قبل أسابيع رحل الكاتب والروائي الإريتري محمد سعيد ناود في العاصمة الإريترية أسمرا. ولأن حياة الفقيد لم تكن عادية في الظروف التي شهدتها المنطقة العربية والسودان في النصف الثاني من القرن العشرين، وما صاحبها من تحولات شهدت نضالاً كثيفاً في المنطقة ضد الاستعمارين الفرنسي والإنكليزي؛ فإن ما طبع مسيرة حياته بعد ذلك لعقود طويلة كان انعكاساً لتلك التحولات وصدى لمفاعيلها في المحيط السياسي والثقافي الذي انخرط فيه الفقيد. ناود الذي انخرط مبكراً في حركة اليسار في مدينة بورسودان الساحلية أوائل الخمسينات من القرن العشرين، ظل باستمرار منفعلاً بالزخم الذي اتسمت به تلك الحركة وحزبها الذي كان من أقوى الأحزاب اليسارية في المنطقة العربية وأفريقيا فكان في شبابه الأول عضواً في «الجبهة المعادية للاستعمار» وشهد نشاطه الطالبي في ذلك الوقت حراكاً من أجل استقلال السودان. ولأن حركة اليسار العالمي في ذلك الوقت كانت تعج بالنضال الأممي عبر بعض الإيقونات التي ألهمت مناضلي العالم الثالث لا سيما إيقونة «جيفارا» الذي شهد نضاله الأممي انزياحاً في مختلف الدول ابتداء من كوبا ومروراً بالكونغو وانتهاء ببوليفيا؛ فقد ألهمت تلك السيرة الشاب ناود الذي تخرج لتوه وحصل على وظيفة مرموقة بشركة التلغراف الإنكليزي في مدينته الساحلية بورسودان؛ وظيفة كان بالإمكان أن تضمن له مستقبلاً زاهراً وحياة هنية لولا ذلك القلق الذي كان يجره جراً إلى الانخراط في نضال جديد خارج السودان هذه المرة؛ إلى مسقط رأسه في إريتريا المجاورة للسودان والتي ينتمي ناود لإحدى قومياتها «البجا» التي يتقاطع وجودها في حدود البلدين. حين قرر ناود الاستقالة من الحزب الشيوعي السوداني وفي الوقت عينه من وظيفته المرموقة تلك، متفرغاً لنضاله الجديد كان كمن يدخل في ظلمة حزينة وبلا ضوء تقريباً، سوى حفنة السلاح التي تسلمها من عبد الخالق محجوب رئيس الحزب الشيوعي السوداني في بداية طريقه على هذا الدرب الموحش الطويل. فمن جهة كان ناود خريجاً نادراً في بيئة غارقة في الأمية، أي كان عليه أن يبدأ من الصفر حيال تلك المجموعة التي تعين عليه تأسيسها وقيادتها تحت اسم «حركة تحرير اريتريا». ومن جهة ثانية كانت تلك اللحظة الحرجة لنضاله في اريتريا تشهد تأسيس الهوامش الساخنة للحرب الباردة؛ ففيما كانت دول المنطقة تنال استقلالها خروجاً من الاستعمار الأوروبي، كانت اريتريا تدخل لتوها في استعمار جديد بعد الاستعمار الإيطالي عبر ضمها إلى أثيوبيا. وهكذا كان على محمد سعيد ناود أن يحمل صخرة سيزيف في تلك الظلمة المديدة إذ توزعت انشغالاته النضالية عبر العديد من الجبهات: جبهة النضال، وجبهة الكتابة وجبهة التعريف بالقضية الإريترية في العالم العربي. ففي مثل تلك الظروف التي ألهمته الشروع في جهد استثنائي كان ناود يختبر تجربة متعددة المستويات ويتحدى ظروفاً بالغة السوء لا تقف عند التناقضات التي كانت تنفجر في كل خطوة جديدة تتماس مع تلك البيئة.
والحركة التي رسم ناود من خلالها تخطيطاً لعمل ثوري سلمي منظم بناء على طبيعة هذا الاستعمار (الإثيوبي الأفريقي) الغريب، أوشكت أن تتسلم السلطة في أسمرا عبر خطة أمنية دقيقة في وقت مبكر جداً لولا تلك التناقضات التي أفشلت الخطة في لحظاتها الأخيرة بفعل خلل تسبب في ما بعد بدخول ناود إلى حقبة أخرى دموية وشديدة الحرج مع الفصائل الأخرى للتنظيمات الارترية التي نشأت بعد ذلك مثل «جبهة التحرير الإرترية». وعندما كتب محمد سعيد ناود ميثاق حركته في مسقط رأسه بقرية «ماريت» في منطقة «رورا حباب» من الساحل الاريتري لم يكن يحسب أن التماس مع حركات النضال الأخرى التي نشأت بعد حركته يمكن أن يفضي إلى أحداث دموية؛ فما جرى من تصفيات لفصيل مسلح من حركته على يد جبهة التحرير الإريترية بحجة أن ساحة النضال لا تحتمل سوى تنظيم واحد ضمن حجج أخرى فتح عينيه مبكراً على خطورة الطاقة التدميرية لإيديولوجيا الشعارات، هو الذي كان يحمل بين جنبيه نقاء وحساسية تجاه قضية لم يحسب يوماً أن العمل من أجلها يمكن أن يفضي إلى تناحر بين رفاق السلاح.
في بداية السبعينات الميلادية التقى محمد سعيد ناود رفيقه المناضل الكبير عثمان صالح (سبي)، واللقاء قصة أخرى على مستوى الكتابة والنضال من داخل العمق الإمبراطوري لأثيوبيا، ففيما كان ناود ينطلق من العمق السوداني كان سبي ابن (مصوع) «العثمانية»؛ الذي درس في جامعة أديس أبابا بأثيوبيا يعكس تجربة أخرى لضرورة النضال ضد أثيوبيا. وهكذا تم تأسيس تنظيم «قوات التحرير الشعبية» أوائل السبعينات الميلادية بقيادة عثمان صالح سبي، أصبح فيه محمد سعيد ناود أميناً للإعلام الخارجي وأستقر به المقام في بيروت حيث وجد فسحة للكتابة والانخراط في فضاء الحرية الذي وفرته بيروت للمثقفين العرب فكتب ناود كتابه الأول «قصة الاستعمار الإيطالي لإريتريا»، ثم خاض بعد ذلك تجربة رائدة في الكتابة الروائية حين أصدر روايته الأولى (رحلة الشتاء) في عام 1979 عن دار الكاتب العربي، أما روايته الثانية «المغترب» فقد ضاعت مسودتها بوقوع قذيفة في البناية التي كان يسكن فيها في بيروت إبان الحرب الأهلية فلم يحتفظ إلا بفصول كان نشرها في مجلة الثورة الإريترية. ومن خلال عنواني الروايتين يمكننا أن نلمح موضوعة الرحيل والغربة كثيمة أساسية ارتبطت بحياة ناود طوال مرحلة النضال. لعب الرفيقان دوراً كبيراً في إطلاق نقاش عن الهوية العربية لإريتريا باعتبارها هوية تاريخية سامية، وكان محمد سعيد ناود ينطلق من إطار نظري مع رفيقه سبي حيال عروبة إريتريا، ليس فقط كانتماء تاريخي فحسب؛ وإنما أيضاً لجلب الدعم من العواصم العربية لحركة التحرير الاريترية والاستفادة من البعثات التعليمية لطلاب إريتريا إلى تلك العواصم. ففي ذلك الوقت واجه (ناود) و(سبَّي) انسدادين عرضا في مواجهة الدعاية والتسويق لفكرة إريتريا العربية من ناحية، وإريتريا في مواجهة الاستعمار الإثيوبي من ناحية أخرى. ففي حين كان العرب بسبب غريزة اجتماعية خام تشرط العروبة بالبياض في شغل عن عروبة إريتريا؛ كانت أفريقيا جنوب الصحراء بسبب أسطورة تدرج أثيوبيا في مصاف أمومة تاريخية مقدسة لأفريقيا في شغل أيضاً عن حركة ثوار إريتريا. وعلى رغم ذلك تمكن الرفيقان من اختراقات مهمة، وخلق علاقات وصداقات في المنطقة العربية على هامش التماهي الذي شهدته المنطقة في السبعينات مع القضية الفلسطينية وفصائلها.
وهكذا توزعت فصائل الثورة الإريترية في ما بعد بين العواصم العربية المختلفة: بغداد دمشق عدن وغيرها. كان ناود ينطلق في فهمه لعروبة اريتريا من تصور سامي تاريخي للعروبة يدرج في معناه النموذج التأسيسي لجميع مكونات الشعب الإريتري بمسلميه ومسيحييه؛ ذلك أن هذه العروبة الإريترية هي مكون تاريخي ظهر قبل أكثر من 3 آلاف سنة مع هجرة قبيلتي (الأجاعز وحبشات) اليمنيتين اللتين أسستا الوجود اللغوي والحضاري للشعب الإريتري بعد انهيار سد مأرب بحسب المؤرخ العراقي جواد علي وعلى هذا فإن طبيعة هذه الهوية العربية (التي نشأت عنها في ما بعد أكبر لغتين في إريتريا: التجري والتجرينية اللتان انحدرتا من اللغة الجئزية اليمنية) كانت بحسب ناود تصلح ملهماً لنضال الشعب الاريتري بجميع مكوناته في وجه الاستعمار الأثيوبي. وهذا التصور هو ما يفسر التحاق المسيحيين الإريتريين بالثورة فكان من بين كبار مناضليها (ولد آب ولد ماريام) و(أسياس أفورقي) الرئيس الحالي لإريتريا وغيرهما. ولهذا كان دفاع ناود عن اللغة العربية في إريتريا ليس فقط لأنها لغة لبعض مسلميها فحسب، بل لأن العربية هي لغة تاريخية ووطنية إلى جانب اللغة التجرينية. وتحت ضغط هذه الأفكار كتب ناود كتابه المعروف «الإسلام والعروبة بالقرن الأفريقي».
ولأن ناود من قومية يتقاطع وجودها بين بلدين (السودان وإريتريا) فقد كان الفقيد يستقطب روحاً وطنية توزعت بينهما. لم يكن يشعر بتناقضات على الحدود التي كانت تمنحه دائماً إحساساً بالامتداد الحميم فقد كان الرجل سودانياً عرف كيف يجعل من هويته السودانية سبباً لنضاله في إريتريا. لقد ألهمته تجربة النضال في السودان ضمن «الجبهة المعادية للاستعمار» الرغبة في الانتقال بذلك النضال إلى اريتريا. فناود الذي أطلق اسم (عازَّة) على ابنته البكر تماهياً مع الاسم الذي استلهمه السودانيون رمزاً وطنياً للسودان إبان الحركة الوطنية ضد الاستعمار البريطاني؛ كان يملك إحساساً متقدماً بالمصير الواحد للسودان وإريتريا ضمن شعوب القرن الأفريقي الأخرى. ذلك أن حيثيات كثيرة أدركها الفقيد وراهن عليها ببصيرة عرفت أن ما يجذب السودان إلى القرن الأفريقي ربما كان أكثر قرباً من جواره العربي وهو ما تحقق أقله على صعيد الغناء الذي جعل من فنان السودان الكبير محمد وردي إيقونة فنية ملهمة لشعوب القرن الأفريقي ولقد ألهم ناود أصدقاءه السودانيين العمق الحي لتلك العلاقة عبر صداقات نشأت على هامش النضال في الخرطوم والعواصم العربية؛ كان من ضمنهم المفكر السوداني الراحل محمد أبو القاسم حاج حمد الذي قدم دراسات معمقة حول الإمكانات الاستراتيجية لشعوب القرن الأفريقي. فلم يكن صاحب «عالمية الإسلام الثانية» صديقاً للثورة الإريترية فحسب بل كان من الرواد التاريخيين لفكرة القرن الأفريقي على الصعيد المعرفي وما يمكن أن تمنحه لتلك الشعوب المتجانسة من تقدم وازدهار إذا عرفت كيف تحدق في القيم الإيجابية المشتركة التي تجمع بينها. كما ألهم ناود صديقه الصحافي السوداني الراحل سيد أحمد خليفة الذي كان نصيراً للثورة الإريترية. لم يكن مسار النضال وخطه البياني في حياة محمد سعيد ناود متناسباً مع طاقته الفكرية والمعرفية من ناحية، وتجرده الأخلاقي من ناحية ثانية. فأجواء النضال التي انعكست أحياناً في الانقسامات التي طاولت الفصائل الإريترية وما اتصل بها من تنافس على المكاسب ومواقع القيادة عبر أدوات وأساليب متخلفة جعلته دائماً يختار منطقة (الظل القيادي) ليعمل من هناك بعيداً عن كل ما يمكن أن يلوث تاريخه النضالي؛ فترك سيرة نظيفة حتى عند من يختلفون معه من دون أن يفقدوا احترامهم له. فقد كان الرجل في نضاله يقارب نقاء ثورياً نادراً تعذر إدراكه كقيمة أخلاقية في ملابسات الحراك السياسي بكل تناقضاته وحالاته الحزبية المأزومة في تلك المرحلة.
وفي زمن مبكر كالذي عمل فيه ناود كان الواقع ينفجر بالتناقضات والتحولات التي لا تحتمل الإصغاء لتجربته المتجردة، فضلاً عن الكثير من الارتهانات التي كانت تتحكم في مصائر الثورة الإريترية ومحاورها المتصلة بمصادر التوجيه والتمويل، بعيداً عن أفكار كان يمكن للراحل أن يطورها باتجاه مستقل يضمن توازنات متساوية، وإن بدت مستحيلة في ذلك الزمن الذي حكمه سقف الاستقطاب الدولي بين المعسكرين الاشتراكي والرأسمالي؛ والذي كان بطبيعته الاستراتيجية استقطاباً يدرج الهامش الساخن للقضية الإريترية شرطاً موضوعياً للحرب الباردة. حتى إذا انهار في عام 1989 تفككت على هامش تداعياته عقدة القضية الإريترية.
ومع استقلال اريتريا في عام 1991 عاد ناود ليستقر في أسمرا ويرتاح من رحلة نضال دامت أكثر من 30 عاماً ومن دون أي رغبة في منصب أو مكانة سوى رغبته الأولى والأخيرة في الكتابة والتدوين والتوثيق، فناود الذي ظل يكتب مذكراته ويومياته بانتظام منذ عام 1965 وحتى عام 2010 بحسب ابنه محمود ناود الذي كان يبعث إليه بـ «دفاتر التدوين» السنوية من دمشق؛ لم يكن يشغله من حطام الدنيا غير تلك الرغبة الملحة في الكتابة. وهكذا أصدر ناود كتابه الضخم «حركة تحرير إريتريا الحقيقة والتاريخ» في 600 صفحة، شهادة نادرة على توثيق وتدوين تجربة النضال للأجيال القادمة من أبناء الشعب الإريتري، وواصل كتابة مشروعه حول الهوية العربية وتاريخها في إريتريا فكتب «اريتريا طريق الهجرات والديانات ومدخل الإسلام إلى أفريقيا» في عام 2002، ثم أصدر كتاب «عمق العلاقات الإريترية العربية» في عام 2003، وظل يراكم مؤلفاته المخطوطة طوال السنوات الأخيرة من عمره المديد كما لو كان في سباق مع الزمن، لتتوالى عناوين أخرى من مشروعه الكتابي عن «شخصيات ورموز إريترية» وكتاب «شاهد على بعض عصره» و «يوميات الثورة الإريترية»، بالإضافة إلى كتابه حول «تاريخ الطريقة الختمية في إريتريا» وهي الطريقة الصوفية التي كان أتباعها في السودان هم جماهير الحزب الاتحادي الديموقراطي أحد أكبر الأحزاب التقليدية بزعامة محمد عثمان الميرغني.
وحين نتساءل اليوم عن استعادة لمشروع ناود سنعثر على موضوعات لا تزال قابلة لإعادة تعريف مشروعه على رغم التعتيم الذي ضرب حوله من جهات مختلفة، فمن جهة لا يمكن لناود الذي شكل ريادة تاريخية للنضال الإريتري أن يغيب لأن حدث استقلال اريتريا لا يزال طازجاً، ومن جهة ثانية أن المشروع المعرفي للهوية الإريترية الذي كتبه ناود لا يزال مفتوحاً على الأفق الوطني الذي أراده له.
والحركة التي رسم ناود من خلالها تخطيطاً لعمل ثوري سلمي منظم بناء على طبيعة هذا الاستعمار (الإثيوبي الأفريقي) الغريب، أوشكت أن تتسلم السلطة في أسمرا عبر خطة أمنية دقيقة في وقت مبكر جداً لولا تلك التناقضات التي أفشلت الخطة في لحظاتها الأخيرة بفعل خلل تسبب في ما بعد بدخول ناود إلى حقبة أخرى دموية وشديدة الحرج مع الفصائل الأخرى للتنظيمات الارترية التي نشأت بعد ذلك مثل «جبهة التحرير الإرترية». وعندما كتب محمد سعيد ناود ميثاق حركته في مسقط رأسه بقرية «ماريت» في منطقة «رورا حباب» من الساحل الاريتري لم يكن يحسب أن التماس مع حركات النضال الأخرى التي نشأت بعد حركته يمكن أن يفضي إلى أحداث دموية؛ فما جرى من تصفيات لفصيل مسلح من حركته على يد جبهة التحرير الإريترية بحجة أن ساحة النضال لا تحتمل سوى تنظيم واحد ضمن حجج أخرى فتح عينيه مبكراً على خطورة الطاقة التدميرية لإيديولوجيا الشعارات، هو الذي كان يحمل بين جنبيه نقاء وحساسية تجاه قضية لم يحسب يوماً أن العمل من أجلها يمكن أن يفضي إلى تناحر بين رفاق السلاح.
في بداية السبعينات الميلادية التقى محمد سعيد ناود رفيقه المناضل الكبير عثمان صالح (سبي)، واللقاء قصة أخرى على مستوى الكتابة والنضال من داخل العمق الإمبراطوري لأثيوبيا، ففيما كان ناود ينطلق من العمق السوداني كان سبي ابن (مصوع) «العثمانية»؛ الذي درس في جامعة أديس أبابا بأثيوبيا يعكس تجربة أخرى لضرورة النضال ضد أثيوبيا. وهكذا تم تأسيس تنظيم «قوات التحرير الشعبية» أوائل السبعينات الميلادية بقيادة عثمان صالح سبي، أصبح فيه محمد سعيد ناود أميناً للإعلام الخارجي وأستقر به المقام في بيروت حيث وجد فسحة للكتابة والانخراط في فضاء الحرية الذي وفرته بيروت للمثقفين العرب فكتب ناود كتابه الأول «قصة الاستعمار الإيطالي لإريتريا»، ثم خاض بعد ذلك تجربة رائدة في الكتابة الروائية حين أصدر روايته الأولى (رحلة الشتاء) في عام 1979 عن دار الكاتب العربي، أما روايته الثانية «المغترب» فقد ضاعت مسودتها بوقوع قذيفة في البناية التي كان يسكن فيها في بيروت إبان الحرب الأهلية فلم يحتفظ إلا بفصول كان نشرها في مجلة الثورة الإريترية. ومن خلال عنواني الروايتين يمكننا أن نلمح موضوعة الرحيل والغربة كثيمة أساسية ارتبطت بحياة ناود طوال مرحلة النضال. لعب الرفيقان دوراً كبيراً في إطلاق نقاش عن الهوية العربية لإريتريا باعتبارها هوية تاريخية سامية، وكان محمد سعيد ناود ينطلق من إطار نظري مع رفيقه سبي حيال عروبة إريتريا، ليس فقط كانتماء تاريخي فحسب؛ وإنما أيضاً لجلب الدعم من العواصم العربية لحركة التحرير الاريترية والاستفادة من البعثات التعليمية لطلاب إريتريا إلى تلك العواصم. ففي ذلك الوقت واجه (ناود) و(سبَّي) انسدادين عرضا في مواجهة الدعاية والتسويق لفكرة إريتريا العربية من ناحية، وإريتريا في مواجهة الاستعمار الإثيوبي من ناحية أخرى. ففي حين كان العرب بسبب غريزة اجتماعية خام تشرط العروبة بالبياض في شغل عن عروبة إريتريا؛ كانت أفريقيا جنوب الصحراء بسبب أسطورة تدرج أثيوبيا في مصاف أمومة تاريخية مقدسة لأفريقيا في شغل أيضاً عن حركة ثوار إريتريا. وعلى رغم ذلك تمكن الرفيقان من اختراقات مهمة، وخلق علاقات وصداقات في المنطقة العربية على هامش التماهي الذي شهدته المنطقة في السبعينات مع القضية الفلسطينية وفصائلها.
وهكذا توزعت فصائل الثورة الإريترية في ما بعد بين العواصم العربية المختلفة: بغداد دمشق عدن وغيرها. كان ناود ينطلق في فهمه لعروبة اريتريا من تصور سامي تاريخي للعروبة يدرج في معناه النموذج التأسيسي لجميع مكونات الشعب الإريتري بمسلميه ومسيحييه؛ ذلك أن هذه العروبة الإريترية هي مكون تاريخي ظهر قبل أكثر من 3 آلاف سنة مع هجرة قبيلتي (الأجاعز وحبشات) اليمنيتين اللتين أسستا الوجود اللغوي والحضاري للشعب الإريتري بعد انهيار سد مأرب بحسب المؤرخ العراقي جواد علي وعلى هذا فإن طبيعة هذه الهوية العربية (التي نشأت عنها في ما بعد أكبر لغتين في إريتريا: التجري والتجرينية اللتان انحدرتا من اللغة الجئزية اليمنية) كانت بحسب ناود تصلح ملهماً لنضال الشعب الاريتري بجميع مكوناته في وجه الاستعمار الأثيوبي. وهذا التصور هو ما يفسر التحاق المسيحيين الإريتريين بالثورة فكان من بين كبار مناضليها (ولد آب ولد ماريام) و(أسياس أفورقي) الرئيس الحالي لإريتريا وغيرهما. ولهذا كان دفاع ناود عن اللغة العربية في إريتريا ليس فقط لأنها لغة لبعض مسلميها فحسب، بل لأن العربية هي لغة تاريخية ووطنية إلى جانب اللغة التجرينية. وتحت ضغط هذه الأفكار كتب ناود كتابه المعروف «الإسلام والعروبة بالقرن الأفريقي».
ولأن ناود من قومية يتقاطع وجودها بين بلدين (السودان وإريتريا) فقد كان الفقيد يستقطب روحاً وطنية توزعت بينهما. لم يكن يشعر بتناقضات على الحدود التي كانت تمنحه دائماً إحساساً بالامتداد الحميم فقد كان الرجل سودانياً عرف كيف يجعل من هويته السودانية سبباً لنضاله في إريتريا. لقد ألهمته تجربة النضال في السودان ضمن «الجبهة المعادية للاستعمار» الرغبة في الانتقال بذلك النضال إلى اريتريا. فناود الذي أطلق اسم (عازَّة) على ابنته البكر تماهياً مع الاسم الذي استلهمه السودانيون رمزاً وطنياً للسودان إبان الحركة الوطنية ضد الاستعمار البريطاني؛ كان يملك إحساساً متقدماً بالمصير الواحد للسودان وإريتريا ضمن شعوب القرن الأفريقي الأخرى. ذلك أن حيثيات كثيرة أدركها الفقيد وراهن عليها ببصيرة عرفت أن ما يجذب السودان إلى القرن الأفريقي ربما كان أكثر قرباً من جواره العربي وهو ما تحقق أقله على صعيد الغناء الذي جعل من فنان السودان الكبير محمد وردي إيقونة فنية ملهمة لشعوب القرن الأفريقي ولقد ألهم ناود أصدقاءه السودانيين العمق الحي لتلك العلاقة عبر صداقات نشأت على هامش النضال في الخرطوم والعواصم العربية؛ كان من ضمنهم المفكر السوداني الراحل محمد أبو القاسم حاج حمد الذي قدم دراسات معمقة حول الإمكانات الاستراتيجية لشعوب القرن الأفريقي. فلم يكن صاحب «عالمية الإسلام الثانية» صديقاً للثورة الإريترية فحسب بل كان من الرواد التاريخيين لفكرة القرن الأفريقي على الصعيد المعرفي وما يمكن أن تمنحه لتلك الشعوب المتجانسة من تقدم وازدهار إذا عرفت كيف تحدق في القيم الإيجابية المشتركة التي تجمع بينها. كما ألهم ناود صديقه الصحافي السوداني الراحل سيد أحمد خليفة الذي كان نصيراً للثورة الإريترية. لم يكن مسار النضال وخطه البياني في حياة محمد سعيد ناود متناسباً مع طاقته الفكرية والمعرفية من ناحية، وتجرده الأخلاقي من ناحية ثانية. فأجواء النضال التي انعكست أحياناً في الانقسامات التي طاولت الفصائل الإريترية وما اتصل بها من تنافس على المكاسب ومواقع القيادة عبر أدوات وأساليب متخلفة جعلته دائماً يختار منطقة (الظل القيادي) ليعمل من هناك بعيداً عن كل ما يمكن أن يلوث تاريخه النضالي؛ فترك سيرة نظيفة حتى عند من يختلفون معه من دون أن يفقدوا احترامهم له. فقد كان الرجل في نضاله يقارب نقاء ثورياً نادراً تعذر إدراكه كقيمة أخلاقية في ملابسات الحراك السياسي بكل تناقضاته وحالاته الحزبية المأزومة في تلك المرحلة.
وفي زمن مبكر كالذي عمل فيه ناود كان الواقع ينفجر بالتناقضات والتحولات التي لا تحتمل الإصغاء لتجربته المتجردة، فضلاً عن الكثير من الارتهانات التي كانت تتحكم في مصائر الثورة الإريترية ومحاورها المتصلة بمصادر التوجيه والتمويل، بعيداً عن أفكار كان يمكن للراحل أن يطورها باتجاه مستقل يضمن توازنات متساوية، وإن بدت مستحيلة في ذلك الزمن الذي حكمه سقف الاستقطاب الدولي بين المعسكرين الاشتراكي والرأسمالي؛ والذي كان بطبيعته الاستراتيجية استقطاباً يدرج الهامش الساخن للقضية الإريترية شرطاً موضوعياً للحرب الباردة. حتى إذا انهار في عام 1989 تفككت على هامش تداعياته عقدة القضية الإريترية.
ومع استقلال اريتريا في عام 1991 عاد ناود ليستقر في أسمرا ويرتاح من رحلة نضال دامت أكثر من 30 عاماً ومن دون أي رغبة في منصب أو مكانة سوى رغبته الأولى والأخيرة في الكتابة والتدوين والتوثيق، فناود الذي ظل يكتب مذكراته ويومياته بانتظام منذ عام 1965 وحتى عام 2010 بحسب ابنه محمود ناود الذي كان يبعث إليه بـ «دفاتر التدوين» السنوية من دمشق؛ لم يكن يشغله من حطام الدنيا غير تلك الرغبة الملحة في الكتابة. وهكذا أصدر ناود كتابه الضخم «حركة تحرير إريتريا الحقيقة والتاريخ» في 600 صفحة، شهادة نادرة على توثيق وتدوين تجربة النضال للأجيال القادمة من أبناء الشعب الإريتري، وواصل كتابة مشروعه حول الهوية العربية وتاريخها في إريتريا فكتب «اريتريا طريق الهجرات والديانات ومدخل الإسلام إلى أفريقيا» في عام 2002، ثم أصدر كتاب «عمق العلاقات الإريترية العربية» في عام 2003، وظل يراكم مؤلفاته المخطوطة طوال السنوات الأخيرة من عمره المديد كما لو كان في سباق مع الزمن، لتتوالى عناوين أخرى من مشروعه الكتابي عن «شخصيات ورموز إريترية» وكتاب «شاهد على بعض عصره» و «يوميات الثورة الإريترية»، بالإضافة إلى كتابه حول «تاريخ الطريقة الختمية في إريتريا» وهي الطريقة الصوفية التي كان أتباعها في السودان هم جماهير الحزب الاتحادي الديموقراطي أحد أكبر الأحزاب التقليدية بزعامة محمد عثمان الميرغني.
وحين نتساءل اليوم عن استعادة لمشروع ناود سنعثر على موضوعات لا تزال قابلة لإعادة تعريف مشروعه على رغم التعتيم الذي ضرب حوله من جهات مختلفة، فمن جهة لا يمكن لناود الذي شكل ريادة تاريخية للنضال الإريتري أن يغيب لأن حدث استقلال اريتريا لا يزال طازجاً، ومن جهة ثانية أن المشروع المعرفي للهوية الإريترية الذي كتبه ناود لا يزال مفتوحاً على الأفق الوطني الذي أراده له.