تدور الصحراء حولي، تقهقه.. كعاهرة ثملة ترقص الريح، تكشف سوءتها، بغزارة ينهمر المطر، من جحره، بأنياب مجوّفة منحنية، يخرج ثعبان أسود.. أركض، بمكرٍ تسحب الفيفى بساطها من تحت قدميّ، أسقط، أشعر بالرمل حارقاً، ناعماً حدّ انسياب النار في جسد الموت، أصرخ، أستيقظ….
يلفّعني الليل، تجتاحني برودة غريبة تهزّ جسدي المحموم، أسائل نفسي عن المكان الذي يحتويني، تتداعى أفكاري قادمةً من “وادي الخيل” مروراً بالبقاع اللبناني وصولاً إلى…..، تلسعني ذكريات الأمس القريب، أصرخ مجدداً، أتحسّس وجهي، عنقي، صدري، بطني، ما بين فخذيّ؛ يهشّمني الألم، أتحسس نزف الدم يشق أثلاماً فوق جسد امرأة سبوها شرعاً باسم الدين… رغماً عني أجرّ قدميّ، على حافة السرير تتدليان ثقيلتين، أحاول الوقوف، سائل حار يتدفق ما بين فخذيّ، أضمهما، أخال إنّي في مخاض عسير سيبرعم موتاً، أشهق مرعوبة، يصفعني دوار شديد، أتلمس قطع الأثاث، أتكئ عليها محاولة الوصول إلى مقبض الباب… مقفلٌ في وجهي كما أبواب الرحمة في وجوه المنبوذين من هذا العالم.
أجلس على الأرض، أضم ركبتيّ إلى صدري، أسند ظهري إلى الباب، بصوت واهنٍ أناديه، أتوسله أن يفتح لي، أذكّره بشرع الله الذي جمع بيننا، أقسّم أنني زوجة صالحة لن تفضح سرّه سيما وأنني غريبة في هذا البلد… الظلام جهنمٌ نهِمة تفغر فاهها كي تحيَ بخطايا البؤساء، يشتعل جسدي سخونة، أهذي، أسمع صراخ إخوتي يستنجدون، أمدّ لهم يدي، من القعر تولول النار، تلتهمهم… ألطم وجهي منتحبة….
بخطى مضطربة ثقيلة يذرع أحدهم الغرفة المجاورة، خائفةً أبتلع دموعي، أعقد ذراعيّ إلى صدري، أشعر بأنفاس الرجل تلفح وجهي من خلف الباب الذي يفصل بيننا، بلهجة لم أعتد سماعها يصرخ “الله يلعنك يا بنت الكحبة…. وياخدك عنده متل ما اخد أمك”.
مضطربةً هززت رأسي يميناً وشمالاً، صممت أذنيّ المجمّرتين من ارتفاع حرارتي، حبوت نحو السرير، أقعيت عليه محاولة تجفيف دمي بالغطاء، وضعت وجهي بين كفيّ، أجفلتني برودتهما، تماماً كَيَدَيْ أمي قبل أن نصل الأراضي اللبنانية… على الرغم من ضرامة شمس الظهيرة في ذلك اليوم، إلا أنها اقتعدت الأرض عاجزة عن متابعة السير، نظرتُ الى السماء، لا شيء سوى الشمس متعامدة فوق رؤوسنا، أشعتها ألسنة ثعابين تفح السمّ في أجسادنا المنهكة، خفضت بصري، أمي ممدّدة على الرمال تنازع أنفاسها الأخيرة وخيط الدم يسيل من فمها…. بحرقة رحنا نصرخ ونبكي؛ ببراءة سنواته الخمس، التصق بي هيثم من الخلف، هزّ كتفي، همس “ريم! ليش عم تبكوا؟ شو فيها أمي؟”، سحبته الى حضني، أجهشت بالبكاء، “أمي عم ينزل من تمها دم يا ريم!!” هكذا قال وقد غادر حضني ليرتمي منتحباً على صدر أمي، ويمسح دمها بقميصه المرقّع.
كمقصلة مخضّبة بالدم يهوي الوقت فوق أعناقنا ونحن مكبلون، تنث رائحة الموت، الصغار الثلاثة يبكون بصمت، يشير لي محمد بأن نمضي في طريقنا، أهز رأسي مستنكرة، أبتلع ريقي، أجثو على ركبتي، أبدأ الحفر بكلتا يديّ، يحذو إخوتي حذوي، وحده هيثم يجثم بالقرب من جثة أمي، يمد يديه الصغيرتين ليلمس خديها ويمسّد على شعرها دون أن يتوقف عن البكاء وترداد كلمة واحدة “أمي! أمي! أميييي!”
مسرعةً تعدو الساعات، يتصبّب العرق من جباهنا، أنظر إلى القرص الذهبي في السماء، عمّا قريب سينجرح ويتدفق الدم إلى أطرافه، ينقبض صدري، أرمي الملعقة التي أزيح بها التراب، أومئ لمحمد بضرورة التوقف عن الحفر كي لا نمسِ لقمة سائغة لضواري هذه المنطقة الجرداء، يلتقط أخي أنفاسه المتخبّطة داخل صدره، يقبّل هيثم على خده، بتوتر تشوبه القسوة يضعه في أحضان “نور” آمراً إياه بعدم التحرّك…. أساعده في جرّ جثة أمي نحو الحفرة، كممسوسٍ ينتفض هيثم، بيديه الصغيرتين يحاول عرقلتنا وهو يصرخ: “لك شو عم تعملوااااااااا؟؟!!! اتركوا أميييييييي!! أمييييييييي!”
أتركُ محمد كي ينهي منفرداً أصعب مهمة فرضها عليه الزمن، أحمل هيثم بين ذراعيّ فيما تتمسك نور وفاطمة برجليّ… في حفرة لا تزيد عن نصف متر ترقد أمي رقدتها الأخيرة، كآلة صمّاء يهيل محمد فوقها التراب، بعيون جاحظة وصوت خائف تخنقه العبرات تهمس فاطمة “ريم! أمي رح تختنق يا ريم! ما يمكن بعدها طيبة؟!”….. يقطب محمد حاجبيه، يصرخ، يلعن الزمن، نسير نحو المجهول.
لبنان… قطعة الجنّة التي تدخلها سائحاً زائراً تتحوّل إلى جحيم مستعرٍ حين تشمّ من ثنايا جسدك رائحة التشرّد المتكئ على أبواب الجمعيات الخيرية.
من قال إنّ دكتاتورية بلادك وفوضاها وظلمها وفقرها وجوعها وعريّها و و و أشدّ ألماً من ذلّ الغربة وبيع أحزانك في مزاد علنيّ!! مخطئ من يظن ذلك، مخطئ لأنه لم يعش تفاصيل التجربة وقسوتها!! مخطئ لأنّه لم يفهم معنى “بلادي وإن جارت عليّ عزيزة …. أهلي وإن ضنّوا عليّ كرام”.
جاء كانون بعواصفه وبرقه ورعوده؛ صقيعُه قاسٍ حدّ انهزام الرحمة من خيم الهاربين من رصاص البنادق وعواء الحرب الأهلية…. وحده مندوب “التيار” يقف عند الباب، يرافقه شيخ ذو وقار، يحملان البطانيات والمواد الغذائية، على ملامحهما ترتسم الشفقة ممزوجة بالقرف وبشيء آخر لا أعرفه، شعور بالخوف حيال نظرات تتفرّس بي صعوداً من قدميّ الحافيتين مروراً بخصري الضامر ونهديّ الصغيرين وصولاً إلى تفاصيل وجهي وشعري الكستنائي المبعثر فوق كتفيّ.
في تلك الليلة فقط تعلّمت كيف تكون النساء وقود حرب، كيف يموت حب النساء على أعتاب شهوات الرجال، كيف تكون مسلسلاتنا الدينية التاريخية مدعاةً للقرف ونحن نتفاخر ببيع الجواري وشرائها…. الرجل الستيني ذو اللحية المدببة والأنف المعقوف قادم من بلاد النفط كي يتمّم شرع الله بأربع نساء، قادمٌ كي أكون له زوجة صغيرة يوقّع فوق بكارتها بقلم جفّ حبره.
عصفت الريح، غزيراً انهمر المطر، سقط واحد من أوتاد الخيمة، ماتت نملة؛ بين كائنات بائسة جال الطائر بنظره، سار على جليد وملح، خلفه خطوات ترسم السلام، وأمامه صحراء عقيمة إلا من لعنة البداوة.
“خْطَيَة… بنيّة زغيرة!! شعمل فيها الرجل؟!” همست المرأة ذات العينين اللوزيتين.
“هسسسس! انشدبي! هسه يسمعك!” وضعت يدها على فمها امرأة بدينة.
في جسدي يتقد بركان محموم، يبتلعني دوار شديد، نبضات قلبي سيوف تهوي لتبعث الطفولة المكفّنة في داخلي، أفتح عينيّ على بستان لوز أبيض يموت تحت كثبان الصحراء وهي ترفع رايات الفتح، أصرخ “أميييييييييي!!”
* عن الناقد العراقي
يلفّعني الليل، تجتاحني برودة غريبة تهزّ جسدي المحموم، أسائل نفسي عن المكان الذي يحتويني، تتداعى أفكاري قادمةً من “وادي الخيل” مروراً بالبقاع اللبناني وصولاً إلى…..، تلسعني ذكريات الأمس القريب، أصرخ مجدداً، أتحسّس وجهي، عنقي، صدري، بطني، ما بين فخذيّ؛ يهشّمني الألم، أتحسس نزف الدم يشق أثلاماً فوق جسد امرأة سبوها شرعاً باسم الدين… رغماً عني أجرّ قدميّ، على حافة السرير تتدليان ثقيلتين، أحاول الوقوف، سائل حار يتدفق ما بين فخذيّ، أضمهما، أخال إنّي في مخاض عسير سيبرعم موتاً، أشهق مرعوبة، يصفعني دوار شديد، أتلمس قطع الأثاث، أتكئ عليها محاولة الوصول إلى مقبض الباب… مقفلٌ في وجهي كما أبواب الرحمة في وجوه المنبوذين من هذا العالم.
أجلس على الأرض، أضم ركبتيّ إلى صدري، أسند ظهري إلى الباب، بصوت واهنٍ أناديه، أتوسله أن يفتح لي، أذكّره بشرع الله الذي جمع بيننا، أقسّم أنني زوجة صالحة لن تفضح سرّه سيما وأنني غريبة في هذا البلد… الظلام جهنمٌ نهِمة تفغر فاهها كي تحيَ بخطايا البؤساء، يشتعل جسدي سخونة، أهذي، أسمع صراخ إخوتي يستنجدون، أمدّ لهم يدي، من القعر تولول النار، تلتهمهم… ألطم وجهي منتحبة….
بخطى مضطربة ثقيلة يذرع أحدهم الغرفة المجاورة، خائفةً أبتلع دموعي، أعقد ذراعيّ إلى صدري، أشعر بأنفاس الرجل تلفح وجهي من خلف الباب الذي يفصل بيننا، بلهجة لم أعتد سماعها يصرخ “الله يلعنك يا بنت الكحبة…. وياخدك عنده متل ما اخد أمك”.
مضطربةً هززت رأسي يميناً وشمالاً، صممت أذنيّ المجمّرتين من ارتفاع حرارتي، حبوت نحو السرير، أقعيت عليه محاولة تجفيف دمي بالغطاء، وضعت وجهي بين كفيّ، أجفلتني برودتهما، تماماً كَيَدَيْ أمي قبل أن نصل الأراضي اللبنانية… على الرغم من ضرامة شمس الظهيرة في ذلك اليوم، إلا أنها اقتعدت الأرض عاجزة عن متابعة السير، نظرتُ الى السماء، لا شيء سوى الشمس متعامدة فوق رؤوسنا، أشعتها ألسنة ثعابين تفح السمّ في أجسادنا المنهكة، خفضت بصري، أمي ممدّدة على الرمال تنازع أنفاسها الأخيرة وخيط الدم يسيل من فمها…. بحرقة رحنا نصرخ ونبكي؛ ببراءة سنواته الخمس، التصق بي هيثم من الخلف، هزّ كتفي، همس “ريم! ليش عم تبكوا؟ شو فيها أمي؟”، سحبته الى حضني، أجهشت بالبكاء، “أمي عم ينزل من تمها دم يا ريم!!” هكذا قال وقد غادر حضني ليرتمي منتحباً على صدر أمي، ويمسح دمها بقميصه المرقّع.
كمقصلة مخضّبة بالدم يهوي الوقت فوق أعناقنا ونحن مكبلون، تنث رائحة الموت، الصغار الثلاثة يبكون بصمت، يشير لي محمد بأن نمضي في طريقنا، أهز رأسي مستنكرة، أبتلع ريقي، أجثو على ركبتي، أبدأ الحفر بكلتا يديّ، يحذو إخوتي حذوي، وحده هيثم يجثم بالقرب من جثة أمي، يمد يديه الصغيرتين ليلمس خديها ويمسّد على شعرها دون أن يتوقف عن البكاء وترداد كلمة واحدة “أمي! أمي! أميييي!”
مسرعةً تعدو الساعات، يتصبّب العرق من جباهنا، أنظر إلى القرص الذهبي في السماء، عمّا قريب سينجرح ويتدفق الدم إلى أطرافه، ينقبض صدري، أرمي الملعقة التي أزيح بها التراب، أومئ لمحمد بضرورة التوقف عن الحفر كي لا نمسِ لقمة سائغة لضواري هذه المنطقة الجرداء، يلتقط أخي أنفاسه المتخبّطة داخل صدره، يقبّل هيثم على خده، بتوتر تشوبه القسوة يضعه في أحضان “نور” آمراً إياه بعدم التحرّك…. أساعده في جرّ جثة أمي نحو الحفرة، كممسوسٍ ينتفض هيثم، بيديه الصغيرتين يحاول عرقلتنا وهو يصرخ: “لك شو عم تعملوااااااااا؟؟!!! اتركوا أميييييييي!! أمييييييييي!”
أتركُ محمد كي ينهي منفرداً أصعب مهمة فرضها عليه الزمن، أحمل هيثم بين ذراعيّ فيما تتمسك نور وفاطمة برجليّ… في حفرة لا تزيد عن نصف متر ترقد أمي رقدتها الأخيرة، كآلة صمّاء يهيل محمد فوقها التراب، بعيون جاحظة وصوت خائف تخنقه العبرات تهمس فاطمة “ريم! أمي رح تختنق يا ريم! ما يمكن بعدها طيبة؟!”….. يقطب محمد حاجبيه، يصرخ، يلعن الزمن، نسير نحو المجهول.
لبنان… قطعة الجنّة التي تدخلها سائحاً زائراً تتحوّل إلى جحيم مستعرٍ حين تشمّ من ثنايا جسدك رائحة التشرّد المتكئ على أبواب الجمعيات الخيرية.
من قال إنّ دكتاتورية بلادك وفوضاها وظلمها وفقرها وجوعها وعريّها و و و أشدّ ألماً من ذلّ الغربة وبيع أحزانك في مزاد علنيّ!! مخطئ من يظن ذلك، مخطئ لأنه لم يعش تفاصيل التجربة وقسوتها!! مخطئ لأنّه لم يفهم معنى “بلادي وإن جارت عليّ عزيزة …. أهلي وإن ضنّوا عليّ كرام”.
جاء كانون بعواصفه وبرقه ورعوده؛ صقيعُه قاسٍ حدّ انهزام الرحمة من خيم الهاربين من رصاص البنادق وعواء الحرب الأهلية…. وحده مندوب “التيار” يقف عند الباب، يرافقه شيخ ذو وقار، يحملان البطانيات والمواد الغذائية، على ملامحهما ترتسم الشفقة ممزوجة بالقرف وبشيء آخر لا أعرفه، شعور بالخوف حيال نظرات تتفرّس بي صعوداً من قدميّ الحافيتين مروراً بخصري الضامر ونهديّ الصغيرين وصولاً إلى تفاصيل وجهي وشعري الكستنائي المبعثر فوق كتفيّ.
في تلك الليلة فقط تعلّمت كيف تكون النساء وقود حرب، كيف يموت حب النساء على أعتاب شهوات الرجال، كيف تكون مسلسلاتنا الدينية التاريخية مدعاةً للقرف ونحن نتفاخر ببيع الجواري وشرائها…. الرجل الستيني ذو اللحية المدببة والأنف المعقوف قادم من بلاد النفط كي يتمّم شرع الله بأربع نساء، قادمٌ كي أكون له زوجة صغيرة يوقّع فوق بكارتها بقلم جفّ حبره.
عصفت الريح، غزيراً انهمر المطر، سقط واحد من أوتاد الخيمة، ماتت نملة؛ بين كائنات بائسة جال الطائر بنظره، سار على جليد وملح، خلفه خطوات ترسم السلام، وأمامه صحراء عقيمة إلا من لعنة البداوة.
“خْطَيَة… بنيّة زغيرة!! شعمل فيها الرجل؟!” همست المرأة ذات العينين اللوزيتين.
“هسسسس! انشدبي! هسه يسمعك!” وضعت يدها على فمها امرأة بدينة.
في جسدي يتقد بركان محموم، يبتلعني دوار شديد، نبضات قلبي سيوف تهوي لتبعث الطفولة المكفّنة في داخلي، أفتح عينيّ على بستان لوز أبيض يموت تحت كثبان الصحراء وهي ترفع رايات الفتح، أصرخ “أميييييييييي!!”
* عن الناقد العراقي