس للصولي:
ما كنت فِيهنّ إلاّ كُنْتَ واسطةً ... وَكُنّ دُونكَ أولاها وأخراها
فالواسطة من القلادة أنفس ما يليها من جملتها فقد اكتفى بهذا الوصف
ودل على الأنفس، فلفظه أجزل وأرجح وهو بما قال أحق من أبي الطيب.
وقال المتنبي:
يا ليْتَ بي ضَربَةً أُتيحَ لَها ... كما أُتيحتْ لَهُ مُحمَّدُها
أثَّرَ فيها وفي الحديد وَمَا ... أثّرَ في وَجْههِ مُهَنَّدُها
فاغتبطت إذْ رأتْ تَزَيّنَها ... بِمثْلِهِ والجِراحُ تَحْسُدُها
قال أبو محمد: هذا كلام عجيب ومعنى غريب وذلك أنه تمنى ضربة تقع منه مثل ضربة الممدوح ولا أعلم هذا مما يتمنى، فإن أحتج محتج فقال: أراد بهذا مذهب من إذا رأى مكروهاً بإنسان، قال: يا ليت لي ذلك دونك كما قال القائل: أنا مُذْ خَبرت بالعلةِ والله عَليل
لَيْتَ حَماك بِجِسمي ... ولك العُمر الطويل
ومثله قول القائل:
لا بِكَ السقْم ولكِنْ كَانَ بي ... وبِنَفْسي وبأمي وأبي
قِيلَ لي إنّكَ صَدعْتَ فَمَا ... خَالَطتْ عَيناي حَتّى دِير بي
قلنا له هذا مستعمل لولا ما يليه من قوله إنه أثّر في الحديد والضربة ولم يؤثر فيه وذكر أنها مغتبطة بتزينها به وما لم يكسب ألماً ولا شيئاً فليس للمفدّا منه فائدة في الفدية ولا في تمني حمل مكروه عنه إلا أن يكون قوله:) يا ليتَ لي ضربة على وجه الحسد له (على ما لم تؤثر فيه أثراً ولا أكسبته ألماً وللضربة فيه زينة فما أختار له أن يحسد الممدوح على ما زين الضربة وهو محار لتزينها فما نحسن أن ينفس عليه بما أختاره وما أعلم أن بشراً يوصف بأن السيوف لا تستعمل
ولا تؤثر في جلده وتبوء عنه ولو استعمل هذا مستعمل في وصف رجل وقح على المبالغة كان أحسن من دخوله في المديح كما قال الشاعر:
اللّؤْمُ أكرمُ من وَبْرٍ ووالده ... واللّؤْمَ أكرم مِنْ وبرٍ وَما ولَدا
لو أنّ حافر برذوني كأوجههم ... بني الزوابي لَما أنْعلته أبَدَا
قال أبو محمد: وقد قلت أنا في هذا المعنى:
يا جامعاً زهْوَ الملو ... ك ولَؤم أخلاق التجار
أرجعْ إلى الفقر القَدي ... م فَقدْ فسدت على اليسار
وخطرتَ في سُكر الغِنى ... وأمنْتَ عاقِبه الخُمار
أبديتَ وجهاً للعُفَا ... ة مُقنّعا بِقناع عار
لو أنّه لقي الحجار ... الصُّمّ أثر في الحجار
أو كانَ ترس محاربٍ ... لارْتدّ عنهُ ذو الفقار
هذا وما أشبهه في الهجاء أبلغ وأسوغ منه في المديح وقوله: أثر فيها وفي الحديد أخاله نذكرها وهو أن التأثير لا يقع إلا في الصور وإنما التأثير يقع في الضربة في صورته أو صورة الحديد فأما أن يؤثر في الضربة فلا يجوز لأن الضربة عرض فلا يصح فيها التأثير وهذا من القسم الذي يصير على التفتيش والانتقاد
إلى تقصير أو فساد.
وقال المتنبي:
وأيقَنَ النَّاسُ أنَّ زَارعِها ... بالمكْرِ في قَلْبِهِ سَيحصُدُها
يعني الضربة.
وقال أبو العتاهية:
غداً تُفي النّفوسُ ما كَسبت ... وَيحصدُ الزَارعون ما زرعوا
وهذا من قسم ما أخذ عليه وإنْ فارق ما قصد به إليه.
وقال المتنبي:
تَبكي على الأْنصُلِ الغُمود إذا ... أنْذَرها أنّهُ يُجَرّدُها
لعِلْمها أنها تَصِيرُ دَماً ... وأنَّهُ في الرقابِ يُغْمِدُها
جعل العلة في بكاء الغمود عليها أنها تعمد في الرقاب ولا بد من مسح النصل من الدم فيعود إلى حاله وإلاّ نبا إن ترك وأمّا إغمادها في الرقاب فذلك بمقدار زمان يقع اللقاء فيه
فما تبكي الغمود من ذلك إلاّ أن يكون إذا سل سيوفه يصير من رقاب إلى رقاب فلا تعود أبداً إلى غمودها وهل فيها حسن يوجب لها إلفاً فتبكي لفقد ما ألفت؟ وأظن أنّ أبا الطيب أستضعف نسج هذه القصيدة فجعلها مما قاله في الصبي ليقوم عذره في ضعفها وفائدة هذا الشعر أنّه في الرقاب يغمدها وهو مأخوذ من بيت أنشده ابن قتيبة:
وما انتضينا السيوف يَوْم وغىً ... إِلا وفي الرأس نَحْنُ نُغْمْدها
وقال أبو دلف:
سادوا وقادوا وذادوا عَنْ حَريمهم ... وأغمدوا البيض في هامٍ وأعناق
وقال الحماني العلوي:
وإنا لتصبح أسْيافُنا ... إذا ما انتضين ليوم سًفُوك
منابرهُنّ بطونُ الأكّفِّ ... وأغمادهنّ رؤوس الملوكِ
البيت الأول الذي أنشده ابن قتيبة هو بيت أبي الطيب بلا زيادة في مبناه ومعناه وهو من قسم مساواة الآخذ المأخوذ منه في الكلام وقد أتى أبو دلف ببيت شغل صدره بعدّة أوصاف وأتى بمعنى أبي الطيب في عجزه، فرجح كلامه وأستحق معناه. والحماني قسم حال السيوف فعبر عن حال حملها وعن حال أغمادها في رؤوس الملوك وخصص كلامه بهم دون غيرهم فقد رجح كلامه على كلام الجميع وأستحق المعنى عليهم.
وقال المتنبي:
إذا أضلَّ الهُمام مُهُجتَهُ ... يَوْماً فأطرافُهُنَّ تُنْشِدُها
أي إذا أضل الهمامُ مهجته فقدها فإنما يسل أطراف هذه السيوف عنها. أخذه من قول مسلم:
فأتوا الرَّدى وظباه البيض تَنْشُدُهمْ ... وأنت نصب المنايا غَيْر مَنْشود
فخبر أن ظباه البيض تنشدهم وأن الممدوح هو نصب المنايا وهو غير منشود لا تطلبه السيوف هيبة من حاملها له وقد صحح أبو الطيب من ذكر الضلال والنشدان فرجح كلامه.
وقال المتنبي:
وأنكَ بالأمسِ كُنت مُحْتلماً ... شَيخَ مَعدّ وأنتَ أمردها
يريد بانك بانك، وأنشد سيبويه:
ويوماً تُوافِينا بوجْهٍ مُقسّمٍ ... كأنْ ظبيه تعطو إلى وَارق السلمْ
في قول من نصب ظبيه وفيه قبح لأنّ الإضمار يرّد الأشياء إلى أصولها والأصل الثقيلة، ولو قال وأنت بالأمس استراح من تعسف الإعراب ولكنه يؤثره في إخباره أنه كان محتلماً شيخ معد ما يغني عن قوله: وأنت أمردها، ويكفي بقوله:
وأنتَ أمردها ع ... نْ ذكر مُحْتلمٍ
وليس هذا من الحشو الحسن بل كقول أبي العيال الهذلي.
ذَكْرتُ أخي فَعاودني ... صِداعُ الرأس والوصَب
فذكر الرأس بعد الصداع حشو يستغني عنه.
وكذلك قول ديك الجن:
فَتنفستْ في البيت إذْ مُزجَتْ ... بالماء واستلَّتْ سنا اللهبِ
كتنفسِ الريحانِ خَالطَهُ ... مِنْ وردِ جُوْرٍ ناضر الشُّعبِ
فذكر الماء بعد المزاج فضل مستغنى عنه والبيتان يكفي منهما بيت أبي نواس بلا حشو.
فتنفستْ في البيت إذْ مُزجتْ ... كتنفسِ الريحان في الأَنفِ
فإن ظنّ ظانٍ أن قول أبي نواس مثل قول ديك الجن في) مزجت بالماء (فما أصاب لأنه معلوم أنه لا يكون مزاج الخمر إلا بالماء وقد يتنفس الريحان في حيث لا يحضره شامّ وإنما يلذه صاحب الشم كما يلذ شم الخمر والمسك وما أشبههما فبينهما فرق واضح، وبيت أبي الطيب مأخوذ من قول ابن بيض:
بَلْغتَ لِعشر مَضَتْ من سَنيك ... كما يَبلغُ السيّدُ الأشيب
وقال البحتري:
قَدْ أكملَ الحِلْمَ وأشتدّت شكيمتُهُ ... عَلى الأعادي ولمْ يبلغ مَدى الحُلُمِ
فأملح ما ذكرناه من هذا المعنى قول ابن بيض لأنه مخلّص من الحشو وقد أتبعه بما يليق به ونشرحه وهو:
بَلغْتَ لِعشرٍ مَضَتْ مِن سَنيك ... ما يبلغُ السيدُ الأشيبُ
فَهمّك فيها جسامُ الأمورِ ... وَهَمُّ لِداتك أنْ يلعَبُوا
فهو أحق بما قال من أبي الطيب، فأما البحتري فبلغ مراده وفسرّه وليس في بيته فضل عن معناه، وابن بيض بلغ مراده في بيتين فكأنه قد استوفى الطويل، في الموجز القليل، وصار البحتري أولى به منه وفي معنى قول ابن بيض قول الفرزدق:
غُلامانَ شبا في الحُروبِ وأدْركا ... كنارِ المساعي قَتل وَصْل لِجاهما
وقال المتنبي:
أقَرَّ جلْدي بها عَليَّ فَما ... أقْدِرُ حتى الممات أجْحدُها
هذا معنى رديء لأن في طبيعة جحود النعمة فما أقربها عليه جلده صار لا يقدر على الجحود الذي في طبعه كمن يريد جحد واجب فإذا علم أن عليه شهوداً به أقر به وهذا تشبيه قول ابن بسام.
وَقَدْ ظَهرت لأمرِ آتامه ... على نفرٍ وإنْ لَمْ أقر
(1/222)
وأحسن من هذا المذهب مذهب الحارث بن خالد المخزومي في قوله:
وَلها علينا نِعْمةٌ سَلفتْ ... لسنا مدى الأيام نجحدُها
فجعل الإقرار بنعمتها وجهاً يحسن وقائه لا ضرورة وقد قال البحتري: لشاكر مِنْك فضل نُعْمى وكفْرُ نُعمْى الكريمِ كُفْرُ ثم ختم القصيدة بقوله:
فَعُد بها لا عدْمتُها أبداً ... خَيْرُ صلات الكريمِ أعوَدُها
فبينما يخبر عن الممدوح لترديده صلاته إذ سأله أن يعود إليها والعائد يكون بادئاً فكأنّه قد نسي قوله:
وَمكرماتٍ مَشَتْ على قَدم ال ... ر إلى مَنْزلي تُردِّدُها
فقوله فعدّ بها) الهاء (راجعة إلى المكرمات، والمردد لا يسأل عودته فأما المعنى في البيت فمن قول لبيد:
فَعد أنّ الكريمَ لَهُ مُعاد ... وظني بابن أروى أنْ تَعودا
وقال غيره:
بَدأتمْ فأحسنتمْ فأثنيت جاهداً ... فإِن عدتم أثنيتَ والعودُ أحمدُ
وقال أبو تمام:
بدأ النّدى وأعادَهُ فِيهمْ وكَمْ ... من مُبدئ لِلعرف غَيرُ مُعيدِ
وقال:
إنّ ابتداءَ العُرْفِ مَجدُ باسِق ... والمجدُ كلُّ المجْدِ في استتمامِه
ومعنى بيت أبي تمام أن ذكر ابتداء وطلب عوده ولم يخبرنا بترديد ذلك
وتكرره، وأبو الطيب طلب المعاودة كأنه مبتدئ فما طلب بعد تكرير الممدوح وتردده وفي لفظ بيت أبي تمام جزالة وفي لفظ أبي الطيب عذوبة واختصار يستحق المعنى به هذا إن سلم أبو الطيب معرفة لأبي تمام فقد عرفني من أثق به من أهل الأدب أنه قيل له أنت تأخذ من شعر أبي تمام فقال: قلت الشعر وما أعرف أبا تمام، وهذا الكلام يحتمل الصدق لأنه ذكر أن قال الشعر في الكبر وهو صبي ذو وفرة وذلك قوله:
لا تَحسنُ الوفْرَةُ حتّى تُرَى ... مَنْشُورةَ الضَّفْريْنِ يَوْم القِتالْ
على فَتىً مُعْتقلٍ صَعْدَةً ... يُعلُّها مِنْ كل وَافي السِّبّالِ
فغير منكر أن يحركه طبعه على قول شيء من الشعر وهو لا يعرف الشعراء ثم يعرفهم ويأخذ من معانيهم فما في كلامه براءة مما أتهم به إذا تؤول على هذا التأويل فإن جوز متعصب أن يكون معنى كلامه) قلت الشعر وما أعرف أبا تمام مذ قلته إلى وقتي هذا، قلنا له: إذا تأولته على هذا المعنى كان أول كلام غث العبارة لأنه يخبرنا أنه قال الشعر وهذا ما لا يجهل من أمره ولا يتعلق بقوله: وما أعرف أبا تمام وكان يكفي منه أن يقول: وما أعرف أبا تمام وإنما ينبغي أن يكون هذا جواباً لسائل لا يعرفه، تقول: أنت تقول الشعر وإذا قلته: أتسرق من أبي تمام، فتقول عندها: قلت الشعر وما أعرف أبا تمام فيصح الكلام لا الدعوى في إنكاره معرفة أبي تمام لأن إفكه في إنكار مثله واضح ودليل بهته لائح لأمرين أحدهما: ما أورده من المعاني الكثيرة التي أخذها من شعره لا يجوز مع تواترها وتوافرها أن يدعى بها اتفاق الخواطر ولا تساوي الضمائر لأن ذلك كما قلناه ينساغ في اليسر ويمتنع في الكثير والآخر أن أبا تمام قد أعطي من اشتهار الاسم في الخاصة مثل ما أعطي من اشتهاره في العامة وهو اشتهار لا يجوز أن
يظن بمتأدب جهله افترى أبا الطيب ما جالس المتأدبين ولا دخل سوق الوراقين فيسمع خبره على الألسن مشهوراً وفي الكتب مذكوراً. هذا خارج عن الحق مباين) للصدق (ولو كان قال: ما عرفت ما قرأت شعر أبي تمام لكان) قرأت (أمكن من) عرفت (لأنه يمكن أن يقرأ أولاً ولا يمكن أن يعرف، وأن أبا تمام معه مظلوم الإحسان مجحود الامتنان محتقرة منفعته مكفورة نعمته وسيمضي من أخذه عنه ما يدّل أنه بهذه الصفة، ولو علم الراغب به عن سرقة شعر أبي تمام أني سأورد من سرقاته ممن لا يعارض أبا تمام به ولا يوازن مقداره ولا يسبق غباره من الشعراء المحدثين الذين لهم صيت أبي تمام ولا صنعته ولا علمه ولا رفعته وهو نصر الخبزأرزي لاشتغل عن الانتصار له
في أبي تمام وأنا أعلم أن الإنكار يقع لي في سرقته من نصر لأنهم إذا كانوا يرغبون به عن السرقة ممن خدم عصره وعظم في النفوس قدره كانوا ممن قارب عصره ولم يتناقل الأدباء شعره أرغب به وهذه الطائفة السامية بقدره المفرطة في تعظيم أمره عرفته بعد خطوته وارتفاع صيته ورتبته ولم تعرفه وهو دقيق الخمول وهو بمنزلة المجهول وقد كان زمانه في هذه الحال أطول مسافة من زمانه في ارتفاع الحال ووجود المال الذي شهر اسمه وأبان لهم فضله وعلمه وأنا أورد عليك من خبره ما خبرني به أبو القاسم علي بن حمزة البصري وكان من المجردين في صحبته والمغرقين في صفته، ذكر أنه حضر عند أبي الطيب وقت وصوله من مصر إلى الكوفة وشيخ بحضرته فيه دعاية لا تقتضيها منزلة أبي الطيب في ذلك قال فرأيت أبا الطيب محتملاً لِما سمعه، فقال له: فيما قال: يا أبا الطيب خرجت من عندنا ولك ثلاثمائة قصيدة وعدت بعد ثلاثين سنة ولك مائة قصيدة ونيف من القصائد، أفكنت تفرقها على المنقطعين من أبناء السبيل، فقال له: ألا تدع هزلك، قال: فأخبرني عن قصيدتك الشاطيرية التي خرجت من أجلها إلى البصرة حتى أظهرت فيها معارضتك للخبزأرزي، لِمْ أسقطتها فقال: تلك هفوات الصبا فقال: فسألت الشيخ أتحفظ منها شيئاً قال: فأنشدني أبياتاً عدة قال أبو القاسم: فأمهلت أبا الطيب مدّة حسن معها السؤال وخفي المقصد، فقلت له: أدخلت البصرة قط؟ قال: نعم، قلت: فأين كنت تسكن، فخبرني عن منزل أعرفه كان الخبزأرزي منه على أذرع يسيرة أربع أو خمس فعلمت أن الشيخ قد صدق
وخبرني أبو القاسم علي ابن حمزة لأنه سأل عن خبرة الشيخ عليه فذكر مخبره أن أبا الطيب كان ممن يألفه الشيخ قديماً في حال صباه والذي أنكره المتعصبون من هذا الأمر هو الذي أطمع أبا الطيب فيه وظنّ أن الخبزأرزي يقرب زمانه منه ودنأة صنعته وأن العلماء لا يشتغلون برواية شعره لأنه لا يجوز عليه الأخذ منه ولا يتنبه على مواضع سرقته منه وسيرد عليك من المأخوذ منه ما يعرفك من ذلك برهاناً ويوضح لك منه بياناً ثم يعود إلى موضع التأليف. وتتلو ما تقدم أبيات قليلة الفائدة وهي:
مُحبّي قيامي ما لِذالكمُ النَّصْل ... بَريّاً مِنْ الجرْحَى سليماً من القَتلِ
قال فيها:
أرَى في فِرنْدِي قِطْعةً في فِرْنِدِهِ ... وَجَوْدَةَ ضَرْب الهامِ منْ جَوْدةِ الصّقْلِ
أمّا قوله: أرى في فرندي قطعة من فردنه: فينظر إلى قول أبي تمام:
في كُلَّ جَوْهَرةٍ فرْنِدٌ مُشْرِقٌ ... وَهُمُ الفِرْندُ لهؤلاء النَّاسِ
فعمّ كل جوهرة بفرند ولم يخص السيف وجده وجعلهم فرنداً للناس، فهو أملح وأمدح، وقال المتنبي:
وَخُضرَةُ ثَوْبِ العَيْشِ في الخُضرَةِ التي ... أرتْك احْمِرارَ الموْتِ في مَدْرج النَّمْلِ
أخذه من القائل في سيف:
وصَقيل كأنَّما درج النمل ... على مِتنه لرأى العيون
أحضر فيه لامعات المنايا ... لايحات ما بين حُمْد وجون
والمعاني هي المعاني غير أنّه قد أنتظم معنى البيتين في بيت فصار مستوفياً للفظ الطويل في الموجز القليل فأستحقه، وختم الشعر بقوله:
وَذرْني وإيّاهُ وطرْفي وَذَابِلي ... نكُنْ واحداً نَلْقى الوَرى وانظرا فِعْلي
احتذى قول مسلم:
كَليني إلى النصلينِ عزمي ومقولي ... وكرّي وأسد الغابِ يَخْطر دُوني
واستخراج هذه السرقة لِما قدمناه من الشرط فيما يأخذه من المعنى المتوسط المتداول المتناقل خوفاً من أن يظن بنا الضعيف العلم أنّه سبق إلى معرفته ما جهلناه أو لسهو مناعته فأغفلناه، ونورده احتراساً من ذلك لا نحقره كما لا يحقره من سرقة فهذا عذرنا في هذا. ويتلو ما تقدم قصيدة أولها:
كَفى فَقدْ أراني لومك أولى باللومِ ... همّ أقامَ على فؤادي أنجما
وترتيب معنى هذا البيت:
كَفى فَقدْ أراني لومك أولى باللومِ ... همّ أقامَ على فؤادي أنجما
وهذا صعود وجذور محصولة محقورة المعروف في هذا أن يقال اللائم ألوم فأما اللوم فلا يلام لأنه غير الملوم والملوم الغافل واللّوم كلام فالواجب أن يلام الغافل دون الكلام كما قال المسلمي:
فَلو كانَ في أثْر المشيبِ بكاؤهُ ... لكان الذي ناداهُ باللوم ألْوما
وقال العتبي:
يَلومني الناسُ على حُبكمْ ... والناسُ أولى مِنْك باللومِ
فهذا الكلام موضوع في حقه وصاحبه أولى به ممن أخذه، ووضع الكلام في غير حقه. وقال المتنبي:
وَخيالُ جِسْم لم يُخلّ بِه الهوى ... لحماً فينحِلَهُ السّقام وَلا دَما
فذكر من فعل السقام به ما ذكره أبو العتاهية في قوله:
واللهِ ما أبقيْتِ من جَسَدي ... لحماً ولا أبقيْتِ لي عَظْما
وهذا من مساواة الآخذ المأخوذ منه في الكلام.
وقال المتنبي:
وخُفوقُ قلبٍ لوْ رأيت لهيبَهُ ... يا جَنّتي لظننتِ فيه جَهنما
أخذه من قول بعض المحدثين:
في النّارِ قَلْبي، وَعيْنِي ... في الروضِ من وَجْنته
وهو من نقل اللفظ القصير إلى الطويل الكثير، فصاحبه أحق، لأن أبا الطيب أجمل المعنى في الجنة والنار ولم يشرح، وهذا قد أبان موضع النار من قلبه والجنة في عينه فهو أولى من أبي الطيب، وقال المتنبي:
وإذا سَحابةُ صَدّ حبٍ أبْرقَتْ ... تَركتْ حَلاوة كُلّ حُبّ عَلْقما
ليس هذا البيت من ألفاظ حذاق الشعر لأن ذكر السحابة والإبراق لا يليق بذكر الحلاوة والمرارة، ولو كان) كما (قال:
وإذا سَحابةُ صَدّ حبٍ أبْرقَتْ ... مَطرت عيون العاشقين بها دَما
أو ما شاكل ذلك مما يليق بذكر السحابة والإبراق أو كان يقول:
وإذا مرارة صدّ حبٍ أبرقتْ ... تَركتْ حَلاوة كلَّ وصلٍ عَلْقمَا
فجمع بين الصدّ والوصل، والحلاوة والمرارة في العلقم لتصح الأقسام ويعتدل الكلام، كان أليق بصنعة الشعر، ألا ترى أن الخبزأرزي أصح أقساماً منه لقوله:
ومن طاعتي إياهُ يُمطر نَاظري ... إذا هو أبْدى من ثناياه لي بَرَقا
فجاء بما يشاكل بعضه بعضاً ويتعلق اللفظ به.
قال أبو محمد: وهذا مما يصير على الانتقاد إلى تقصير وفساد.
وقال المتنبي:
يا وَجْهَ داهيةِ الّتي لوْلاكِ ما ... أكلَ الضَّنى جسدي وَرضَّ الأعظما
ليس هذا مما يشتغل باستخراج سرقته وهو يشبه قول الخبزأرزي:
وحَق الهوى إنّي أحس مِن الهوى ... على كَبدي حمراً وفي أعظمي رضّا
وقال المتنبي:
إنْ كانَ أغناها السُّلُوُّ فإِنَّني ... أمْسيتُ مِنْ كبدي وَمِنْها مُعدما
قال منصور النمري:
وأن يعلى صبري لكل ملمةٍ ... عَنْ الصبرِ من أم الوليدِ مُعْدمِ
وذكر العدم ولم يذكر المعنى وبيت أبي الطيب فيه مطابقة مليحة يرجح بها فأما قول الديك:
هي نكبةٌ فؤادي منْ أسىً ... إذْ غادرتْهُ من العزاءِ عَديما
فهذا يتساوى فيه الآخذ والمأخوذ منه. فإن كان أبو الطيب قد جعل الغنى عند محبوبه والعدم عنده لأن اجتماع الحالين المضرين في فؤاد واحد توفيه الأقسام وصنعة في الكلام ووقوع علة بارتفاع أخرى رجحان في اللفظ يحكم لديك الجن به، وقال ابن المعتز:
يا ابن بشر أنت مش ... غول بغيري لا هَنَاكا
يا غنياً بأناس هبْ افق ... ري من غناكا
وهذا البيت من نقل اللفظ القصير إلى الطويل الكبير.
وقال المتنبي:
غُصن على نَقويْ فلاةٍ نابِتٌ ... شَمْسُ النهارِ تُقلُّ ليلاً مُظلِما
فأخذ بيت ديك الجن بكماله وهذا هو اللفظ المدعى هو ومعناه معاً ومع ذلك فتقسيم السابق أصح لأنه ذكر من آخره إلى أوله على ترتيب صحيح فبدأ بردفه وقده ووجهه وشعره، وهذا بدأ بقده ثم بردفه ثم رجع إلى وجهه وشعره فترتيبه مخلط وإن كانت شجاعته التي يذكرها عن نفسه في اللقاء كشجاعته على سرقة هذا البيت أنه لشجاع وقال المتنبي:
كَصفاتِ أوْحدنا أبي الفَضْل التي ... بَهرتْ فَأَنْطَقَ واصفيه وأَفحما
فهذا سرقة من ابن الرومي:
يعطي فينطق ذا الأفمام نائله ... ويفحمُ الفحل شعراً أي أفمام
فهما وإن أجمعا في المطابقة فقد رجح ابن الرومي بالشرح والإيضاح في البيتين وعرف أن تواتر عطائه يلزم المفحم الشكر، فينطق وبلاغته يفحم الفحل من الشعراء فيصير مفحماً، وكلام ابن الرومي أوضح وأرجح وهو أولى بما قال: وقال المتنبي:
يُعْطيكَ مُبْتدئاً فإِنْ أعْجلتَهُ ... أعْطاكَ مُعْتذراً كَمنْ قَدْ أجرَما
أخذه من قول ابن المعذل:
يُعطيكَ فَوْقَ المنى من فَضل نائلهِ ... وَليس يُعطيك إلاّ وهو مُعْتذرُ
وقال أبو تمام:
أحو أزماتٍ بَذْلهُ بَذْلُ مُحْسنٍ ... إِلينا. ولكنْ عُذْرهُ عذْرُ مُذِنبِ
وقول ابن المعذل أجودها لأنه شرط أن عطاءه فوق المنى ولأنه لا يعطي مبتدئاً ولا معاوداً إلا وهو معتذر، وأبو تمام يشترط هذا الشرط إنما ذكر فقال) بذل محسن أو عذر مذنب (ولم يقل إن عطيته فوق المنى وقد يستحق المعطي اسم المحسن بأقل إعطاء ويجوز أن يعتذر لعلمه بقلة العطية وبيت ابن المعذل أرجح لفظاً وإن كان في بيت أبي تمام مطابقة مليحة ولم يحصل لأبي الطيب غير أنه يعطيك ولم يجد العطية بقلة ولا كثرة فإن أعجلته أعطاك واعتذر وما يقع اعتذاره بعد الإعجال إلا لأمرين أحدهما أنه أحوجك إلى المسلة أو قلة ما حضره من العطاء كما حكي أن شاعراً أعجل بعض الأمراء وهو عبد الله بن طاهر فدفع إليه ما أمكنه أن يجود به وكتب إليه:
أعجلتنا فأتاكَ عاجلُ برّنا ... قلاًّ، وإنْ أمهلتَنا لمْ يَقلْلِ
فَخُذ القليلَ وكنْ كأنَّك لمْ تَسلْ ... وَنكون نَحْن كأنَّنا لمْ نَفْعَلِ
ومن أعتذر بعد الإكثار أولى ممن اعتذر بالكرم من إعجال أو تقصير، فعبد الصمد أولى بشعره ممن أخذ منه.
وقال المتنبي:
ويَرى التَّعظُّم أنْ يُرَى مُتَواضِعاً ... وَيَرى التَّواضُعَ أنْ يُرى مُتَعظِّما
أخذه من قول أبي تمام:
تَعَظَّمْتَ عَنْ ذاكَ التَّعظُّم مِنْهُمُ ... وأَوْصاكَ نُبْلُ القَدْرِ إلا تَنبَّلا
فنفى أبو تمام عن الممدوح التعظم لعظم قدره عنه ورفعة نبل القدر عنه التنبل والعظيم غير المتعظم والنبيل عند المتنبل وبيت أبي الطيب رديء الصنعة لأنه كان ينبغي أن يقول: يرى التعظم أن يتواضع والضعة أن تعظم فأمّا أن يوقع التعظم المذموم موقع التعظم المحمود والتواضع المحمود مكان الضعة المذمومة فقد أساء الصنعة وترك مراعاة النقد في شعره وأبو تمام أولى بما قال.
وقال المتنبي:
نَصر المطال على الفْعَالِ كأنَّما ... خالَ السؤالِ على النَّوالِ مُحَرَّما
فكأنه يخبر عن الفعال عنده مقصور على المطال بإسراعه إليه ولم يخبرنا بأن فعاله قبل السؤال أو بعده فإذا أعطى قبل السؤال فلا سلطان للمطال على فعاله، ولو قال سبق السؤال إلى الفعال كان أمدح كما قال سلم الخاسر:
يحْيى بنْ خالد الذي ... يُعْطي الجزيلَ ولا يُبالي
أعْطاكَ قَبْل سُؤالهِ ... فكفاكَ مَكْروه السُّؤَالِ
والمطال لا يكون إلا بعد وعد فقد جمع هذا الكلام الإخبار بما أخبر عنه أبا الطيب من كرم الممدوح، وخبر بكرم آخر من أنه لا يحوج السؤال، وقد قال أشجع:
يَسْبقُ الرْعْدَ بالنَّوالِ كما يَسْ ... بقُ بَرْقَ الغيُوثِ صَوْبُ الغَمامِ
وهذا مدح متجاوز رائق وتشبيه واقع وبيت سلم عذب موجز فهما أحق بينهما ممن سرق منهما.
وقال المتنبي:
يا أيُّها الملك المُصَفَّى جَوْهراً ... مِنْ ذَات ذي الملكوت أسْمَى مِنْ سَما
نُورٌ تَظاهرَ فيك لاهُوتيَّةً ... فَتكادُ تَعْلمُ ما لنْ يُعْلَما
هذا مدح متجاوز فيه قلة ورع وترك للتحفظ لأنه جعله من ذات الباري وذكر أنه قد حل فيه نور لاهوتي ثم قال بعد هذا كله فيكاد يعلم فأتى بلفظ المقاربة ولم يطلق عليه علم الغيب وقد رأينا من الشعراء من لم يعط من مدحه هذه الصفات ويطلق على الممدوحين أنهم بالحسن اللطيف يدركون ذلك كقول أبي علي البصير:
وكيف يجوز أن على ... أديب لطيف الحسن تطلع العيوبا
ومثله قول ابن الرومي:
حُماكَ وأقصاك وظرف ونجدة ... ورأي يريه العيب لا رجم راجم
فهذا مذهبهم في المبالغة على أنهم لم يعطوا الممدوحين الدرجة التي أعطاها أبو الطيب هذا الممدوح فكيف قنع له بأن يمنعه ما قد دفعه غيره إن كان تورع فورعه عما قاله فيه أولى به.
وقال المتنبي:
وَيهُمُّ فِيكَ إذا نَطَقْتَ فَصاحةً ... مِنْ كُلِّ عِضْوٍ منْكَ أن يَتكلّما
النور لا يوصف بالفصاحة ولكنها استعارة تشبه قول ماني:
دَعِيني إلى وَصْلها جَهْرةً ... وَلَمْ تَدْر لأنّي لَها أَعْشَقْ
فَقمْتُ وللسَّقمِ منْ مَفْرقَي ... إِلى قَدمي ألسنٌ يَنْطقُ
وقال المتنبي:
حَتَّى يَقُولَ النَّاسُ ماذَا عَاقِلاً ... ويقُولَ بَيْتُ المالِ مَاذا مُسْلِما
ليس من التوفيق أن يسرق السارق ما قد عيب على السابق فيحمل عيب السرق ويسرق معيباً، ألم يعلم أنه فيما عيب على أبي نواس قوله:
جَدتْ بالأموالِ حَتَّى ... قِيلَ ما هذا صَحِيحُ
وقال أبو نواس أيضاً:
جَدَتْ بالأموالِ حَتَّى ... جَعَلوه النَّاس حُمْقا
وذلك أن في ظاهر هذا القول استخفافاً بالممدوح وإخباراً له باستحماق الناس إياه وليس السخاء حمقاً بل التبذير، وذلك وضع الشيء في غير موضعه كالجود في موضع الإمساك والإمساك في موضع الجود فهذا هو الحمق فلا يسامح
الناس أبا نواس وهو مطبوع لا يطيل في شعره تكرير نظره ولا كد فكره فكيف يسامحه من لا يظهر له قصيدة إلا في الزمان الطويل في اللفظ المقصر أو المعنى القليل مبتدئاً فكيف مقتدياً وسابقاً فكيف سارقاً والحسن قول أبي تمام:
عَطاءُ لَوْ اسْطَاعَ الَّذي يَسْتَمِيحُهُ ... لأصْبحَ مِنْ بَيْنَ الورى وهو عَاذِلُهُ
وكان الطالب برفده يعلم أنه يجحف بنفسه فيقول له دون هذا كاف فحسبك وقد قيد أبو نواس بأن قال لو اسطاع فأما إطلاق الحمق على الممدوح فقبيح.
وقال المتنبي:
إِذكارُ مِثْلك تَرْكُ إِذْكاري لَهُ ... إِذْ لا نريد لِما أُريد مُتَرْجِما
هذا من قول أبي تمام:
وإِذا الجود كان عَوْني عَلى المر ... ء تَقَاضَيْتُهُ بِتَركِ التَّقَاضِي
شرح أبو تمام العلة في ترك تقاضيه بما يدل على كرم الممدوح ولم يشرح أبو الطيب علة لذلك فأبو تمام أرجح كلاماً وفيه ضرب من الترديد ليس لغيره.
يليها أبيات أولها:
إِلى كم وحتى أنْتَ في زي مُحْرِم؟ ... وحَتَّى مَتى في شِقْوةٍ وإِلى كم؟
قوله في زي محرم إشارة إلى عدم الثياب وهو من قول أبي تمام:
مُتَساقطي وَرقِ الثِّياب كأنَّهُمْ ... دَانُوا وأحدثَ فِيهم الإِحرَامُ
وقال أبو تمام:
وَلَقدْ أراكَ مِنْ الكَواعبِ كَاسِياً ... فالآن أنْتَ من الكَواعبِ مُحْرِمُ
وهذا مما احتذى عليه وإن فارق ما قصد به إليه وفيه تطبيق، وكلام أبي الطيب إشارة، وفي كلام أبي تمام شرح، فاختصار أبي الطيب بازاء شرحه فهو أولى بما قال من أبي الطيب.
وقال المتنبي:
وإلا تَمتْ تَحْتَ السُّيُوف مُكرَّما ... تُمت وتقاسِي الذلَّ غَيْر مكْرمِ
يشبه قول الأول:
من عاد بالسيف لاقى فرصة عجبا ... موتاً على عجل أوْ عاش مُنْتصِفَا
وأنشد ابن قتيبة:
والحرب أولى إذا ما خفت ثائره ... من المقام على ذل وإصغار
وهذا من باب مساواة الآخذ المأخوذ منه في الكلام وأخذ لفظ البيت الثالث وهو:
فَثِبْ واثقاً بالله وثْبةَ ماجدٍ ... يَرى الموْتَ في الهيجا جَنْي النّحل في الفَم
من قول صالح:
صَبرتُ ومنْ يصبر يجد غِبَّ صَبره ... ألذَّ وأحْلى من جَنى النَّحلِ في الفمِ
وهذا من قسم المساواة.
يليها قصيدة أولها:
أحْيا وأيسَر ما لاقيتْ ما قَتَلا ... والبينُ جارَ على حكمي وما عَدلا
قال فيها:
لولا مُفارقةُ الأحبابِ ما وَجدتْ ... لَها المَنايا إلى أروَاحِنا سُبلا
هذا من قول أبي تمام:
لَوْ حارَ مُرْتادُ المَّنيّةِ لِمْ يَجِدْ ... إِلاّ الفَراق على النَّفُوسِ دَلِيلاً
بيت أبي تمام أحسن صنعة وقوله: حار ولم يرد دليلاً غير الفراق كلام مليح، ومثله للحماني:
وَلقدْ نظَرت إلى الفراقِ فلمْ أَجِدْ ... لِلموتِ لَوْ فَقد الفِراقُ سَبِيلا
وهذه الأبيات تدخل في مساواة الآخذ المأخوذ منه في الكلام. ويليه قول المتنبي:
بِما بجَفْنيك مِن سحرٍ صلى دَنِفاً ... يَهْوى الحياةَ، وأمَّا إِنْ صَدَدت فلا
قال إسحاق بن إبراهيم:
تَهْوى الحياة إذا ما كنتَ راعينا ... وإنْ بَقينا ليومٍ غَير ذَاكَ فَلا
وهذا يدخل في باب ما أحتذي عليه وإن فارق ما قصد به إليه.
وقال المتنبي:
إِلاَّ يَشِب فَلَقَدْ شَابَتْ لهُ كَبدٌ ... شيباً إِذا خَضَّبتْهُ سَلْوةٌ نَصَلا
زعم أبو العباس المصيصي أنه سرق هذا من أبي تمام في قوله:
شَابَ رأْسي وَما رأيتُ مَشيب الرَّأ ... سِ إِلا من فَضْلِ شَيْبِ الفُؤَادِ
هذا يذكر قد شاب رأسه من شيب بهمومه، والمتنبي يذكر أنه) أن (لم يشب فلقد شابت كبده من الهموم وشيب الرأس معنى ويمكن أن يكون غريزة أو لسن وشيب الكبد استعارة وزاد أبو الطيب في الكلام من ذكر خضاب السلوة ونصول، شيب فؤاده. وهذا يدخل في مماثلة السارق المسروق منه في كلامه، بزيادته في المعنى ما هو من تمامه ولولا أنّ أبا العباس النامي ذكر أنّ هذا مأخوذ من هذا لكان بعيداً منه.
وقال المتنبي:
علّ الأمير يرى ذُلي فَيشفع لِي ... إِلى التي تَركتني في الهَوى مَثَلا
هذا من أقبح معنى لأنه يريد من الأمير أن يكون قواده عليه معها فإن عارضنا معارض، فقال ما أخذ هذا إلاّ من أبي نواس في قوله:
سَأشكو إلى الفَضلِ بن يحيى بن خالد ... هَواك لعِلّ الفضْلَ يَجْمعُ بَيننا
وقال الجمع بينهما قيادة، قيل له التأويل في الجمع أسوغ منه في الشفاعة لأن الجمع بينهما يكون بصلاته التي تعنيه وترغبها فيه فيصل إليها نكاحاً لا سفاحاً والدليل على صحة هذا المقصد منه قوله:
فيا فَضْلُ دارِكْ صَبْوتي بغُبارِها ... فلا خير في حُبِّ المُحبّ إِذا دَنا
والشفاعة تضيق عليه وجه الخروج من قبح المقصد، وأبو نواس أصح معنى وإن اتفقا باستغاثهما بمن مدحاه على هواهما ومن انساغ له التأويل أرجح كلاماً ممن ضاق عليه وجه الخروج مما عيب عليه وقد كان لأم جعفر جارية اسمها)
نعم (عشقها عبد الغفار بن عمر الأنصاري فقال:
أميرُ المؤمنين إِليْك أشكو هوى ... في القلبِ يَشعر بالصُدود
أميرُ المؤمنين فجد بها بي جزاك ... الله جنات الخلود
وكتب بها إلى الرشيد، فقال الرشيد ما أصبت معيناً لك على جهلك غيري فحبسه دهراً ثم كلم فيه فأطلقه فإذا سئل الرشيد أن يجود بجارية يمكنه أخذها ممن هي له تبد) ... (فسمى الاستغاثة في ذلك جهلاً وأمتعض من ذلك فما ظنك بمن يسأل الشفاعة.
وقال المتنبي:
أيقنت أنّ سعيداً طالبٌ بِدَمي ... لَمَّا بصُرتُ به بالرُّمْحِ مُعْتِقلا
قال أبو محمد: بيناه يرجو شفاعته إذا أيقن أنه طالب بدمه وأظنه سأل الشفاعة استضعافاً له عن الطلب فلما صار بالرمح معتقلاً أنف من الشفاعة واعتصم بعز الشجاعة. فطلبه بدمه من محبوبته مذهب مذموم عند العشاق وليس ينبغي أن يتجشم حمل اسم السرقة فيما عيب على السابق إليه فممن عبّر به العباس بن الأحنف في قوله:
فإِنْ تَقتلوني لا تَفوتوا بِمهْجتي ... مَصالِيت قَوْمي مِن) حنيفة (أو عَجْل
فتبعه ابن المعتز فقال:
تَحسِبُ قَومي يُضيِّعون دَمِي ... ما ضاعَ قَبلِي لهاشمٍ ثَارُ
وهذه المعاني تصلح لتهدد الأعداء ويبعد عن الرقة إلى الجفاء فأما المحبوبون فيقال لهم كما قال القائل:
لَوْ جُزّ بالسيف رأسي في مَودَّتِكمْ ... لمرّ يهوي سريعاً نَحْوكم رأسي
وكما قال الآخر:
والله والله لَوْ تقطع يَدي ... أمرتني طائعاً قَطَعْت يدي
فيك من الناسِ كُلهم عَوض ... حتّى من الوالدينِ والولدِ
وفي نحوها للرشيد:
أما يُكفيك أنْ تَملكيني ... وأنَّ الناس كُلهم عَبيدِي
وأنَّك لَوْ قطعت يَدي وَرِجْلي ... لقلت مِن الهوى أحْسَنت زيدي
فهذا ما أشبه عادة العشاق المتيمين مع الأحباب المعشوقين فأما طلب الدماء والثارات فيصلح في الحروب والغارات وما أدري لم أيقن بطلب دمه لاعتقاله بالرمح فلو كان شاهراً سيفه لم يوقن بذلك منه وقد ساوى هؤلاء القائلين الجفاء في شعره فهو سارق منهم ورجح كلام أضدادهم وصاروا أولى بما قالوه.
وقال المتنبي:
وأنّني غَيرُ محصٍ فَضْلَ والدِهِ ... وَنائل دون نَيْلي وَصْفَه زُحَلا
إن كسر) إنّ (وجعلها مبتدأة كان أشعر وأحسن وإن فتحها وعطفها على ما قبلها من قوله: أيقَنْتُ أنَّ سعيداً طالِبٌ بدمي لأن المعنى يصير أنّه:) لمَّا رآه بالرمح معتقلاً (أيقن أنه) غير محصٍ فضل والده (.
وليس اعتقال الرمح دلالة على فضل الآباء ولا على أن نيل زحل دون نيل وصفه وما أراه إلا بالكسر، فأما معنى البيت فقوله: ونائل دون نيلي وصفه زحلا مثل قول ابن الرومي:
أرى من تعاطي ما بلغتمْ كرائم ... وهناك الثريا وهَو أكمه مقعد
ففي بيت ابن الرومي زيادة يستحق بها ما قال على من أخذ منه لأن مثال النجم على أكمه مقعد أصعب منه على صحيح الجوارح، فقد رجح عليه وهذا يدخل في قسم رجحان كلام المأخوذ منه على كلام الآخذ عنه.
وقال المتنبي:
قَيلُ بِمنبج مَثْواهُ ونائله ... في الأُفْقِ يَسألُ عمَّن غَيرهُ سألا
وقال ابن الرومي:
لهُ نائلٌ ما زالَ طالب طالب ... ومَرتاد مرتاد، وخاطب خاطب
فهذا تقسيم مليح أخذه ابن الرومي من أبي تمام فقال:
فأضحَت عَطاياهُ نَوازعَ شُدّدا ... تسائِلُ في الآفاقِ عَنْ كل سَائلِ
وهذا بيت لا يفضل لفظه على معناه، وصاحبه السابق أرجح على كلام من أخذ عنه فهو أحق بمعناه.
وقال المتنبي:
تُرابهُ في كِلابٍ كُحْلٌ أعْينُها ... وَسَيفُهُ في جنابٍ يَسْبقُ العَذلا
ولو قال:
إحسانه في كلاب غيث مجديها ... وسَيفُهُ في جناب يَسبقُ العَذَلا
لصح التقسيم إذ ليس التراب ضد السيف، وقد أستعمل هذا ابن الحاجب فقال:
حَاولت بالعذلِ أنْ ترشدني ... قلتُ مهلاً سَبق السيفِ العذلِ
وقال المتنبي:
وضَاقتِ الأرض حتّى كان هارِبُهم ... إِذا رأى غضير شَيء ظَنَّهُ رَجُلا
هذه مبالغة مستحيلة لأن غير شيء لا يقع عليه رؤية وزعم بعض النحويين أن له مخرجاً من كلام العرب وذلك قولها: ليس فلان بشيء لا تريد أن تخرجه من الوجود وإنما هو استصغار واستقلال.
قال أبو محمد: وليس الأمر عندي كما ذهب إليه، لأن القائل) ليس فلان بشيء (وقد دلّ على مراده بأن أثبت له حقيقة ثم نفاه نفي استصغار فقد فهم مقصده ومن شأن العرب فيما فهم معناه عنها الحذف فإذا أشكل لم يحذف وفي الكلام محذوف بالضرورة لأنها لا تثبت وتنفي في زمان واحد وإنما يريد ليس فلان بشيء طائل أو كبير فأما قوله: إذا رأى غير شيء ظنّه رجلا فلا يسوغ فيه هذا التأويل من الحذف وأما الهارب فالذي يحسن فيه قول جرير:
ما زالَ يحسبُ كُلَّ شيءٍ بَعْدهمْ ... خيلاً تكُّرُ عليهم وَرجالا
وقد أبان مقصده بقوله:) تكر عليهم ورجالا (، وأبو الطيب يذكر أنهم إذا رأى هاربهم غير شيء ظنه رجلاً والرؤية لا تقع إلاّ على مرئي، فإن قال قائل هذا على مذهب من استحسن المبالغة المستحيلة أبلغ قلنا له ما ادعاه جرير يصلح للجنون، لأن الفزع يبلغ بصاحبه إلى أن يرى شخصاً غير رجل فيظنه رجلاً لأن الجنون يرى أشياء لا حقيقة لها لا يرى ذلك غيره من صح عقله، فأما قول القائل:
كأنَّ بلاد الله وهي عَريضة ... على الخائفِ المطلوب كفةُ حابلِ
يؤدي إليه أن كثنيل ثنيّة ... تيممّها ترمي إليه بقاتل
فهذا مساغ كأنه يظن أن كل ثنية يقصدها قاتلاً قد كمن له فيها الرغبة، وقد قال الله تعالى:) يحسبون كل صيحة عليهم (.
فخبر أنهم يظنون) أن (كل صوت صائح هم المقصودون،) لأنه ولم يقل لا يسمعون شيئاً فيظنون عدم الصياح صياحاً من أجلهم أو علمهم من سبق إلى المعنى فجاء فيه بسائغ ممكن وأتى من أخذه منه بغير ممكن فقد رجح كلام المأخوذ منه وصار أولى بما قال.
وقال المتنبي:
فبعدهُ وإلى ذا اليوم لَو ركضَتْ ... بالخَيْلِ في لهواتِ الطِّفلِ ما سَعلا
السعال قد يكون بالطفل فتخصيصه الطفل بالسعال لا معنى) له (وما قال البحتري أجود:
فَزّعوا باسْمك الصَّبيّ فعادَتْ ... حَركات البكاءِ مِنْهُ سُكونا
البحتري ذكر ممكناً من المبالغة يقع مثله مشاهدة أن يبكي الصبيّ فإذا فزع في مكانه بمفزع سكن، فأما أن تركض الخيل في لهوات بشر، فهذا ما لا يجوز، وأظنه سمع قول البحتري فبالغ وأتى بمجال، وقوله يشبه قول القائل:
لَوْ أَنَّه حَرَّك الجرْدَ العتاق على ... أجْفانِ ذي حُلمٍ لَمْ ينتبه فَرقَا
فالطفل وذو الحلم في السكون والانتباه أقرب إلى الصحة من ركض الخيل في اللهوات، فهما أرجح وأحق بما قالا ممن أخذ منهما.
وقال المتنبي:
عَقدتُ بالنَّجمِ طَرْفي في مفاوِزها ... وَحُرَّ وَجْهي بحرَّ الشَّمس إِذْ أفَلا
هذا مأخوذ من قول الحماني:
يَهماء لا يتخطاها الدليل بها ... إِلاَّ وناظره بالنَجْم مَعْقودُ
فذكر أبو الطيب حاله بالليل والنهار في هذه المفازة، فقد زاد في المعنى ما هو من تمامه.
وقال المتنبي:
أنكَحْتُ صُمّ حَصَاها خَفّ يَعْملةٍ ... تَغَشْمرتْ بي إِليكَ السَّهْل والجَبَلا
قال بعض النحويين: أنكحت، وطئت الحصى كما توطأ المرأة والمعنى
(1/250)
جمعت بينهما. قال أبو محمد: والذي عندي أنه أراد أن هذه الفلاة لم تكن توطأ قط فأنكحتها خفاف هذه الناقة لأنها أول خف وطئها، ومن ذلك قوله في أخرى:
أنْساعُها ممغوطةٌ وخَفافِهُا ... مَنكُوحَةٌ، وطَريقُها عَذْراءُ
أراد أن خفافها قد وطئت غير هذه الطريق، وطريقها عذراء لم توطأ قط وهذا يقرب من قول ابن الحمامي:
يهماء ولا يجتابها السفر ... حاضرها الظلمان والغفر
أنْكحتُها ذَا غرة مَالها ... مِنه سوى غرّته مهر
وفي هذا ضرب من الإشارة إلى المراد باستعارة.
وقال المتنبي:
لَوْ كُنتَ حَشْوَ قَميصي فوق نُمرقُها ... سَمِعْتَ للجنِّ في غيطانها زَجَلا
هذا كلام مقصر فكأنه لو كان رفيقه حشو قميص نفسه ولم يكن فوق نمرقها بل كان ماشياً أو فوق نمرق ناقة أخرى لن يسمع زجل الجن، وهذا معنى مستعمل قال الأعشى: للجِنْ بالَّلْيل في حافاتِها زَجَلٌ
وقال أبو العتاهية:
نسمع للجن في جَوانبهِ ... ما شِئت منْ صَمتٍ وأصْوات
وقال المتنبي:
حتى وَصَلْتُ بنفسٍ ماتَ أكْثُرها ... وَلَيتني عِشتُ مِنها بالَّذي فَضَلا
يشبه قول أبي العتاهية:
لمْ تُبق منّي إِلا القليل ولا ... أحسبه تَتركُ الَّذي بقيا
وكلام أبي الطيب أجزل وأرجح من كلام أبي العتاهية.
وقال المتنبي:
أرْجو نَداك ولا أخْشَى المطالَ بِهِ ... يا مَنْ إذا وَهَب الدنيا فَقَدْ نَجلا
والدنيا لا يقدر البشر أن يملكوا أكثر منها، والبخل إنما يكون ممن في يده شيء لم يسمح به ولا أرى لأحد ملكاً على الآخرة فبأي شيء تحل. وهذه مبالغة مستحيلة أصح منها قول أبي العتاهية:
ولوْ كانت لَهُ الدنيا ... لأعطاها وما بَالي
وهذا من نقل الجزل إلى الرذل على ما فيه من الإحالة وأجزل من قول أبي العتاهية قول ابن الحاجب:
والله لَوْ ملكَ الدنيا لما امتنعت ... كَفاه أنْ يهبَ الدنيا بما فِيها
وقال أيضاً:
لَوْ أنه وهب البلاد بأسرها ... ما عده كرماً إذا لَمْ يزدد
ويتلوها قصيدة أولها:
كَمْ قَتيلٍ، كما قُتلْتُ شَهيدٍ ... لبياض الطُّلى وَوَرْدِ الخُدُودِ
هذا بيت لا يطلب منه استخراج سرقة لأن معناه متداول وأول من جعل قتلى الحب شهيداً من الشعراء فيما علمت جميل بن معمر:
لكلِّ حديثٍ بَينهن بشاشةٌ ... وكلُّ قتيلٍ بينهن شَهيدُ
وقال ابن الحاجب:
من شهيد الهوى فإِن لِمنْ ... ماتَ من الحبِ ضعف أجر الشهيد
ومع أخذ أبي الطيب هذا اللفظ المستعمل والمعنى المستبذل فإنه ما وضع الأقسام مواضعها ولا أوقع الألفاظ مواقعها لأنه كان ينبغي أن يقول: لبياض الطُّلى وَحمر الخُدودِ أو لأُقحوان الثغور فيطابق بين البياض والحمرة أو يجمع بين نوعين من جنس واحد أو صنفين أو زهرين.
وقال المتنبي:
دَرّ دَرُّ الصبا أأيَّامَ تجري ... ر ذُيُولي بدار الأثْلةَ عُودِي
فهذا بيت لا يجب استخراج سرقته لفراغه ولكن لمْ يحقره أبو الطيب فيجب أن لا يحقر آمره إقتداء به، وهو من قول ابن المعتز:
يا لياليَّ بالمطيرةِ والكَرْ ... خِ فدير العاقول بالله عُودِي
كُنْت عِنْدي أنموذجات من ... الجَنّةِ لكنَّها بغيرِ خُلودِ
وقال المتنبي:
عمْركَ الله هَلْ رأيتَ بُدُوراً ... قَبْلها في بَراقعٍ وَعُقُود
البدور، إنما تتبين سافرة فإذا تبرقعت ذهب معناها من الحسن والنور وقد أخذ هذا من قول القائل:
عَهدت بها وحشاً عليها براقعٌ ... وهذي وحوش لا تَبرقع
الوحوش هاهنا ظباء وبقر والمستحسن من الجنسين هو الأجياد والعيون وطول العنق لا يخفيه البرقع والعين من البرقع مريبة فالوحوش أمكن في التشبيه من البدور.
وقال المتنبي:
رَامياتٍ بأسْهمٍ ريشُها الهُدْ ... بُ تَشقّ القُلوب قَبلَ الجُلُودِ
مسروق من قول أبي الشيص:
يَرْمين ألباب الرِّجالِ بأسْهُمٍ ... قد راشَهُنَّ الكُحْلُ والتَّذيبُ
وأما قوله: تشق القُلوب قَبْل الجُلودِ.
فمن قول ابن الرومي:
يذكرني الشبابَ سهامُ حَتْفٍ ... يَصبن مَقاتلي دُوني الأَهابِ
والبيتان جميعاً ينوب عنهما بيت أبي الطيب فهو باختصار الطويل في الموجز القليل أولى بما قال.
وقال المتنبي:
يَتَرشَّفنَ مِنْ فمي رَشفاتٍ ... هُنَّ فِيهِ أحْلَى مِن التَّوحْيدِ
هذه ألفاظ فيها قلة ورع وامتهان للدين لا أحب له استعمالها وأحسن من هذا وأبعد من الإثم قول ابن المعتز:
يَقول العاذلون يَسأل عَنها ... وأطف غليل قَلبكَ بالسُّلوّ
وكيفَ وقُبْلةٌ منها اختلاساً ... ألذُّ مِنْ الشماتةِ بالعدوّ
وقال المتنبي:
كُلَّ خُمصانةٍ أرَّق من الخم ... ر بقلبٍ أقسى من الجَلمودِ
هذا مثل قول الأول:
وكيف لي قينان لَحظ ولَقْط ... وعظات لو كانَ ينفعُ وَعَظ
لكَ جِسمُ أرقُ مِنْ رقة الماءِ ... وقلبٌ كأنّهُ الصخر فَظْ
أنْتَ حَظي فما لوْ كانَ ... لِمنْ أنتَ حظه مِنْك حَظْ
وقال إبراهيم النظام:
لكَ جسمٌ أرقُ من قطرِ ماءٍ ... وفؤادٌ مِنْ صخرةٍ صَمّاء
فهذا يدخل في باب مساواة الآخذ المأخوذ منه في الكلام.
وقال المتنبي:
ذاتَ فرعٍ كأنّما ضربُ العنب ... ر فيه بِماء ورْدٍ وَعُودِ
والعود لا ذكاء له ولا رائحة إلاّ أن يسحق أو يحرق فإن كان ضرب مع ماء الورد فينبغي أن يتبعه بمسحوق حتى يصح معناه وقوله) كأنما (على التشبيه، وقول ابن المعتز:
يقْطرُ مِسكاً على غلائِله ... شعرُ قفا كالعَبير قَدْ وكفَا
فجعل يقطر مسكاً ولم يقل كأنما يقطر فإن أحتج محتج بأنه ذهب إلى قول امرئ القيس:
ألمْ تَر أنّي كلّما جئتُ طارقاً ... وجدتُ بها طِيباً وإنْ لم تَطّيبِ
قيل له إنما يصح هذا التأويل لو لم يكن بعد:
تَحملُ المسكِ عن غدائرهِ الري ... حُ وتفترُّ عنْ شتيتٍ بُرودِ
فإذا كانت غدائره تحمل المسك فما حاجتنا إلى) كأنما (وبينا يخبرنا عن حمل الغدائر المسك إذ أخبرنا عن افترارها عن شتيت برود وليس بينها وبين الثغر تناسب فيجتمع بين الوصفين.
وقال المتنبي:
كُلُّ شيء من الدماءِ حَرام ... شُربُه ما خلا دم العُنْقُودِ
تحريم هذا الدم بمنزلة قوله:
يَترشفْنَ منْ فَمي رَشَفاتٍ ... هُنَّ فِيه أحْلَى من التَّوْحيدِ
كله يدخل في قلة الورع واستعارة الدم للعنقود قد سبقه إليه مسلم في قوله:
خَلطنا دماً من كرمةٍ بدمائنا ... فأظهر في الألوان مِنَّا الدّم الدّمُ
إذا شئتما أن تسقياني مُدَامةً ... فلا تقتلاها كلَّ ميتِ محرّمُ
فملح في الجمع بين دم الاستعارة ودم الحقيقة واستعار في البيت الثاني للمزاج لفظاً مليحاً في القتل وجاء بتحليل أحسن من تحليل المتنبي فصار أولى بما سبق إليه لرجحانه. وأول من سمى المزاج قتلاً للراح حسان بن ثابت فقال:
إِنَّ التي ناولتني فَرَددْتُها ... قُتلتْ قُتلتَ فَهاتها لمْ تُقتل
وقال المتنبي:
شَيْبُ رأسي وَذِلَّتي ونُحولي ... ودُمُوعي على هَواكَ شُهُودِي
هذا متداول وهو من قول ابن طاهر:
أليسَ وَحْدي وفرطُ شَوق ... ي وطُول سَقْمي شُهود حُبي
وقال أحمد بن أبي عمال الكاتب:
مِنْ نُحولي عَلى مقالي شَهيد ... وعويلي وزَفُرتي ونحيبي
هذه الأبيات متقاربات المباني والمعاني وهي من مساواة الآخذ المأخوذ منه في الكلام ولم نوردها لأنها غريبة ولكنه أخذها فاحتجنا إلى إيرادها وقال المتنبي:
ما مقامي بأرض نَخلة إِلاّ ... كمُقامِ المَسيح بينَ اليَهُودِ
يشبه قول القائل:
أخلا النبيذ بَرئت مِنْكم ك ... ما بَرئ المَسيح من اليَهُودِ
وقال المتنبي:
مَفْرشي صَهْوةُ الحِصان ولك ... نَّ قَميصي مَسْردوةٌ مِنْ حَديدِ
ما أعرف فائدة في هذا البيت ولا فرق بين قوله) مفرشي صهوة الحصان وقميصي مسرودة (فيخبر عما يفترش ويلبس ويكون أحسن وقد قال الحماني:
طيئ الغِبار وَجْنتي مَوصونة ... وَخشيتي ظهر الأقبِ الأشقر
وأول من سبق إلى هذا المعنى عنترة فقال:
وَحشيتي سَرجُ على عَبْل الشَّوى ... نَهْدٍ مراكله نبيل المحْزِمِ
وهذا يدخل في قسم مساواة الآخذ المأخوذ منه في الكلام.
وقال المتنبي:
ضاقَ صَدْري وطالَ في طَلب الرَّز ... ق قيامي وقَلَّ عَنْهُ قُعُودي
يشبه قول الحصني:
أسمو إلى الأملِ الأقْصى فيلقبني ... جَدٌّ عثور دَهر مهتر حرف
لا الحظُ يُسعدني فِيما أحاولُه ... مِنْ العِلو ولا لي عَنْهُ مُنصرفُ
ولم يبلغ الحصني مراده إلا في بيتين وجاء به المتنبي في بيت فجمع الطويل في الموجز القليل فهو أحق بما قال.
وقال المتنبي:
أبداً أقطع البلاد ونجمي ... في نحوس وهمتي في سعود
هذا مأخوذ من أبي تمام:
ما إِنْ يزالُ بِجدّ حَزمٍ مُقْبلٍ ... مُتَوطِّئاً أعقابَ رِزْق مُدْبِرِ
أخذه من البحتري فقال:
متحيز ببعد وبعزم قائم في ... كل نائبة وجد قاعد
طابق أبو تمام وتبعه البحتري، ولو قال البحتري: بجد قائم في كل نائبة وجد قاعد كانت مطابقة أحسن من مطابقة أبي تمام وألفاظهم متناسبة ومعانيهم متقاربة تدخل في باب مساواة الآخذ المأخوذ منه في الكلام. وقال المتنبي:
لِسرِّي لباسَهُ خشن القُط ... نِ ومرويّ مَروَ لبسُ القُرُودِ
هذا لفظ هجين ومعناه موجود في قول ابن الرومي:
كمْ مِنْ لئيمٍ غدا في ثوب سيده ... تبلى على جِسْمه السمور والفيلُ
فهذا أجزل من قول أبي الطيب فهو لقائله.
وقال المتنبي:
عِشْ عَزيزاً أو مُتْ وأنْتَ كَريم ... بين قَرْعِ القَنا وخَفْقِ البُنُودِ
هذا يشبه قول القائل:
لعزُّ يومٍ ويأتي الموتُ في غَدِ ... هـ خَيرٌ من العيشِ في ذلٍ وإتعاسِ
قال ابن المعتز:
فَعِشْ مَلكاً أو مت عزيزاً فإِ ... نْ تمت وسيفك مَشهور بِكفك تعذرُ
وقال القرطي:
فإِنْ قرب الكتابِ فَكنْ كَريماً ... وكنْ ملكاً أخا ملك مفيد
أرى أنّ المنيةَ بالمعالي ... أحبُّ إليَّ مِنْ ذُل العقود
ومثله للديك:
حتّى أصادفُ مالاً أو يقال فتىً ... لاقى الردى بين أسيافٍ وأرماحِ
فهذه معان متقاربات تدخل في باب المساواة بين الآخذ والمأخوذ منه في كلامه.
وقال المتنبي:
فَرؤوسُ الرماحِ أذْهَبُ للغي ... ظِ وأشفى لغل صَدْرِ الحَقُودِ
فقوله) أذهب للغيظ (لحن لأنه يقال ذهب به فأذهبه فكان يجب أن يقول أشد إذهاباً للغيظ أو يقول) ذهب بالغيظ (ليسلم من الخطل ولكنه لم يفرق بين الأمرين لضعفه في العربية ومما أدلك على صحة ذلك ما حدثنا به شيخنا أبو الحسن المهلبي رحمه الله قال: حضرته في مجلس لبعض الرؤساء وجرت مسألة في المذكر والمؤنث. فقلت: قد يؤنث المذكر إذا نسبت لمؤنث، فقال: من قال هذا. فقلت: قال سيبويه ويستشهد بقول القائل:
مَشَيْنَ كما اهتَّزتْ رماح تَسفهت ... أعاليها مَرُّ الرياح النَّواسمِ
ومثل ذلك:
وَتشرقُ بالقولِ الذي قَدْ ادَعْتهُ ... كما شَرِقَتْ صدر القَناةِ من الدَّمِ
فقال: لا أعرف هذا ولعله مذهب البصريين ولا أعمل على قولهم، قال: فقلت له هذا في كتاب ابن السكيت في المذكر والمؤنث فقال: ليس ذلك فيه فأخرجته من خزانة الرئيس الذي كنا عنده، فلما قرأه قال: ليس هذا بخط جيد أنا أكتب خيراً، فقلت: ما جلسنا للتخاير بالخطوط فانقطع في يدي، وقلت له يوماً: كيف تصغّر مختاراً فقال: مختار لا تصغر وقلت: لهن مختاراً وأم حنين لك العافية،
وهذا يشهد لك بما قلناه، ويقرب بيته بيت البحتري:
وَلمْ تَر التّراتِ بَعْدنَ عهداً ... كَسلِّ المشرَفَيَّةِ من قَريبِ
وقال المتنبي:
لا كما قَدْ حييتَ غَيْر حَمِيدٍ ... وإِذا مُتَّ مُتَّ غَير فَقيدِ
يشبه قول الديك:
فإِنْ ماتَ لمْ يحزن صديقاً مماته ... وإنْ عاشَ لمْ يضرر عدواً بقاؤه
وهذا يدخل في باب المساواة.
وقال المتنبي:
يقْتلُ العاجِزُ الجَبان وقَدْ يَع ... جزُ عنْ قطع بخنقِ الموْلود
وَيُوقّى الفَتى المِخشُ وقد خَ ... وَّضَ في ماءِ لِبَّةِ الصَنْدِيد
ومما أنشده في هذا المعنى معاوية بن أبي سفيان:
كأنَّ الجبان يَرى أنّهُ ... يدافعُ عَنْه الفَرار الأجلُ
فَقدْ تدرك الحادثات الجبان ... ويسلمُ مِنْها الشُجاع البطلُ
وقال ابن أبي عيينة:
لَيسَ الجَسور على الأُمور بِهالكٍ ... دُون الجَبان ولا الجبان بخارجِ
وكل هذا من نقل اللفظ القصير إلى الطويل الكثير والشاعران أحق بما قالا، للاختصار.
وقال المتنبي:
لا بِقَوْمي شَرفتُ بَلْ شَرفوا بي ... وبنفسي فخَرت لا بجدودي
هذا من قول القائل:
قَدْ قالَ قَوم أعطه لقديمه ... جَهلوا، ولكن أعطني لتقدمي
فأنا ابن نفسي لا ابن عرضي أجْتديَ ... بالسَّيفِ لا برفات تلك الأعظم
ذهب هذا إلى قول القائل:
إِذا ما الحي عاشَ بعظم ميتٍ ... فَذاك العَظم حيّ وهو ميت
يقرب منه قول الأول:
فَما سودت عجلاً مآثر عيرهم ... ولكن بِهم سادتْ عَلى عيرها عجل
وقال ابن المعتز:
وَتردّيتُ بالمكارم حَوْلي ... وكفتني نَفْسي من الافتخارِ
وقال البحتري:
حَسِبَ الفتى أنْ يكونَ ذَا حس ... ب مِنْ نفسه ليس حسبه حَسبهُ
وفي هذا مجانسة وهذه الأبيات متقاربة وهي من باب مساواة الآخذ المأخوذ عنه في الكلام.
وقال المتنبي:
وَبهمْ فَخْرُ كُلّ من نطق الضَّا ... د وعَوذُ الجاني وغوثُ الطَّريدِ
أراد أن العرب لا ينطق غيرها بالضّاد وقد روى ابن دريد أن بعض العجم ينطق بالضّاد.
قال أبو محمد: ولو جاء بحرف يشترك فيه العرب وغيرها كان أعم للمدح.
وقال المتنبي:
إِنْ أكنْ مُعجباً فَعُجْبُ عَجيبٍ ... لمْ يَجدْ فَوْقَ نَفْسِهِ منْ مَزيدِ
ولولا عادة الشعراء تمدح أنفسهم لكان هذا الكلام من نهاية الجهل وضعف العقل، وقد قرأت أبياتاً ترجمتها لبعض المحمقين هي تشبه هذا البيت وهي:
أتيهُ على جِنّ البلاد وإِنْسها ... فلو لم أجد خَلقاً لتْهتُ على نفسي
أتيه فَما أدري مِن التيّه منْ أنا ... سوى ما يقولُ الناس فيّ وفي جنسي
فإِنْ يزعموا أني من الإِنسِ مثْلهمْ ... فما لي عيب غير أني من الإِنسِ
وقال المتنبي:
أنا تِربُ النّدى وَربُّ القوافي ... وسَمامُ العدى وغيظُ الحَسُودِ
وهذا مدح يكثر مثله ولا يغرب وهو من قول ابن مناذر:
كان عبد الحميد ضَيم الأعادي ... ملء عين الصديق رَغم الحَسُودِ
وأقسام ابن مناذر) في ضيم الأعادي وملء عين الصديق رغم الحسود (أحسن صنعة من ذكر الندى مع القوافي، وذكر العدو مع الحسود فابن مناذر أحق ببيته.
وقال المتنبي:
أنا في أمّةٍ تداركها الل ... هـ غريبُ كصالح في ثَمُودِ
أخذه من أبي تمام في قوله:
كان الخليفة يوم ذلك) صالحاً ( ... فيهم. وكان المشركون) ثمودا (
هذا يدخل في باب المساواة.
يتلوها أبيات أولها:
قَدْ شَغل النَّاسَ كثرةُ الأملِ ... وأنْتَ بالمُكرماتِ في شُغُلِ
هذا بيت مسلم:
تَشاغلَ الناس بالدنيا وزُخرفها ... وأنْتَ من بذلك المعروف في شُغلِ
والكلام يساوي الكلام ولا يزيد عليه وصاحبه أحق به.
وقال المتنبي:
تَمثَّلوا حاتماً ولوْ عَقَلُوا ... لكنتَ في الجودِ غَاية المَثلِ
اقتصر في التشبيه على حاتم في معنى واحد من المد وأبو تمام أشعر منه في قوله:
إِقدامَ عمرو في سماحة حاتمٍ ... في حِلم أحْنفَ في ذَكاء إِياسِ
فأتى في ذلك بأربع صفات ذكر أن الممدوح يساوي فيها من فوقه ثم لم يرض بذلك حتى استدرك ذلك بأن قال:
لا تُنكروا ضَرْبي لَهُ مِن دُونِهِ ... مثلاً شروداً في الندى والباس
فاللهُ قَدْ ضَرب الأقلَّ لِنُورِهِ ... مثلاً من المشْكاةِ والنِّبراس
فهذا كلام فائق ومعنى رائق يقع كلام أبي الطيب معه بعيداً ورجحانه لا خفاء به. وقد قال البحتري:
لا تَقيسنّ) حاتم (الجُود في الجو ... د إِليه) فحاتِمٌ (فيه عَيْدُهْ
وهذا يقرب من معنى أبي الطيب لأنه إذا كان عبده غاية المثل في الجود صلح أن يكون في الجود عبده بالقياس، فأما قول ابن الرومي:
أعطى الذي لَوْ سِيمَ حا ... تمُ أخْذهُ يوماً لَهَابَه
فجعل حاتماً يهاب أن يأخذ ما يعطيه من مدحه وقول أبي تمام يدل في رجحان الكلام المأخوذ عنه على كلام الآخذ منه وكذلك كلام ابن الرومي فهما أحق بما سبقا إليه.
وقال المتنبي:
هديَّةُ ما رأيتُ مُهْديها ... إلاّ رأيْتُ العِباد في رَجُل
سرق هذا من أبي نواس في قوله:
وليسَ للهِ بِمُسنكرٍ ... أنْ يَجمعَ العالمَ في وَاحِدِ
ولم يزد على أنّ نقل معناه في مقدار لفظه في الاختصار ولا زيادة عليه فأبو نواس أحق بما قال.
وقال المتنبي:
كَيفَ أكافي على أَجَلِّ يدٍ ... من لا يَرى أنَّها يدٌ قِبلي
لم يهمز أكافي على غير قياس وما أكثر ما يسقط الهمز من أبواب النحو وأنت ترى ذلك كثيراً في شعره. ومعنى أبي الطيب أن الممدوح لا يرى يداً تشد بها يداً وأبيات حسان في آل جفنة في قوله:
إِنَّ ابن جَفْنَة من بقية معشرٍ ... لم يغذهم آباؤهم باللّوم
يعطي الجزيل ولا يَراهُ عِنْده ... إلا كبعضِ عطية المذموم
أبلغ مدحاً وأرجح لفظاً لأنه ما رضي إلا بأن جعل الممدوح يعطي الجزيل ويراه كبعض عطية المذموم ولم يجعلها كلّ عطية المذموم، ولكن أبا الطيب قد جعل يد الممدوح أجلّ يد نالته وأنّ الممدوح لا يراها أبداً أصلاً لا لممدوح ولا لمذموم فقد نقصت مبالغة حسان ورجحانه لمبالغة أبي الطيب فصار أولى بما أخذ على من أخذ منه.
يليها أبيات أولها:
أقْصِرْ فلستَ بِزائدي وُدّا ... بَلغ المَدى، وتَجاوزَ الحَدّا
مأخوذ من قول جرير:
إِني وعيتك لو طلبت زيادةً ... في الحُب عِنْدي ما وَجدت مَزِيدا
قال ابن الرومي:
فَلا تسأليني في هواك زيادةً ... فأيسرُه مُرضٍ، وأدناهُ مُقْنِعُ
هذه ألفاظ متساوية في باب المساواة لا له ولا عليه وأصحابها أولة) بها (.
وقال المتنبي:
أرْسلتهَا مملوءةً كرماً ... فرددْتها مَملوءةٌ حَمْدا
جاءتْكَ تَطْفَحُ وهي فَارغةً ... مَثْنى به وَتظّنُّها فَردا
قد رأيت بعض أهل الأدب تقوم علينا وهو أبو القاسم علي بن حمزة البصري، بأن قال: لأبي الطيب معان لا يفسرها غيره فسألناه عنها فكان هذا منها وسألناه عن معنى أي شيء أراد به فقال: جاء جام حلواً ففرغه وكتب هذه الأبيات فصار فارغاً من الحلواء مملوءاً من الحمد فهو فارغ طافح يظن فرداً وهو بالحمد مثنى فقلت له الشعر على مقصد قائله وأبيات المعاني كلها تجري هذا المجرى فسكت.
وقال المتنبي:
لوْ كُنت عصراً مُنْبتاً زَهراً ... كُنتَ الرَّبيعَ وكانتِ الوَرْدا
أخذه من أبي تمام:
وَمِنْ زمنٍ ألبستينيه كأنَّهُ ... إِذا ذكرتْ أيّامُهُ زمنُ الورْدِ
معنى أبي الطيب: لو كنت عصراً وكان الملك زهراً كنت ربيعاً وكان الزهر ورداً وتشبيه الزمان بزمان من جنسه هو زمان الورد أحسن وأشبه من تشبيه إنسان بزمان الورد فتشبيه أبي تمام أوضح وكلامه أرجح وهو للشبق أولى بما قال.
يليها أبيات أولها:
بَقيَّةُ قَوْمٍ آذنوا بِبوارٍ ... وأنضاء أسْفارٍ كَشَرْبِ عُقارِ
لا فائدة فيها.
يليها قصيدة أوّلها:
أرقٌ على أرقٍ ومِثْلي يأرقُ ... وجوىً يَزيدُ وعبرةٌ تترقرقُ
قال فيها:
جهدُ الصَّبابة أنْ تكون كما أرى ... عين مسهدة وَقَلْب يَخْفِقُ
وقال الحماني:
قالتْ: عُييت عن الشكوى. فَقلتُ لها ... جَهدُ الشكايةِ أنْ أعيا عَنْ الكَلمِ
أشكو إلى الله قلباً لو كحلت به ... عينيك لاختضبت من حرّه بدم
فهذا أبلغ من قول أبي الطيب ويشبه قول أبي الطيب قول البحتري:
هَلْ غايةُ الشّوقِ المبّرح غَيْر أنْ ... يَعْلو نشيجٌ أو تَفيض مَدَامِعُ
وصاحب العين المسهدة، والقلب الخافق وصاحب النشيج والدمع الفائض يمكنهما شكاية حالهما ويقدران على الكلام ومن عجز عن الكلام أتم سوء حال منهما، فكلام أبي الطيب والبحتري يدخل في باب المساواة وكلام الثالث أرجح من كلامهما.
وقال المتنبي:
ما لاحَ برقُ أو ترنَّمَ طائِرٌ ... إلاّ انْثَنيتُ ولي فُؤاد شَيِّقُ
هذا معنى متدارك لا يعبأ به ولكن أبا الطيب لتناوله ما سخف من المعاني وارتفع يلزمنا الشغل بما أشتغل به وهو من قول ابن أبي عيينه:
ما تَغَنّى القُمريّ إِلاَّ شَجانِي ... وغِناءُ القُمريّ للصبّ شاجِي
وقال المتنبي:
جَرّبْتُ من نار الهَوى ما تَنْطفي ... نارُ الغضى وَتكلُّ عما تُحْرِقُ
إبدال الهمزة هذا لا يجوز إلا ضرورة وهذا مما ذكرت لك من إسقاط الهمز وأما معناه فمأخوذ من قول الشاعر:
لوْ أن قلبي في نارٍ لأحْرقها ... لأن إِحْزانَهُ أذْكى منَ النَّار
ومن جعل النار تحترق من نار قلبه أشد مبالغة ممن ذكر أنها تعمل في النار إلا تطفأ والكلال وإن كان الانطفاء من النار لا يكون مما هو أعظم منها إنما يكون بضدها من الماء فصاحب البيت في مذهب من رأى المبالغة أحسن وأرجح كلاماً وهو أحق ببيته، قال أبو محمد: وقد أنشدني أبي رحمه الله قال: أنشدني أبو بكر بن دريد لنفسه:
لَوْ أن نار فؤادي ما زجتْ لَهباً ... لظلَّ مِنها لَهيبُ النارِ مُحترقا
وقال المتنبي:
وَعذلتُ أهلَ العِشْقِ حتى ذُقْتُهُ ... فَعجبتُ كيفَ يموت من لا يعشقُ
وعذرتُهمْ وعرفْتُ ذَنبي أنني ... عَيّرتهمْ فَلقيتُ فيه ما لقوا
هذا من قول أبي الشيص:
وكنتُ إِذا رأيتُ فتىً يبكي ... على شَجَنٍ ضَحكتُ إِذا خَلَوتُ
فاحسبني أدالَ الله مِني ... فَصرتُ إَذا بَصرْتُ بِه بكيتُ
قال ابن الجهم:
وقدْ كُنتُ بالعشّاقِ أهزأ مَرَّةً ... فها أنا لِلعشاق أصبحت باكيا
بيتا أبي الطيب مساويان لبيتي أبي الشيص وبيت ابن الجهم مما نقله أبو الطيب من اللفظ القصير إلى الطويل الكثير فالأول أحق بقوله.
وقال المتنبي:
نبكي على الدنيا وما من مَعْشرٍ ... جمعتُهم الدُّنيا فلمْ يَتفرّقوا
هذا من قول صالح:
أو ما يريبكَ مِنْ زمانِكَ أنَّهُ ... لا يُلْبث القُرناءَ أنْ يتفرقوا
ومثله قول للأول:
لنْ يُلبثُ القرناء أنْ يتفرقوا ... لَيْل يكرُّ عليهِمْ وَنهارُ
وهذا يدخل في باب المساواة لا له ولا عليه. وقال المتنبي:
أين الأكاسرة الجبابرة الألى ... كنزوا الكُنوز فما بَقَيْنَ ولا بَقُوا
قال أبو العتاهية:
أين الأولى كنزوا الكُنوز وأتقنوا ... أنْ القرون بنو القرون الماضية
دَرجُوا فأصبحت المنازلُ منهم ... عُطلاً وأصبحت المساكن خالية
وأبو الطيب جاء بالمعنى واللفظ الطويل في الموجز القليل وهو أولى بما أخذ.
وقال المتنبي:
من كُلّ من ضَاق الفَضاءُ بجيشه ... حتى ثَوى فَحواهُ لحْدٌ ضَيِّقُ
هذا من قول أشجع:
وأصبح في لحدٍ من الأرضِ ضَيِّقٍ ... وكانَتْ به حَيّاً تضيق الصَّحاصِحُ
فجعل أبو الطيب الأرض تضيق بجيشه، وأشجع جعل الضيق به وحده فبيته أرجح وأمدح فهو أولى للسبق بما قال. وقد قال أبو العتاهية:
شهواتُ الدنيا ... عوافهن المكاره
يسع القبر شخصاً ... من لم يسعه المهامه
وهذان البيتان يساويان قول أبي الطيب بغير زيادة لأن المهامه لا تضيق عن شخص من إلا أن يريد أبو العتاهية مراد أبي الطيب لم يسعه المهامه لكثرة رجاله وتوافر جيشه فيصيران متساويان وقد يكون أشجع أولى بالرجحان.
وقال المتنبي:
فالموتُ آتٍ والنّفوسُ نفائس ... والمستغرُّ بما لديه الأحمقُ
أنشد ابن قتيبة في كتاب عيون الشعر:
إِنّ امرأ أمِن الزَّما ... ن لمستغِر أحْمقُ
وفي بيت أبي الطيب زيادتان في صدره وعجزه يستولي بها على هذا البيت ولفظه أجزل فهو أرجح من هذا البيت وأحق بما أخذ.
وقال المتنبي:
ولَقدْ بكيْتُ على الشَّبابِ ولمّتي ... مُسودّةٌ ولماء وجهي رَوْنَقُ
حَذراً عليهِ قَبْلَ يَومِ فَراقِهِ ... حتّى لكدتُ بِماءَ جَفْني أشْرَقُ
هذا يشبه قول القائل:
كُنتُ أبكي دماً وأنْت ضجيعي ... حَذراً من تَشّتت أو فراق
وهذا يدخل في نقل اللفظ القصير إلى الطويل الكثير لم يبلغ مراده إلا في
بيتين وأتى به من سبقه في بيت، الأول أولى بما قال. ويشبه ما حكاه الصولي، قال: قال ثعلب: غير مرة وأنشد لابن الأحنف ما رأيت أحداً إلا وهو يستحسن هذا وهو مما أحتذي عليه وإن فارق ما قصد به إليه:
قد كنت أبكي وأنت راضية ... حذار هذا الصُّدودِ والغَضبِ
إن تم ذَا الهجر يا ظلوم ... ولا تم فما لي في العيش من أرب
جعله أبو الطيب في الشباب وجعله ابن الأحنف في محبوبه واعتراض كلام في كلام فيه فائدة مما يستحسن قوله ولا تم من ذلك وفي معنى ابن الأحنف:
ما كنتُ أيّام راضية ... عنّي بذاك الرّضا بمغتبط
علماً بأنَّ الرّضا سيتبعُهُ ... منك التَّجني وكثرة السَّخط
فكلما نساني فعن خلق منك ... وما سرني فعنَّ غلط
وقال المتنبي:
كَبّرتُ حَول ديارهمْ لما بَدتْ ... منها الشُّموسُ وليس فيها المشرِقُ
ذكر أنه كبر حول ديارهم تعجباً من كون الشموس فيها وليس فيها المشرق. شبه الممدوحين بالشموس، وينبغي أن تكون الشموس في المشرق فكأن ديارهم ليس لها مشرق فلذلك أستغرب كون الشمس فيها، نبهه على هذا أبو نواس بقوله:
ترى حَيْثُ ما كانتْ من البيت مَشرقاً ... وما لم تكنْ فيه من البيت مَغربا
فخبر عن الخمر بأنها إذا حلت في بيت كان مشرقاً وإذا لم يكن فيه كان مغرباً وكلام أبي نواس أحسن وقد ذكر المشرق والمغرب فرجح كلامه عليه.
وقال المتنبي:
وعجِبتُ من أرض سَحاب أكفهم ... مِنْ فوقها وصخُورها لا تُورِقُ
قال بعض البادية:
لوْ أنَّ راحتهُ مرت على حجرٍ ... صَلْدٍ لأورق منها ذلك الحَجَرُ
وقال مسلم:
لَوْ أنَّ كفاً أعشبتْ لِسماحةٍ ... لبدى براحتِهِ النباتُ الأخْضرُ
قال ابن الخياط في طاهر بن الحسين) في حراقة في دجلة (.
عَجبتُ لِحُرّاقةَ ابن الحسي ... أن كيف تعومُ ولا تغْرقُ
وبحران مِنْ تَحْتِها واحِدٌ ... وآخر مِنْ فوقها مُطْبِقُ
وأعجب من ذاك عِيدانُها ... وقَدْ مسّها كيف لا تُوْرقُ
فتعجب أبو الطيب من أرض سحاب أكفهم فوقها لم تورق صخورها وخبر البدوي أن يد الممدوح لو مرت على حجر لأورق فأخبر بإيراق الحجر ولم يتعجب من أن لا يورق فبيته أرجح وأمدح وهو أولى بما قال ومعنى بيت مسلم لو كان ممكناً أن يعشب كف لأعشبت يدك فخبر أن ذلك غير ممكن والإخبار بإيراق الحجر أبلغ في المدح من إعشاب الراحة بعد ما دل على أن ذلك لا يمكن فيها وقد أشترك أبو الطيب وابن الخياط في التعجب ولكن الصخور أبعد من الإيراق وإن كانت العيدان قد بعدت من إمكان الإيراق فيها ولكن ما أمكن أن يورق في حال أقل مبالغة مما لم يكن إيراقه على حال فعلى هذا الترتيب فالبدوي أحق بما قال ثم أبو الطيب وأقصد القوم مسلم.
وقال المتنبي:
وتفوحُ من طيبِ الثَّناءِ رَوائحٌ ... لهم بكل مكانةٍ تُستنشقُ
مِسْكيّةُ النفحّاتِ إِلا أنّها ... وَحْشيّة بِسواهُمُ لا تعْبقُ
أخذ هذا من شعر أورده جدّي وكيع في كتاب الغرة:
لَوْ كان يوجَدُ ريحُ مجدٍ فائحاً ... لوجدتَهُ منهم عَلى أمْيالِ
وقال العطوي: وقد حمل نعش ابن أبي داود:
وليسَ نسيم المِسْك ما تجدونه ... ولكنَّهُ ذاك الثَّناءُ المخلَّفُ
وليس صرير النعش ما تسمعونه ... ولكنَّهُ أصلاب قومٍ تَعصفُ
وقال ابن الرومي:
أعبقتهُ من طيبِ ريحكَ عبقةً ... كادَتْ تكُونُ ثناءك المَسمُوعا
فالشاعر الأول قال لو كان يوجد ريح مجد فائحاً لوجدته منهم على أميال ولكنه لا يوجد وابن الرومي قال: كادت تكون) ثناءك وقال: كادت (والعطوي خبر أن المسك ليس هو في الحقيقة ما يجده الشام ولكنه ثناؤه المخلف بعده وأبو الطيب خبر عن ريح الثناء أنه منهم بكل مكانة يستنشق وبكل مكان أعم من أميال ولكن العطوي جاء بإرادته في بيت ولم يبلغ أبو الطيب إرادته إلا في بيتين فنقل اللفظ القصير إلى الطويل الكثير.
وقال المتنبي:
أمريُدَ مِثْلَ مُحمدٍّ في عصرنا ... لا تبلنا بطِلاب ما لا يُلْحقُ
أخذه من أبي الشيص:
لَوْ تبتغي مثلَهُ في الناس كُلّهم ... طلبتَ ما ليس في الدنيا بموجود
ويقرب من قول البحتري:
وما للمعالي طالبُ فتمهّلنْ ... ولو طُلبتْ ما كان مِثْلك يُلْحقُ
وللبحتري أيضاً:
أيُّها المبتغي مساجلة ( الفتْ ... ح ) تبغيتَ نَيلَ ما لا يُنالُ
فهذه أبيات تتناسب معانيها ومبانيها وهي تدخل في باب المساواة والسابق أولى بها.
وقال المتنبي:
لمْ يخلقِ الرحمنُ مِثْل محَمدٍ ... أحداً وظني أنَّه لا يَخلقُ
قال عبد الله بن أبي السمط:
ما كان مِثلك في الورى فيمنْ مَضى ... أحداً وظنّي أنه لا يخلقُ
وهما متفقا اللفظ والمعنى مجتمعان على التيقّن فيما مضى والشكّ في المستقبل وهذا تغيير يسير يكاد يدخل في أخذ اللفظ المدعى وهو ومعناه معاً، وقد قال ابن الرومي:
فَهلْ من سبيلٍ إلى مِثله ... أبى اللهُ ذاك على منْ خَلقْ
فلم يخطر جمعهم وجود مثله إلا على من خلق دون من يخلق غير المعوج فإنه قال:
وما ابن علي في العُلى كابن من ... لهُ مِن الناسِ شكل أو يكون لهُ شكل
وقال الحصنيّ:
لمْ يكن في خليفةِ الله ندٌّ ... لك فيما مَضى وليس يكونُ
فمنع وجود مثله في الماضي والمستقبل فحكم على الغيب وما أشبه هذا الشعر بشيء. روي عن المعتصم أنه أمر في ليلة من لياليه بإحضار من جار على بابه فوجد الغلام ثلاثة قد مروا بالباب من أهل المدينة فأدخلوا، فقال لهم المعتصم: أسمعوا هذا الغناء واحداً واحدا وعرّفوني ما عندكم فيه وأمر جارية له بالغناء فغنّت فقال لأحدهم: كيف رأيت ما تسمع؟ قال: امرأته طالق إن كان الله يخلق مثل هذه. وقال للآخر ما تقول أنت؟ قال: امرأته طالق إن كان الله يخلق مثلها أبداً. فقال للثالث: ما تقول أنت؟ قال: أقول امرأتي طالق. قال: إن كان ماذا. قال: إن كان لا شيء، قال: ولم طلقت، قال: لطلاق رفيقيّ من أين لهذا العاض بظر أمه أن الله ما خلق مثل هذه ولهذا العاض بظر أمه إن الله لا يخلق مثلها فلما رأيتهما قد طلقا في غير موضع الطلاق ساعدتهما على ذلك.
وقال المتنبي:
يا ذَا الذي يهَبُ الكثير وعنده ... إني عليه بأَخْذِهِ أتَصدَّقُ
أخذه من زهير من أحسن لفظ) وهو:
تَراهُ إِذا ما جِئتهُ مُتهللاً ... كأنّكَ تُعطيه الذي أنْتَ سَائله (
فأتى بما لا زيادة عليه في الحسن، وأخذه أبو الطيّب أخذاً قبيحاً وجعل مكان المعطي المتصدق ومن شأن النفوس الأبيّة الفرح بالعطايا النسبية، فأما) أخذ (الصدقة فلا تفرح بها، وهذا يدخل في باب رجحان المأخوذ منه على من أخذ عنه.
وقال المتنبي:
أمْطِرْ عليّ سَحاب جُودِكَ ثَرَّةً ... وأنظُرْ إليَّ بِرحمةٍ لا أغْرَقُ
وهذا يشبه قول عبد الله بن أبي السمط في سحابة:
حتَّى ظللتُ أقولُ في إلحاحِها ... بالويل: هَلْ أنا سالمٌ لا أغْرقُ
وهذا مما أحتذي عليه وإن فارق ما قصد به إليه.
وقال المتنبي:
جَذب ابن فاعلةٍ يقول لجهله ... مات الكرامُ وأنت حَيّ تُرْزقُ
أخذه من قول أبي زيد عمر بن شبة:
وقائلةٍ لم يَبق في الأرضِ سيد ... فَقُلْتُ لها عبدُ الرّحيم بن جَعْفَرِ
ولا زيادة له فيه غير شتم القائل وليس ذلك مما يحسب له به زيادة وهو يدخل في قسم المساواة.
ويلي ذلك قصيدة أولها:
حُشاشَة نفس ودَّعتْ يَوْمَ ودّعُوا ... فَلمْ أدْر أيّ الظاعنينَ أشيِّعُ
أخذه من بشار في قوله:
حَدا بَعضُهم ذات اليمين وبَعضُهُمْ ... شمالاً وقَلبي بينهم مُتَوزّعُ
فَو الله ما أدري بليلٍ وَقَدْ مَضَتْ ... حُمولهم أيّ الفريقين أتْبَعُ
وقال العباس بن الأحنف:
تَفرّق قَلبي منْ مُقيمٍ وظاعِنٍ ... ولله دَرّى أيّ قلْبٍ أشيِّعُ
فهو في المبنى والمعنى يساوي ما قاله فلا له ولا عليه، والأول أحق بقوله.
وقال المتنبي:
أشارُوا بتسليمٍ فَجُدْنا بأنفسٍ ... تَميلُ من الآماق والسَّمُ أدْمُعُ
أحسن ما أتى في هذا قول بشار:
وليسَ الذي يَجْري من العين ماؤُها ... ولكنَّها نفس تَذُوبُ فَتقطُرُ
وقد قال الديك:
ليسَ ذا الدّمْعُ دَمْعَ عَينِي وَلكِنْ ... هي نَفْسٌ تُذيبُها أنفاسِي
فجانس بين النفس والنفس وقد قال ابن دريد:
لا تحْسبني دَمْعي تَحدَّر إِنَّما ... رُوحِي جَرَتْ في دَمْعي المُتحدّرِ
وكلهم أنّث الروح، والروح مذكر إنّما أنثوه لتأنيث النفس فكلام بشار أرطب وأعذب، لأن من قال ذاب، قال: قطرت فهو أرجح من جميع هذه الألفاظ فأما أبو الطيب فنسخ هذا المعنى وما نسخه لأنه يبعد عن لفظ من يقدمه في الرونق والبهاء وكثرة الماء ولو لم يكن في بيته إلا ما يفاضح به من قول السم وبكم قطع ألف الوصل أملح في شعر المتأخرين من ذكر السم على كراهة النحويين ذلك إلا في ضرورة الشعر ولعل بعضاً من المتشدقين أن يعارض هذا القول مني بالطعن ويقول أتختار له ركوب ما لا يجوز إلا في ضرورة على الصحيح الفصيح؟ فالجواب على ذلك، أنّ أبا الطيب أكثر الناس ركوباً للضرورات والمجازات أولاً وأيضاً فإن أشعار المحدثين لا يراد منها استفادة علم وإنما يروى لعذوبة ألفاظها ورقتها وحلاوة معانيها وقرب مأخذها ولو سلك المتأخرون مسلك المتقدمين في غلبة الغريب على أشعارهم ووصف المهامة والقفار والإبل والفلوات وذكر الوحش والحشرات ما رويت لأن المتقدمين أولى
بهذه المعاني ولا سيما مع زهد الناس في الأدب في هذا العصر وما قاربه وإنما يكتب أشعارهم لقربها من الأفهام وإنّ الخواص في معرفتها كالعوام فقد صار صاحبها بمنزلة صاحب الصوت المطرب يستميل أمّة من الناس لاستماعه وإن جهل الألحان وكسر الأوزان وقائل الشعر الحوشي بمنزلة المغنّي الحاذق بالنغم غير المطرب الصوت يعرض عنه إلا من عرف فضله على أنه إذا وقف على فضل صنعته لم يصلح لمجالس اللذات إنما يجعل معلماً للمطربات من القينات يفوقهن بحذقه ويستمتع بخلوفهن دون حلقه ليسلمن من الخطأ في صناعتهن ويطربن بحسن أصواتهن.
وقال المتنبي:
حَشاي على جمر ذَكيٍّ من الهوى ... وَعيْناي في رَوْضٍ من الحُسن تَرْتعُ
أخذه من خالد الكاتب حيث يقول:
بأيِّ ذنبٍ إِليه ... أطال حُزني عليه
قالوا نَراك سَقيماً ... فَقُلْتُ مِنْ مُقْلتيه
في النّار قَلْبي، وَعَينْي ... في الرّوضَ مِنْ وَجْنتيْه
وهذا من نقل القصير إلى الطويل الكثير، ومثله لبعض المحدثين:
وكانَ طَرْفي مِنْهُ في جَنَّةٍ ... وكانَ قَلبي مِنْه في نارِ
وما زاد في المعنى ما يستحقه والمتقدم أولى به.
وقال المتنبي:
وَلَوْ حُملِّتْ صُمُّ الجبال الَّذي بنا ... غَداةَ افْترقنا أوشكتْ تَتصَدَّعُ
قال الأول:
وأكتمُ ما بي مِنْ هَواكِ ولو يرى ... على جبلٍ صَلْد إِذن لتقطَّعا
وقال الآخر:
صَبرتُ على ما لو تحمل بَعضه ... جِبالُ شَروري أوشكتْ تَتصدّعُ
وقال ابن الرومي:
شكوى لو أني أشكوها إلى حجرٍ ... أصَمَّ ممتنع الأركان لانفلقا
فهذه الأبيات تناست معانيها ومبانيها ولا زيادة له فيها وأصحابها أحق بها منه.
وقال المتنبي:
أتتْ زائراً ما خامرَ الطِّيب ثَوْبها ... وكالمِسْك من أردانِها يَتَضوَّعُ
غير متهيب ولا مراع للأخذ من سيد الشعراء في أخذ شعره مع نباهة ذكره حيث يقول:
ألمْ تَر أني كُلمّا جئتُ طارقاً ... وجَدْتُ بها طيباً وإنْ لمْ تَطّيبِ
ولا زيادة على هذا الكلام في المعنى والنظام فهو أحق بما قال ممن سرقه منه.
وقال المتنبي:
فيا ليلةً ما كانَ أطْولَ بتها ... وسم الأفاعي عذب ما أتجّرعُ
إذا قال إن) سم الأفاعي عذب ما أتجرع (فقد خبر أن سم الأفاعي مرّ وإنما يوصف السم بالإهلاك وضد الإهلاك، السلامة، فلو قال) إن سم الأفاعي أسلم ما أتجرع (لكان أقرب وقد قال النابغة (:
فبتُّ كأنّي ساورتني ضئيلةٌ ... من الرُّقش في أنيابها السُّمُّ ناقعُ
فأخبر بما يحذر منها من سمها ولم يخبر عن طعمه.
وقال المتنبي:
تذلَّل لها وأخضَعْ على القُربِ والنَّوى ... فما عاشِقٌ منْ لا يذلُّ ويخضَعُ
هذا مستعمل كثيراً إلا أنه ما حقره، وقد ساوى البحتري في قوله:
وَتذلّلتُ خاضعاً لمليكي ... وقليلُ من عاشقٍ أنْ يذلاّ
وقال المتنبي:
بِذي كرمٍ ما مرّ يوم وَشْمسُهُ ... على رأس أوفى ذِمَّةً مِنهُ تَطلْعُ
قال البصير:
مَلكُ لم تَطلْع الشْمْسُ على ... مِثْله أوْسَعَ شيئاً وأعمّ
فهذا يدخل في باب المساواة.
وقال المتنبي:
فأرْحامُ شِعْرٍ يتّصلْنَ لدنّهُ ... وأرْحامُ مالٍ ما تني تَتَقطَّعُ
هذا من لحونه إنما تشدد النون مع النون نحو) لدنّي، ولدنّا (وأستعمل لدن
بغير) من (وما يكاد يستعمل إلا بمن قال الله عز وجل:) من لدن حكيم عليم (واستعماله إقفاء الكلام إنما يجوز ويطلب له الوجوه إذا كان ذلك من يدري يتكلم بطبعه فأما لمثله فلا، وقد قال المتنبي قبل هذا بيتاً وهو:
وإِنَّ الذي حابى جَديلة طيءٍ ... بهِ الله يُعْطي من يَشاءُ وَيمنَعُ
وهو أيضاً يخرج إلى تفسير فمعناه حاباها من الحباء بمعنى حباها والحبا العطية، وللبيت معنيان: أحدهما أن تكون الهاء في) به (راجعة إلى حابى وخبر عن الممدوح بأنه يعطي من يشاء ويمنع وهذا مدح أرفع أبا الطيب أن يقصده لأن كل واحد له ملك أو ملك فهو مخير بمن يعطيه ويمنعه ممن شاء، والمعنى الآخر الذي أراه مراده أن يكون إن الله يعطي به من يشاء ويمنع أي قد جعلها الله شيئاً للعطاء والمنع كما قال الضبي:
وأقضيةُ الله محتومة ... وأنْتَ منفّذ أقْدارها
وقال المتنبي:
فَتىً ألفُ جُزءٍ رأيهُ في زمانه ... أقلُّ جُزْءٍ بَعْضه الرأيُ أجْمَعُ
هذا كلام ظاهر التعسف بين التخلف وهو ينظر إلى قول أبي تمام:
لَوْ تراهُ يا أبا الحَسنِ ... قمراً أوفى على غُصُنِ
كُلُّ جُزءٍ من مَحَاسِنِهِ ... فيهِ أجزاءُ من الفِتَنِ
وهذا يدخل في نقل العذب من القوافي إلى المستكره الجافي، وأبو تمام أولى بما قال.
وقال المتنبي:
غَمامٌ علينا مُمطِرٌ لَيْسَ يُقْشعُ ... وَلا البرقُ فيه خُلَّباً حين يَلْمَعُ
أخذه من قول المعتصم:
فليستْ جهاماً للعفاةِ سحابه ... وليستْ بُروق الجودِ فيها تَحْلِبُ
وقد قال البحتري قبلهما:
رأيتك إِنْ مَنَّيتَ منَّيْتَ موعداً ... جَهاماً وإِنْ أبرقْتَ أبرقْتَ خُلَّبا
وهذا من المعكوس الذي ابتدئ هجاءً وعكس فصار ثناءً.
وقال المتنبي:
إِذا عرضَتُ حاج إِليه فَنفْسُهُ ... إِلى نَفْسِهِ فيها شَفيعُ مُشَفَّعُ
وهذا كثير من قول الحطيئة:
وَذاكَ امرؤ إِنْ تأتِهِ في نفسهِ ... إلى مالِهِ لا تأتهِ بِشَفِيعِ
قال أبو العتاهية:
وما ابتغى عنده شافعاً ... سِواه إلى نفسِه يَشْفَعُ
وقال أبو العتاهية:
فيا جُود موسى ناج مُوسى بحاجِتي ... فمالي سِوَى مُوسى إِليه شَفِيعُ
وقال آخر:
فيا جودَ معن ناد معناً بِحاجتي ... فمالي سوى مَعْن سِواكَ رَسولُ
وقال ابن الرومي:
أبا الصَّقرّ من يَشْفع إِليك بشافعٍ ... فما لي سوى شِعْري وجود شافِعُ
وقال ابن الحاجب:
جُوده شافعٌ لطالب جدواه ... إِذا غره وجودك شَفيعُ
وقال المتنبي:
خَبَتْ نارُ حربٍ لم تَهجْها بنانه ... وأسمرُ عُريانٌ من القشر أصْلعُ
نحيفُ الشَّوى يعدو على أُمَّ رأسه ... ويَحفى فيقوى عَدُوهُ حين يَقْطَعُ
أما قوله:) يعدو على أم رأسه (فمن قول القائل:
وَمنتكس يَعدو على أمّ رأسه ... يَخافُ ويرجى نَفعه حَيثُ تَمما
وأما قوله:) ويحفى فيقوى عدوه حين يقطع (فمن قول كلاب بن حمزة:
فإِنْ تخوّفت من حفاه فخُذْ ... سَيفك فأضربْ قفا مُقلّدِهِ
فإِنَّه إِنْ قطعْتَ أجْوَدَه ... عادَ نشيطاً بِقَطْع أجْوَدِهِ
وقال المتنبي:
ذبابُ حُسامٍ مِنْهُ أنجى ضريبةً ... وأعْصَى لمولاهُ وذا مِنْهُ أطْوَعُ
شبهه بالسيف وفضله بالطاعة لمن ملكه. وقد قال البحتري:
ما السيف عصيان نصل رونقه ... أمضى على الحادثات مِن قلمه
وليس في شعر البحتري أكثر من تشبيه القلم بالسيف وأبو الطيب قد ذكر من عصيان السيف أحياناً وطاعة القلم للكاتب به ما فيه زيادة يستحق بها الشعر.
وقال المتنبي:
بِكفّ جَوادٍ لو حَكَتْها سَحَابةٌ ... لما فَاتها في الشرق والغَرْب مَوضِعُ
أخذه من ابن الرومي حيث يقول:
خِرقٌ يعمّ ولا يخصُّ بِفَضلِهِ ... لكنَّهُ كالغيْث في الأطباقِ
فجعل الغيث يعمّ ويخصّ وجعله يعم الغيث في أطباقه وكذلك قال أبو الطيب: إن سحابة لو حلت كفه لكانت عامة غير مختصة وهذا يدخل في باب المساواة والسابق أولى به.
وقال المتنبي:
فَصيحٌ متى ينطقُ تَجِدْ كُلّ لفظةٍ ... صول البراعات التي تَتفَرّعُ
ففي كل لفظة محذوف يزيد على كل لفظة حسنة أو عذبة أو ما أشبه ذلك ولو قال كل لفظه وهذا المعنى ينظر إلى قول أبي تمام:
كلُّ جُزْءٍ منْ مَحاسِنِه ... فيه أجزاءٌ من الفِتنِ
وقد أخذ ذلك من أبي تمام أخذاً مما هو أبين من هذا في قوله:
كلُّ سقامٍ تراه في أحدِ ... فَذاكَ فرع والأصلُ في بَدني
وهذا من استخراج كلام من كلام أحتذي عليه وإن فارق ما قصد به إليه.
وقال المتنبي:
ولَيس كبحر الماء يَشتقّ قَعْرهُ ... إلى حيثُ يفنى الماءَ حوتٌ وضَفدعُ
في هذا البيت حشوٌ غثّ وهو قوله) بحر الماء (ولا معنى له وهو من جنس قول أبي العيال:
ذكرتُ أخي فَعاودني ... صُداع الرأسِ والوصب
إلا أن يكون للبيتين بحر يعبر عنه بهذا الاسم فيفيد كلامه وما في اشتقاق الحوت والضفدع ماءه حتى يفنى الماء ضرر على أحد ولا نقص على البحر وهذا مدح لا فائدة فيه فأما قول ابن الرومي:
هُو البحر إلا أنَّ في جَنباته ... رُغاء المَطايا لا تفتق العَلاجِمُ
فقد صيره بحراً على صفة يعدمها البحر لأن المطايا لا تحط على البحار فدل على كرم من حط إليه المطايا إذ كان مرجواً لخير مقصوداً. وقال أشجع:
لو كان للركبان في كل وجهه ... إليك إيصال تتبعه الركب
وقال الآخر:
يَزدحمُ الناسَ على بَابِه ... والمنهلُ العذب كَثيرُ الزحام
فليس في فائدة هذا الكلام فائدة ذكر الحوت والضفدع.
وقال المتنبي:
أبْحرٌ يَضرّ المعْتفين وَطَعْمُه ... زعاقُ كبحرٍ لا يَضُرُّ وَيَنْفعُ؟
فإن كان ضرر المعتفين في البحر هو الغرق والصائب بالأموال فبازاء هذا نيل الرغائب من نفس المتاجر ومثمن الجواهر وقطع المسافات المتباعدات في أقل مدة وإن كان ضرره أن طعمه زعاق فلا يضرك ذلك إلا من قصده صادياً وقد قصر لفظه عن إيضاح معناه لأن الأجود كاد أن يقول:
أبحر يزيد الواردين زعاقه ... صدا مثل بحر سلسل الورد ينفع
ولعل معترضاً أن يعترض هذا الكلام فيقول: البحر لا يكون سلسل الورد فإن البحر لا يقع إلا على الملح، قلنا له إنما شبه رجلاً ببحر فذكر أخلاقه بالعذوبة وأعرب ببحر يخالف صفة ما وقع عليه هذا الاسم وقد يسمى العذب باسم الملح وقد قال ابن الجهم:
ولست ببحرٍ أنْتَ أعْذَبَ مَورداً ... وأقربُ للرّاجي نداك وأسْهَلُ
ففضله على البحر بعذوبة مورده وقرب راجيه من مراده وأوضح مراده ورجح على أبي الطيب فصار أحق بما قال.
وقال المتنبي:
أَلاَ أيُّها القَيلُ المُقِيمُ بمنْبجٍ ... وهمّتهُ فوق السماكين تُوضعُ
هذا مأخوذ من قول العطوي:
إِنْ كُنت أصبحتُ لابساً سملاً ... فَهِمتي فَوْقَ كَاهِلُ الفَلك
وقال القاضي التنوخي:
وأنفس مسكنها ما بيننا ... وهَمّها بين السَّماكِ والسُّهى
وكل الأبيات تدخل في باب المساواة وبيت العطوي دونهما وليس لبس السمل مما يدل على اتضاع الهمة، وقد خبر أبو الطيب عن الممدوح بإقامة جسمه بمكان وخبر عن همته بسير فوق السماكين فطابق وزاد بالمطابقة فأستحق ما أخذ وهو يساوي التنوخي في معناه ولكن وافقه في ذكر الأنفس والهمم ولم يتفق له من الإقامة والسير ما أتفق لأبي الطيب والذي نبه أبا الطيب على هذا المعنى أبو تمام بقوله:
جرّدتُ في ذَمِّيك خَيْلَ قَصائدِ ... سَارتْ بك الدُّنيا وأنْتَ مُقِيمُ
وقد أخذ ابن الرومي هذا المعنى من أبي تمام فقال في صفة قصيدة له:
تَظل مقيماً في محلّكَ خافضاً ... وأنْتَ بِها في كُلّ فجٍ تُسيّر
وقال المتنبي:
أليْسَ عجيباً أنَّ وصْفكَ مُعْجزٌ ... وأنَّ ظُنُوني في معاليك تَطلعُ
ينظر إلى قول أبي تمام:
تَرقَّتْ مناهُ طوْدَ عِزٍّ لو ارتقتْ ... له الريحُ فتراً لانثنتْ وهي طَالِعُ
وقال المتنبي:
وأنَّكَ في ثوبٍ وَصَدْرُكَ فِيكُما ... على أَنَّهُ مِنْ ساحَة الأرضِ أوْسَعُ
الصدر في الثوب وليس الصدر في الإنسان إنما هو من الإنسان ولم يرد بالصدر ما أشتمل عليه من قلبه على المجاورة لأنه قد ذكر في البيت الذي بعد هذا قلبه، وقال أبو المعتصم في مرثية:
يا وَاسعَ المعروفِ هَلْ وَسِعَ الثرى ... في الأرض صَدْرك وَهْوَ منها أوْسَعُ
فعجب من أن صدر هذا البيت في الأرض وهي مشتملة عليه وهي أوسع منها وأصل هذا أبو تمام في قوله:
وَرُحْبِ صَدْرٍ لو أنّ الأَرضَ واسِعَةٌ ... كَوُسِعه لَمْ يَضِقْ عنْ أهلهِ بَلَدُ
وقال المتنبي:
وَقَلبك في الدُّنيا وَلَوْ دَخَلتْ بنا ... وبالجِنّ ما دَرتْ كيف تَرْجِعُ
فشبه سعة بأوسع منها فهو إفراط مستعمل مثله. فأما دخول الإنس والجن في قلبه ثم لا يدري كيف ترجع فهو من المبالغة المستحيلة لا يستحسنها كثير من الناس فأما دخول الأجسام في قلبه من الجن والإنس فلا أراه مليحاً.
وقال المتنبي:
ألا كُلّ سَمْحٍ غيرك اليوْمَ باطلُ ... وكلُّ مديحٍ في سِواكَ مُضَيَّعُ
هذا من قول ابن الرومي:
وكلُّ موالٍ صاعداً فهو صاعدُ ... وكل معادٍ صاعداً فهو هَابطُ
وهذا أحسن من قول أبي الطيب لأن الصعود والهبوط ضدان فالبيت المطابق صحيح الطباق وليس باطل ضدّ مضيع لأنّ ضد باطل حق وضدّ مضيع محفوظ فأبن الرومي أرجح كلامه وأولى ببيته.
يتلوها أبيات أولها:
قَضاعة تَعْلمُ أني الفَتى الّ ... ذي ادَّخرتْ لصُروف الزَّمانِ
وقال فيها:
ومَجدي يَدلُ بني خِنْدفٍ ... عَلى أنَّ كُلّ كريمٍ يَماني
نبهه على هذا أبو نواس في قوله:
بَلى فإِن ذمتني للضبى أريحيّة ... يمانية إن السماح يَمان
وقد تبعه ابن الرومي في هجاء قاله وهو:
ونساءُ كأنَّما يتوقعن ... سُقوط السماء كل أوانِ
فتراهن شَاعرات لكنّما ... يُدعمن السماء بالسيقان
إِنْ يَجد جلد بذلك ... فالسخ يمان والجود قدماً يمان
قال أبو محمد وتبعتهم في ذلك فقلت:
بُتْ صيفاً لسد يمني ... فقرابي والجودُ قدماً يماني
وأنْتَ عرسه بعاذلٍ أبرئ ... قلت لا تبعني فلست بزاني
فأتاني فقال نكهاً تعيشي ... فهي مرفوفة على الصيفان
قلت أحدثت في الضيافةِ ... معنى ما عرفناه في قديمِ الزَمان
قال منْ أجل ذاكَ طارلي ... اسم وألح الضيوف في عشاني
فإِذا يذكروا مع أسمي ... مضيفاً قبل مرعى وليس كالعدان
وقد كان ينبغي أن ترغب عن ذكر هذه الأبيات ولكن جر ذكرها ما قبله وقال المتنبي:
حَديدُ اللّحاظِ، حديدُ الحفاظ ... حديدُ الحُسامِ، حديد الجنان
يشبه قول المريمي:
ثَلاثة أنشاء في حداد فكيف لا أروم ... الغنى بالغضب والغضب والغضب
فمقولي الماضي وثانيه مفصلي وثالث ... صدق من وفاء ومن لبّ
(1/300)
فأتى أبو الطيب بأربع صفاتٍ في بيت كشف مراده فيه والمريمي جاء باللفظ القصير في الطويل الكبير فالمتنبي أحق بما أخذ.
أولُ شعرٍ قالهُ أبو الطيب أحمد بن الحسين قوله:
بأبي مَنْ وَددْتُهُ وافَترقْنا ... وَقَضَى اللهُ بَعْدَ ذَاكَ اجْتِماعا
وافترقْنا حَوْلاً فَلمّا التقينا ... كانَ تَسْلِيمُهُ عَليَّ وَدَاعَا
البيت الأول هو الفارغ قلت لا ألتمس له استخراج سرقة. والبيت الثاني هو بيت المعنى وهو مأخوذ من قول أبي الحسن جحظة أنشدنيه أبي رحمه الله:
زائرٌ نَمَّ عليه حُسْنه ... كيفَ يُخفي الليلُ بدراً طَلعَا؟
راقَبَ الغفلة حَتَّى أمكنتْ ... ورعا الحَارس حَتَّى هَجَعَا
ركب الأهْوالَ في زَوْرتِه ... ثُمَّ ما سَلم حَتَّى وَدّعَا
قال أبو محمد: ولا أعرف في بيت أبي الطيب زيادة يفضل بها من سرق منه وهذا الجنس من مساواة الآخذ المأخوذ منه في الكلام حتى يزيد نظام على نظام السابق أولى ببيتيه، وأنشدت لأبي الشيص:
يا حبّذا الزورُ الذي زَارا ... كَأنَّهُ مُقتبسٌ نَارا
نَفْسِي فِداء لكَ من زائرٍ ... مَا حَلَّ حتَّى قِيلَ قَدْ سَارا
مَرَّ بِبابِ الدَارِ فاجْتازها ... يَا ليْتَه لَوْ دَخَلَ الدَارا
يتلو هذين البيتين ثلاثة أبيات أولها:
أبلى الهَوى أسفاً يَوْم النَّوى بَدني ... وَفرَّقَ الهَجْرُ بينَ الجَفْنِ والوَسَنِ
فهذا فارغ لا ذكر فيه وثانيه قوله:
روحٌ تَردّدُ في مِثْلِ الخلال إذَا ... أطارتْ الرّيحُ عَنْه الثَّوْب لَمْ يَبِنِ
وإنما ذكرنا لك هذا البيت لنذكر لك استحالة لفظه، فأمّا معناه فمستعمل ولفظه مستبذل لأن تشبيه جسمه بالخلال كثير جداً ومنه قول ديك الجن:
ارحمْ اليوم ذِلَتي وَخضوعي ... فَلَقدْ صُرْتُ ناحلاً كالخِلالِ
فالتشبيه كالتشبيه سواء: فإن قلت: ففي بيت أبي الطيب زيادة في أنّ الريح إذا أطارت عنه الثوب لم يبن والخلال يبين للناظر ولا يثبت الثوب على مثل الخلال وإن كان أخفّ ثوب وإنما نبهه على هذا بشار في قوله:
سَلَبت عِظَامي لَحْمها فَتركْتَها ... عَواري في أجْلادِها تَتكسرُ
وأخليت منها مخها فَتركتُها ... أنابيبَ في أجْوافِهَا الريح تَصفرُ
خذن بِيدي ثُمَّ ارْفعي الثوبَ فانْظري ... ضَنى جَسدي لكنَّني أتَسَتَّرُ
وليسَ الذي يَجْري مِن العَين مَاؤها ... ولكنها نَفْسٌ تَذوب فَتَقْطرُ
وهذا أصح على مذهب من جهد الاقتصاد، وذلك أنه خبر عن ضنَّى يسير بستره ثوبه على بدن لا يتبين للناظر وهي مبالغة مستحيلة، وللشعراء مبالغتان ممكنة ومستحيلة والممكن أحسن عند كثير من الأدباء من المستحيل، فمن ذلك قول القائل:
مَنَعَتْ مهابتُكَ القلوبَ كَلامها ... بالأمرِ تَكْرههُ وإنْ لَمْ تَعلمِ
فبالغ وأحسن فادعى ممكناً في الهيبة، وأراد أبو نواس المبالغة في الهيبة فقال ما أسرف فيه وهو:
وَأخفتَ أهْلَ الشّرْكِ حَتَّى إنَّهُ ... لَتخافُكَ النُّطفُ التي لَمْ تُخلقِ
قال أبو محمد: فهذا الكلام وإن أمكن المنتصر له أن يقول قد قيل أحسن الشعر أكذبه وإنما يريد أن يخرج عن حدّ الموجود إلى حدّ المفقود ليدلّ بوصفه الغاية وتجاوز النهاية، فأراد أبو نواس أن يدل على أنّ المخلوق من الممدوح على نهاية الخوف، إذ كان يطلق الخوف على من لم يخلق، ولا يجوز عليه الأمن والخوف.
قال أبو محمد: قلنا له هذه إرادته لا محالة ولكن إرادة الشاعر الذي قبله عند من حمد الأقتصاد، وفضل هذا الممكن أفضل وهذا الباب أكثر من أن يحصى وليس مما قصدنا له فيستحصى، وهذا مثال في علم المبالغة كاف، وقد قدمت، ذكر شيء منه في الرسالة والبيت الثالث قوله:
كَفى بجسمي نُحولاً أنَّني رَجلٌ ... لَوْلا مُخَاطَبتي إِيّاكَ لَمْ تَرَني
أخذه من قولِ القائل:
برى ضنىً لمْ يَدعْ مني سوى شجى ... لَوْ لَمْ أقلْ هَاأنا لِلَّناسِ لَمْ أبِنِ
ولا فرق بين اللفظين والمعنيين وهذا من باب مساواة الآخذ المأخوذ منه وصاحب البيت الأول أولى به.
وقد قال آخر:
هَا فانظُروني سَقيماً بَعْد فِرْقتكمْ ... لَوْ لَمْ أقلْ هَاأنا لِلناسِ لَمْ أبنِ
لَوْ أن إبرةَ رَفّاءٍ أكلّفُها ... جَريتُ في ثُقْبها منْ دقّةِ البدنِ
وبعد ذلك أبيات في جرذ قتله رجلان، لو كان طرحها من ديوانه لاستغنى عنها ولا يلتمس لمثلها استخراج سرقه لفراغها. أولها:
لَقَدْ أصْبحَ الجُرذْ المستغيرُ ... أسِيرَ المنايا صَريعَ العَطَبْ
وأتبعها بأبيات سقط عن راويها، النصف الأول من ابتدائها وذلك قوله: سَيْفُ الصّدُودِ على أعْلى مُقلِّدِهِ بغير تمام، وذلك يدلك على أنها غير مقروءة عليه وإذا كان سيف الصدود على مقلده، فلا معنى لا على مختص به وهو حشو لا يحتاج إليه، يليه بعده:
ذَمَّ الزَّمانُ إلْيهِ مِنْ أحبَّته ... ما ذَمَّ منْ دَهْرِه في حَمْدِ أحْمدِهِ
هذا البيت كما ترى كأنَّه رقية عقرب، وقد تكلف بعض أدباء عصرنا تفسيره فقال) الهاء (في) إليه (عائدة على) العاشق (ورواه:
م ذَمَّ مِنْ بَدْرِه في حَمْدِ أحْمدِهِ
و( البدر ) هو معشوقه، وصير ( المعشوق ) بدر الزمان مبالغة في حسنه و( أحمد ) يعني نفسه وجعل نفسه أحمد الزمان، أي ليس في الزمان أحمد مثله. والمعنى: أن هذا العاشق كان يتذمر من معشوقه الذي هو بدر الزمان جفاءه فاجتمع الزمان معه على ذمّ تلك الحال من معشوقه في حال حمد الزمان لأحمده أي فالزمان معه يذمّ هجر أحبته، وأحمد لفضله ونجابته: قال أبو محمد: وليس هذا المعنى مما يلتمس له استخراج سرقة وإنما ذكرته لِما أشترطه في ذكر غث كلامه. وقد تكلف المفسرون مشقة في تفسير غير مفيد ولا سديد، وهذا الكلام القليل الفصول الكثير الفضول البيّن التكلف المشبه ألفاظ
أهل التصوف، وأتبع ذلك بأن قال بيتاً زاده هذا المفسر لم أجده عندي وهو:
شَمْسٌ إذا الشَّمْسُ لاقَتُه على فَرَسٍ ... تَردَّدَ النُّورُ فيها مِنْ تَرَدُّدِهِ
قال أبو محمد: فقوله: ( على فرس (كلام سخيف ونسيج ضعيف لأنه جعله) شمساً يتردّد النور فيها من تردده (ما كان على فرس، ويسقط هذا الوصف عنه عند نزوله عنه إذا وقفه لا يتردد والمعنى في الشمس لأبن الرومي ما هو أجزل من هذا، وهو قوله:
عُجبتُ لِلشمسِ لمْ تكسَفْ لمهلكهِ ... وهو الضِّياء الذي لَوْلاه لمْ تَقِد
قال أبو محمد: وهذا من الأقسام المذمومة، لأنه نقل جزلاً إلى رذل ثم قال:
إنْ يَقْبحُ الحُسْنُ إلا عنْدَ طَلعْتِهِ ... فالعبْدُ يقبحُ إلاَّ عِنْدَ سَيِّدِهِ
فسر هذا بعض المتكلفين فقال) إن (معناه: إنّ الحسن ليقبح عند إضافته إلى إشراق حسنه لنقصانه عنه كما أن العبد لا يحسن عند أحد حسنه عند مولاه.
قال أبو محمد: وهذا تفسير غير واضح ومعنى غير لائح لأن هذا التفسير إنّما يصح لو كان البيت لا يقبح الحسن إلا عند طلعته كالعبد يقبح إلاّ عند سيّده
على أنّي لا أعرف هذا التشبيه ما هو، وقد يمكن أن يستحسن الناس شيئاً لا يستحسنه مولاه ويتمنّون ملك من لا يعبأ به مالكه ولا أعلم في هذا الشعر أصلح من قوله:
نَفْسٌ تُصغّرُ نَفْسَ الدَّهْر من كِبَرٍ ... لَها نُهَى كَهْلِه في سن أمْردِهِ
ومثله قول البحتري:
حَدثٌ يوقّرُهُ الحجى، فكأنّما ... أخذ الوقار منْ المَشيبِ الشَّاملِ
وأخذه جميعاً قول مسلم:
كَبيرهُمْ لا تَقومُ الرَّاسياتُ لَهُ ... حِلْماً وطِفْلُهُم في هدي مُكْتهِلِ
ويتلوها قصيدة أولها:
أهْلاً بدارٍ سَباكَ أغْيدها ... أبْعدَ ما بانَ عَنْك خُرَّدُها
نذكر ما بلغه علمنا من مسروقها فمن ذلك:
ظَلت بِها تَنْطوي على كبدٍ ... نَضيجةٍ فَوْق خِلبها يَدُها
قال أبو محمد: هذا مأخوذ من أبيات أنشدها محمد بن داود الجراح.
لَهُ من فوق وَجْنته ... يَدٌ ويَدٌ على كَبدِهِ
يَسكنُ قَلْبُه بيدٍ ... ويمنحُ غَيره بِيدهِ
فالشعر المأخوذ أعذب لفظاً، وقد خبر عن شغل يديه وفر فملح وأوضح،
وهذا من السرقة المذمومة، لأنه قد زاد الأول في المعنى فأتم به، فلفظه أعذب فهو أرجح وأحق بما قال.
وقال المتنبي:
يا حادَيي عِيرِها وأحْسبُني ... أُوجَدُ مَيتاً قُبيْلَ أفقدُها
قال أبو محمد: هذا متداول المعنى مبتذل المبنى فمنه قول ابن أبي فنن:
تَنادوا بليلٍ إن رحلتنا غداً ... وناديت إنْ كانَ الفِراق غداً مِتُّ
وقال ابن المعتز:
قَالوا: الرَحيل غداً لا شَكَّ قُلت لَهُمْ ... بَلْ موت نَفْسي من قَبْل الرحيلِ غَدا
إني إذاً لصبورٌ إنْ بَقيتُ وَقدْ ... قَالوا الرحيلَ وإنْ لم يَرحلوا أبَدا
فالبيت الأول من قسم المساواة في الكلام والبيت الثاني زيادة في المعنى ما هو من تمامه.
وقال المتنبي:
قِفا قليلاً بِها عليَّ فَلا ... أقلَّ من نظرةٍ أُزوَّدُها
قال أبو محمد: معنى هذا البيت غير غريب، ولكن أبا الطيب لا يحقر شيئاً بل يأخذ الشعر الرفيع والوضيع، وهو في الأخذ كما قال ابن المعتز في العِشق:
قَلبي وثّابٌ إلى ذَا وذا ... لَيْسَ يرى شيئاً فيأباهُ
يَهيمُ بالحسنِ كما يَنْبغي ... ويَرهمُ القُبحَ فَيهواهُ
وقال أبو محمد: فيجب علينا الاهتمام بما أهتم به وهذا البيت من قول ذي الرمّةِ:
فإِنْ لَمْ يكُنْ إلاّ تعلّلَ ساعةٍ ... قَليل، فإِني نَافعٌ لي قَليلها
وهو من قسم المساواة. وقال ابن أبي فنن:
مَا ضر لوْ زودت خِلك نَظْرةً ... قَبل الرحيلِ وقلت قولاً تجَمل
وقال) المتنبي (:
فَفي فؤادِ المُحبّ نارُ هوىً ... أقل نار الجَحيم أبْردُها
من قول ابن الرومي:
وَقَدْ أملتكَ النفسُ بعد تخوم ... وأبردُ مِنْ هذا على كبدي الخَمر
قال أبو محمد: وهذا من باب مساواة الآخذ) من أخذ (منه.
وقال المتنبي:
شَابَ من الهجْرِ فَرقُ لِمَّته ... فَصارَ مِثْلَ الدمقْس أسْودُها
تخصيصه بالشيب في اللمة ضيق عطن بلفظ يعم جملة اللحة وكان ينبغي إذا خصص فرق اللمة بالشيب أن) يقول (فصار مثل الدمقس أسوده لعودة) الهاء (على المذكر، ولو قال:
شَابتْ لهجر الحبيبِ لِمّته ... فَصار مثْل الدمقس أسودُها
كان في الصنعة أمدح، وهو مأخوذ من القائل:
يبني عَنه أبانَ في شِ ... عْري أبيضهُ بَعد حُسن أسْوده
في هذا البيت مجانسة من ذكر) البين (و) الإبانة (وفيه مطابقة وفيه ضرب من استخراج معنى من) معنى (احتذى عليه وإن فارق ما قصد به إليه من ذلك قول امرئ القيس:
فظلّ العذَارى يَرتمين بِلحْمها ... وشحمَ كهُدّاب الدِّمقْسِ المفتَّل
فشبه الأبيض بالأبيض، فنقل أبو الطيب هذا التشبيه من الشحم إلى الشيب وشبه الأبيض بالأبيض، ففي هذا البيت رجحان على ما قاله أبو الطيب، والسابق أولى به. وقال المتنبي:
بانوا بخرعوبةٍ لها كَفَلٌ ... يكادُ عندَ القيامِ يُقْعِدُها
أخذه من ابن الرومي:
إذا تَمشى يَكادُ يُقْعده ... رَدفٌ كَمثل الكُثيبِ رجْرَاحُ
ولأبي المعتصم:
إنْ نهضت أقعدها ... منْ رَدْفُها دَعص نقى
وهذه الأبيات تدخل في باب مساواة الآخذ المأخوذ منه في الكلام.
وقال المتنبي:
كيف يَحيكُ الملامُ في هَمَمٍ ... أقْرَبُها مِنْكَ عنك أبْعَدُها
قال أبو محمد: ظاهر هذا الكلام متناقض ولا يجوز أن يكون أقرب شيء أبعد شيء إنما كان يصح لو قال:) أقربها مِنْكَ بَعيد (والذي يمكن أن يوجه لكلامه من المعنى أنه أراد: أقربها منك عندك أبعدها في الحقيقة عنك.
وقال المتنبي:
بِئْسَ اللّيالي سَهِرتُ مِنْ طَربي ... شَوقاً إلى من يَبيتُ يَرْقُدُها
الطرب خفة يعتري عند الفرح وعند الحزن جميعاً والمراد بها هاهنا الحزن، والمعنى للبحتري في قوله:
يكْفيك أنّكَ لمْ تَذُقْ ... سَهراً وأنّي لمْ أنمْ
وهذا أعذب لفظاً وهو من نقل العذب من القوافي إلى المستكره الجافي والسابق إلى اللفظ الرطب والمعنى العذب أولى بما سبق إليه.
وقال المتنبي:
لا ناقتي تَقْبلُ الرَّديفَ ولا ... بالسَّوْطِ يَوْمَ الرّهانِ أجْهِدُها
شِراكُها كُورُها وَمِشْفرُها ... زمامُها والشُّسوع مِقْودُها
أراد أنه ركب نعلة فقصد الإغراب، وقد سبقه إلى هذا أبو نواس فقال:
إليْكَ أبا العَبَّاس مِنْ خَير منْ مَشَى ... عَليها إمْتطْينا الحضْرِميّ المُلسَّنا
قلائِص لمْ تَعْرفْ حنيناً إلى طلا ... ولمْ تَدْرِ ما قرْعُ الفنيق ولا الهَنا
فأعرب بمخالفتها حال القلائص في عدم الحنين على الطلاء والجهل يقرع الفنيق وجاء به في أحسن كلام وأوضح نظام فهو أرجح لفظاً من أبي الطيب وأولى بما سبق إليه.
وقال المتنبي:
إلى فَتىً يُصْدِرُ الرّماحَ وَقَدْ ... أنْهلها في القُلُوبِ مَوْدِدُها
قال أبو الشيص في هذا المعنى:
فَأوردها بيضاً ظماء صدورها ... وأصْدرها بالمرِّ ألوانها حُمْرا
فاجتمع لأبي الشيص من التطبيق من الورد والصدر والبياض والحمرة والظمأ والريّ ما رجح به على عمرو بن كلثوم في قوله:
بأنّا نُورد الراياتِ بيضاً ... ونُصدرُهنّ حُمْراً قَدْ رَوينا
فزاد أبو الشيص بالظمأ والريّ عليه فاستوفى أقسامه وجوّد نظامه فهو أولى بما قال ممن لم يتفق له فصار أبو الشيص أولى بما قال: وقال المتنبي:
لَهُ أيادٍ إليَّ قَدْ سَلَفَتْ ... أعَدُّ مِنْها وَلا أُعدّدُها
ملح في قوله أعد منها ولا أعددها، وقد جاء بهذا في قصيدة أخرى فشرح وأوضح:
فاغفرْ فدىً لك وأحْبُني من بَعْدِها ... لتخُصني بعطّيةٍ مِنْها أنا
والمعنيان المأخوذان من قول الحمار:
لا تَنتفني بَعْدَ أنْ رَشَتْنِي ... فَإِنّني بَعْضُ أياديكا
وكلام أبي الطيب أجزل فهو يستحق ما قال بالجزالة.
وقال المتنبي:
أفْرُسها فارساً وأطولُها ... باعاً ومِغْوارُها وسَيِّدُها
قال بعض النحويين إن فارساً منصوب على الحال لا على التمييز وهو
بيت فارغ.
وقال المتنبي:
شَمْسُ ضُحاها، هِلالُ لَيلتها ... دُرُّ تقاصيرها، زَبرْجَدُها
هذا البيت في فساد الأقسام وضعف النظام أشبه بيت ببيت أبي تمام في قوله:
خَلقُ كالمَدامِ أو كَرُضابِ المس ... ك أو كالعَبِير أو كالملاَب
والناس يرتفعون من الدون إلى الأعلى وهذا يرتفع من الأعلى إلى الدون جعل خلقه كالمدام أو كالمسك، والمسك أطيب من المدام والعنبر والملاب. وقد ذكر أبو بكر الصولي أن بيت أبي تمام له مخرج من ذلك، قال المعنى كالمدام فإن قال قائل قد أفرطت قال: كالعنبر أو كالملاب.
قال أبو محمد: وهذا تفسير لا يدل عليه ظاهر الكلام ومفسره يدخل في جملة مخرجي الضمير: قال أبو بكر أنه أراد تقديم المسك في النية وإن أخره في اللفظ لاستواء القافية. ومنها أن يحمل ذلك على قول الله تعالى:) من بعد وصية يوصي بها أو دين (فالدين قبل الوصية، وعلى جميع ذلك كلام العرب.
فالجواب الأول قد عرفتك أنه بقول المنجمين المخرجي الضمير أشبه منه بقول المفسرين، وأما قوله، أراد استواء القافية ونوى التقديم والتأخير فإن إرادة القافية باستواء المعنى أن يساغ وصار قياساً وقع في الشعر من التخليط ما تفسر به معانيه ويستولي على كثير من قوافيه. وأمّا قوله إن هذا محمول على قول الله عز وجل:) من بعد وصية يوصي بها أو دين (فليس بحجة وإن كان الدين قبل الوصية لأن الدّين والوصية ليسا ممّا كنّا فيه من الأعلى إلى الدون، إذ ليس بين الدين والوصية تفاضل من العلوّ إلى الدّنوّ، ولولا أن الشريعة دلت على تقديم الوصيّة لما عرفنا الأعلى منهما من الأدنى وأنواع الطيب متفاضلة، فإذا شبه أبو تمام بالأفضل غني عن الأرذل وقول أبي الطيب:) شمس ضحاها (.
لا يوجب قوله:) هلال ليلتها (وكان أشبه أن يقول) بدر ليلتها (وكذلك قوله:) درّ تقاصيرها، زبرجدها (التقصار: القلادة القصيرة، ولم يعتمد في هذا البيت على الطول والقصر فيها وإنما مراده أنك في قومك كالدّر نفاسة، وقوله:) درّها يغنيه عن زبرجدها (لأنه أنتقل من الأفضل إلى الأرذل، وقد قال إبراهيم بن العباس للصولي:
ما كنت فِيهنّ إلاّ كُنْتَ واسطةً ... وَكُنّ دُونكَ أولاها وأخراها
فالواسطة من القلادة أنفس ما يليها من جملتها فقد اكتفى بهذا الوصف
ودل على الأنفس، فلفظه أجزل وأرجح وهو بما قال أحق من أبي الطيب.
وقال المتنبي:
يا ليْتَ بي ضَربَةً أُتيحَ لَها ... كما أُتيحتْ لَهُ مُحمَّدُها
أثَّرَ فيها وفي الحديد وَمَا ... أثّرَ في وَجْههِ مُهَنَّدُها
فاغتبطت إذْ رأتْ تَزَيّنَها ... بِمثْلِهِ والجِراحُ تَحْسُدُها
قال أبو محمد: هذا كلام عجيب ومعنى غريب وذلك أنه تمنى ضربة تقع منه مثل ضربة الممدوح ولا أعلم هذا مما يتمنى، فإن أحتج محتج فقال: أراد بهذا مذهب من إذا رأى مكروهاً بإنسان، قال: يا ليت لي ذلك دونك كما قال القائل: أنا مُذْ خَبرت بالعلةِ والله عَليل
لَيْتَ حَماك بِجِسمي ... ولك العُمر الطويل
ومثله قول القائل:
لا بِكَ السقْم ولكِنْ كَانَ بي ... وبِنَفْسي وبأمي وأبي
قِيلَ لي إنّكَ صَدعْتَ فَمَا ... خَالَطتْ عَيناي حَتّى دِير بي
قلنا له هذا مستعمل لولا ما يليه من قوله إنه أثّر في الحديد والضربة ولم يؤثر فيه وذكر أنها مغتبطة بتزينها به وما لم يكسب ألماً ولا شيئاً فليس للمفدّا منه فائدة في الفدية ولا في تمني حمل مكروه عنه إلا أن يكون قوله:) يا ليتَ لي ضربة على وجه الحسد له (على ما لم تؤثر فيه أثراً ولا أكسبته ألماً وللضربة فيه زينة فما أختار له أن يحسد الممدوح على ما زين الضربة وهو محار لتزينها فما نحسن أن ينفس عليه بما أختاره وما أعلم أن بشراً يوصف بأن السيوف لا تستعمل
ولا تؤثر في جلده وتبوء عنه ولو استعمل هذا مستعمل في وصف رجل وقح على المبالغة كان أحسن من دخوله في المديح كما قال الشاعر:
اللّؤْمُ أكرمُ من وَبْرٍ ووالده ... واللّؤْمَ أكرم مِنْ وبرٍ وَما ولَدا
لو أنّ حافر برذوني كأوجههم ... بني الزوابي لَما أنْعلته أبَدَا
قال أبو محمد: وقد قلت أنا في هذا المعنى:
يا جامعاً زهْوَ الملو ... ك ولَؤم أخلاق التجار
أرجعْ إلى الفقر القَدي ... م فَقدْ فسدت على اليسار
وخطرتَ في سُكر الغِنى ... وأمنْتَ عاقِبه الخُمار
أبديتَ وجهاً للعُفَا ... ة مُقنّعا بِقناع عار
لو أنّه لقي الحجار ... الصُّمّ أثر في الحجار
أو كانَ ترس محاربٍ ... لارْتدّ عنهُ ذو الفقار
هذا وما أشبهه في الهجاء أبلغ وأسوغ منه في المديح وقوله: أثر فيها وفي الحديد أخاله نذكرها وهو أن التأثير لا يقع إلا في الصور وإنما التأثير يقع في الضربة في صورته أو صورة الحديد فأما أن يؤثر في الضربة فلا يجوز لأن الضربة عرض فلا يصح فيها التأثير وهذا من القسم الذي يصير على التفتيش والانتقاد
إلى تقصير أو فساد.
وقال المتنبي:
وأيقَنَ النَّاسُ أنَّ زَارعِها ... بالمكْرِ في قَلْبِهِ سَيحصُدُها
يعني الضربة.
وقال أبو العتاهية:
غداً تُفي النّفوسُ ما كَسبت ... وَيحصدُ الزَارعون ما زرعوا
وهذا من قسم ما أخذ عليه وإنْ فارق ما قصد به إليه.
وقال المتنبي:
تَبكي على الأْنصُلِ الغُمود إذا ... أنْذَرها أنّهُ يُجَرّدُها
لعِلْمها أنها تَصِيرُ دَماً ... وأنَّهُ في الرقابِ يُغْمِدُها
جعل العلة في بكاء الغمود عليها أنها تعمد في الرقاب ولا بد من مسح النصل من الدم فيعود إلى حاله وإلاّ نبا إن ترك وأمّا إغمادها في الرقاب فذلك بمقدار زمان يقع اللقاء فيه
فما تبكي الغمود من ذلك إلاّ أن يكون إذا سل سيوفه يصير من رقاب إلى رقاب فلا تعود أبداً إلى غمودها وهل فيها حسن يوجب لها إلفاً فتبكي لفقد ما ألفت؟ وأظن أنّ أبا الطيب أستضعف نسج هذه القصيدة فجعلها مما قاله في الصبي ليقوم عذره في ضعفها وفائدة هذا الشعر أنّه في الرقاب يغمدها وهو مأخوذ من بيت أنشده ابن قتيبة:
وما انتضينا السيوف يَوْم وغىً ... إِلا وفي الرأس نَحْنُ نُغْمْدها
وقال أبو دلف:
سادوا وقادوا وذادوا عَنْ حَريمهم ... وأغمدوا البيض في هامٍ وأعناق
وقال الحماني العلوي:
وإنا لتصبح أسْيافُنا ... إذا ما انتضين ليوم سًفُوك
منابرهُنّ بطونُ الأكّفِّ ... وأغمادهنّ رؤوس الملوكِ
البيت الأول الذي أنشده ابن قتيبة هو بيت أبي الطيب بلا زيادة في مبناه ومعناه وهو من قسم مساواة الآخذ المأخوذ منه في الكلام وقد أتى أبو دلف ببيت شغل صدره بعدّة أوصاف وأتى بمعنى أبي الطيب في عجزه، فرجح كلامه وأستحق معناه. والحماني قسم حال السيوف فعبر عن حال حملها وعن حال أغمادها في رؤوس الملوك وخصص كلامه بهم دون غيرهم فقد رجح كلامه على كلام الجميع وأستحق المعنى عليهم.
وقال المتنبي:
إذا أضلَّ الهُمام مُهُجتَهُ ... يَوْماً فأطرافُهُنَّ تُنْشِدُها
أي إذا أضل الهمامُ مهجته فقدها فإنما يسل أطراف هذه السيوف عنها. أخذه من قول مسلم:
فأتوا الرَّدى وظباه البيض تَنْشُدُهمْ ... وأنت نصب المنايا غَيْر مَنْشود
فخبر أن ظباه البيض تنشدهم وأن الممدوح هو نصب المنايا وهو غير منشود لا تطلبه السيوف هيبة من حاملها له وقد صحح أبو الطيب من ذكر الضلال والنشدان فرجح كلامه.
وقال المتنبي:
وأنكَ بالأمسِ كُنت مُحْتلماً ... شَيخَ مَعدّ وأنتَ أمردها
يريد بانك بانك، وأنشد سيبويه:
ويوماً تُوافِينا بوجْهٍ مُقسّمٍ ... كأنْ ظبيه تعطو إلى وَارق السلمْ
في قول من نصب ظبيه وفيه قبح لأنّ الإضمار يرّد الأشياء إلى أصولها والأصل الثقيلة، ولو قال وأنت بالأمس استراح من تعسف الإعراب ولكنه يؤثره في إخباره أنه كان محتلماً شيخ معد ما يغني عن قوله: وأنت أمردها، ويكفي بقوله:
وأنتَ أمردها ع ... نْ ذكر مُحْتلمٍ
وليس هذا من الحشو الحسن بل كقول أبي العيال الهذلي.
ذَكْرتُ أخي فَعاودني ... صِداعُ الرأس والوصَب
فذكر الرأس بعد الصداع حشو يستغني عنه.
وكذلك قول ديك الجن:
فَتنفستْ في البيت إذْ مُزجَتْ ... بالماء واستلَّتْ سنا اللهبِ
كتنفسِ الريحانِ خَالطَهُ ... مِنْ وردِ جُوْرٍ ناضر الشُّعبِ
فذكر الماء بعد المزاج فضل مستغنى عنه والبيتان يكفي منهما بيت أبي نواس بلا حشو.
فتنفستْ في البيت إذْ مُزجتْ ... كتنفسِ الريحان في الأَنفِ
فإن ظنّ ظانٍ أن قول أبي نواس مثل قول ديك الجن في) مزجت بالماء (فما أصاب لأنه معلوم أنه لا يكون مزاج الخمر إلا بالماء وقد يتنفس الريحان في حيث لا يحضره شامّ وإنما يلذه صاحب الشم كما يلذ شم الخمر والمسك وما أشبههما فبينهما فرق واضح، وبيت أبي الطيب مأخوذ من قول ابن بيض:
بَلْغتَ لِعشر مَضَتْ من سَنيك ... كما يَبلغُ السيّدُ الأشيب
وقال البحتري:
قَدْ أكملَ الحِلْمَ وأشتدّت شكيمتُهُ ... عَلى الأعادي ولمْ يبلغ مَدى الحُلُمِ
فأملح ما ذكرناه من هذا المعنى قول ابن بيض لأنه مخلّص من الحشو وقد أتبعه بما يليق به ونشرحه وهو:
بَلغْتَ لِعشرٍ مَضَتْ مِن سَنيك ... ما يبلغُ السيدُ الأشيبُ
فَهمّك فيها جسامُ الأمورِ ... وَهَمُّ لِداتك أنْ يلعَبُوا
فهو أحق بما قال من أبي الطيب، فأما البحتري فبلغ مراده وفسرّه وليس في بيته فضل عن معناه، وابن بيض بلغ مراده في بيتين فكأنه قد استوفى الطويل، في الموجز القليل، وصار البحتري أولى به منه وفي معنى قول ابن بيض قول الفرزدق:
غُلامانَ شبا في الحُروبِ وأدْركا ... كنارِ المساعي قَتل وَصْل لِجاهما
وقال المتنبي:
أقَرَّ جلْدي بها عَليَّ فَما ... أقْدِرُ حتى الممات أجْحدُها
هذا معنى رديء لأن في طبيعة جحود النعمة فما أقربها عليه جلده صار لا يقدر على الجحود الذي في طبعه كمن يريد جحد واجب فإذا علم أن عليه شهوداً به أقر به وهذا تشبيه قول ابن بسام.
وَقَدْ ظَهرت لأمرِ آتامه ... على نفرٍ وإنْ لَمْ أقر
(1/222)
وأحسن من هذا المذهب مذهب الحارث بن خالد المخزومي في قوله:
وَلها علينا نِعْمةٌ سَلفتْ ... لسنا مدى الأيام نجحدُها
فجعل الإقرار بنعمتها وجهاً يحسن وقائه لا ضرورة وقد قال البحتري: لشاكر مِنْك فضل نُعْمى وكفْرُ نُعمْى الكريمِ كُفْرُ ثم ختم القصيدة بقوله:
فَعُد بها لا عدْمتُها أبداً ... خَيْرُ صلات الكريمِ أعوَدُها
فبينما يخبر عن الممدوح لترديده صلاته إذ سأله أن يعود إليها والعائد يكون بادئاً فكأنّه قد نسي قوله:
وَمكرماتٍ مَشَتْ على قَدم ال ... ر إلى مَنْزلي تُردِّدُها
فقوله فعدّ بها) الهاء (راجعة إلى المكرمات، والمردد لا يسأل عودته فأما المعنى في البيت فمن قول لبيد:
فَعد أنّ الكريمَ لَهُ مُعاد ... وظني بابن أروى أنْ تَعودا
وقال غيره:
بَدأتمْ فأحسنتمْ فأثنيت جاهداً ... فإِن عدتم أثنيتَ والعودُ أحمدُ
وقال أبو تمام:
بدأ النّدى وأعادَهُ فِيهمْ وكَمْ ... من مُبدئ لِلعرف غَيرُ مُعيدِ
وقال:
إنّ ابتداءَ العُرْفِ مَجدُ باسِق ... والمجدُ كلُّ المجْدِ في استتمامِه
ومعنى بيت أبي تمام أن ذكر ابتداء وطلب عوده ولم يخبرنا بترديد ذلك
وتكرره، وأبو الطيب طلب المعاودة كأنه مبتدئ فما طلب بعد تكرير الممدوح وتردده وفي لفظ بيت أبي تمام جزالة وفي لفظ أبي الطيب عذوبة واختصار يستحق المعنى به هذا إن سلم أبو الطيب معرفة لأبي تمام فقد عرفني من أثق به من أهل الأدب أنه قيل له أنت تأخذ من شعر أبي تمام فقال: قلت الشعر وما أعرف أبا تمام، وهذا الكلام يحتمل الصدق لأنه ذكر أن قال الشعر في الكبر وهو صبي ذو وفرة وذلك قوله:
لا تَحسنُ الوفْرَةُ حتّى تُرَى ... مَنْشُورةَ الضَّفْريْنِ يَوْم القِتالْ
على فَتىً مُعْتقلٍ صَعْدَةً ... يُعلُّها مِنْ كل وَافي السِّبّالِ
فغير منكر أن يحركه طبعه على قول شيء من الشعر وهو لا يعرف الشعراء ثم يعرفهم ويأخذ من معانيهم فما في كلامه براءة مما أتهم به إذا تؤول على هذا التأويل فإن جوز متعصب أن يكون معنى كلامه) قلت الشعر وما أعرف أبا تمام مذ قلته إلى وقتي هذا، قلنا له: إذا تأولته على هذا المعنى كان أول كلام غث العبارة لأنه يخبرنا أنه قال الشعر وهذا ما لا يجهل من أمره ولا يتعلق بقوله: وما أعرف أبا تمام وكان يكفي منه أن يقول: وما أعرف أبا تمام وإنما ينبغي أن يكون هذا جواباً لسائل لا يعرفه، تقول: أنت تقول الشعر وإذا قلته: أتسرق من أبي تمام، فتقول عندها: قلت الشعر وما أعرف أبا تمام فيصح الكلام لا الدعوى في إنكاره معرفة أبي تمام لأن إفكه في إنكار مثله واضح ودليل بهته لائح لأمرين أحدهما: ما أورده من المعاني الكثيرة التي أخذها من شعره لا يجوز مع تواترها وتوافرها أن يدعى بها اتفاق الخواطر ولا تساوي الضمائر لأن ذلك كما قلناه ينساغ في اليسر ويمتنع في الكثير والآخر أن أبا تمام قد أعطي من اشتهار الاسم في الخاصة مثل ما أعطي من اشتهاره في العامة وهو اشتهار لا يجوز أن
يظن بمتأدب جهله افترى أبا الطيب ما جالس المتأدبين ولا دخل سوق الوراقين فيسمع خبره على الألسن مشهوراً وفي الكتب مذكوراً. هذا خارج عن الحق مباين) للصدق (ولو كان قال: ما عرفت ما قرأت شعر أبي تمام لكان) قرأت (أمكن من) عرفت (لأنه يمكن أن يقرأ أولاً ولا يمكن أن يعرف، وأن أبا تمام معه مظلوم الإحسان مجحود الامتنان محتقرة منفعته مكفورة نعمته وسيمضي من أخذه عنه ما يدّل أنه بهذه الصفة، ولو علم الراغب به عن سرقة شعر أبي تمام أني سأورد من سرقاته ممن لا يعارض أبا تمام به ولا يوازن مقداره ولا يسبق غباره من الشعراء المحدثين الذين لهم صيت أبي تمام ولا صنعته ولا علمه ولا رفعته وهو نصر الخبزأرزي لاشتغل عن الانتصار له
في أبي تمام وأنا أعلم أن الإنكار يقع لي في سرقته من نصر لأنهم إذا كانوا يرغبون به عن السرقة ممن خدم عصره وعظم في النفوس قدره كانوا ممن قارب عصره ولم يتناقل الأدباء شعره أرغب به وهذه الطائفة السامية بقدره المفرطة في تعظيم أمره عرفته بعد خطوته وارتفاع صيته ورتبته ولم تعرفه وهو دقيق الخمول وهو بمنزلة المجهول وقد كان زمانه في هذه الحال أطول مسافة من زمانه في ارتفاع الحال ووجود المال الذي شهر اسمه وأبان لهم فضله وعلمه وأنا أورد عليك من خبره ما خبرني به أبو القاسم علي بن حمزة البصري وكان من المجردين في صحبته والمغرقين في صفته، ذكر أنه حضر عند أبي الطيب وقت وصوله من مصر إلى الكوفة وشيخ بحضرته فيه دعاية لا تقتضيها منزلة أبي الطيب في ذلك قال فرأيت أبا الطيب محتملاً لِما سمعه، فقال له: فيما قال: يا أبا الطيب خرجت من عندنا ولك ثلاثمائة قصيدة وعدت بعد ثلاثين سنة ولك مائة قصيدة ونيف من القصائد، أفكنت تفرقها على المنقطعين من أبناء السبيل، فقال له: ألا تدع هزلك، قال: فأخبرني عن قصيدتك الشاطيرية التي خرجت من أجلها إلى البصرة حتى أظهرت فيها معارضتك للخبزأرزي، لِمْ أسقطتها فقال: تلك هفوات الصبا فقال: فسألت الشيخ أتحفظ منها شيئاً قال: فأنشدني أبياتاً عدة قال أبو القاسم: فأمهلت أبا الطيب مدّة حسن معها السؤال وخفي المقصد، فقلت له: أدخلت البصرة قط؟ قال: نعم، قلت: فأين كنت تسكن، فخبرني عن منزل أعرفه كان الخبزأرزي منه على أذرع يسيرة أربع أو خمس فعلمت أن الشيخ قد صدق
وخبرني أبو القاسم علي ابن حمزة لأنه سأل عن خبرة الشيخ عليه فذكر مخبره أن أبا الطيب كان ممن يألفه الشيخ قديماً في حال صباه والذي أنكره المتعصبون من هذا الأمر هو الذي أطمع أبا الطيب فيه وظنّ أن الخبزأرزي يقرب زمانه منه ودنأة صنعته وأن العلماء لا يشتغلون برواية شعره لأنه لا يجوز عليه الأخذ منه ولا يتنبه على مواضع سرقته منه وسيرد عليك من المأخوذ منه ما يعرفك من ذلك برهاناً ويوضح لك منه بياناً ثم يعود إلى موضع التأليف. وتتلو ما تقدم أبيات قليلة الفائدة وهي:
مُحبّي قيامي ما لِذالكمُ النَّصْل ... بَريّاً مِنْ الجرْحَى سليماً من القَتلِ
قال فيها:
أرَى في فِرنْدِي قِطْعةً في فِرْنِدِهِ ... وَجَوْدَةَ ضَرْب الهامِ منْ جَوْدةِ الصّقْلِ
أمّا قوله: أرى في فرندي قطعة من فردنه: فينظر إلى قول أبي تمام:
في كُلَّ جَوْهَرةٍ فرْنِدٌ مُشْرِقٌ ... وَهُمُ الفِرْندُ لهؤلاء النَّاسِ
فعمّ كل جوهرة بفرند ولم يخص السيف وجده وجعلهم فرنداً للناس، فهو أملح وأمدح، وقال المتنبي:
وَخُضرَةُ ثَوْبِ العَيْشِ في الخُضرَةِ التي ... أرتْك احْمِرارَ الموْتِ في مَدْرج النَّمْلِ
أخذه من القائل في سيف:
وصَقيل كأنَّما درج النمل ... على مِتنه لرأى العيون
أحضر فيه لامعات المنايا ... لايحات ما بين حُمْد وجون
والمعاني هي المعاني غير أنّه قد أنتظم معنى البيتين في بيت فصار مستوفياً للفظ الطويل في الموجز القليل فأستحقه، وختم الشعر بقوله:
وَذرْني وإيّاهُ وطرْفي وَذَابِلي ... نكُنْ واحداً نَلْقى الوَرى وانظرا فِعْلي
احتذى قول مسلم:
كَليني إلى النصلينِ عزمي ومقولي ... وكرّي وأسد الغابِ يَخْطر دُوني
واستخراج هذه السرقة لِما قدمناه من الشرط فيما يأخذه من المعنى المتوسط المتداول المتناقل خوفاً من أن يظن بنا الضعيف العلم أنّه سبق إلى معرفته ما جهلناه أو لسهو مناعته فأغفلناه، ونورده احتراساً من ذلك لا نحقره كما لا يحقره من سرقة فهذا عذرنا في هذا. ويتلو ما تقدم قصيدة أولها:
كَفى فَقدْ أراني لومك أولى باللومِ ... همّ أقامَ على فؤادي أنجما
وترتيب معنى هذا البيت:
كَفى فَقدْ أراني لومك أولى باللومِ ... همّ أقامَ على فؤادي أنجما
وهذا صعود وجذور محصولة محقورة المعروف في هذا أن يقال اللائم ألوم فأما اللوم فلا يلام لأنه غير الملوم والملوم الغافل واللّوم كلام فالواجب أن يلام الغافل دون الكلام كما قال المسلمي:
فَلو كانَ في أثْر المشيبِ بكاؤهُ ... لكان الذي ناداهُ باللوم ألْوما
وقال العتبي:
يَلومني الناسُ على حُبكمْ ... والناسُ أولى مِنْك باللومِ
فهذا الكلام موضوع في حقه وصاحبه أولى به ممن أخذه، ووضع الكلام في غير حقه. وقال المتنبي:
وَخيالُ جِسْم لم يُخلّ بِه الهوى ... لحماً فينحِلَهُ السّقام وَلا دَما
فذكر من فعل السقام به ما ذكره أبو العتاهية في قوله:
واللهِ ما أبقيْتِ من جَسَدي ... لحماً ولا أبقيْتِ لي عَظْما
وهذا من مساواة الآخذ المأخوذ منه في الكلام.
وقال المتنبي:
وخُفوقُ قلبٍ لوْ رأيت لهيبَهُ ... يا جَنّتي لظننتِ فيه جَهنما
أخذه من قول بعض المحدثين:
في النّارِ قَلْبي، وَعيْنِي ... في الروضِ من وَجْنته
وهو من نقل اللفظ القصير إلى الطويل الكثير، فصاحبه أحق، لأن أبا الطيب أجمل المعنى في الجنة والنار ولم يشرح، وهذا قد أبان موضع النار من قلبه والجنة في عينه فهو أولى من أبي الطيب، وقال المتنبي:
وإذا سَحابةُ صَدّ حبٍ أبْرقَتْ ... تَركتْ حَلاوة كُلّ حُبّ عَلْقما
ليس هذا البيت من ألفاظ حذاق الشعر لأن ذكر السحابة والإبراق لا يليق بذكر الحلاوة والمرارة، ولو كان) كما (قال:
وإذا سَحابةُ صَدّ حبٍ أبْرقَتْ ... مَطرت عيون العاشقين بها دَما
أو ما شاكل ذلك مما يليق بذكر السحابة والإبراق أو كان يقول:
وإذا مرارة صدّ حبٍ أبرقتْ ... تَركتْ حَلاوة كلَّ وصلٍ عَلْقمَا
فجمع بين الصدّ والوصل، والحلاوة والمرارة في العلقم لتصح الأقسام ويعتدل الكلام، كان أليق بصنعة الشعر، ألا ترى أن الخبزأرزي أصح أقساماً منه لقوله:
ومن طاعتي إياهُ يُمطر نَاظري ... إذا هو أبْدى من ثناياه لي بَرَقا
فجاء بما يشاكل بعضه بعضاً ويتعلق اللفظ به.
قال أبو محمد: وهذا مما يصير على الانتقاد إلى تقصير وفساد.
وقال المتنبي:
يا وَجْهَ داهيةِ الّتي لوْلاكِ ما ... أكلَ الضَّنى جسدي وَرضَّ الأعظما
ليس هذا مما يشتغل باستخراج سرقته وهو يشبه قول الخبزأرزي:
وحَق الهوى إنّي أحس مِن الهوى ... على كَبدي حمراً وفي أعظمي رضّا
وقال المتنبي:
إنْ كانَ أغناها السُّلُوُّ فإِنَّني ... أمْسيتُ مِنْ كبدي وَمِنْها مُعدما
قال منصور النمري:
وأن يعلى صبري لكل ملمةٍ ... عَنْ الصبرِ من أم الوليدِ مُعْدمِ
وذكر العدم ولم يذكر المعنى وبيت أبي الطيب فيه مطابقة مليحة يرجح بها فأما قول الديك:
هي نكبةٌ فؤادي منْ أسىً ... إذْ غادرتْهُ من العزاءِ عَديما
فهذا يتساوى فيه الآخذ والمأخوذ منه. فإن كان أبو الطيب قد جعل الغنى عند محبوبه والعدم عنده لأن اجتماع الحالين المضرين في فؤاد واحد توفيه الأقسام وصنعة في الكلام ووقوع علة بارتفاع أخرى رجحان في اللفظ يحكم لديك الجن به، وقال ابن المعتز:
يا ابن بشر أنت مش ... غول بغيري لا هَنَاكا
يا غنياً بأناس هبْ افق ... ري من غناكا
وهذا البيت من نقل اللفظ القصير إلى الطويل الكبير.
وقال المتنبي:
غُصن على نَقويْ فلاةٍ نابِتٌ ... شَمْسُ النهارِ تُقلُّ ليلاً مُظلِما
فأخذ بيت ديك الجن بكماله وهذا هو اللفظ المدعى هو ومعناه معاً ومع ذلك فتقسيم السابق أصح لأنه ذكر من آخره إلى أوله على ترتيب صحيح فبدأ بردفه وقده ووجهه وشعره، وهذا بدأ بقده ثم بردفه ثم رجع إلى وجهه وشعره فترتيبه مخلط وإن كانت شجاعته التي يذكرها عن نفسه في اللقاء كشجاعته على سرقة هذا البيت أنه لشجاع وقال المتنبي:
كَصفاتِ أوْحدنا أبي الفَضْل التي ... بَهرتْ فَأَنْطَقَ واصفيه وأَفحما
فهذا سرقة من ابن الرومي:
يعطي فينطق ذا الأفمام نائله ... ويفحمُ الفحل شعراً أي أفمام
فهما وإن أجمعا في المطابقة فقد رجح ابن الرومي بالشرح والإيضاح في البيتين وعرف أن تواتر عطائه يلزم المفحم الشكر، فينطق وبلاغته يفحم الفحل من الشعراء فيصير مفحماً، وكلام ابن الرومي أوضح وأرجح وهو أولى بما قال: وقال المتنبي:
يُعْطيكَ مُبْتدئاً فإِنْ أعْجلتَهُ ... أعْطاكَ مُعْتذراً كَمنْ قَدْ أجرَما
أخذه من قول ابن المعذل:
يُعطيكَ فَوْقَ المنى من فَضل نائلهِ ... وَليس يُعطيك إلاّ وهو مُعْتذرُ
وقال أبو تمام:
أحو أزماتٍ بَذْلهُ بَذْلُ مُحْسنٍ ... إِلينا. ولكنْ عُذْرهُ عذْرُ مُذِنبِ
وقول ابن المعذل أجودها لأنه شرط أن عطاءه فوق المنى ولأنه لا يعطي مبتدئاً ولا معاوداً إلا وهو معتذر، وأبو تمام يشترط هذا الشرط إنما ذكر فقال) بذل محسن أو عذر مذنب (ولم يقل إن عطيته فوق المنى وقد يستحق المعطي اسم المحسن بأقل إعطاء ويجوز أن يعتذر لعلمه بقلة العطية وبيت ابن المعذل أرجح لفظاً وإن كان في بيت أبي تمام مطابقة مليحة ولم يحصل لأبي الطيب غير أنه يعطيك ولم يجد العطية بقلة ولا كثرة فإن أعجلته أعطاك واعتذر وما يقع اعتذاره بعد الإعجال إلا لأمرين أحدهما أنه أحوجك إلى المسلة أو قلة ما حضره من العطاء كما حكي أن شاعراً أعجل بعض الأمراء وهو عبد الله بن طاهر فدفع إليه ما أمكنه أن يجود به وكتب إليه:
أعجلتنا فأتاكَ عاجلُ برّنا ... قلاًّ، وإنْ أمهلتَنا لمْ يَقلْلِ
فَخُذ القليلَ وكنْ كأنَّك لمْ تَسلْ ... وَنكون نَحْن كأنَّنا لمْ نَفْعَلِ
ومن أعتذر بعد الإكثار أولى ممن اعتذر بالكرم من إعجال أو تقصير، فعبد الصمد أولى بشعره ممن أخذ منه.
وقال المتنبي:
ويَرى التَّعظُّم أنْ يُرَى مُتَواضِعاً ... وَيَرى التَّواضُعَ أنْ يُرى مُتَعظِّما
أخذه من قول أبي تمام:
تَعَظَّمْتَ عَنْ ذاكَ التَّعظُّم مِنْهُمُ ... وأَوْصاكَ نُبْلُ القَدْرِ إلا تَنبَّلا
فنفى أبو تمام عن الممدوح التعظم لعظم قدره عنه ورفعة نبل القدر عنه التنبل والعظيم غير المتعظم والنبيل عند المتنبل وبيت أبي الطيب رديء الصنعة لأنه كان ينبغي أن يقول: يرى التعظم أن يتواضع والضعة أن تعظم فأمّا أن يوقع التعظم المذموم موقع التعظم المحمود والتواضع المحمود مكان الضعة المذمومة فقد أساء الصنعة وترك مراعاة النقد في شعره وأبو تمام أولى بما قال.
وقال المتنبي:
نَصر المطال على الفْعَالِ كأنَّما ... خالَ السؤالِ على النَّوالِ مُحَرَّما
فكأنه يخبر عن الفعال عنده مقصور على المطال بإسراعه إليه ولم يخبرنا بأن فعاله قبل السؤال أو بعده فإذا أعطى قبل السؤال فلا سلطان للمطال على فعاله، ولو قال سبق السؤال إلى الفعال كان أمدح كما قال سلم الخاسر:
يحْيى بنْ خالد الذي ... يُعْطي الجزيلَ ولا يُبالي
أعْطاكَ قَبْل سُؤالهِ ... فكفاكَ مَكْروه السُّؤَالِ
والمطال لا يكون إلا بعد وعد فقد جمع هذا الكلام الإخبار بما أخبر عنه أبا الطيب من كرم الممدوح، وخبر بكرم آخر من أنه لا يحوج السؤال، وقد قال أشجع:
يَسْبقُ الرْعْدَ بالنَّوالِ كما يَسْ ... بقُ بَرْقَ الغيُوثِ صَوْبُ الغَمامِ
وهذا مدح متجاوز رائق وتشبيه واقع وبيت سلم عذب موجز فهما أحق بينهما ممن سرق منهما.
وقال المتنبي:
يا أيُّها الملك المُصَفَّى جَوْهراً ... مِنْ ذَات ذي الملكوت أسْمَى مِنْ سَما
نُورٌ تَظاهرَ فيك لاهُوتيَّةً ... فَتكادُ تَعْلمُ ما لنْ يُعْلَما
هذا مدح متجاوز فيه قلة ورع وترك للتحفظ لأنه جعله من ذات الباري وذكر أنه قد حل فيه نور لاهوتي ثم قال بعد هذا كله فيكاد يعلم فأتى بلفظ المقاربة ولم يطلق عليه علم الغيب وقد رأينا من الشعراء من لم يعط من مدحه هذه الصفات ويطلق على الممدوحين أنهم بالحسن اللطيف يدركون ذلك كقول أبي علي البصير:
وكيف يجوز أن على ... أديب لطيف الحسن تطلع العيوبا
ومثله قول ابن الرومي:
حُماكَ وأقصاك وظرف ونجدة ... ورأي يريه العيب لا رجم راجم
فهذا مذهبهم في المبالغة على أنهم لم يعطوا الممدوحين الدرجة التي أعطاها أبو الطيب هذا الممدوح فكيف قنع له بأن يمنعه ما قد دفعه غيره إن كان تورع فورعه عما قاله فيه أولى به.
وقال المتنبي:
وَيهُمُّ فِيكَ إذا نَطَقْتَ فَصاحةً ... مِنْ كُلِّ عِضْوٍ منْكَ أن يَتكلّما
النور لا يوصف بالفصاحة ولكنها استعارة تشبه قول ماني:
دَعِيني إلى وَصْلها جَهْرةً ... وَلَمْ تَدْر لأنّي لَها أَعْشَقْ
فَقمْتُ وللسَّقمِ منْ مَفْرقَي ... إِلى قَدمي ألسنٌ يَنْطقُ
وقال المتنبي:
حَتَّى يَقُولَ النَّاسُ ماذَا عَاقِلاً ... ويقُولَ بَيْتُ المالِ مَاذا مُسْلِما
ليس من التوفيق أن يسرق السارق ما قد عيب على السابق فيحمل عيب السرق ويسرق معيباً، ألم يعلم أنه فيما عيب على أبي نواس قوله:
جَدتْ بالأموالِ حَتَّى ... قِيلَ ما هذا صَحِيحُ
وقال أبو نواس أيضاً:
جَدَتْ بالأموالِ حَتَّى ... جَعَلوه النَّاس حُمْقا
وذلك أن في ظاهر هذا القول استخفافاً بالممدوح وإخباراً له باستحماق الناس إياه وليس السخاء حمقاً بل التبذير، وذلك وضع الشيء في غير موضعه كالجود في موضع الإمساك والإمساك في موضع الجود فهذا هو الحمق فلا يسامح
الناس أبا نواس وهو مطبوع لا يطيل في شعره تكرير نظره ولا كد فكره فكيف يسامحه من لا يظهر له قصيدة إلا في الزمان الطويل في اللفظ المقصر أو المعنى القليل مبتدئاً فكيف مقتدياً وسابقاً فكيف سارقاً والحسن قول أبي تمام:
عَطاءُ لَوْ اسْطَاعَ الَّذي يَسْتَمِيحُهُ ... لأصْبحَ مِنْ بَيْنَ الورى وهو عَاذِلُهُ
وكان الطالب برفده يعلم أنه يجحف بنفسه فيقول له دون هذا كاف فحسبك وقد قيد أبو نواس بأن قال لو اسطاع فأما إطلاق الحمق على الممدوح فقبيح.
وقال المتنبي:
إِذكارُ مِثْلك تَرْكُ إِذْكاري لَهُ ... إِذْ لا نريد لِما أُريد مُتَرْجِما
هذا من قول أبي تمام:
وإِذا الجود كان عَوْني عَلى المر ... ء تَقَاضَيْتُهُ بِتَركِ التَّقَاضِي
شرح أبو تمام العلة في ترك تقاضيه بما يدل على كرم الممدوح ولم يشرح أبو الطيب علة لذلك فأبو تمام أرجح كلاماً وفيه ضرب من الترديد ليس لغيره.
يليها أبيات أولها:
إِلى كم وحتى أنْتَ في زي مُحْرِم؟ ... وحَتَّى مَتى في شِقْوةٍ وإِلى كم؟
قوله في زي محرم إشارة إلى عدم الثياب وهو من قول أبي تمام:
مُتَساقطي وَرقِ الثِّياب كأنَّهُمْ ... دَانُوا وأحدثَ فِيهم الإِحرَامُ
وقال أبو تمام:
وَلَقدْ أراكَ مِنْ الكَواعبِ كَاسِياً ... فالآن أنْتَ من الكَواعبِ مُحْرِمُ
وهذا مما احتذى عليه وإن فارق ما قصد به إليه وفيه تطبيق، وكلام أبي الطيب إشارة، وفي كلام أبي تمام شرح، فاختصار أبي الطيب بازاء شرحه فهو أولى بما قال من أبي الطيب.
وقال المتنبي:
وإلا تَمتْ تَحْتَ السُّيُوف مُكرَّما ... تُمت وتقاسِي الذلَّ غَيْر مكْرمِ
يشبه قول الأول:
من عاد بالسيف لاقى فرصة عجبا ... موتاً على عجل أوْ عاش مُنْتصِفَا
وأنشد ابن قتيبة:
والحرب أولى إذا ما خفت ثائره ... من المقام على ذل وإصغار
وهذا من باب مساواة الآخذ المأخوذ منه في الكلام وأخذ لفظ البيت الثالث وهو:
فَثِبْ واثقاً بالله وثْبةَ ماجدٍ ... يَرى الموْتَ في الهيجا جَنْي النّحل في الفَم
من قول صالح:
صَبرتُ ومنْ يصبر يجد غِبَّ صَبره ... ألذَّ وأحْلى من جَنى النَّحلِ في الفمِ
وهذا من قسم المساواة.
يليها قصيدة أولها:
أحْيا وأيسَر ما لاقيتْ ما قَتَلا ... والبينُ جارَ على حكمي وما عَدلا
قال فيها:
لولا مُفارقةُ الأحبابِ ما وَجدتْ ... لَها المَنايا إلى أروَاحِنا سُبلا
هذا من قول أبي تمام:
لَوْ حارَ مُرْتادُ المَّنيّةِ لِمْ يَجِدْ ... إِلاّ الفَراق على النَّفُوسِ دَلِيلاً
بيت أبي تمام أحسن صنعة وقوله: حار ولم يرد دليلاً غير الفراق كلام مليح، ومثله للحماني:
وَلقدْ نظَرت إلى الفراقِ فلمْ أَجِدْ ... لِلموتِ لَوْ فَقد الفِراقُ سَبِيلا
وهذه الأبيات تدخل في مساواة الآخذ المأخوذ منه في الكلام. ويليه قول المتنبي:
بِما بجَفْنيك مِن سحرٍ صلى دَنِفاً ... يَهْوى الحياةَ، وأمَّا إِنْ صَدَدت فلا
قال إسحاق بن إبراهيم:
تَهْوى الحياة إذا ما كنتَ راعينا ... وإنْ بَقينا ليومٍ غَير ذَاكَ فَلا
وهذا يدخل في باب ما أحتذي عليه وإن فارق ما قصد به إليه.
وقال المتنبي:
إِلاَّ يَشِب فَلَقَدْ شَابَتْ لهُ كَبدٌ ... شيباً إِذا خَضَّبتْهُ سَلْوةٌ نَصَلا
زعم أبو العباس المصيصي أنه سرق هذا من أبي تمام في قوله:
شَابَ رأْسي وَما رأيتُ مَشيب الرَّأ ... سِ إِلا من فَضْلِ شَيْبِ الفُؤَادِ
هذا يذكر قد شاب رأسه من شيب بهمومه، والمتنبي يذكر أنه) أن (لم يشب فلقد شابت كبده من الهموم وشيب الرأس معنى ويمكن أن يكون غريزة أو لسن وشيب الكبد استعارة وزاد أبو الطيب في الكلام من ذكر خضاب السلوة ونصول، شيب فؤاده. وهذا يدخل في مماثلة السارق المسروق منه في كلامه، بزيادته في المعنى ما هو من تمامه ولولا أنّ أبا العباس النامي ذكر أنّ هذا مأخوذ من هذا لكان بعيداً منه.
وقال المتنبي:
علّ الأمير يرى ذُلي فَيشفع لِي ... إِلى التي تَركتني في الهَوى مَثَلا
هذا من أقبح معنى لأنه يريد من الأمير أن يكون قواده عليه معها فإن عارضنا معارض، فقال ما أخذ هذا إلاّ من أبي نواس في قوله:
سَأشكو إلى الفَضلِ بن يحيى بن خالد ... هَواك لعِلّ الفضْلَ يَجْمعُ بَيننا
وقال الجمع بينهما قيادة، قيل له التأويل في الجمع أسوغ منه في الشفاعة لأن الجمع بينهما يكون بصلاته التي تعنيه وترغبها فيه فيصل إليها نكاحاً لا سفاحاً والدليل على صحة هذا المقصد منه قوله:
فيا فَضْلُ دارِكْ صَبْوتي بغُبارِها ... فلا خير في حُبِّ المُحبّ إِذا دَنا
والشفاعة تضيق عليه وجه الخروج من قبح المقصد، وأبو نواس أصح معنى وإن اتفقا باستغاثهما بمن مدحاه على هواهما ومن انساغ له التأويل أرجح كلاماً ممن ضاق عليه وجه الخروج مما عيب عليه وقد كان لأم جعفر جارية اسمها)
نعم (عشقها عبد الغفار بن عمر الأنصاري فقال:
أميرُ المؤمنين إِليْك أشكو هوى ... في القلبِ يَشعر بالصُدود
أميرُ المؤمنين فجد بها بي جزاك ... الله جنات الخلود
وكتب بها إلى الرشيد، فقال الرشيد ما أصبت معيناً لك على جهلك غيري فحبسه دهراً ثم كلم فيه فأطلقه فإذا سئل الرشيد أن يجود بجارية يمكنه أخذها ممن هي له تبد) ... (فسمى الاستغاثة في ذلك جهلاً وأمتعض من ذلك فما ظنك بمن يسأل الشفاعة.
وقال المتنبي:
أيقنت أنّ سعيداً طالبٌ بِدَمي ... لَمَّا بصُرتُ به بالرُّمْحِ مُعْتِقلا
قال أبو محمد: بيناه يرجو شفاعته إذا أيقن أنه طالب بدمه وأظنه سأل الشفاعة استضعافاً له عن الطلب فلما صار بالرمح معتقلاً أنف من الشفاعة واعتصم بعز الشجاعة. فطلبه بدمه من محبوبته مذهب مذموم عند العشاق وليس ينبغي أن يتجشم حمل اسم السرقة فيما عيب على السابق إليه فممن عبّر به العباس بن الأحنف في قوله:
فإِنْ تَقتلوني لا تَفوتوا بِمهْجتي ... مَصالِيت قَوْمي مِن) حنيفة (أو عَجْل
فتبعه ابن المعتز فقال:
تَحسِبُ قَومي يُضيِّعون دَمِي ... ما ضاعَ قَبلِي لهاشمٍ ثَارُ
وهذه المعاني تصلح لتهدد الأعداء ويبعد عن الرقة إلى الجفاء فأما المحبوبون فيقال لهم كما قال القائل:
لَوْ جُزّ بالسيف رأسي في مَودَّتِكمْ ... لمرّ يهوي سريعاً نَحْوكم رأسي
وكما قال الآخر:
والله والله لَوْ تقطع يَدي ... أمرتني طائعاً قَطَعْت يدي
فيك من الناسِ كُلهم عَوض ... حتّى من الوالدينِ والولدِ
وفي نحوها للرشيد:
أما يُكفيك أنْ تَملكيني ... وأنَّ الناس كُلهم عَبيدِي
وأنَّك لَوْ قطعت يَدي وَرِجْلي ... لقلت مِن الهوى أحْسَنت زيدي
فهذا ما أشبه عادة العشاق المتيمين مع الأحباب المعشوقين فأما طلب الدماء والثارات فيصلح في الحروب والغارات وما أدري لم أيقن بطلب دمه لاعتقاله بالرمح فلو كان شاهراً سيفه لم يوقن بذلك منه وقد ساوى هؤلاء القائلين الجفاء في شعره فهو سارق منهم ورجح كلام أضدادهم وصاروا أولى بما قالوه.
وقال المتنبي:
وأنّني غَيرُ محصٍ فَضْلَ والدِهِ ... وَنائل دون نَيْلي وَصْفَه زُحَلا
إن كسر) إنّ (وجعلها مبتدأة كان أشعر وأحسن وإن فتحها وعطفها على ما قبلها من قوله: أيقَنْتُ أنَّ سعيداً طالِبٌ بدمي لأن المعنى يصير أنّه:) لمَّا رآه بالرمح معتقلاً (أيقن أنه) غير محصٍ فضل والده (.
وليس اعتقال الرمح دلالة على فضل الآباء ولا على أن نيل زحل دون نيل وصفه وما أراه إلا بالكسر، فأما معنى البيت فقوله: ونائل دون نيلي وصفه زحلا مثل قول ابن الرومي:
أرى من تعاطي ما بلغتمْ كرائم ... وهناك الثريا وهَو أكمه مقعد
ففي بيت ابن الرومي زيادة يستحق بها ما قال على من أخذ منه لأن مثال النجم على أكمه مقعد أصعب منه على صحيح الجوارح، فقد رجح عليه وهذا يدخل في قسم رجحان كلام المأخوذ منه على كلام الآخذ عنه.
وقال المتنبي:
قَيلُ بِمنبج مَثْواهُ ونائله ... في الأُفْقِ يَسألُ عمَّن غَيرهُ سألا
وقال ابن الرومي:
لهُ نائلٌ ما زالَ طالب طالب ... ومَرتاد مرتاد، وخاطب خاطب
فهذا تقسيم مليح أخذه ابن الرومي من أبي تمام فقال:
فأضحَت عَطاياهُ نَوازعَ شُدّدا ... تسائِلُ في الآفاقِ عَنْ كل سَائلِ
وهذا بيت لا يفضل لفظه على معناه، وصاحبه السابق أرجح على كلام من أخذ عنه فهو أحق بمعناه.
وقال المتنبي:
تُرابهُ في كِلابٍ كُحْلٌ أعْينُها ... وَسَيفُهُ في جنابٍ يَسْبقُ العَذلا
ولو قال:
إحسانه في كلاب غيث مجديها ... وسَيفُهُ في جناب يَسبقُ العَذَلا
لصح التقسيم إذ ليس التراب ضد السيف، وقد أستعمل هذا ابن الحاجب فقال:
حَاولت بالعذلِ أنْ ترشدني ... قلتُ مهلاً سَبق السيفِ العذلِ
وقال المتنبي:
وضَاقتِ الأرض حتّى كان هارِبُهم ... إِذا رأى غضير شَيء ظَنَّهُ رَجُلا
هذه مبالغة مستحيلة لأن غير شيء لا يقع عليه رؤية وزعم بعض النحويين أن له مخرجاً من كلام العرب وذلك قولها: ليس فلان بشيء لا تريد أن تخرجه من الوجود وإنما هو استصغار واستقلال.
قال أبو محمد: وليس الأمر عندي كما ذهب إليه، لأن القائل) ليس فلان بشيء (وقد دلّ على مراده بأن أثبت له حقيقة ثم نفاه نفي استصغار فقد فهم مقصده ومن شأن العرب فيما فهم معناه عنها الحذف فإذا أشكل لم يحذف وفي الكلام محذوف بالضرورة لأنها لا تثبت وتنفي في زمان واحد وإنما يريد ليس فلان بشيء طائل أو كبير فأما قوله: إذا رأى غير شيء ظنّه رجلا فلا يسوغ فيه هذا التأويل من الحذف وأما الهارب فالذي يحسن فيه قول جرير:
ما زالَ يحسبُ كُلَّ شيءٍ بَعْدهمْ ... خيلاً تكُّرُ عليهم وَرجالا
وقد أبان مقصده بقوله:) تكر عليهم ورجالا (، وأبو الطيب يذكر أنهم إذا رأى هاربهم غير شيء ظنه رجلاً والرؤية لا تقع إلاّ على مرئي، فإن قال قائل هذا على مذهب من استحسن المبالغة المستحيلة أبلغ قلنا له ما ادعاه جرير يصلح للجنون، لأن الفزع يبلغ بصاحبه إلى أن يرى شخصاً غير رجل فيظنه رجلاً لأن الجنون يرى أشياء لا حقيقة لها لا يرى ذلك غيره من صح عقله، فأما قول القائل:
كأنَّ بلاد الله وهي عَريضة ... على الخائفِ المطلوب كفةُ حابلِ
يؤدي إليه أن كثنيل ثنيّة ... تيممّها ترمي إليه بقاتل
فهذا مساغ كأنه يظن أن كل ثنية يقصدها قاتلاً قد كمن له فيها الرغبة، وقد قال الله تعالى:) يحسبون كل صيحة عليهم (.
فخبر أنهم يظنون) أن (كل صوت صائح هم المقصودون،) لأنه ولم يقل لا يسمعون شيئاً فيظنون عدم الصياح صياحاً من أجلهم أو علمهم من سبق إلى المعنى فجاء فيه بسائغ ممكن وأتى من أخذه منه بغير ممكن فقد رجح كلام المأخوذ منه وصار أولى بما قال.
وقال المتنبي:
فبعدهُ وإلى ذا اليوم لَو ركضَتْ ... بالخَيْلِ في لهواتِ الطِّفلِ ما سَعلا
السعال قد يكون بالطفل فتخصيصه الطفل بالسعال لا معنى) له (وما قال البحتري أجود:
فَزّعوا باسْمك الصَّبيّ فعادَتْ ... حَركات البكاءِ مِنْهُ سُكونا
البحتري ذكر ممكناً من المبالغة يقع مثله مشاهدة أن يبكي الصبيّ فإذا فزع في مكانه بمفزع سكن، فأما أن تركض الخيل في لهوات بشر، فهذا ما لا يجوز، وأظنه سمع قول البحتري فبالغ وأتى بمجال، وقوله يشبه قول القائل:
لَوْ أَنَّه حَرَّك الجرْدَ العتاق على ... أجْفانِ ذي حُلمٍ لَمْ ينتبه فَرقَا
فالطفل وذو الحلم في السكون والانتباه أقرب إلى الصحة من ركض الخيل في اللهوات، فهما أرجح وأحق بما قالا ممن أخذ منهما.
وقال المتنبي:
عَقدتُ بالنَّجمِ طَرْفي في مفاوِزها ... وَحُرَّ وَجْهي بحرَّ الشَّمس إِذْ أفَلا
هذا مأخوذ من قول الحماني:
يَهماء لا يتخطاها الدليل بها ... إِلاَّ وناظره بالنَجْم مَعْقودُ
فذكر أبو الطيب حاله بالليل والنهار في هذه المفازة، فقد زاد في المعنى ما هو من تمامه.
وقال المتنبي:
أنكَحْتُ صُمّ حَصَاها خَفّ يَعْملةٍ ... تَغَشْمرتْ بي إِليكَ السَّهْل والجَبَلا
قال بعض النحويين: أنكحت، وطئت الحصى كما توطأ المرأة والمعنى
(1/250)
جمعت بينهما. قال أبو محمد: والذي عندي أنه أراد أن هذه الفلاة لم تكن توطأ قط فأنكحتها خفاف هذه الناقة لأنها أول خف وطئها، ومن ذلك قوله في أخرى:
أنْساعُها ممغوطةٌ وخَفافِهُا ... مَنكُوحَةٌ، وطَريقُها عَذْراءُ
أراد أن خفافها قد وطئت غير هذه الطريق، وطريقها عذراء لم توطأ قط وهذا يقرب من قول ابن الحمامي:
يهماء ولا يجتابها السفر ... حاضرها الظلمان والغفر
أنْكحتُها ذَا غرة مَالها ... مِنه سوى غرّته مهر
وفي هذا ضرب من الإشارة إلى المراد باستعارة.
وقال المتنبي:
لَوْ كُنتَ حَشْوَ قَميصي فوق نُمرقُها ... سَمِعْتَ للجنِّ في غيطانها زَجَلا
هذا كلام مقصر فكأنه لو كان رفيقه حشو قميص نفسه ولم يكن فوق نمرقها بل كان ماشياً أو فوق نمرق ناقة أخرى لن يسمع زجل الجن، وهذا معنى مستعمل قال الأعشى: للجِنْ بالَّلْيل في حافاتِها زَجَلٌ
وقال أبو العتاهية:
نسمع للجن في جَوانبهِ ... ما شِئت منْ صَمتٍ وأصْوات
وقال المتنبي:
حتى وَصَلْتُ بنفسٍ ماتَ أكْثُرها ... وَلَيتني عِشتُ مِنها بالَّذي فَضَلا
يشبه قول أبي العتاهية:
لمْ تُبق منّي إِلا القليل ولا ... أحسبه تَتركُ الَّذي بقيا
وكلام أبي الطيب أجزل وأرجح من كلام أبي العتاهية.
وقال المتنبي:
أرْجو نَداك ولا أخْشَى المطالَ بِهِ ... يا مَنْ إذا وَهَب الدنيا فَقَدْ نَجلا
والدنيا لا يقدر البشر أن يملكوا أكثر منها، والبخل إنما يكون ممن في يده شيء لم يسمح به ولا أرى لأحد ملكاً على الآخرة فبأي شيء تحل. وهذه مبالغة مستحيلة أصح منها قول أبي العتاهية:
ولوْ كانت لَهُ الدنيا ... لأعطاها وما بَالي
وهذا من نقل الجزل إلى الرذل على ما فيه من الإحالة وأجزل من قول أبي العتاهية قول ابن الحاجب:
والله لَوْ ملكَ الدنيا لما امتنعت ... كَفاه أنْ يهبَ الدنيا بما فِيها
وقال أيضاً:
لَوْ أنه وهب البلاد بأسرها ... ما عده كرماً إذا لَمْ يزدد
ويتلوها قصيدة أولها:
كَمْ قَتيلٍ، كما قُتلْتُ شَهيدٍ ... لبياض الطُّلى وَوَرْدِ الخُدُودِ
هذا بيت لا يطلب منه استخراج سرقة لأن معناه متداول وأول من جعل قتلى الحب شهيداً من الشعراء فيما علمت جميل بن معمر:
لكلِّ حديثٍ بَينهن بشاشةٌ ... وكلُّ قتيلٍ بينهن شَهيدُ
وقال ابن الحاجب:
من شهيد الهوى فإِن لِمنْ ... ماتَ من الحبِ ضعف أجر الشهيد
ومع أخذ أبي الطيب هذا اللفظ المستعمل والمعنى المستبذل فإنه ما وضع الأقسام مواضعها ولا أوقع الألفاظ مواقعها لأنه كان ينبغي أن يقول: لبياض الطُّلى وَحمر الخُدودِ أو لأُقحوان الثغور فيطابق بين البياض والحمرة أو يجمع بين نوعين من جنس واحد أو صنفين أو زهرين.
وقال المتنبي:
دَرّ دَرُّ الصبا أأيَّامَ تجري ... ر ذُيُولي بدار الأثْلةَ عُودِي
فهذا بيت لا يجب استخراج سرقته لفراغه ولكن لمْ يحقره أبو الطيب فيجب أن لا يحقر آمره إقتداء به، وهو من قول ابن المعتز:
يا لياليَّ بالمطيرةِ والكَرْ ... خِ فدير العاقول بالله عُودِي
كُنْت عِنْدي أنموذجات من ... الجَنّةِ لكنَّها بغيرِ خُلودِ
وقال المتنبي:
عمْركَ الله هَلْ رأيتَ بُدُوراً ... قَبْلها في بَراقعٍ وَعُقُود
البدور، إنما تتبين سافرة فإذا تبرقعت ذهب معناها من الحسن والنور وقد أخذ هذا من قول القائل:
عَهدت بها وحشاً عليها براقعٌ ... وهذي وحوش لا تَبرقع
الوحوش هاهنا ظباء وبقر والمستحسن من الجنسين هو الأجياد والعيون وطول العنق لا يخفيه البرقع والعين من البرقع مريبة فالوحوش أمكن في التشبيه من البدور.
وقال المتنبي:
رَامياتٍ بأسْهمٍ ريشُها الهُدْ ... بُ تَشقّ القُلوب قَبلَ الجُلُودِ
مسروق من قول أبي الشيص:
يَرْمين ألباب الرِّجالِ بأسْهُمٍ ... قد راشَهُنَّ الكُحْلُ والتَّذيبُ
وأما قوله: تشق القُلوب قَبْل الجُلودِ.
فمن قول ابن الرومي:
يذكرني الشبابَ سهامُ حَتْفٍ ... يَصبن مَقاتلي دُوني الأَهابِ
والبيتان جميعاً ينوب عنهما بيت أبي الطيب فهو باختصار الطويل في الموجز القليل أولى بما قال.
وقال المتنبي:
يَتَرشَّفنَ مِنْ فمي رَشفاتٍ ... هُنَّ فِيهِ أحْلَى مِن التَّوحْيدِ
هذه ألفاظ فيها قلة ورع وامتهان للدين لا أحب له استعمالها وأحسن من هذا وأبعد من الإثم قول ابن المعتز:
يَقول العاذلون يَسأل عَنها ... وأطف غليل قَلبكَ بالسُّلوّ
وكيفَ وقُبْلةٌ منها اختلاساً ... ألذُّ مِنْ الشماتةِ بالعدوّ
وقال المتنبي:
كُلَّ خُمصانةٍ أرَّق من الخم ... ر بقلبٍ أقسى من الجَلمودِ
هذا مثل قول الأول:
وكيف لي قينان لَحظ ولَقْط ... وعظات لو كانَ ينفعُ وَعَظ
لكَ جِسمُ أرقُ مِنْ رقة الماءِ ... وقلبٌ كأنّهُ الصخر فَظْ
أنْتَ حَظي فما لوْ كانَ ... لِمنْ أنتَ حظه مِنْك حَظْ
وقال إبراهيم النظام:
لكَ جسمٌ أرقُ من قطرِ ماءٍ ... وفؤادٌ مِنْ صخرةٍ صَمّاء
فهذا يدخل في باب مساواة الآخذ المأخوذ منه في الكلام.
وقال المتنبي:
ذاتَ فرعٍ كأنّما ضربُ العنب ... ر فيه بِماء ورْدٍ وَعُودِ
والعود لا ذكاء له ولا رائحة إلاّ أن يسحق أو يحرق فإن كان ضرب مع ماء الورد فينبغي أن يتبعه بمسحوق حتى يصح معناه وقوله) كأنما (على التشبيه، وقول ابن المعتز:
يقْطرُ مِسكاً على غلائِله ... شعرُ قفا كالعَبير قَدْ وكفَا
فجعل يقطر مسكاً ولم يقل كأنما يقطر فإن أحتج محتج بأنه ذهب إلى قول امرئ القيس:
ألمْ تَر أنّي كلّما جئتُ طارقاً ... وجدتُ بها طِيباً وإنْ لم تَطّيبِ
قيل له إنما يصح هذا التأويل لو لم يكن بعد:
تَحملُ المسكِ عن غدائرهِ الري ... حُ وتفترُّ عنْ شتيتٍ بُرودِ
فإذا كانت غدائره تحمل المسك فما حاجتنا إلى) كأنما (وبينا يخبرنا عن حمل الغدائر المسك إذ أخبرنا عن افترارها عن شتيت برود وليس بينها وبين الثغر تناسب فيجتمع بين الوصفين.
وقال المتنبي:
كُلُّ شيء من الدماءِ حَرام ... شُربُه ما خلا دم العُنْقُودِ
تحريم هذا الدم بمنزلة قوله:
يَترشفْنَ منْ فَمي رَشَفاتٍ ... هُنَّ فِيه أحْلَى من التَّوْحيدِ
كله يدخل في قلة الورع واستعارة الدم للعنقود قد سبقه إليه مسلم في قوله:
خَلطنا دماً من كرمةٍ بدمائنا ... فأظهر في الألوان مِنَّا الدّم الدّمُ
إذا شئتما أن تسقياني مُدَامةً ... فلا تقتلاها كلَّ ميتِ محرّمُ
فملح في الجمع بين دم الاستعارة ودم الحقيقة واستعار في البيت الثاني للمزاج لفظاً مليحاً في القتل وجاء بتحليل أحسن من تحليل المتنبي فصار أولى بما سبق إليه لرجحانه. وأول من سمى المزاج قتلاً للراح حسان بن ثابت فقال:
إِنَّ التي ناولتني فَرَددْتُها ... قُتلتْ قُتلتَ فَهاتها لمْ تُقتل
وقال المتنبي:
شَيْبُ رأسي وَذِلَّتي ونُحولي ... ودُمُوعي على هَواكَ شُهُودِي
هذا متداول وهو من قول ابن طاهر:
أليسَ وَحْدي وفرطُ شَوق ... ي وطُول سَقْمي شُهود حُبي
وقال أحمد بن أبي عمال الكاتب:
مِنْ نُحولي عَلى مقالي شَهيد ... وعويلي وزَفُرتي ونحيبي
هذه الأبيات متقاربات المباني والمعاني وهي من مساواة الآخذ المأخوذ منه في الكلام ولم نوردها لأنها غريبة ولكنه أخذها فاحتجنا إلى إيرادها وقال المتنبي:
ما مقامي بأرض نَخلة إِلاّ ... كمُقامِ المَسيح بينَ اليَهُودِ
يشبه قول القائل:
أخلا النبيذ بَرئت مِنْكم ك ... ما بَرئ المَسيح من اليَهُودِ
وقال المتنبي:
مَفْرشي صَهْوةُ الحِصان ولك ... نَّ قَميصي مَسْردوةٌ مِنْ حَديدِ
ما أعرف فائدة في هذا البيت ولا فرق بين قوله) مفرشي صهوة الحصان وقميصي مسرودة (فيخبر عما يفترش ويلبس ويكون أحسن وقد قال الحماني:
طيئ الغِبار وَجْنتي مَوصونة ... وَخشيتي ظهر الأقبِ الأشقر
وأول من سبق إلى هذا المعنى عنترة فقال:
وَحشيتي سَرجُ على عَبْل الشَّوى ... نَهْدٍ مراكله نبيل المحْزِمِ
وهذا يدخل في قسم مساواة الآخذ المأخوذ منه في الكلام.
وقال المتنبي:
ضاقَ صَدْري وطالَ في طَلب الرَّز ... ق قيامي وقَلَّ عَنْهُ قُعُودي
يشبه قول الحصني:
أسمو إلى الأملِ الأقْصى فيلقبني ... جَدٌّ عثور دَهر مهتر حرف
لا الحظُ يُسعدني فِيما أحاولُه ... مِنْ العِلو ولا لي عَنْهُ مُنصرفُ
ولم يبلغ الحصني مراده إلا في بيتين وجاء به المتنبي في بيت فجمع الطويل في الموجز القليل فهو أحق بما قال.
وقال المتنبي:
أبداً أقطع البلاد ونجمي ... في نحوس وهمتي في سعود
هذا مأخوذ من أبي تمام:
ما إِنْ يزالُ بِجدّ حَزمٍ مُقْبلٍ ... مُتَوطِّئاً أعقابَ رِزْق مُدْبِرِ
أخذه من البحتري فقال:
متحيز ببعد وبعزم قائم في ... كل نائبة وجد قاعد
طابق أبو تمام وتبعه البحتري، ولو قال البحتري: بجد قائم في كل نائبة وجد قاعد كانت مطابقة أحسن من مطابقة أبي تمام وألفاظهم متناسبة ومعانيهم متقاربة تدخل في باب مساواة الآخذ المأخوذ منه في الكلام. وقال المتنبي:
لِسرِّي لباسَهُ خشن القُط ... نِ ومرويّ مَروَ لبسُ القُرُودِ
هذا لفظ هجين ومعناه موجود في قول ابن الرومي:
كمْ مِنْ لئيمٍ غدا في ثوب سيده ... تبلى على جِسْمه السمور والفيلُ
فهذا أجزل من قول أبي الطيب فهو لقائله.
وقال المتنبي:
عِشْ عَزيزاً أو مُتْ وأنْتَ كَريم ... بين قَرْعِ القَنا وخَفْقِ البُنُودِ
هذا يشبه قول القائل:
لعزُّ يومٍ ويأتي الموتُ في غَدِ ... هـ خَيرٌ من العيشِ في ذلٍ وإتعاسِ
قال ابن المعتز:
فَعِشْ مَلكاً أو مت عزيزاً فإِ ... نْ تمت وسيفك مَشهور بِكفك تعذرُ
وقال القرطي:
فإِنْ قرب الكتابِ فَكنْ كَريماً ... وكنْ ملكاً أخا ملك مفيد
أرى أنّ المنيةَ بالمعالي ... أحبُّ إليَّ مِنْ ذُل العقود
ومثله للديك:
حتّى أصادفُ مالاً أو يقال فتىً ... لاقى الردى بين أسيافٍ وأرماحِ
فهذه معان متقاربات تدخل في باب المساواة بين الآخذ والمأخوذ منه في كلامه.
وقال المتنبي:
فَرؤوسُ الرماحِ أذْهَبُ للغي ... ظِ وأشفى لغل صَدْرِ الحَقُودِ
فقوله) أذهب للغيظ (لحن لأنه يقال ذهب به فأذهبه فكان يجب أن يقول أشد إذهاباً للغيظ أو يقول) ذهب بالغيظ (ليسلم من الخطل ولكنه لم يفرق بين الأمرين لضعفه في العربية ومما أدلك على صحة ذلك ما حدثنا به شيخنا أبو الحسن المهلبي رحمه الله قال: حضرته في مجلس لبعض الرؤساء وجرت مسألة في المذكر والمؤنث. فقلت: قد يؤنث المذكر إذا نسبت لمؤنث، فقال: من قال هذا. فقلت: قال سيبويه ويستشهد بقول القائل:
مَشَيْنَ كما اهتَّزتْ رماح تَسفهت ... أعاليها مَرُّ الرياح النَّواسمِ
ومثل ذلك:
وَتشرقُ بالقولِ الذي قَدْ ادَعْتهُ ... كما شَرِقَتْ صدر القَناةِ من الدَّمِ
فقال: لا أعرف هذا ولعله مذهب البصريين ولا أعمل على قولهم، قال: فقلت له هذا في كتاب ابن السكيت في المذكر والمؤنث فقال: ليس ذلك فيه فأخرجته من خزانة الرئيس الذي كنا عنده، فلما قرأه قال: ليس هذا بخط جيد أنا أكتب خيراً، فقلت: ما جلسنا للتخاير بالخطوط فانقطع في يدي، وقلت له يوماً: كيف تصغّر مختاراً فقال: مختار لا تصغر وقلت: لهن مختاراً وأم حنين لك العافية،
وهذا يشهد لك بما قلناه، ويقرب بيته بيت البحتري:
وَلمْ تَر التّراتِ بَعْدنَ عهداً ... كَسلِّ المشرَفَيَّةِ من قَريبِ
وقال المتنبي:
لا كما قَدْ حييتَ غَيْر حَمِيدٍ ... وإِذا مُتَّ مُتَّ غَير فَقيدِ
يشبه قول الديك:
فإِنْ ماتَ لمْ يحزن صديقاً مماته ... وإنْ عاشَ لمْ يضرر عدواً بقاؤه
وهذا يدخل في باب المساواة.
وقال المتنبي:
يقْتلُ العاجِزُ الجَبان وقَدْ يَع ... جزُ عنْ قطع بخنقِ الموْلود
وَيُوقّى الفَتى المِخشُ وقد خَ ... وَّضَ في ماءِ لِبَّةِ الصَنْدِيد
ومما أنشده في هذا المعنى معاوية بن أبي سفيان:
كأنَّ الجبان يَرى أنّهُ ... يدافعُ عَنْه الفَرار الأجلُ
فَقدْ تدرك الحادثات الجبان ... ويسلمُ مِنْها الشُجاع البطلُ
وقال ابن أبي عيينة:
لَيسَ الجَسور على الأُمور بِهالكٍ ... دُون الجَبان ولا الجبان بخارجِ
وكل هذا من نقل اللفظ القصير إلى الطويل الكثير والشاعران أحق بما قالا، للاختصار.
وقال المتنبي:
لا بِقَوْمي شَرفتُ بَلْ شَرفوا بي ... وبنفسي فخَرت لا بجدودي
هذا من قول القائل:
قَدْ قالَ قَوم أعطه لقديمه ... جَهلوا، ولكن أعطني لتقدمي
فأنا ابن نفسي لا ابن عرضي أجْتديَ ... بالسَّيفِ لا برفات تلك الأعظم
ذهب هذا إلى قول القائل:
إِذا ما الحي عاشَ بعظم ميتٍ ... فَذاك العَظم حيّ وهو ميت
يقرب منه قول الأول:
فَما سودت عجلاً مآثر عيرهم ... ولكن بِهم سادتْ عَلى عيرها عجل
وقال ابن المعتز:
وَتردّيتُ بالمكارم حَوْلي ... وكفتني نَفْسي من الافتخارِ
وقال البحتري:
حَسِبَ الفتى أنْ يكونَ ذَا حس ... ب مِنْ نفسه ليس حسبه حَسبهُ
وفي هذا مجانسة وهذه الأبيات متقاربة وهي من باب مساواة الآخذ المأخوذ عنه في الكلام.
وقال المتنبي:
وَبهمْ فَخْرُ كُلّ من نطق الضَّا ... د وعَوذُ الجاني وغوثُ الطَّريدِ
أراد أن العرب لا ينطق غيرها بالضّاد وقد روى ابن دريد أن بعض العجم ينطق بالضّاد.
قال أبو محمد: ولو جاء بحرف يشترك فيه العرب وغيرها كان أعم للمدح.
وقال المتنبي:
إِنْ أكنْ مُعجباً فَعُجْبُ عَجيبٍ ... لمْ يَجدْ فَوْقَ نَفْسِهِ منْ مَزيدِ
ولولا عادة الشعراء تمدح أنفسهم لكان هذا الكلام من نهاية الجهل وضعف العقل، وقد قرأت أبياتاً ترجمتها لبعض المحمقين هي تشبه هذا البيت وهي:
أتيهُ على جِنّ البلاد وإِنْسها ... فلو لم أجد خَلقاً لتْهتُ على نفسي
أتيه فَما أدري مِن التيّه منْ أنا ... سوى ما يقولُ الناس فيّ وفي جنسي
فإِنْ يزعموا أني من الإِنسِ مثْلهمْ ... فما لي عيب غير أني من الإِنسِ
وقال المتنبي:
أنا تِربُ النّدى وَربُّ القوافي ... وسَمامُ العدى وغيظُ الحَسُودِ
وهذا مدح يكثر مثله ولا يغرب وهو من قول ابن مناذر:
كان عبد الحميد ضَيم الأعادي ... ملء عين الصديق رَغم الحَسُودِ
وأقسام ابن مناذر) في ضيم الأعادي وملء عين الصديق رغم الحسود (أحسن صنعة من ذكر الندى مع القوافي، وذكر العدو مع الحسود فابن مناذر أحق ببيته.
وقال المتنبي:
أنا في أمّةٍ تداركها الل ... هـ غريبُ كصالح في ثَمُودِ
أخذه من أبي تمام في قوله:
كان الخليفة يوم ذلك) صالحاً ( ... فيهم. وكان المشركون) ثمودا (
هذا يدخل في باب المساواة.
يتلوها أبيات أولها:
قَدْ شَغل النَّاسَ كثرةُ الأملِ ... وأنْتَ بالمُكرماتِ في شُغُلِ
هذا بيت مسلم:
تَشاغلَ الناس بالدنيا وزُخرفها ... وأنْتَ من بذلك المعروف في شُغلِ
والكلام يساوي الكلام ولا يزيد عليه وصاحبه أحق به.
وقال المتنبي:
تَمثَّلوا حاتماً ولوْ عَقَلُوا ... لكنتَ في الجودِ غَاية المَثلِ
اقتصر في التشبيه على حاتم في معنى واحد من المد وأبو تمام أشعر منه في قوله:
إِقدامَ عمرو في سماحة حاتمٍ ... في حِلم أحْنفَ في ذَكاء إِياسِ
فأتى في ذلك بأربع صفات ذكر أن الممدوح يساوي فيها من فوقه ثم لم يرض بذلك حتى استدرك ذلك بأن قال:
لا تُنكروا ضَرْبي لَهُ مِن دُونِهِ ... مثلاً شروداً في الندى والباس
فاللهُ قَدْ ضَرب الأقلَّ لِنُورِهِ ... مثلاً من المشْكاةِ والنِّبراس
فهذا كلام فائق ومعنى رائق يقع كلام أبي الطيب معه بعيداً ورجحانه لا خفاء به. وقد قال البحتري:
لا تَقيسنّ) حاتم (الجُود في الجو ... د إِليه) فحاتِمٌ (فيه عَيْدُهْ
وهذا يقرب من معنى أبي الطيب لأنه إذا كان عبده غاية المثل في الجود صلح أن يكون في الجود عبده بالقياس، فأما قول ابن الرومي:
أعطى الذي لَوْ سِيمَ حا ... تمُ أخْذهُ يوماً لَهَابَه
فجعل حاتماً يهاب أن يأخذ ما يعطيه من مدحه وقول أبي تمام يدل في رجحان الكلام المأخوذ عنه على كلام الآخذ منه وكذلك كلام ابن الرومي فهما أحق بما سبقا إليه.
وقال المتنبي:
هديَّةُ ما رأيتُ مُهْديها ... إلاّ رأيْتُ العِباد في رَجُل
سرق هذا من أبي نواس في قوله:
وليسَ للهِ بِمُسنكرٍ ... أنْ يَجمعَ العالمَ في وَاحِدِ
ولم يزد على أنّ نقل معناه في مقدار لفظه في الاختصار ولا زيادة عليه فأبو نواس أحق بما قال.
وقال المتنبي:
كَيفَ أكافي على أَجَلِّ يدٍ ... من لا يَرى أنَّها يدٌ قِبلي
لم يهمز أكافي على غير قياس وما أكثر ما يسقط الهمز من أبواب النحو وأنت ترى ذلك كثيراً في شعره. ومعنى أبي الطيب أن الممدوح لا يرى يداً تشد بها يداً وأبيات حسان في آل جفنة في قوله:
إِنَّ ابن جَفْنَة من بقية معشرٍ ... لم يغذهم آباؤهم باللّوم
يعطي الجزيل ولا يَراهُ عِنْده ... إلا كبعضِ عطية المذموم
أبلغ مدحاً وأرجح لفظاً لأنه ما رضي إلا بأن جعل الممدوح يعطي الجزيل ويراه كبعض عطية المذموم ولم يجعلها كلّ عطية المذموم، ولكن أبا الطيب قد جعل يد الممدوح أجلّ يد نالته وأنّ الممدوح لا يراها أبداً أصلاً لا لممدوح ولا لمذموم فقد نقصت مبالغة حسان ورجحانه لمبالغة أبي الطيب فصار أولى بما أخذ على من أخذ منه.
يليها أبيات أولها:
أقْصِرْ فلستَ بِزائدي وُدّا ... بَلغ المَدى، وتَجاوزَ الحَدّا
مأخوذ من قول جرير:
إِني وعيتك لو طلبت زيادةً ... في الحُب عِنْدي ما وَجدت مَزِيدا
قال ابن الرومي:
فَلا تسأليني في هواك زيادةً ... فأيسرُه مُرضٍ، وأدناهُ مُقْنِعُ
هذه ألفاظ متساوية في باب المساواة لا له ولا عليه وأصحابها أولة) بها (.
وقال المتنبي:
أرْسلتهَا مملوءةً كرماً ... فرددْتها مَملوءةٌ حَمْدا
جاءتْكَ تَطْفَحُ وهي فَارغةً ... مَثْنى به وَتظّنُّها فَردا
قد رأيت بعض أهل الأدب تقوم علينا وهو أبو القاسم علي بن حمزة البصري، بأن قال: لأبي الطيب معان لا يفسرها غيره فسألناه عنها فكان هذا منها وسألناه عن معنى أي شيء أراد به فقال: جاء جام حلواً ففرغه وكتب هذه الأبيات فصار فارغاً من الحلواء مملوءاً من الحمد فهو فارغ طافح يظن فرداً وهو بالحمد مثنى فقلت له الشعر على مقصد قائله وأبيات المعاني كلها تجري هذا المجرى فسكت.
وقال المتنبي:
لوْ كُنت عصراً مُنْبتاً زَهراً ... كُنتَ الرَّبيعَ وكانتِ الوَرْدا
أخذه من أبي تمام:
وَمِنْ زمنٍ ألبستينيه كأنَّهُ ... إِذا ذكرتْ أيّامُهُ زمنُ الورْدِ
معنى أبي الطيب: لو كنت عصراً وكان الملك زهراً كنت ربيعاً وكان الزهر ورداً وتشبيه الزمان بزمان من جنسه هو زمان الورد أحسن وأشبه من تشبيه إنسان بزمان الورد فتشبيه أبي تمام أوضح وكلامه أرجح وهو للشبق أولى بما قال.
يليها أبيات أولها:
بَقيَّةُ قَوْمٍ آذنوا بِبوارٍ ... وأنضاء أسْفارٍ كَشَرْبِ عُقارِ
لا فائدة فيها.
يليها قصيدة أوّلها:
أرقٌ على أرقٍ ومِثْلي يأرقُ ... وجوىً يَزيدُ وعبرةٌ تترقرقُ
قال فيها:
جهدُ الصَّبابة أنْ تكون كما أرى ... عين مسهدة وَقَلْب يَخْفِقُ
وقال الحماني:
قالتْ: عُييت عن الشكوى. فَقلتُ لها ... جَهدُ الشكايةِ أنْ أعيا عَنْ الكَلمِ
أشكو إلى الله قلباً لو كحلت به ... عينيك لاختضبت من حرّه بدم
فهذا أبلغ من قول أبي الطيب ويشبه قول أبي الطيب قول البحتري:
هَلْ غايةُ الشّوقِ المبّرح غَيْر أنْ ... يَعْلو نشيجٌ أو تَفيض مَدَامِعُ
وصاحب العين المسهدة، والقلب الخافق وصاحب النشيج والدمع الفائض يمكنهما شكاية حالهما ويقدران على الكلام ومن عجز عن الكلام أتم سوء حال منهما، فكلام أبي الطيب والبحتري يدخل في باب المساواة وكلام الثالث أرجح من كلامهما.
وقال المتنبي:
ما لاحَ برقُ أو ترنَّمَ طائِرٌ ... إلاّ انْثَنيتُ ولي فُؤاد شَيِّقُ
هذا معنى متدارك لا يعبأ به ولكن أبا الطيب لتناوله ما سخف من المعاني وارتفع يلزمنا الشغل بما أشتغل به وهو من قول ابن أبي عيينه:
ما تَغَنّى القُمريّ إِلاَّ شَجانِي ... وغِناءُ القُمريّ للصبّ شاجِي
وقال المتنبي:
جَرّبْتُ من نار الهَوى ما تَنْطفي ... نارُ الغضى وَتكلُّ عما تُحْرِقُ
إبدال الهمزة هذا لا يجوز إلا ضرورة وهذا مما ذكرت لك من إسقاط الهمز وأما معناه فمأخوذ من قول الشاعر:
لوْ أن قلبي في نارٍ لأحْرقها ... لأن إِحْزانَهُ أذْكى منَ النَّار
ومن جعل النار تحترق من نار قلبه أشد مبالغة ممن ذكر أنها تعمل في النار إلا تطفأ والكلال وإن كان الانطفاء من النار لا يكون مما هو أعظم منها إنما يكون بضدها من الماء فصاحب البيت في مذهب من رأى المبالغة أحسن وأرجح كلاماً وهو أحق ببيته، قال أبو محمد: وقد أنشدني أبي رحمه الله قال: أنشدني أبو بكر بن دريد لنفسه:
لَوْ أن نار فؤادي ما زجتْ لَهباً ... لظلَّ مِنها لَهيبُ النارِ مُحترقا
وقال المتنبي:
وَعذلتُ أهلَ العِشْقِ حتى ذُقْتُهُ ... فَعجبتُ كيفَ يموت من لا يعشقُ
وعذرتُهمْ وعرفْتُ ذَنبي أنني ... عَيّرتهمْ فَلقيتُ فيه ما لقوا
هذا من قول أبي الشيص:
وكنتُ إِذا رأيتُ فتىً يبكي ... على شَجَنٍ ضَحكتُ إِذا خَلَوتُ
فاحسبني أدالَ الله مِني ... فَصرتُ إَذا بَصرْتُ بِه بكيتُ
قال ابن الجهم:
وقدْ كُنتُ بالعشّاقِ أهزأ مَرَّةً ... فها أنا لِلعشاق أصبحت باكيا
بيتا أبي الطيب مساويان لبيتي أبي الشيص وبيت ابن الجهم مما نقله أبو الطيب من اللفظ القصير إلى الطويل الكثير فالأول أحق بقوله.
وقال المتنبي:
نبكي على الدنيا وما من مَعْشرٍ ... جمعتُهم الدُّنيا فلمْ يَتفرّقوا
هذا من قول صالح:
أو ما يريبكَ مِنْ زمانِكَ أنَّهُ ... لا يُلْبث القُرناءَ أنْ يتفرقوا
ومثله قول للأول:
لنْ يُلبثُ القرناء أنْ يتفرقوا ... لَيْل يكرُّ عليهِمْ وَنهارُ
وهذا يدخل في باب المساواة لا له ولا عليه. وقال المتنبي:
أين الأكاسرة الجبابرة الألى ... كنزوا الكُنوز فما بَقَيْنَ ولا بَقُوا
قال أبو العتاهية:
أين الأولى كنزوا الكُنوز وأتقنوا ... أنْ القرون بنو القرون الماضية
دَرجُوا فأصبحت المنازلُ منهم ... عُطلاً وأصبحت المساكن خالية
وأبو الطيب جاء بالمعنى واللفظ الطويل في الموجز القليل وهو أولى بما أخذ.
وقال المتنبي:
من كُلّ من ضَاق الفَضاءُ بجيشه ... حتى ثَوى فَحواهُ لحْدٌ ضَيِّقُ
هذا من قول أشجع:
وأصبح في لحدٍ من الأرضِ ضَيِّقٍ ... وكانَتْ به حَيّاً تضيق الصَّحاصِحُ
فجعل أبو الطيب الأرض تضيق بجيشه، وأشجع جعل الضيق به وحده فبيته أرجح وأمدح فهو أولى للسبق بما قال. وقد قال أبو العتاهية:
شهواتُ الدنيا ... عوافهن المكاره
يسع القبر شخصاً ... من لم يسعه المهامه
وهذان البيتان يساويان قول أبي الطيب بغير زيادة لأن المهامه لا تضيق عن شخص من إلا أن يريد أبو العتاهية مراد أبي الطيب لم يسعه المهامه لكثرة رجاله وتوافر جيشه فيصيران متساويان وقد يكون أشجع أولى بالرجحان.
وقال المتنبي:
فالموتُ آتٍ والنّفوسُ نفائس ... والمستغرُّ بما لديه الأحمقُ
أنشد ابن قتيبة في كتاب عيون الشعر:
إِنّ امرأ أمِن الزَّما ... ن لمستغِر أحْمقُ
وفي بيت أبي الطيب زيادتان في صدره وعجزه يستولي بها على هذا البيت ولفظه أجزل فهو أرجح من هذا البيت وأحق بما أخذ.
وقال المتنبي:
ولَقدْ بكيْتُ على الشَّبابِ ولمّتي ... مُسودّةٌ ولماء وجهي رَوْنَقُ
حَذراً عليهِ قَبْلَ يَومِ فَراقِهِ ... حتّى لكدتُ بِماءَ جَفْني أشْرَقُ
هذا يشبه قول القائل:
كُنتُ أبكي دماً وأنْت ضجيعي ... حَذراً من تَشّتت أو فراق
وهذا يدخل في نقل اللفظ القصير إلى الطويل الكثير لم يبلغ مراده إلا في
بيتين وأتى به من سبقه في بيت، الأول أولى بما قال. ويشبه ما حكاه الصولي، قال: قال ثعلب: غير مرة وأنشد لابن الأحنف ما رأيت أحداً إلا وهو يستحسن هذا وهو مما أحتذي عليه وإن فارق ما قصد به إليه:
قد كنت أبكي وأنت راضية ... حذار هذا الصُّدودِ والغَضبِ
إن تم ذَا الهجر يا ظلوم ... ولا تم فما لي في العيش من أرب
جعله أبو الطيب في الشباب وجعله ابن الأحنف في محبوبه واعتراض كلام في كلام فيه فائدة مما يستحسن قوله ولا تم من ذلك وفي معنى ابن الأحنف:
ما كنتُ أيّام راضية ... عنّي بذاك الرّضا بمغتبط
علماً بأنَّ الرّضا سيتبعُهُ ... منك التَّجني وكثرة السَّخط
فكلما نساني فعن خلق منك ... وما سرني فعنَّ غلط
وقال المتنبي:
كَبّرتُ حَول ديارهمْ لما بَدتْ ... منها الشُّموسُ وليس فيها المشرِقُ
ذكر أنه كبر حول ديارهم تعجباً من كون الشموس فيها وليس فيها المشرق. شبه الممدوحين بالشموس، وينبغي أن تكون الشموس في المشرق فكأن ديارهم ليس لها مشرق فلذلك أستغرب كون الشمس فيها، نبهه على هذا أبو نواس بقوله:
ترى حَيْثُ ما كانتْ من البيت مَشرقاً ... وما لم تكنْ فيه من البيت مَغربا
فخبر عن الخمر بأنها إذا حلت في بيت كان مشرقاً وإذا لم يكن فيه كان مغرباً وكلام أبي نواس أحسن وقد ذكر المشرق والمغرب فرجح كلامه عليه.
وقال المتنبي:
وعجِبتُ من أرض سَحاب أكفهم ... مِنْ فوقها وصخُورها لا تُورِقُ
قال بعض البادية:
لوْ أنَّ راحتهُ مرت على حجرٍ ... صَلْدٍ لأورق منها ذلك الحَجَرُ
وقال مسلم:
لَوْ أنَّ كفاً أعشبتْ لِسماحةٍ ... لبدى براحتِهِ النباتُ الأخْضرُ
قال ابن الخياط في طاهر بن الحسين) في حراقة في دجلة (.
عَجبتُ لِحُرّاقةَ ابن الحسي ... أن كيف تعومُ ولا تغْرقُ
وبحران مِنْ تَحْتِها واحِدٌ ... وآخر مِنْ فوقها مُطْبِقُ
وأعجب من ذاك عِيدانُها ... وقَدْ مسّها كيف لا تُوْرقُ
فتعجب أبو الطيب من أرض سحاب أكفهم فوقها لم تورق صخورها وخبر البدوي أن يد الممدوح لو مرت على حجر لأورق فأخبر بإيراق الحجر ولم يتعجب من أن لا يورق فبيته أرجح وأمدح وهو أولى بما قال ومعنى بيت مسلم لو كان ممكناً أن يعشب كف لأعشبت يدك فخبر أن ذلك غير ممكن والإخبار بإيراق الحجر أبلغ في المدح من إعشاب الراحة بعد ما دل على أن ذلك لا يمكن فيها وقد أشترك أبو الطيب وابن الخياط في التعجب ولكن الصخور أبعد من الإيراق وإن كانت العيدان قد بعدت من إمكان الإيراق فيها ولكن ما أمكن أن يورق في حال أقل مبالغة مما لم يكن إيراقه على حال فعلى هذا الترتيب فالبدوي أحق بما قال ثم أبو الطيب وأقصد القوم مسلم.
وقال المتنبي:
وتفوحُ من طيبِ الثَّناءِ رَوائحٌ ... لهم بكل مكانةٍ تُستنشقُ
مِسْكيّةُ النفحّاتِ إِلا أنّها ... وَحْشيّة بِسواهُمُ لا تعْبقُ
أخذ هذا من شعر أورده جدّي وكيع في كتاب الغرة:
لَوْ كان يوجَدُ ريحُ مجدٍ فائحاً ... لوجدتَهُ منهم عَلى أمْيالِ
وقال العطوي: وقد حمل نعش ابن أبي داود:
وليسَ نسيم المِسْك ما تجدونه ... ولكنَّهُ ذاك الثَّناءُ المخلَّفُ
وليس صرير النعش ما تسمعونه ... ولكنَّهُ أصلاب قومٍ تَعصفُ
وقال ابن الرومي:
أعبقتهُ من طيبِ ريحكَ عبقةً ... كادَتْ تكُونُ ثناءك المَسمُوعا
فالشاعر الأول قال لو كان يوجد ريح مجد فائحاً لوجدته منهم على أميال ولكنه لا يوجد وابن الرومي قال: كادت تكون) ثناءك وقال: كادت (والعطوي خبر أن المسك ليس هو في الحقيقة ما يجده الشام ولكنه ثناؤه المخلف بعده وأبو الطيب خبر عن ريح الثناء أنه منهم بكل مكانة يستنشق وبكل مكان أعم من أميال ولكن العطوي جاء بإرادته في بيت ولم يبلغ أبو الطيب إرادته إلا في بيتين فنقل اللفظ القصير إلى الطويل الكثير.
وقال المتنبي:
أمريُدَ مِثْلَ مُحمدٍّ في عصرنا ... لا تبلنا بطِلاب ما لا يُلْحقُ
أخذه من أبي الشيص:
لَوْ تبتغي مثلَهُ في الناس كُلّهم ... طلبتَ ما ليس في الدنيا بموجود
ويقرب من قول البحتري:
وما للمعالي طالبُ فتمهّلنْ ... ولو طُلبتْ ما كان مِثْلك يُلْحقُ
وللبحتري أيضاً:
أيُّها المبتغي مساجلة ( الفتْ ... ح ) تبغيتَ نَيلَ ما لا يُنالُ
فهذه أبيات تتناسب معانيها ومبانيها وهي تدخل في باب المساواة والسابق أولى بها.
وقال المتنبي:
لمْ يخلقِ الرحمنُ مِثْل محَمدٍ ... أحداً وظني أنَّه لا يَخلقُ
قال عبد الله بن أبي السمط:
ما كان مِثلك في الورى فيمنْ مَضى ... أحداً وظنّي أنه لا يخلقُ
وهما متفقا اللفظ والمعنى مجتمعان على التيقّن فيما مضى والشكّ في المستقبل وهذا تغيير يسير يكاد يدخل في أخذ اللفظ المدعى وهو ومعناه معاً، وقد قال ابن الرومي:
فَهلْ من سبيلٍ إلى مِثله ... أبى اللهُ ذاك على منْ خَلقْ
فلم يخطر جمعهم وجود مثله إلا على من خلق دون من يخلق غير المعوج فإنه قال:
وما ابن علي في العُلى كابن من ... لهُ مِن الناسِ شكل أو يكون لهُ شكل
وقال الحصنيّ:
لمْ يكن في خليفةِ الله ندٌّ ... لك فيما مَضى وليس يكونُ
فمنع وجود مثله في الماضي والمستقبل فحكم على الغيب وما أشبه هذا الشعر بشيء. روي عن المعتصم أنه أمر في ليلة من لياليه بإحضار من جار على بابه فوجد الغلام ثلاثة قد مروا بالباب من أهل المدينة فأدخلوا، فقال لهم المعتصم: أسمعوا هذا الغناء واحداً واحدا وعرّفوني ما عندكم فيه وأمر جارية له بالغناء فغنّت فقال لأحدهم: كيف رأيت ما تسمع؟ قال: امرأته طالق إن كان الله يخلق مثل هذه. وقال للآخر ما تقول أنت؟ قال: امرأته طالق إن كان الله يخلق مثلها أبداً. فقال للثالث: ما تقول أنت؟ قال: أقول امرأتي طالق. قال: إن كان ماذا. قال: إن كان لا شيء، قال: ولم طلقت، قال: لطلاق رفيقيّ من أين لهذا العاض بظر أمه أن الله ما خلق مثل هذه ولهذا العاض بظر أمه إن الله لا يخلق مثلها فلما رأيتهما قد طلقا في غير موضع الطلاق ساعدتهما على ذلك.
وقال المتنبي:
يا ذَا الذي يهَبُ الكثير وعنده ... إني عليه بأَخْذِهِ أتَصدَّقُ
أخذه من زهير من أحسن لفظ) وهو:
تَراهُ إِذا ما جِئتهُ مُتهللاً ... كأنّكَ تُعطيه الذي أنْتَ سَائله (
فأتى بما لا زيادة عليه في الحسن، وأخذه أبو الطيّب أخذاً قبيحاً وجعل مكان المعطي المتصدق ومن شأن النفوس الأبيّة الفرح بالعطايا النسبية، فأما) أخذ (الصدقة فلا تفرح بها، وهذا يدخل في باب رجحان المأخوذ منه على من أخذ عنه.
وقال المتنبي:
أمْطِرْ عليّ سَحاب جُودِكَ ثَرَّةً ... وأنظُرْ إليَّ بِرحمةٍ لا أغْرَقُ
وهذا يشبه قول عبد الله بن أبي السمط في سحابة:
حتَّى ظللتُ أقولُ في إلحاحِها ... بالويل: هَلْ أنا سالمٌ لا أغْرقُ
وهذا مما أحتذي عليه وإن فارق ما قصد به إليه.
وقال المتنبي:
جَذب ابن فاعلةٍ يقول لجهله ... مات الكرامُ وأنت حَيّ تُرْزقُ
أخذه من قول أبي زيد عمر بن شبة:
وقائلةٍ لم يَبق في الأرضِ سيد ... فَقُلْتُ لها عبدُ الرّحيم بن جَعْفَرِ
ولا زيادة له فيه غير شتم القائل وليس ذلك مما يحسب له به زيادة وهو يدخل في قسم المساواة.
ويلي ذلك قصيدة أولها:
حُشاشَة نفس ودَّعتْ يَوْمَ ودّعُوا ... فَلمْ أدْر أيّ الظاعنينَ أشيِّعُ
أخذه من بشار في قوله:
حَدا بَعضُهم ذات اليمين وبَعضُهُمْ ... شمالاً وقَلبي بينهم مُتَوزّعُ
فَو الله ما أدري بليلٍ وَقَدْ مَضَتْ ... حُمولهم أيّ الفريقين أتْبَعُ
وقال العباس بن الأحنف:
تَفرّق قَلبي منْ مُقيمٍ وظاعِنٍ ... ولله دَرّى أيّ قلْبٍ أشيِّعُ
فهو في المبنى والمعنى يساوي ما قاله فلا له ولا عليه، والأول أحق بقوله.
وقال المتنبي:
أشارُوا بتسليمٍ فَجُدْنا بأنفسٍ ... تَميلُ من الآماق والسَّمُ أدْمُعُ
أحسن ما أتى في هذا قول بشار:
وليسَ الذي يَجْري من العين ماؤُها ... ولكنَّها نفس تَذُوبُ فَتقطُرُ
وقد قال الديك:
ليسَ ذا الدّمْعُ دَمْعَ عَينِي وَلكِنْ ... هي نَفْسٌ تُذيبُها أنفاسِي
فجانس بين النفس والنفس وقد قال ابن دريد:
لا تحْسبني دَمْعي تَحدَّر إِنَّما ... رُوحِي جَرَتْ في دَمْعي المُتحدّرِ
وكلهم أنّث الروح، والروح مذكر إنّما أنثوه لتأنيث النفس فكلام بشار أرطب وأعذب، لأن من قال ذاب، قال: قطرت فهو أرجح من جميع هذه الألفاظ فأما أبو الطيب فنسخ هذا المعنى وما نسخه لأنه يبعد عن لفظ من يقدمه في الرونق والبهاء وكثرة الماء ولو لم يكن في بيته إلا ما يفاضح به من قول السم وبكم قطع ألف الوصل أملح في شعر المتأخرين من ذكر السم على كراهة النحويين ذلك إلا في ضرورة الشعر ولعل بعضاً من المتشدقين أن يعارض هذا القول مني بالطعن ويقول أتختار له ركوب ما لا يجوز إلا في ضرورة على الصحيح الفصيح؟ فالجواب على ذلك، أنّ أبا الطيب أكثر الناس ركوباً للضرورات والمجازات أولاً وأيضاً فإن أشعار المحدثين لا يراد منها استفادة علم وإنما يروى لعذوبة ألفاظها ورقتها وحلاوة معانيها وقرب مأخذها ولو سلك المتأخرون مسلك المتقدمين في غلبة الغريب على أشعارهم ووصف المهامة والقفار والإبل والفلوات وذكر الوحش والحشرات ما رويت لأن المتقدمين أولى
بهذه المعاني ولا سيما مع زهد الناس في الأدب في هذا العصر وما قاربه وإنما يكتب أشعارهم لقربها من الأفهام وإنّ الخواص في معرفتها كالعوام فقد صار صاحبها بمنزلة صاحب الصوت المطرب يستميل أمّة من الناس لاستماعه وإن جهل الألحان وكسر الأوزان وقائل الشعر الحوشي بمنزلة المغنّي الحاذق بالنغم غير المطرب الصوت يعرض عنه إلا من عرف فضله على أنه إذا وقف على فضل صنعته لم يصلح لمجالس اللذات إنما يجعل معلماً للمطربات من القينات يفوقهن بحذقه ويستمتع بخلوفهن دون حلقه ليسلمن من الخطأ في صناعتهن ويطربن بحسن أصواتهن.
وقال المتنبي:
حَشاي على جمر ذَكيٍّ من الهوى ... وَعيْناي في رَوْضٍ من الحُسن تَرْتعُ
أخذه من خالد الكاتب حيث يقول:
بأيِّ ذنبٍ إِليه ... أطال حُزني عليه
قالوا نَراك سَقيماً ... فَقُلْتُ مِنْ مُقْلتيه
في النّار قَلْبي، وَعَينْي ... في الرّوضَ مِنْ وَجْنتيْه
وهذا من نقل القصير إلى الطويل الكثير، ومثله لبعض المحدثين:
وكانَ طَرْفي مِنْهُ في جَنَّةٍ ... وكانَ قَلبي مِنْه في نارِ
وما زاد في المعنى ما يستحقه والمتقدم أولى به.
وقال المتنبي:
وَلَوْ حُملِّتْ صُمُّ الجبال الَّذي بنا ... غَداةَ افْترقنا أوشكتْ تَتصَدَّعُ
قال الأول:
وأكتمُ ما بي مِنْ هَواكِ ولو يرى ... على جبلٍ صَلْد إِذن لتقطَّعا
وقال الآخر:
صَبرتُ على ما لو تحمل بَعضه ... جِبالُ شَروري أوشكتْ تَتصدّعُ
وقال ابن الرومي:
شكوى لو أني أشكوها إلى حجرٍ ... أصَمَّ ممتنع الأركان لانفلقا
فهذه الأبيات تناست معانيها ومبانيها ولا زيادة له فيها وأصحابها أحق بها منه.
وقال المتنبي:
أتتْ زائراً ما خامرَ الطِّيب ثَوْبها ... وكالمِسْك من أردانِها يَتَضوَّعُ
غير متهيب ولا مراع للأخذ من سيد الشعراء في أخذ شعره مع نباهة ذكره حيث يقول:
ألمْ تَر أني كُلمّا جئتُ طارقاً ... وجَدْتُ بها طيباً وإنْ لمْ تَطّيبِ
ولا زيادة على هذا الكلام في المعنى والنظام فهو أحق بما قال ممن سرقه منه.
وقال المتنبي:
فيا ليلةً ما كانَ أطْولَ بتها ... وسم الأفاعي عذب ما أتجّرعُ
إذا قال إن) سم الأفاعي عذب ما أتجرع (فقد خبر أن سم الأفاعي مرّ وإنما يوصف السم بالإهلاك وضد الإهلاك، السلامة، فلو قال) إن سم الأفاعي أسلم ما أتجرع (لكان أقرب وقد قال النابغة (:
فبتُّ كأنّي ساورتني ضئيلةٌ ... من الرُّقش في أنيابها السُّمُّ ناقعُ
فأخبر بما يحذر منها من سمها ولم يخبر عن طعمه.
وقال المتنبي:
تذلَّل لها وأخضَعْ على القُربِ والنَّوى ... فما عاشِقٌ منْ لا يذلُّ ويخضَعُ
هذا مستعمل كثيراً إلا أنه ما حقره، وقد ساوى البحتري في قوله:
وَتذلّلتُ خاضعاً لمليكي ... وقليلُ من عاشقٍ أنْ يذلاّ
وقال المتنبي:
بِذي كرمٍ ما مرّ يوم وَشْمسُهُ ... على رأس أوفى ذِمَّةً مِنهُ تَطلْعُ
قال البصير:
مَلكُ لم تَطلْع الشْمْسُ على ... مِثْله أوْسَعَ شيئاً وأعمّ
فهذا يدخل في باب المساواة.
وقال المتنبي:
فأرْحامُ شِعْرٍ يتّصلْنَ لدنّهُ ... وأرْحامُ مالٍ ما تني تَتَقطَّعُ
هذا من لحونه إنما تشدد النون مع النون نحو) لدنّي، ولدنّا (وأستعمل لدن
بغير) من (وما يكاد يستعمل إلا بمن قال الله عز وجل:) من لدن حكيم عليم (واستعماله إقفاء الكلام إنما يجوز ويطلب له الوجوه إذا كان ذلك من يدري يتكلم بطبعه فأما لمثله فلا، وقد قال المتنبي قبل هذا بيتاً وهو:
وإِنَّ الذي حابى جَديلة طيءٍ ... بهِ الله يُعْطي من يَشاءُ وَيمنَعُ
وهو أيضاً يخرج إلى تفسير فمعناه حاباها من الحباء بمعنى حباها والحبا العطية، وللبيت معنيان: أحدهما أن تكون الهاء في) به (راجعة إلى حابى وخبر عن الممدوح بأنه يعطي من يشاء ويمنع وهذا مدح أرفع أبا الطيب أن يقصده لأن كل واحد له ملك أو ملك فهو مخير بمن يعطيه ويمنعه ممن شاء، والمعنى الآخر الذي أراه مراده أن يكون إن الله يعطي به من يشاء ويمنع أي قد جعلها الله شيئاً للعطاء والمنع كما قال الضبي:
وأقضيةُ الله محتومة ... وأنْتَ منفّذ أقْدارها
وقال المتنبي:
فَتىً ألفُ جُزءٍ رأيهُ في زمانه ... أقلُّ جُزْءٍ بَعْضه الرأيُ أجْمَعُ
هذا كلام ظاهر التعسف بين التخلف وهو ينظر إلى قول أبي تمام:
لَوْ تراهُ يا أبا الحَسنِ ... قمراً أوفى على غُصُنِ
كُلُّ جُزءٍ من مَحَاسِنِهِ ... فيهِ أجزاءُ من الفِتَنِ
وهذا يدخل في نقل العذب من القوافي إلى المستكره الجافي، وأبو تمام أولى بما قال.
وقال المتنبي:
غَمامٌ علينا مُمطِرٌ لَيْسَ يُقْشعُ ... وَلا البرقُ فيه خُلَّباً حين يَلْمَعُ
أخذه من قول المعتصم:
فليستْ جهاماً للعفاةِ سحابه ... وليستْ بُروق الجودِ فيها تَحْلِبُ
وقد قال البحتري قبلهما:
رأيتك إِنْ مَنَّيتَ منَّيْتَ موعداً ... جَهاماً وإِنْ أبرقْتَ أبرقْتَ خُلَّبا
وهذا من المعكوس الذي ابتدئ هجاءً وعكس فصار ثناءً.
وقال المتنبي:
إِذا عرضَتُ حاج إِليه فَنفْسُهُ ... إِلى نَفْسِهِ فيها شَفيعُ مُشَفَّعُ
وهذا كثير من قول الحطيئة:
وَذاكَ امرؤ إِنْ تأتِهِ في نفسهِ ... إلى مالِهِ لا تأتهِ بِشَفِيعِ
قال أبو العتاهية:
وما ابتغى عنده شافعاً ... سِواه إلى نفسِه يَشْفَعُ
وقال أبو العتاهية:
فيا جُود موسى ناج مُوسى بحاجِتي ... فمالي سِوَى مُوسى إِليه شَفِيعُ
وقال آخر:
فيا جودَ معن ناد معناً بِحاجتي ... فمالي سوى مَعْن سِواكَ رَسولُ
وقال ابن الرومي:
أبا الصَّقرّ من يَشْفع إِليك بشافعٍ ... فما لي سوى شِعْري وجود شافِعُ
وقال ابن الحاجب:
جُوده شافعٌ لطالب جدواه ... إِذا غره وجودك شَفيعُ
وقال المتنبي:
خَبَتْ نارُ حربٍ لم تَهجْها بنانه ... وأسمرُ عُريانٌ من القشر أصْلعُ
نحيفُ الشَّوى يعدو على أُمَّ رأسه ... ويَحفى فيقوى عَدُوهُ حين يَقْطَعُ
أما قوله:) يعدو على أم رأسه (فمن قول القائل:
وَمنتكس يَعدو على أمّ رأسه ... يَخافُ ويرجى نَفعه حَيثُ تَمما
وأما قوله:) ويحفى فيقوى عدوه حين يقطع (فمن قول كلاب بن حمزة:
فإِنْ تخوّفت من حفاه فخُذْ ... سَيفك فأضربْ قفا مُقلّدِهِ
فإِنَّه إِنْ قطعْتَ أجْوَدَه ... عادَ نشيطاً بِقَطْع أجْوَدِهِ
وقال المتنبي:
ذبابُ حُسامٍ مِنْهُ أنجى ضريبةً ... وأعْصَى لمولاهُ وذا مِنْهُ أطْوَعُ
شبهه بالسيف وفضله بالطاعة لمن ملكه. وقد قال البحتري:
ما السيف عصيان نصل رونقه ... أمضى على الحادثات مِن قلمه
وليس في شعر البحتري أكثر من تشبيه القلم بالسيف وأبو الطيب قد ذكر من عصيان السيف أحياناً وطاعة القلم للكاتب به ما فيه زيادة يستحق بها الشعر.
وقال المتنبي:
بِكفّ جَوادٍ لو حَكَتْها سَحَابةٌ ... لما فَاتها في الشرق والغَرْب مَوضِعُ
أخذه من ابن الرومي حيث يقول:
خِرقٌ يعمّ ولا يخصُّ بِفَضلِهِ ... لكنَّهُ كالغيْث في الأطباقِ
فجعل الغيث يعمّ ويخصّ وجعله يعم الغيث في أطباقه وكذلك قال أبو الطيب: إن سحابة لو حلت كفه لكانت عامة غير مختصة وهذا يدخل في باب المساواة والسابق أولى به.
وقال المتنبي:
فَصيحٌ متى ينطقُ تَجِدْ كُلّ لفظةٍ ... صول البراعات التي تَتفَرّعُ
ففي كل لفظة محذوف يزيد على كل لفظة حسنة أو عذبة أو ما أشبه ذلك ولو قال كل لفظه وهذا المعنى ينظر إلى قول أبي تمام:
كلُّ جُزْءٍ منْ مَحاسِنِه ... فيه أجزاءٌ من الفِتنِ
وقد أخذ ذلك من أبي تمام أخذاً مما هو أبين من هذا في قوله:
كلُّ سقامٍ تراه في أحدِ ... فَذاكَ فرع والأصلُ في بَدني
وهذا من استخراج كلام من كلام أحتذي عليه وإن فارق ما قصد به إليه.
وقال المتنبي:
ولَيس كبحر الماء يَشتقّ قَعْرهُ ... إلى حيثُ يفنى الماءَ حوتٌ وضَفدعُ
في هذا البيت حشوٌ غثّ وهو قوله) بحر الماء (ولا معنى له وهو من جنس قول أبي العيال:
ذكرتُ أخي فَعاودني ... صُداع الرأسِ والوصب
إلا أن يكون للبيتين بحر يعبر عنه بهذا الاسم فيفيد كلامه وما في اشتقاق الحوت والضفدع ماءه حتى يفنى الماء ضرر على أحد ولا نقص على البحر وهذا مدح لا فائدة فيه فأما قول ابن الرومي:
هُو البحر إلا أنَّ في جَنباته ... رُغاء المَطايا لا تفتق العَلاجِمُ
فقد صيره بحراً على صفة يعدمها البحر لأن المطايا لا تحط على البحار فدل على كرم من حط إليه المطايا إذ كان مرجواً لخير مقصوداً. وقال أشجع:
لو كان للركبان في كل وجهه ... إليك إيصال تتبعه الركب
وقال الآخر:
يَزدحمُ الناسَ على بَابِه ... والمنهلُ العذب كَثيرُ الزحام
فليس في فائدة هذا الكلام فائدة ذكر الحوت والضفدع.
وقال المتنبي:
أبْحرٌ يَضرّ المعْتفين وَطَعْمُه ... زعاقُ كبحرٍ لا يَضُرُّ وَيَنْفعُ؟
فإن كان ضرر المعتفين في البحر هو الغرق والصائب بالأموال فبازاء هذا نيل الرغائب من نفس المتاجر ومثمن الجواهر وقطع المسافات المتباعدات في أقل مدة وإن كان ضرره أن طعمه زعاق فلا يضرك ذلك إلا من قصده صادياً وقد قصر لفظه عن إيضاح معناه لأن الأجود كاد أن يقول:
أبحر يزيد الواردين زعاقه ... صدا مثل بحر سلسل الورد ينفع
ولعل معترضاً أن يعترض هذا الكلام فيقول: البحر لا يكون سلسل الورد فإن البحر لا يقع إلا على الملح، قلنا له إنما شبه رجلاً ببحر فذكر أخلاقه بالعذوبة وأعرب ببحر يخالف صفة ما وقع عليه هذا الاسم وقد يسمى العذب باسم الملح وقد قال ابن الجهم:
ولست ببحرٍ أنْتَ أعْذَبَ مَورداً ... وأقربُ للرّاجي نداك وأسْهَلُ
ففضله على البحر بعذوبة مورده وقرب راجيه من مراده وأوضح مراده ورجح على أبي الطيب فصار أحق بما قال.
وقال المتنبي:
أَلاَ أيُّها القَيلُ المُقِيمُ بمنْبجٍ ... وهمّتهُ فوق السماكين تُوضعُ
هذا مأخوذ من قول العطوي:
إِنْ كُنت أصبحتُ لابساً سملاً ... فَهِمتي فَوْقَ كَاهِلُ الفَلك
وقال القاضي التنوخي:
وأنفس مسكنها ما بيننا ... وهَمّها بين السَّماكِ والسُّهى
وكل الأبيات تدخل في باب المساواة وبيت العطوي دونهما وليس لبس السمل مما يدل على اتضاع الهمة، وقد خبر أبو الطيب عن الممدوح بإقامة جسمه بمكان وخبر عن همته بسير فوق السماكين فطابق وزاد بالمطابقة فأستحق ما أخذ وهو يساوي التنوخي في معناه ولكن وافقه في ذكر الأنفس والهمم ولم يتفق له من الإقامة والسير ما أتفق لأبي الطيب والذي نبه أبا الطيب على هذا المعنى أبو تمام بقوله:
جرّدتُ في ذَمِّيك خَيْلَ قَصائدِ ... سَارتْ بك الدُّنيا وأنْتَ مُقِيمُ
وقد أخذ ابن الرومي هذا المعنى من أبي تمام فقال في صفة قصيدة له:
تَظل مقيماً في محلّكَ خافضاً ... وأنْتَ بِها في كُلّ فجٍ تُسيّر
وقال المتنبي:
أليْسَ عجيباً أنَّ وصْفكَ مُعْجزٌ ... وأنَّ ظُنُوني في معاليك تَطلعُ
ينظر إلى قول أبي تمام:
تَرقَّتْ مناهُ طوْدَ عِزٍّ لو ارتقتْ ... له الريحُ فتراً لانثنتْ وهي طَالِعُ
وقال المتنبي:
وأنَّكَ في ثوبٍ وَصَدْرُكَ فِيكُما ... على أَنَّهُ مِنْ ساحَة الأرضِ أوْسَعُ
الصدر في الثوب وليس الصدر في الإنسان إنما هو من الإنسان ولم يرد بالصدر ما أشتمل عليه من قلبه على المجاورة لأنه قد ذكر في البيت الذي بعد هذا قلبه، وقال أبو المعتصم في مرثية:
يا وَاسعَ المعروفِ هَلْ وَسِعَ الثرى ... في الأرض صَدْرك وَهْوَ منها أوْسَعُ
فعجب من أن صدر هذا البيت في الأرض وهي مشتملة عليه وهي أوسع منها وأصل هذا أبو تمام في قوله:
وَرُحْبِ صَدْرٍ لو أنّ الأَرضَ واسِعَةٌ ... كَوُسِعه لَمْ يَضِقْ عنْ أهلهِ بَلَدُ
وقال المتنبي:
وَقَلبك في الدُّنيا وَلَوْ دَخَلتْ بنا ... وبالجِنّ ما دَرتْ كيف تَرْجِعُ
فشبه سعة بأوسع منها فهو إفراط مستعمل مثله. فأما دخول الإنس والجن في قلبه ثم لا يدري كيف ترجع فهو من المبالغة المستحيلة لا يستحسنها كثير من الناس فأما دخول الأجسام في قلبه من الجن والإنس فلا أراه مليحاً.
وقال المتنبي:
ألا كُلّ سَمْحٍ غيرك اليوْمَ باطلُ ... وكلُّ مديحٍ في سِواكَ مُضَيَّعُ
هذا من قول ابن الرومي:
وكلُّ موالٍ صاعداً فهو صاعدُ ... وكل معادٍ صاعداً فهو هَابطُ
وهذا أحسن من قول أبي الطيب لأن الصعود والهبوط ضدان فالبيت المطابق صحيح الطباق وليس باطل ضدّ مضيع لأنّ ضد باطل حق وضدّ مضيع محفوظ فأبن الرومي أرجح كلامه وأولى ببيته.
يتلوها أبيات أولها:
قَضاعة تَعْلمُ أني الفَتى الّ ... ذي ادَّخرتْ لصُروف الزَّمانِ
وقال فيها:
ومَجدي يَدلُ بني خِنْدفٍ ... عَلى أنَّ كُلّ كريمٍ يَماني
نبهه على هذا أبو نواس في قوله:
بَلى فإِن ذمتني للضبى أريحيّة ... يمانية إن السماح يَمان
وقد تبعه ابن الرومي في هجاء قاله وهو:
ونساءُ كأنَّما يتوقعن ... سُقوط السماء كل أوانِ
فتراهن شَاعرات لكنّما ... يُدعمن السماء بالسيقان
إِنْ يَجد جلد بذلك ... فالسخ يمان والجود قدماً يمان
قال أبو محمد وتبعتهم في ذلك فقلت:
بُتْ صيفاً لسد يمني ... فقرابي والجودُ قدماً يماني
وأنْتَ عرسه بعاذلٍ أبرئ ... قلت لا تبعني فلست بزاني
فأتاني فقال نكهاً تعيشي ... فهي مرفوفة على الصيفان
قلت أحدثت في الضيافةِ ... معنى ما عرفناه في قديمِ الزَمان
قال منْ أجل ذاكَ طارلي ... اسم وألح الضيوف في عشاني
فإِذا يذكروا مع أسمي ... مضيفاً قبل مرعى وليس كالعدان
وقد كان ينبغي أن ترغب عن ذكر هذه الأبيات ولكن جر ذكرها ما قبله وقال المتنبي:
حَديدُ اللّحاظِ، حديدُ الحفاظ ... حديدُ الحُسامِ، حديد الجنان
يشبه قول المريمي:
ثَلاثة أنشاء في حداد فكيف لا أروم ... الغنى بالغضب والغضب والغضب
فمقولي الماضي وثانيه مفصلي وثالث ... صدق من وفاء ومن لبّ
(1/300)
فأتى أبو الطيب بأربع صفاتٍ في بيت كشف مراده فيه والمريمي جاء باللفظ القصير في الطويل الكبير فالمتنبي أحق بما أخذ.