محمد السيد حمد - الصحراوي..!! قصة قصيرة

ويكأن الصحراء وقت الأصيل خلابة للألباب، لوعة الشمس المرتحلة وهي ترسم لوحة الوداع على شط الأفق، بساط شاسع من الرمال الذهبية ممتد حد البصر، بضع شجيرات شوكية متفرقة مبثوثة في أرجاء البساط، كأن هذه الشجيرات تثبت البساط على أديم الأرض عند مداعبة الرياح، صمت المكان وهو يعزف (كونشرتو) الطبيعة.
رائحة الصحراء مثل طعم الماء، الماء لا طعم له والصحراء لا رائحة لها، الصحراء لي كالماء لكم .. نَبتُ هنا بين شجيرات السدر، أزهرتُ هناك عند شط الأفق، وأثمرتُ ها هنا فوق البساط .. منذ أزمان مضت وهذه الصحراء لنا، نعرف دروبها كما تعرف هي أبنائنا، ذرات رمالها تمتطي صهوة الريح لتعانقنا عناق الأحبة.
لا تهمنا حدود بلدانكم التي خطتها يد المستعمر بقلم الاستبداد بقدر ما تهمنا عُذرية معشوقتنا، عُذرية سنحافظ عليها كمحافظتنا على عُذرية ربات الخُدور لدينا .. هل تظنون أننا لا نعلم كنوزها الباطنة؟ .. بلى نعلم أنكم تودون فض عُذريتها لتسحبوا رُفات أجدادنا من باطنها لكي تلقموها لأفواه ماكينات حضارتكم البربرية .. ألم يكفكم تشتت شملنا في أطراف مدائنكم البائسة، أسلتم لعاب سفهائنا بعهر حضارتكم، جئتمونا في ذلك الصباح الرمادي بوحوشكم المعدنية وهددتمونا بالثبور وفظائع الأمور ان لم نطعكم ونرتحل الى القرى النموذجية التي صنعتموها.
كلهم هربوا مثل الفئران المذعورة، طاعون الهرب أصاب الجميع بما فيهم أفراد أسرتي الصغيرة، حَملتْ زوجتي الطفلين وولت هاربة، صحتُ بها: "أين تذهبين؟"، انتزعتُ أبنائي من حوزتها، وقلتُ لَهَا: "لو كنت تودين الذهاب فاتركي لي ابنائي، سيبقون معي حتي تنقضي ثمالة روحي".
أطلقتْ زوجتي نداءات الاستغاثة بالجيران، صياح الزوجة ونشيج الأطفال دفعا بوابة صبري بِنَزقْ، فانهمر طوفان الغضب، لطمتُها بكفِ ألمي من خذلانها لي، واندفع حشد الجيران الفئران، جحافل الفئران تنهش في جسدي، أصوات الفئران تخترق غلالة غيبوبتي محملة بلعنات أهلي وسباب جيراني، رموني بشباكِ الجنون، حبسوني في قفصِ العزلة وقدموني لكم كببغاء معطوب العقل لتسلية أيامكم الطويلة القادمة التى ستقضونها وأنتم تسحبون رُفات أجدادي من رحم معشوقتي.
حينما بدأتم عملية محو قريتنا من الوجود، استعصمتُ بجدران منزلي مثل قائد مهزوم يحتمي بقلعة الصمود الأخيرة، أزلتم القرية بأكملها ولم يتبق غير منزلي، كُنتُم تعلمون بوجودي داخل المنزل فقد سمعتم أهازيج القتال والحرب التي ينسجها صوتي ويلبسها للفراغ الذي صنعتموه، أجناد الفراغ كانت تحت إمرتي، تنتظر إشارتي للشروع في حرب الكرامة.
أتتني أصواتكم تحمل الوعيد، تأمرني بالخروج من المنزل، تخبرني بأنكم ستحطمون المنزل على رأسي ان لم أخرج، أمسكتُ ببندقيتي العتيقة التى ورثتها من جدي وصعدتُ الى سطح المنزل، أمرتُ جنودي بالتمركز حول المنزل في وضعية الاستعداد، صيحات جنودي القتالية بثت الرعب في قلوبكم، فأنتم جبناء مثل أولئك الفئران الذين ولوا الهرب، الفارق الوحيد أنكم فئران مدججة بأسلحة الخوف وذخيرة الخيانة .. لم ألق بالا لوعيدكم المتواصل، وأنتم تجاهلتم أهازيجي الحماسية.
بندقيتي العتيقة وصيحات جنودي، يبدو أنكم ترون ما لا أرى، تحركت وحوشكم المعدنية وقَضمتْ جزء من جدار المنزل، هي الحرب لا محالة، أعطيتُ جنودي إشارة البدء في القتال، أطلقتُ عليكم النار من بندقيتي العتيقة، مالي أراكم تضحكون ولا تموتون!، هل أطلقت عليكم نكاتا ام نيرانا!، وحوشكم المعدنية ما زالت تقضم في جسد منزلي، وأنتم تطلقون ضحكاتكم اللزجة حتى بانت نواجذكم، أرى جنودي يمطرونكم بوابل من النيران، آمُرهم بإطلاق المزيد، وأنتم تنزفون قهقهات دافقة بدلا من دماء طازجة، لا بد ان هناك عطب ما ببندقيتي، أو خطب ألم بأسلحة جنودي، عقلي يرزح تحت نير الاحتمالات.
امتثالاً لسطوة الدهشة أصوبُ بندقيتي نحو رقبتي، أودُ التأكد من فعاليتها حتى لو أودتْ فعاليتها بحياتي، سيل قهقهاتكم يُغرق مساكن عقلانيتي، أضغطُ الزناد وأنا مغمض العينين، لا شيء، لم تمسسني نار ولم يبحر صوت إطلاق نار الى مرافئ أسماعي، فقط وخز خفيف من قطعة خشب غير مشذبة الأطراف، ما هذا؟!، أي سحر فعلتموه أيها الضاحكون، كيف أطفئتم نار البندقية وأذبتم فولاذها وأحلتموها قطعة خشب عديمة الفائدة،لا ريب أنكم كذلك فاعلون بأسلحة جنودي، انكم مجرد فئران تعْتَمر قبعة الإفك والدجل ليس الا.
أرمي ببندقيتي الخشبية، أقفز من سطح المنزل كطائر بلا أجنحة، سأقاتلكم بلا أسلحة، توقف سيل الضحكات أخيراً، أهرولُ الى أحد الوحوش المعدنية التي لم تزل تقضم في جسد منزلي، أمسكُ بخناق سائق الوحش المعدني، ضج المكان بصيحاتكم الآبقة من أفواه رعبكم المندهش، أطبقُ علي رقبة السائق بكلتا يدي بقوة أتتني من أنين معشوقتي المُغْتَصَبة، تَجحظ عينَّا السائق، تَخْرُج روحه لحظة خروج روحي.
حينما أطلقتم على ظهري نيرانكم الخائنة، عشرات الطلقات الغادرة استوطنت جسدي بلا هوادة، هويتُ من حالق على أديم معشوقتي، بللتُ أديمها ببركة دمائي الحارة، ثُم ودعتني شجيرات السدر قائلة: "لعل الفئران الهاربة تستحيل أسودا كاسرة فتذود عن معشوقتك ولو بعد حين".
أعلى