أبو يوسف طه - القزم/ قصة قصيرة.

آثرت سها الانزواء السالب عن الحياة ،تظل ساهمة لاتكلم أحدا .بدأت تلك الفتاة الدائمة
المسرة التي تشع كالبدر وسط قريناتها، وتفوح عطرا ، تخبو وتذبل ، حينما
تسير في الشارع ، تسير موقعة الخطو ، تجب ما حولها كأن العالم خلق من
أجلها، تأسر بيفاعتها وحيويتها النظرات الولهى المتوسلة .كان كل ناظر
يمني النفس بها ،ويحسبها له ، لاأحد استطاع أن يخمن من ذويها ومعارفها
ماجرى، ولاهي باحت بما حل بها ...وهكذا، وعلى حين غرة ، سقطت من
حالق في هوة لاقرار لها. أصيبت بشلل طاريء، ذات ليلة ماطرة، وحملت
الى المستشفى ، لكن اعتاص الشفاء رغم ما بذل من جهد ، أصبحت تتحدث
بعينيها،وبنوع من الكرب، لم تعد تأبه بأي شيء، وهي التي غدت تعتمد في
حركاتها وسكناتها على غيرها. لم يكن يلفت الانتباه في تصرفاتها الاالحرص
المبالغ فيه على صندوق صغير من العرعار على الكومينو، وما من أحد
تجرأ على مفاتحتها في أمره .كانت ضنينة بما يخفيه من أسرار...وهل هناك
فعلا أسرار ؟
اعتادت سها حياتها المتقلصة الى أبعد حد، وأضحى بحر علاقاتها يغشاه المد ،
وتكسرت الآحلام التي نسجتها في ما انصرف من عمرها. لما طائرالموت نقر
بيضة حياتها، وجدت ممددة دون حراك، وعلى زاويتي فمها رغوة متخثرة.
كان يكفنها صمت مطبق رهيب، في حجرة بديعة التأثيث، على أحد جدرانها
صورة لها ممتطية حصاناأدهم ،يغمس قوائمه في مجرى نهر، وعلى
الكومينو صندوق بني لامع من العرعار معشق بخشب الليمون.
...بعد تجريد الجثمان من الملابس للغسل ،عثرت زينة أخت المتوفاة على
مفتاح مذهب صغير مدسوس في الناهدة ، حرصت على اخفائه للاختفاظ
به ، مخمنة أن سرا ما يكمن في ذلك .
حياة في عنفوانها تهوي فجأة في العدم كما لو أ ن الموت ينصب مصيدة
في مكان مامن منعرجات الحياة.
بعد الانتهاء من مراسم الدفن لم يبق من سها الا ما يضارع مفتتح ومختتم
الأبجدية...رسم على الشاهدة، وشريط حياة في ذهن ذويهاومعارفها
ستتكفل الأيام بجعله يمحل بالتدريج.
لما فتحت زينة الصندوق، رأت من خلال غلالة الدموع ...سلسلة ،خواتم
ذهبية ، ومظروفا، فضته وتابعت سطور الورقة المكتوبة بارتباك ثم
شرعت تنشج بحرقة. قرأت، كما أوضحت بعد ذلك، أفظع حلم مزعج
يخطر على بال . الحلم القاتل الذي أيقنت بأنه عجل بموت أختها في
ريعان الشباب، الحلم المزمن الذي تكتمت عليه سها ، والذي كان يوقعها
في يقين أنها على وشك الجنون.
كانت تتراءى لنفسها في حرج يتناثر فيه نبات السدر ، غارق في ظلام
كثيف، وبين الفينة والأخرى يشق البرق السماء مدويا...فيظهر بغتة قزم
عار،يتدلى من أسفل بطنه جهاز تناسلي ضخم. اندفع نحوها جريا ثم
توقف هنيهة، مكشرا عن ما يشبه انياب ذئب ن ثم جد في مطاردتها.
أطلقت ساقيها للريح صارخة دون صوت .تارة تتعطل حركاتها،
وتارة تسقط ، وأخرى تشتبك ملابسها باشجار النبق فلاتجد بعد الانفكاك
الا الاتجاه نحو النهر الذي شرع في الهيجان ، فتغوص قدماها في الطمي
اللزق ، والقزم يقفوها صارخا ومقهقها ...كان عرضه يقارب طوله ،
ذو رأس كبير بنتوءين على طرفي جبهته، تصل بينهما تجاعيد غائرة،
وأطرافه معوجة كما لو سقط من عل قبل أ ن يلتئم جسده .
تساءلت زينة . لماذا لم تخبر سها أحدا ؟...لكن ما وجدته في الوجه الأخر
من الورقة أدخل الريبة في نفسها ، فسها كتبت بنوع من البوح المحزن
. أحبك يا لمياء حتى الموت، وأسعد اللحظات هي التي ننام فيها
متجاورتين، وأصابعنا تتجول في مروج جسدينا كحيوانات أسطورية،
تقتات على عشب اللذة
أعلى