الدكتور محمد سامي الدهان - مشاهدات مسافر - 2 - ألمانيا بعد الحرب إلى الدير. . .

هذه ( توبنكين) كعهدي بها تحتضن نهر الراين في فخر وزهو فتتلوى حوله الجنائن والبيوت، وتداعب شطئانه الأبنية والجسور. ولا تزال قائمة في هندسة غريبة تتوالى صاعدة من السفح إلى القمة فتكسب الجبل الذي تقوم عليه جمالا وجلالا. ولو أتيح لك أن تنظر من القمم حولها إلى المدينة لانبسطت أمامك المدينة الحسناء خلال رقعة من الخضرة والماء فتانة خلابة لم تغير الحرب مها إلا في بيوت سقطت فأصبحت أكواما، وحوانيت خلت من البضاعة فغدت خاوية، وواجهات للمخازن أقفرت إلا من إعلان كبير عن الكمية من الزبدة والخبز والخضار التي توزع خلال الشهر. ويدهشك أن ترى الألمان وقوفا في صفوف متلاحقة أمام كل بائع، تنتظر في صبر عجيب نصيبها الضئيل من خبز يناله الألماني ليومه كله وتأتى عليه في غداء واحد؛ وزبدة ينتظرها الألماني لأسبوع بأجمعه، ونصيب مثلها في فطور واحد، ولباس قديم جديد تبعثه عبقرية الفقر والحاجة حيا بعد البلى. ويدهشك كذلك أن ترى نظام المقايضة والمبادلة بين البضائع والحاجيات، وقد عاد إلى ألمانيا في القرن العشرين بعد أن دفنته منذ قرون.

لا تزال توبنكين موطن الجامعة يقبل إليها الطلاب الناشئون مشغوفين حريصين، ويملئون مقاعد المكتبة دءوبين جشعين، يعملون حتى تضج معدهم الصغيرة بالجوع وأجسادهم الهزيلة من الغذاء. ماتت أفراحهم وحفلاتهم التقليدية حول كئوس الجعة؛ وخمدت أغانيهم وأهازيجهم في الشوارع والحفلات، وتفردت النساء والأطفال بالحدائق والحقول لأن الشباب الألماني بين العشرين والثلاثين غائب عن الميدان وهو اليوم في الأسر أو في القبر.

ولا تجد أكثر ما تجد في هذه المدينة إلا شيوخا وعجزة قد استسلموا للكنيسة أكثر أوقاتهم، أو للبيوت يزرعون حدائقها الصغيرة، منها يأكلون وعليها يقتاتون. وما هي إلا سياحة قصيرة حتى يمل المسافر النظر والنزهة، فيستريح إلى صديق ودود يستمع منه الشكوى والحرمان والشجاعة والأسى. ولي في هذا البلد أصدقاء مستشرقون منهم ليتمان وفكتو بور وفايسفايلر أما الأول فما يزال يبتسم في فلسفة للحياة، في أسلوب شرقي، ويتحدث عن ماضيه في فلسطين ومصر بلهجة عربية، ويعتز بطلابه، وفيهم آنسه تترجم (الأيام) للدكتور طه حسن بك إلى اللغة الألمانية، وطالب يؤلف رسالة عن (الفيح القسي في الفتح القدسي) للعماد الأصفهاني، وآخر يؤلف عن العامة والأزجال، يسترشدون برأيه في بيته أو في معهد العلوم الشرقية. وهذا وهذا غاصان بالكتب العربية الجليلة النادرة. فمن شاء أن يعود إلى الشرق وهو في ألمانيا فليقصد الرجل. وأما فيكتور بور فهو قيم المكتبة العامة، يؤلف عن العرب والبيزنطيين في أناة ودقة وعلم عرف بها أساتيذه وأجداده وأما الثالث فليس في المنطقة، وإنما وقعت الهدنة وكان في (غوتنجن) فأصبح من نصيب المستعمر الجديد. وحظه في هذا كحظ المخطوطات العربية سافرت خلال الحرب من أماكنها إلى مخابئ أمينة. فلما انتهت الحرب أصبحت البلد في دولة مخطوطاتها في دولة. في الجنوب مخطوطات الشمال وفي الغرب مخطوطات الشرق. ففي كل منطقة مخطوطات المنطقة الأخرى، فماذا في هذه المنطقة من مخطوطات؟ لعل أصدقائي من المستشرقين لا يعرفون ذلك بل لعلهم لا يسعون إلى هذه المعرفة في هذه الظروف. . . .

والألماني يجهل ما يجري في بلاده الآن، وقد عادت به النكبة قرونا في ركب الحضارة. فقد انقطعت المواصلات الحسنة أو كادت، وتباطأ البريد حتى لكأنه معدوم، فالبرقية من برلين إلى غيرها تقطع أربعة أيام أو ستة؛ والرسالة تطوى المسافات فتفتحها أيد وتغلقها أيد في رقابة غريبة، فإذا وصلتك فأنت بها سعيد. فليس عجيبا إذا أن يجهل الألمان في منطقتهم من خزائن ثمينة، ذلك لأن الحكومة النازية نقلت أكثر المكتبات إلى مخابئ نائية وأحاطت هذا النقل بالكتمان، وحرمت إذاعة الخبر، ليجهل الخلفاء مواطن التحف، وليجنبوها غاراتهم العنيفة التي اشتدت في الشهور الأخيرة قبل الانكسار.

واختارت أحد مخابئها هذه القرية، بين جبال عالية لا تصلها الطائرات فإذا وصلتها لم تنل منها. وليس في هذه القرية الصغيرة ما يحوى الكنوز ويضم التراث ويكفل المخطوطات إلا حصن واحد جبار هو هذا البناء الكبير بناء الدير. فما من سبيل إذا إلى بلوغ أمنيتي إلا أن أدخل الدير. . .

لبثت يومين كاملين أفكر في الدير وفي السبيل إلى الدير، فقد انقطعت الأسباب بين أكثر المدن الكبيرة فكيف نبلغ هذه القرية، وليس من قطار مباشر يصلنا بها، وليس من مهاجرين يقصدون إلى الدير؛ وكيف أقنع من حولي أن ثمة مخطوطات عربية يجب أن أراها؟! جزعت حين عرضت الأمر على أصدقائي من الألمان فضحكوا. إن السكان لا يبلغون المأكل والملبس، ونحن نفتش عن زينة الحياة وترف العلم، نحي الكتب القديمة ونعنى بالأوراق الصفراء، والأشخاص حولنا يتضورون جوعاً! فما أعجب الدنيا!

استطعت بعد جهد أن أقنع سيارة تقلني في شروط قاسية؛ بعضها أننا سنقطع أياما فيما يجتازه المسافر من قبل في ساعات، والسيارة هي السيارة، ولكن جهازها اليوم عجيب لا يأكل إلا الخشب وقد حرم (السائل) النادر هو كذلك. فعاج السائق إلى برميل كبير يرمى فيه قطعا من الخشب تحترق خلال بعض الساعة فإذا الجهاز يؤذن بالحركة وإذا نحن نمضي في الطريق.

لا أستطيع أن أتصور عواطفي الآن، ولست أذكر أكان على أن أضحك أم أحزن. فصوت السيارة غريب، ودخانها الأسود كان يلفح مع الربح وجوهنا، فنفرح أن السيارة جادة، وما هي إلا ساعة حتى نهدد بالوقوف لأن المحرك جاع، فلنفرغ بعض الكيس من الخشب ولنمض كذلك في مرتفعات ساحرة ووديان فتانة؛ تنسينا هزل الزمان وسخرية الأيام، وما يصنع الإنسان بالإنسان حتى بلغنا القرية التي نقصد إليها؛ وإذا القرية لا تعدو عشرات البيوت في وادي جميل عطر، وإذا بناء الدير يقوم في عظمة لحراسة الوادي والإشراف على خيراته.

دخلنا سور الدير، وقرعنا الجرس؛ فإذا الكاهن البواب يسألنا عن الغرض والغاية؛ فتولى صديقي الكلام ورجا عني أن (ألقى الأب الأول) كما يسمونه فهو رئيس الآباء وراعي الدير. فدخلت حجرة الانتظار بين صور القديسين والصلبان، ولبثت واقفا حتى فتح الباب فإذا الأب المنتظر قد سلخ في السن، وعلى عينيه نضارتان سوداوان، وعلى صدره صليه الذهبي الكبير المتلدي، فسارعت إلى الأرض جاثيا على الركبة اليسرى واستملت يده أفتش عن الخاتم الذي أقبله بشفة مرتجفة وقلب مضطرب لئلا يخونني التمثيل فيكشف أمري وتبوء مهمتي بالفشل وأعود أدراجي لا ألوى على شئ.

انفرجت أسارير الرجل المحترم ورحب بي وعرف من لهجتي الألمانية أني غريب وأني قدمت المنطقة لأزور القرية للمرة الأولى، وأن ليس في القرية من سكن أرى إليه. فالفنادق مستشفيات خاصة بجرحي الحرب، وأني لاجئ إليه، وليس من سلطان للاستعمار عليه. فقد وعدت الهدنة بأن تحترم الأديان وبيوت الله، فهو وحده يحكم القرية والدير، وإليه هنا المرجع والمآب.

فهم الرجل في كلمات، وأجاب في لطف بالغ ووقار جميل بأن الدير بيت للجميع وأن ما في الدير ملك لله، وأنه موكل بصحبتي قيم المكتبة فهو دليلي إلى المخطوطات، وصديقي إلى اكتشاف المخبئات. وقرع الجرس فانحنى كاهن صغير من (الإخوان)، وانفتل يطلب الأب غالوس وسألني في هذه الفترة القصيرة وقدفهم حرمتي للمكان وغربتي بين السكان ليتأكد أني لست من البروتستانت الكثرة في ألمانيا؛ فديره للكاثوليك وهم قلة فيها يتكاتفون ويتعاونون. ولست أدري كيف أجبت، ولست أذكر كيف تكلمت، وإنما أعرف أن قلبي وقف عن الخفقان لحظة خلت أني أقضي إثرها، وإني أجبت من غير أن أعلم: أجل يا أبي الكبير أجل! فرجاني تبسط جميل أن أصطنع الحرية في طلب ما أريد، فشكرت له، وانحنيت على يده ثانية أودعه كما استقبلته لألقى الأب القادم وألقى بين يديه بمقاليد الأمر وما جئت له وما هي إلا دقائق حتى كنا ننحني في الكنيسة أمام المعبد نقدم واجبات التحية في الاحترام قبل أن يحين العشاء.

ويشاء الله أن تتابع المراسيم الصعبة في أقل من ساعة. فالدخول إلى الأكل له نظامه في الدير. يدخل الآباء واحدا بعد واحد وهم يرتلون؛ ويتبعهم الإخوان في أثرهم وهم يرتلون؛ ثم يدخل ضيوف الدير، وفيهم ثلاثة طلاب وأستاذان، وهم كذلك يرتلون، وأنا ساكت واجم أنظر يمنة وأنظر يسرة في طرف خفي وقلب وجلى، قبل الدخول، لئلا أخطئ في الحركة وأشذ عن هذا النظام الدقيق.

ووقفنا دقائق أمام المائدة ونحن خشوع سكوت ملتفين حول موائد طويلة ومقاعد من خشب في قاعة كبيرة استوعبت مئتين من الآباء والإخوان مع ستة من الضيوف جعلت في وسط القاعة، وحولنا من الجهات الأربع سكان الدير، وقد أخذوا أماكنهم في نظام عجيب. وتصدر القاعة الأب الكبير، فلما أذن لنا ارتمينا على مقاعدنا من غير أن نرفع البصر أو نحرك عضواً من الأعضاء نستمع إلى الإنجيل يتلى علينا من منبر عال باللاتينية م بالألمانية. وطاف الإخوان بالأواني يحملون العشاء فأصبنا ماء ساخنا يسمونه حساء، وسلطة من العشب الأخضر عليه ماء وملح، ثم طبقا من البطاطس المطبوخ، وختمنا بالحلوى وهي من الخبر الأسود قد تناثرت على بعض أطرافه ذرات من السكر. ولكننا لم نر اللحم ولم نذقه فهو عنا غريب.

وانتهى العشاء الكامل الشامل فأرسلنا الشكر إلى البارئ وخرجنا كما دخلنا في نظام جيمل، وكل يهنئ رفيقه على الصحة ويسأله عن شهيته في أكلة اليوم - على عادة الألمان في آدابهم وولائمهم -.

لم أبال بهذا الغذاء أكان دسما أم لم يكن لأني أمني النفس بغذاء الغد من مخطوطات العرب!

فإلى الغد أيها الآباء!. . .

سامي الدهان

مجلة الرسالة - العدد 774
بتاريخ: 03 - 05 - 1948



:

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى