تعتبر الحكاية من أهم عناصر المأثور الشعبي، وهي اليوم محط اهتمام باحثي علم الفولكلور نظراً لثراء مادتها وارتباطها بالقيم الفنية والجمالية التي يعكسها الوجدان الشعبي والإبداع الجمعي.
ومن خلال الحكاية الشعبية استطاع الإنسان أن ينقل كل تصوراته ومعتقداته وعاداته وتجاربه وخبراته في الحياة، ويقدمها في أسلوب وبناء قصصي محكمين، من هذا المنطلق نجد أن الحكاية الشعبية تستوعب ملامح المأثور الشعبي أكثر مما تستوعبه المرويات التراثية الأخرى. ونتيجة لسهولتها اللغوية وبساطتها من ناحية الشكل والأسلوب فقد تم انتشارها على نطاق واسع وانتقالها بحرية من شخص إلى آخر ومن جيل إلى جيل عن طريق الرواية الشفوية. «فالحكاية تسمع، ثم تكرر بقدر ما تعيها الذاكرة، وقد يضيف إليها الراوي الجديد شيئاً أو يحذف منها. وقد تروى مرة أخرى كما هي دون حذف أو إضافة وقد تدون هذه المرويات ويتناقلها بعض الناس عن طريق الكتابة أو القراءة» كما حدث بالنسبة للكثير من النصوص الأدبية مثل: ألف ليلة وليلة» و «كليلة ودمنة». ولهذه الأسباب كلها لابد من أن يجمع ويصنف ويدرس وفقاً للأساليب والمناهج العلمية في الدراسة والتحليل.
وإذا عدنا للحكايات التي كانت ترويها لنا الجدات قبل النوم فإنها حكايات منها أم الخضر و«الليف»هي ليست من عالم الجن ولا الأشباح فهي لا تعدو كونها كناية عن النخلة، فالأخضر يعني السعف والليف هو الغشاء الذي يلف عنق النخلة. واستخدام كلمة «الأم» في هذا المعنى هو نتيجة لارتباط المرأة بشكل دائم بالسحر والشعوذة حسب الموروثات القديمة. فالسحر ارتبط بالأنثى من ذات القدم فالساحرات دائماً يأتون بصيغة الأنثى «أم القرون» و «أم حمار» و«كلبة القايلة» ثم بعد ذلك «مسعودة» والكثير من هذه الحكايات التي حفظتها الأمهات من الجدات ومازالت الكثير منهن ترويها حتى من باب الذاكرة والدعابة .
أم الخضر والليف
إبراهيم سند أحد المهتمين بهذا الجانب وباحث له العديد من الدراسات والمشاركات المحلية يقول: تستخدم خرافة أم الخضر والليف لتخويف الصغار، وقد تم استنباط هذا المعنى من النخلة لكونها تصدر أصواتاً تثير الفزع مع هبوب الرياح، إضافة إلى أن ارتفاعها الشاهق وسعفها المتحرك شبيه بامرأة تنثر شعرها مع الريح، وفي المناطق المختلفة من البحرين هناك اعتقاد شائع بأن النخلة يسكنها الجن، ويكون هذا الجن على شكل جني غير مرئي يعيش في أعلى رؤوس النخيل ويقوم بإصدار أصوات شبيهة «بحركة المنشار» وذلك يعني أن النخلة كانت تشكل الأخيلة فيتصورون أن النخيل هي من جنس الساحرات خاصة أثناء الليل، ومن ثم نقلوا ذلك الخوف للأطفال فأصبحوا يخوفونهم بحكاية أم «الخضر والليف» مع علمهم بأنها ليست سوى نخلة لكن في اللاوعي هي امرأة جنية متلبسة.
كلبة القايلة
ويضيف سند: إحدى القصص الخيالية التي كان الأهالي يخوفون بها الصغار لا تختلف عن القصص الأخرى التي تهدف إلى إشاعة كم من الخوف والرعب.. فعندما يعجز الكبار عن تهدئة الصغار وإسكاتهم كانوا يلجئون إلى هذه الحكايات التي عادة ما يكون مفعولها مؤثرًا لوضع حدًا للمشاغبات الكثيرة التي يمارسها الصغار، إذاً هكذا كان الأهالي يعانون في الماضي، يختارون أحد الشخصيات الخيالية التي ابتدعتها مخيلتهم أو ربما ورثوها من الأقوام السابقة ويقومون بتركيب المواقف المخيفة حولها، والصغار بطبيعتهم الطفلية يصدقون هذه الحكايات وتغدو مصدر رعب بالنسبة لعالمهم.
ولقد تم استخلاص معنى «كلبه القايلة» من الكلاب الضالة السائبة التي كانت تجوب الأحياء الشعبية عند الظهيرة وقت اشتداد حرارة الشمس في الصيف، حيث يهرب الناس من لهيب الشمس إلى المنازل بحثاً عن قسط من الراحة، أما المعنى البعيد للحكاية فإنه يصور إحدى العجائز الشريرات التي تقوم بسرقة الأطفال واقتيادهم إلى أمكنة مجهولة، فكلبة القايلة هي المرأة العجوز التي تصورها الحكايات دائماً بالمكر والخديعة والشعوذة ويقول البعض «أن كلبة القايلة ما هي إلا كناية عن الشمس الملتهبة».
وفي كلتا الحالتين نجد أن الأطفال يتصورون الحكايات المخيفة بطريقة مختلفة جداً عن الكبار فمجرد سماعهم لكلمة جني أو ساحر فهي تثير مخيلتهم وتجعلهم يتصورون تلك الأشكال من خلال دواخلهم ونظرتهم إلى العالم.
الخاروف المسلسل
ويواصل سند: حكاية «الخاروف المسلسل» هي إحدى الشخصيات الجنية المعروفة في القصص الخرافية، ويستوطن الخاروف المسلسل العيون ومناطق المياه العذبة وبعض المساجد القديمة التي تحول آبار المياه باستخدامه من أجل الوضوء والاغتسال.. وليس مستغرباً أن يكون الرجال هم الذين ابتدعوا فكرة الخاروف الجني لإخافة الصغار ولمنعهم من الاقتراب من البئر العميق فربما يسقطون في بداخله أو يرمون بعض الحجارة ، مما يعكر عذوبة الماء. وهناك أغنية شعبية يرددها الأطفال في ألعابهم ولهذه الأغنية علاقة كبيرة بالخاروف المسلسل وتقول كلمات الأغنية من غير الإشارة إلى الخاروف: «هدو المسلسل هدوه.. ترى هو ياكم هدوه.. كدر عشاكم هدوه».
ويردد الأطفال هذه الأغنية وهم يمسكون بأحد الصبية وبعد الانتهاء من الأغنية يلحق الصبي بهم ويحاول الإمساك بأي طفل قريب منهم وتستمر اللعبة على نفس الطريقة وكل مرة يقع الدور على إحدى المشاركين ، وليس بمستبعد أن تتحول خرافة الخاروف المسلسل إلى لعبة للصغار فالأطفال بقدر ما يخافون من القصص المخيفة فإنهم أيضاً يستمتعون بهذه القصص بالطريقة التي تناسبهم.
«بودرياه»
وبشأن حكاية «بودرياه» يذكر سند أنها تتحدث عن أحد أبطال الجان الفقراء الذين يسكنون في أعماق البحر ، وهو جني أسود يثير الخوف في النفوس من خلال شكله الممسوخ، و«بودرياه» يتعرض دائماً لسفن الغوص الراسية فوق مصائد اللؤلؤ «الهيرات» والغواصون هم الرواة الحقيقيون الذين يروون ويروجون خرافة هذا الجني «بودرياه»، مشيراً إلى أن كلمة «بودرياه» هي كلمة أعجمية تعني «أبو البحر» ، ويتحدث الغواصون كثيراً عن هذا الجني ويعتبرون قصة بودرياه من أفضل القصص التي يرددونها فوق اليابسة، والكل يحاول أن يضيف على هذه الخرافة ما يحلو له من خيال وحوادث مخيفة، وفي عادة «بودرياه» كما يرون هؤلاء البحارة أنه يرعب الغواصين على سطح السفينة بلونه الأسود وحركاته المفزعة وهناك الكثير من البحارة الذين التقوا وجهاً لوجه مع «بودرياه» فعندما يخيم الليل يصعد إلى ظهر السفينة من مقدمتها ويبعثر الأدوات ويشرب الشاي والغليون, وحينما يشعر البحارة بوجوده يهربون من مؤخرة السفينة، ويردد البحارة كلمة الحديد أو الجدوم. وهم يعتقدون بأن ذكر كلمة الحديد من شأنها إخافة «بودرياه» وتجعله لا يعود مرة أخرى، وجميع الجان كما يعتقد الناس في تلك السنين يهابون الحديد ويفرون منه في الحال. وأخطر ما يقوم به بودرياه ضد سفن الغوض خاصة في الليل بأن يقوم بوضع «سراية» شعلة نار فوق رأسه ويسبح في الماء فتتبعه السفن فتظل طريقها وتصل إلى مسافات طويلة في عرض البحر بعيداً عن مواقع «الهيرات».
حضور مستمر
ويؤكد سند أن الأمثلة في تراثنا هي ليست وليدة الساعة لكنها كالحكايات جاءت من الزمن البعيد ولو تحدثنا عن الأمثلة في تراثنا سنجدها كثيرة كمثال «الحية بية»، ونعلم أن البحرين هي البلد الخليجي الوحيد الذي لايزال محافظاً على هذه العادة إلى الآن، فنحن دائماً في مشاركاتنا في الدول الخليجية مازالوا يسألوننا: هل مازلتم تقيمون الاحتفال بـ«الحية بية» نقول لهم بالتأكيد مازال مجتمعنا يمارس هذه العادة وهي عادة قديمة جداً وقد كانت موجودة حتى قبل ظهور الإسلام، وأيام الفراعنة كانت هذه العادة موجودة وكانوا يضحون بأجمل عروس ويرمونها بالنيل إرضاء للآلهة، وهذه الصورة نجدها عند الهندوس الذين يضحون ببناتهم ويرمون الأزهار ويقيمون الاحتفالات في النهر والبحر أيضاً، هي عادات وصلت لنا قد تكون على صورة «الحية بية» وهي طلب للخير وتعكس التضحية بهذه «الحية» طلباً للخير وإرضاء للرب وآلهة المياه وطلباً للخصوبة، وحتى عندما دخل الإسلام أخذت الملابس الشعبية الإسلامية رغم أن بعدها قديم جداً. والحديث عن الحكاية الشعبية لا يتوقف عند سوالف الجدات في البيوت لكنها تعيش على ظهر سفن الغوص فالغاصة في فترات الراحة يتحولون كالصغار يبحثون عن قصص الجان والخرافات التي تنسيهم عناء الغوص والبحث عن المحار طوال اليوم وتراهم ينصتون للراوي وهو يقص عليهم قصص الجان أو أم حمار أو بودرياه وحتى قصص الملوك وبنت السلطان والملك الذي يبحث عن زوجة جميلة صالحة في بيوت الفقراء.
تماماً كما يتغنى «النهام» بأغانيه للرفاق يحكي الغواص السوالف والأحداث التي مر بها وسمعها وكانت من واقع الحياة، أو يتبادل البحارة حزايات تناقلوها عن الأجداد يمتزج فيها الخيال بالحقيقة والوهم بالواقع، والأسطورة بأحداث الحياة، منها ما يجعل قيماً أخلاقية ومنها ما يؤكد الإيمان الديني والمعتقد، والبعض منها ساخر، والبعض الآخر يهدف إلى حكمة ويسجل بالرمز تجربة إنسانية، وإن كانت ترد على لسان الحيوان أو الطير ، ومن الحكايات ما يقدم جوانب من التاريخ لم تكن معروفة أو غفل التاريخ المسجل عن ذكرها وتروي أحداث أبطال من صنع الخيال الشعبي، فالحكايات الشعبية لأي مجتمع هي سجل متنوع الصفحات لقصة الشعب نفسه، صاغ فيها الشعب جيلاً بعد جيل، أحداث حياته وتطلعات مستقبله، يصف الواقع في أسلوب روائي يمزج الواقع بالخيال ويقرب الخيال إلى الواقع، يضفي من فيض خياله، وتصورات أوهامه أوصافاً أسطورية على قميص البطولة، أو حوادث المغامرات كما يسجل من خلايا الحكاية جوانب من تاريخ أمته .
مهد القصة
العالم « تيودور بينفي «الذي ألف مجموعة قصص هندية بعنوان» بنتشتنترا «يعتقد أن الهند مهد القصة الأصلي استخدمتها الـــديانة البـــوذيــة كوسيلة للتهذيب والتربية والتقويم، بينما العالمان» س.ب. تيلور وأندرولنج» يرون أنه يصعب تحديد موطن أصلي للحكاية فهي ملك للشعوب جميعاً ولسان حالها، فالبشرية تعيش ظروفاً متشابهة وبيئة متماثلة مهما بعدت المسافات والعادات والتقاليد والمعتقدات متقاربة، وهي ذات إطار عام وسياق واحد وإن اختلفت في التفصيلات والوجوه والجوانب، فإذا كانت الشعوب تعيش ذات العوامل الطبيعية والانفعالات النفسية والبيئة الاجتماعية، فهي بالتالي ستنتج حكايات واحدة بطابعها العام مع اختلافات متباينة في الجزئيات والمسميات والقيم، فهي كما يقول تيلور كالنبات والفاكهة التي تعيش ذات الظروف من الهواء والتربة والهواء والماء والشمس، لكنها تختلف في الشكل والنوع والطعم من منطقة إلى أخرى.
تاريخ نشوء الحكاية
هذه المعطيات والآراء تعطينا فكرة عن تاريخ نشوء الحكاية الشعبية الذي يمتد آلاف السنين، دون أن نستطيع أن نحدد تاريخها تماماً كما قال «ليتمان» نستطيع أن ندل على أصل الحكاية لكن لا نستطيع أن نعين تاريخ هذا الأصل « وإعادة أصول الحكايات إلى حوالي ألفي سنة يعني هذا أن حوالي خمسين رجلاً توارثها جيلاً بعد جيل مع الأخذ بعين الاعتبار ما يطرأ عليها من تغيير وتبديل وتطوير نتيجة تغير وتطور الأوضاع الاقتصادية والثقافية والدينية، والأخلاقية في حياة الإنسان، وهذه ضرورة لابد منها لتصبح أفكاراً وأحداث الحكاية أكثر ملاءمة لأعراف المجتمع وقيمه وعقائده.
بين الماضي والحاضر خط بياني طويل قد يحمل على منحناه الزمني آلاف السنوات من حياة البشرية، وربما هي كلمة نلفظها «آلاف» لا نلقي لها بالاً لكنها تتضمن سجل حافلاً ومتنوعاً من حياة البشر «بني آدم» منذ أن خلقهم الله تعالى على وجه الأرض... كم تبلغ هذه الآلاف ثلاث، خمس، عشرة ، عشرون ألفاً» لا أحد باستطاعته أن يحدد ذلك .وفي هذه الجزء تأتي السياقات الكثيرة المتعلقة في الدراسات والأبحاث المعاصرة حول الحكاية الشعبية، التي تتطرق إلى جذور وتاريخ الحكاية وتعريفاتها وتقنياتها السردية ـ مكانها وزمانها وشخصياتها ومضامينها ـ وعلاقتها بالأسطورة، فالموضوع طويل ومتشعب، ولكن هنا نموذجاً من الحاضر سيعطينا إجابات واضحة عن مدى التشابه بين الماضي والحاضر في تاريخ الحكاية الشعبية، وأجواء الأمسيات الحكائية وراويها مع الأخذ بعين الاعتبار الفروق والمتغيرات الحياتية المادية والاجتماعية، بين الفترتين الزمنيتين المختلفتين مكانياً والموحدتين ثقافياً وحضارياً، وهما وادي النيل ومنطقة الهلال الخصيب، التي تضم شمال شبه الجزيرة العربية من بلاد الشام والعراق.
الحكاية في الشام
في أجواء الحكاية الشعبية المعاصرة في بلاد الشام في بداية القرن العشرين، نجد أنه لم تكن قد ظهرت أجهزة التلفاز بعد، ولم تظهر المطبوعات وتنتشر بين الناس، فكانت الجدّة العجوز صاحبة الحكاية الشعبية تتربع على عرش القص والسرد الحكائي للأطفال في أمسيات الشتاء الباردة، فكانت الجدة نجمة الليالي تروي حكاياتها الشعبية الممتعة، المثيرة على أسماع الأولاد في مشهد وأجواء ساحرة كان يتكرر كل ليلة، فتضيء العتمة وتمتع النفوس وتخفف عبء ليالي الشتاء الطويلة الباردة، وعندما يأتي الصيف بليله المقمر القصير ومشاغله الكثيرة، تتوقف الجدّة عن القص والسرد الحكائي، لتستجمع قواها وتستعيد ذاكرتها لليالي الشتاء القادم .
وفي مساء من أماسي الشتاء الباردة، وفي الغرفة الداخلية «غرفة الجد والجدة» يبدأ الأولاد بالتجمع الواحد بعد الآخر يتحلّقون حول الكانون المصنوع من الطين أو مدفأة الحطب القديمة، يترقبون بشوق ولهفة شديدة أن ينتهي الجميع من صلاة المغرب وتناول العشاء.
وتنهي الجدّة عملها لتتربّع بجلال وسط المجموعة كأنها سلطانة زمانها، لتبدأ بسرد حكاياتها الجميلة ومع صوت الرعد الذي يثير الهلع في النفوس، ولمع البرق الذي يخترق الظلمة بوميضه المرعب، وكان صوت الجدة يمتزج مع صوت طرقات حبات المطر على زجاج النافذة بينما كان لهب سراج الكاز يتراقص، فتتراقص معه على الجدران القاتمة خيالات قاتمة كالأشباح.
الحكاية عند الفراعنة
تروي إحدى المنقوشات الأثرية لحضارة مصر القديمة التي تعود إلى الألف الثالث قبل الميلاد، والتي تتحدث عن حكاية أو أسطورة قدر الأمير، «كان الحضور رجالاً ونساءً وأطفالاً يجلس بعضهم على كراسٍ وأرائك ويجلس آخرون على حصر ممدودة على الأرض يتحلقون فوقها، عندما همس طفل للشيخ العجوز : احك لنا حكاية. ابتسم العجوز وكان يجلس قبالة الصبي تماماً فرف بعينه، ونظر إلى الجمهور ثم تنحنح، وصمت الجميع وابتسم الطفل من جديد، من كان يتكلم منذ مائة عام هو الذي يتكلم الآن: «يحكى أن أحد ملوك مصر كان ملكاً ثرياً وكريماً يتمتع بالصحة والقوة ومحبة جميع الشعب، على الرغم من ذلك كان تعيساً جداً إذ لم تنجب له زوجته وريثاً يمتلك الحكم من بعده... فجاب بلاد الأرضين كلها وزار المعابد وقدم الأضاحي، وتوسل للآلهة أن تمنحه وريثاً للعرش ... قد تستجيب الآلهة في بعض الحالات لرغبات البشر... فبعد تسعة أشهر أنعم الله عليه ووضعت زوجته مولوداً ذكراً».
تمضي أحداث الحكاية بين بلاد النيل وبلاد الرافدين، وتتطور حتى تصل إلى ذروة من الحبكة والأحداث المثيرة. وهنا يتوقف الشيخ عن الكلام وهو يلهث، فقيل له: أكمل الحكاية أيها الشيخ، فقالت امرأة: دعوه يسترد أنفاسه قليلاً، فهو يتحدث منذ زمن طويل، حاول الشيخ أن يفتح فمه محاولاً أن يتكلم لكنه عجز، وأصدر شخيراً وسقط بلا حراك. قال أحد الرجال بحزن: مات بعد 110 سنوات، وانتقلت روحه إلى مركب الأرواح. فسأل أحد الأطفال: ولكن إذا انتقلت روحه إلى مملكة أوزيريس، فهل يجب أن تتوقف الحكاية ؟؟؟ فقام أحد الرجال وجلس مكانه، وقال سأكملها لكم: ولكن نبوءة الآلهة لا بد أن تتحقق ...
وتابع الرجل الثاني الحكاية إلى نهايتها، واستلم مهمة سرد الحكايات بدلاً من الرجل العجوز. هكذا نرى أن الحكاية الشفاهية وأجواءها تعود إلى حوالي الألف الثالثة قبل الميلاد في وادي النيل، كما ترددت في بلاد الرافدين والهند وباقي أنحاء العالم القديم في الوقت ذاته، ومازالت تتردد على ألسنة الرواة بأحداث ومضامين، وتقنيات متشابهة إلى حد بعيد مع إضافات ومتغيرات لا بد منها، تتناسب ومستجدات الحياة المادية والاجتماعية والسياسية .
هنا ترتبط الحكاية الشعبية بالوطن العربي فبقدر ما تمتلك مساحة في وطننا الصغير البحرين هي أيضاً تسير على امتداد الوطن العربي وتتجاوز الجزيرة العربية إلى بلاد الشام والمغرب ومصر وكل البقاع لكن ما يختلف في نطقها للأساطير القصصية هو الشخوص التي تمثل أدواراً رئيسية ويتحفظها الجدات والأمهات لتنقلها لأجيال تعشق سماعها في لحظات قبل النوم .
عن الوطن
ومن خلال الحكاية الشعبية استطاع الإنسان أن ينقل كل تصوراته ومعتقداته وعاداته وتجاربه وخبراته في الحياة، ويقدمها في أسلوب وبناء قصصي محكمين، من هذا المنطلق نجد أن الحكاية الشعبية تستوعب ملامح المأثور الشعبي أكثر مما تستوعبه المرويات التراثية الأخرى. ونتيجة لسهولتها اللغوية وبساطتها من ناحية الشكل والأسلوب فقد تم انتشارها على نطاق واسع وانتقالها بحرية من شخص إلى آخر ومن جيل إلى جيل عن طريق الرواية الشفوية. «فالحكاية تسمع، ثم تكرر بقدر ما تعيها الذاكرة، وقد يضيف إليها الراوي الجديد شيئاً أو يحذف منها. وقد تروى مرة أخرى كما هي دون حذف أو إضافة وقد تدون هذه المرويات ويتناقلها بعض الناس عن طريق الكتابة أو القراءة» كما حدث بالنسبة للكثير من النصوص الأدبية مثل: ألف ليلة وليلة» و «كليلة ودمنة». ولهذه الأسباب كلها لابد من أن يجمع ويصنف ويدرس وفقاً للأساليب والمناهج العلمية في الدراسة والتحليل.
وإذا عدنا للحكايات التي كانت ترويها لنا الجدات قبل النوم فإنها حكايات منها أم الخضر و«الليف»هي ليست من عالم الجن ولا الأشباح فهي لا تعدو كونها كناية عن النخلة، فالأخضر يعني السعف والليف هو الغشاء الذي يلف عنق النخلة. واستخدام كلمة «الأم» في هذا المعنى هو نتيجة لارتباط المرأة بشكل دائم بالسحر والشعوذة حسب الموروثات القديمة. فالسحر ارتبط بالأنثى من ذات القدم فالساحرات دائماً يأتون بصيغة الأنثى «أم القرون» و «أم حمار» و«كلبة القايلة» ثم بعد ذلك «مسعودة» والكثير من هذه الحكايات التي حفظتها الأمهات من الجدات ومازالت الكثير منهن ترويها حتى من باب الذاكرة والدعابة .
أم الخضر والليف
إبراهيم سند أحد المهتمين بهذا الجانب وباحث له العديد من الدراسات والمشاركات المحلية يقول: تستخدم خرافة أم الخضر والليف لتخويف الصغار، وقد تم استنباط هذا المعنى من النخلة لكونها تصدر أصواتاً تثير الفزع مع هبوب الرياح، إضافة إلى أن ارتفاعها الشاهق وسعفها المتحرك شبيه بامرأة تنثر شعرها مع الريح، وفي المناطق المختلفة من البحرين هناك اعتقاد شائع بأن النخلة يسكنها الجن، ويكون هذا الجن على شكل جني غير مرئي يعيش في أعلى رؤوس النخيل ويقوم بإصدار أصوات شبيهة «بحركة المنشار» وذلك يعني أن النخلة كانت تشكل الأخيلة فيتصورون أن النخيل هي من جنس الساحرات خاصة أثناء الليل، ومن ثم نقلوا ذلك الخوف للأطفال فأصبحوا يخوفونهم بحكاية أم «الخضر والليف» مع علمهم بأنها ليست سوى نخلة لكن في اللاوعي هي امرأة جنية متلبسة.
كلبة القايلة
ويضيف سند: إحدى القصص الخيالية التي كان الأهالي يخوفون بها الصغار لا تختلف عن القصص الأخرى التي تهدف إلى إشاعة كم من الخوف والرعب.. فعندما يعجز الكبار عن تهدئة الصغار وإسكاتهم كانوا يلجئون إلى هذه الحكايات التي عادة ما يكون مفعولها مؤثرًا لوضع حدًا للمشاغبات الكثيرة التي يمارسها الصغار، إذاً هكذا كان الأهالي يعانون في الماضي، يختارون أحد الشخصيات الخيالية التي ابتدعتها مخيلتهم أو ربما ورثوها من الأقوام السابقة ويقومون بتركيب المواقف المخيفة حولها، والصغار بطبيعتهم الطفلية يصدقون هذه الحكايات وتغدو مصدر رعب بالنسبة لعالمهم.
ولقد تم استخلاص معنى «كلبه القايلة» من الكلاب الضالة السائبة التي كانت تجوب الأحياء الشعبية عند الظهيرة وقت اشتداد حرارة الشمس في الصيف، حيث يهرب الناس من لهيب الشمس إلى المنازل بحثاً عن قسط من الراحة، أما المعنى البعيد للحكاية فإنه يصور إحدى العجائز الشريرات التي تقوم بسرقة الأطفال واقتيادهم إلى أمكنة مجهولة، فكلبة القايلة هي المرأة العجوز التي تصورها الحكايات دائماً بالمكر والخديعة والشعوذة ويقول البعض «أن كلبة القايلة ما هي إلا كناية عن الشمس الملتهبة».
وفي كلتا الحالتين نجد أن الأطفال يتصورون الحكايات المخيفة بطريقة مختلفة جداً عن الكبار فمجرد سماعهم لكلمة جني أو ساحر فهي تثير مخيلتهم وتجعلهم يتصورون تلك الأشكال من خلال دواخلهم ونظرتهم إلى العالم.
الخاروف المسلسل
ويواصل سند: حكاية «الخاروف المسلسل» هي إحدى الشخصيات الجنية المعروفة في القصص الخرافية، ويستوطن الخاروف المسلسل العيون ومناطق المياه العذبة وبعض المساجد القديمة التي تحول آبار المياه باستخدامه من أجل الوضوء والاغتسال.. وليس مستغرباً أن يكون الرجال هم الذين ابتدعوا فكرة الخاروف الجني لإخافة الصغار ولمنعهم من الاقتراب من البئر العميق فربما يسقطون في بداخله أو يرمون بعض الحجارة ، مما يعكر عذوبة الماء. وهناك أغنية شعبية يرددها الأطفال في ألعابهم ولهذه الأغنية علاقة كبيرة بالخاروف المسلسل وتقول كلمات الأغنية من غير الإشارة إلى الخاروف: «هدو المسلسل هدوه.. ترى هو ياكم هدوه.. كدر عشاكم هدوه».
ويردد الأطفال هذه الأغنية وهم يمسكون بأحد الصبية وبعد الانتهاء من الأغنية يلحق الصبي بهم ويحاول الإمساك بأي طفل قريب منهم وتستمر اللعبة على نفس الطريقة وكل مرة يقع الدور على إحدى المشاركين ، وليس بمستبعد أن تتحول خرافة الخاروف المسلسل إلى لعبة للصغار فالأطفال بقدر ما يخافون من القصص المخيفة فإنهم أيضاً يستمتعون بهذه القصص بالطريقة التي تناسبهم.
«بودرياه»
وبشأن حكاية «بودرياه» يذكر سند أنها تتحدث عن أحد أبطال الجان الفقراء الذين يسكنون في أعماق البحر ، وهو جني أسود يثير الخوف في النفوس من خلال شكله الممسوخ، و«بودرياه» يتعرض دائماً لسفن الغوص الراسية فوق مصائد اللؤلؤ «الهيرات» والغواصون هم الرواة الحقيقيون الذين يروون ويروجون خرافة هذا الجني «بودرياه»، مشيراً إلى أن كلمة «بودرياه» هي كلمة أعجمية تعني «أبو البحر» ، ويتحدث الغواصون كثيراً عن هذا الجني ويعتبرون قصة بودرياه من أفضل القصص التي يرددونها فوق اليابسة، والكل يحاول أن يضيف على هذه الخرافة ما يحلو له من خيال وحوادث مخيفة، وفي عادة «بودرياه» كما يرون هؤلاء البحارة أنه يرعب الغواصين على سطح السفينة بلونه الأسود وحركاته المفزعة وهناك الكثير من البحارة الذين التقوا وجهاً لوجه مع «بودرياه» فعندما يخيم الليل يصعد إلى ظهر السفينة من مقدمتها ويبعثر الأدوات ويشرب الشاي والغليون, وحينما يشعر البحارة بوجوده يهربون من مؤخرة السفينة، ويردد البحارة كلمة الحديد أو الجدوم. وهم يعتقدون بأن ذكر كلمة الحديد من شأنها إخافة «بودرياه» وتجعله لا يعود مرة أخرى، وجميع الجان كما يعتقد الناس في تلك السنين يهابون الحديد ويفرون منه في الحال. وأخطر ما يقوم به بودرياه ضد سفن الغوض خاصة في الليل بأن يقوم بوضع «سراية» شعلة نار فوق رأسه ويسبح في الماء فتتبعه السفن فتظل طريقها وتصل إلى مسافات طويلة في عرض البحر بعيداً عن مواقع «الهيرات».
حضور مستمر
ويؤكد سند أن الأمثلة في تراثنا هي ليست وليدة الساعة لكنها كالحكايات جاءت من الزمن البعيد ولو تحدثنا عن الأمثلة في تراثنا سنجدها كثيرة كمثال «الحية بية»، ونعلم أن البحرين هي البلد الخليجي الوحيد الذي لايزال محافظاً على هذه العادة إلى الآن، فنحن دائماً في مشاركاتنا في الدول الخليجية مازالوا يسألوننا: هل مازلتم تقيمون الاحتفال بـ«الحية بية» نقول لهم بالتأكيد مازال مجتمعنا يمارس هذه العادة وهي عادة قديمة جداً وقد كانت موجودة حتى قبل ظهور الإسلام، وأيام الفراعنة كانت هذه العادة موجودة وكانوا يضحون بأجمل عروس ويرمونها بالنيل إرضاء للآلهة، وهذه الصورة نجدها عند الهندوس الذين يضحون ببناتهم ويرمون الأزهار ويقيمون الاحتفالات في النهر والبحر أيضاً، هي عادات وصلت لنا قد تكون على صورة «الحية بية» وهي طلب للخير وتعكس التضحية بهذه «الحية» طلباً للخير وإرضاء للرب وآلهة المياه وطلباً للخصوبة، وحتى عندما دخل الإسلام أخذت الملابس الشعبية الإسلامية رغم أن بعدها قديم جداً. والحديث عن الحكاية الشعبية لا يتوقف عند سوالف الجدات في البيوت لكنها تعيش على ظهر سفن الغوص فالغاصة في فترات الراحة يتحولون كالصغار يبحثون عن قصص الجان والخرافات التي تنسيهم عناء الغوص والبحث عن المحار طوال اليوم وتراهم ينصتون للراوي وهو يقص عليهم قصص الجان أو أم حمار أو بودرياه وحتى قصص الملوك وبنت السلطان والملك الذي يبحث عن زوجة جميلة صالحة في بيوت الفقراء.
تماماً كما يتغنى «النهام» بأغانيه للرفاق يحكي الغواص السوالف والأحداث التي مر بها وسمعها وكانت من واقع الحياة، أو يتبادل البحارة حزايات تناقلوها عن الأجداد يمتزج فيها الخيال بالحقيقة والوهم بالواقع، والأسطورة بأحداث الحياة، منها ما يجعل قيماً أخلاقية ومنها ما يؤكد الإيمان الديني والمعتقد، والبعض منها ساخر، والبعض الآخر يهدف إلى حكمة ويسجل بالرمز تجربة إنسانية، وإن كانت ترد على لسان الحيوان أو الطير ، ومن الحكايات ما يقدم جوانب من التاريخ لم تكن معروفة أو غفل التاريخ المسجل عن ذكرها وتروي أحداث أبطال من صنع الخيال الشعبي، فالحكايات الشعبية لأي مجتمع هي سجل متنوع الصفحات لقصة الشعب نفسه، صاغ فيها الشعب جيلاً بعد جيل، أحداث حياته وتطلعات مستقبله، يصف الواقع في أسلوب روائي يمزج الواقع بالخيال ويقرب الخيال إلى الواقع، يضفي من فيض خياله، وتصورات أوهامه أوصافاً أسطورية على قميص البطولة، أو حوادث المغامرات كما يسجل من خلايا الحكاية جوانب من تاريخ أمته .
مهد القصة
العالم « تيودور بينفي «الذي ألف مجموعة قصص هندية بعنوان» بنتشتنترا «يعتقد أن الهند مهد القصة الأصلي استخدمتها الـــديانة البـــوذيــة كوسيلة للتهذيب والتربية والتقويم، بينما العالمان» س.ب. تيلور وأندرولنج» يرون أنه يصعب تحديد موطن أصلي للحكاية فهي ملك للشعوب جميعاً ولسان حالها، فالبشرية تعيش ظروفاً متشابهة وبيئة متماثلة مهما بعدت المسافات والعادات والتقاليد والمعتقدات متقاربة، وهي ذات إطار عام وسياق واحد وإن اختلفت في التفصيلات والوجوه والجوانب، فإذا كانت الشعوب تعيش ذات العوامل الطبيعية والانفعالات النفسية والبيئة الاجتماعية، فهي بالتالي ستنتج حكايات واحدة بطابعها العام مع اختلافات متباينة في الجزئيات والمسميات والقيم، فهي كما يقول تيلور كالنبات والفاكهة التي تعيش ذات الظروف من الهواء والتربة والهواء والماء والشمس، لكنها تختلف في الشكل والنوع والطعم من منطقة إلى أخرى.
تاريخ نشوء الحكاية
هذه المعطيات والآراء تعطينا فكرة عن تاريخ نشوء الحكاية الشعبية الذي يمتد آلاف السنين، دون أن نستطيع أن نحدد تاريخها تماماً كما قال «ليتمان» نستطيع أن ندل على أصل الحكاية لكن لا نستطيع أن نعين تاريخ هذا الأصل « وإعادة أصول الحكايات إلى حوالي ألفي سنة يعني هذا أن حوالي خمسين رجلاً توارثها جيلاً بعد جيل مع الأخذ بعين الاعتبار ما يطرأ عليها من تغيير وتبديل وتطوير نتيجة تغير وتطور الأوضاع الاقتصادية والثقافية والدينية، والأخلاقية في حياة الإنسان، وهذه ضرورة لابد منها لتصبح أفكاراً وأحداث الحكاية أكثر ملاءمة لأعراف المجتمع وقيمه وعقائده.
بين الماضي والحاضر خط بياني طويل قد يحمل على منحناه الزمني آلاف السنوات من حياة البشرية، وربما هي كلمة نلفظها «آلاف» لا نلقي لها بالاً لكنها تتضمن سجل حافلاً ومتنوعاً من حياة البشر «بني آدم» منذ أن خلقهم الله تعالى على وجه الأرض... كم تبلغ هذه الآلاف ثلاث، خمس، عشرة ، عشرون ألفاً» لا أحد باستطاعته أن يحدد ذلك .وفي هذه الجزء تأتي السياقات الكثيرة المتعلقة في الدراسات والأبحاث المعاصرة حول الحكاية الشعبية، التي تتطرق إلى جذور وتاريخ الحكاية وتعريفاتها وتقنياتها السردية ـ مكانها وزمانها وشخصياتها ومضامينها ـ وعلاقتها بالأسطورة، فالموضوع طويل ومتشعب، ولكن هنا نموذجاً من الحاضر سيعطينا إجابات واضحة عن مدى التشابه بين الماضي والحاضر في تاريخ الحكاية الشعبية، وأجواء الأمسيات الحكائية وراويها مع الأخذ بعين الاعتبار الفروق والمتغيرات الحياتية المادية والاجتماعية، بين الفترتين الزمنيتين المختلفتين مكانياً والموحدتين ثقافياً وحضارياً، وهما وادي النيل ومنطقة الهلال الخصيب، التي تضم شمال شبه الجزيرة العربية من بلاد الشام والعراق.
الحكاية في الشام
في أجواء الحكاية الشعبية المعاصرة في بلاد الشام في بداية القرن العشرين، نجد أنه لم تكن قد ظهرت أجهزة التلفاز بعد، ولم تظهر المطبوعات وتنتشر بين الناس، فكانت الجدّة العجوز صاحبة الحكاية الشعبية تتربع على عرش القص والسرد الحكائي للأطفال في أمسيات الشتاء الباردة، فكانت الجدة نجمة الليالي تروي حكاياتها الشعبية الممتعة، المثيرة على أسماع الأولاد في مشهد وأجواء ساحرة كان يتكرر كل ليلة، فتضيء العتمة وتمتع النفوس وتخفف عبء ليالي الشتاء الطويلة الباردة، وعندما يأتي الصيف بليله المقمر القصير ومشاغله الكثيرة، تتوقف الجدّة عن القص والسرد الحكائي، لتستجمع قواها وتستعيد ذاكرتها لليالي الشتاء القادم .
وفي مساء من أماسي الشتاء الباردة، وفي الغرفة الداخلية «غرفة الجد والجدة» يبدأ الأولاد بالتجمع الواحد بعد الآخر يتحلّقون حول الكانون المصنوع من الطين أو مدفأة الحطب القديمة، يترقبون بشوق ولهفة شديدة أن ينتهي الجميع من صلاة المغرب وتناول العشاء.
وتنهي الجدّة عملها لتتربّع بجلال وسط المجموعة كأنها سلطانة زمانها، لتبدأ بسرد حكاياتها الجميلة ومع صوت الرعد الذي يثير الهلع في النفوس، ولمع البرق الذي يخترق الظلمة بوميضه المرعب، وكان صوت الجدة يمتزج مع صوت طرقات حبات المطر على زجاج النافذة بينما كان لهب سراج الكاز يتراقص، فتتراقص معه على الجدران القاتمة خيالات قاتمة كالأشباح.
الحكاية عند الفراعنة
تروي إحدى المنقوشات الأثرية لحضارة مصر القديمة التي تعود إلى الألف الثالث قبل الميلاد، والتي تتحدث عن حكاية أو أسطورة قدر الأمير، «كان الحضور رجالاً ونساءً وأطفالاً يجلس بعضهم على كراسٍ وأرائك ويجلس آخرون على حصر ممدودة على الأرض يتحلقون فوقها، عندما همس طفل للشيخ العجوز : احك لنا حكاية. ابتسم العجوز وكان يجلس قبالة الصبي تماماً فرف بعينه، ونظر إلى الجمهور ثم تنحنح، وصمت الجميع وابتسم الطفل من جديد، من كان يتكلم منذ مائة عام هو الذي يتكلم الآن: «يحكى أن أحد ملوك مصر كان ملكاً ثرياً وكريماً يتمتع بالصحة والقوة ومحبة جميع الشعب، على الرغم من ذلك كان تعيساً جداً إذ لم تنجب له زوجته وريثاً يمتلك الحكم من بعده... فجاب بلاد الأرضين كلها وزار المعابد وقدم الأضاحي، وتوسل للآلهة أن تمنحه وريثاً للعرش ... قد تستجيب الآلهة في بعض الحالات لرغبات البشر... فبعد تسعة أشهر أنعم الله عليه ووضعت زوجته مولوداً ذكراً».
تمضي أحداث الحكاية بين بلاد النيل وبلاد الرافدين، وتتطور حتى تصل إلى ذروة من الحبكة والأحداث المثيرة. وهنا يتوقف الشيخ عن الكلام وهو يلهث، فقيل له: أكمل الحكاية أيها الشيخ، فقالت امرأة: دعوه يسترد أنفاسه قليلاً، فهو يتحدث منذ زمن طويل، حاول الشيخ أن يفتح فمه محاولاً أن يتكلم لكنه عجز، وأصدر شخيراً وسقط بلا حراك. قال أحد الرجال بحزن: مات بعد 110 سنوات، وانتقلت روحه إلى مركب الأرواح. فسأل أحد الأطفال: ولكن إذا انتقلت روحه إلى مملكة أوزيريس، فهل يجب أن تتوقف الحكاية ؟؟؟ فقام أحد الرجال وجلس مكانه، وقال سأكملها لكم: ولكن نبوءة الآلهة لا بد أن تتحقق ...
وتابع الرجل الثاني الحكاية إلى نهايتها، واستلم مهمة سرد الحكايات بدلاً من الرجل العجوز. هكذا نرى أن الحكاية الشفاهية وأجواءها تعود إلى حوالي الألف الثالثة قبل الميلاد في وادي النيل، كما ترددت في بلاد الرافدين والهند وباقي أنحاء العالم القديم في الوقت ذاته، ومازالت تتردد على ألسنة الرواة بأحداث ومضامين، وتقنيات متشابهة إلى حد بعيد مع إضافات ومتغيرات لا بد منها، تتناسب ومستجدات الحياة المادية والاجتماعية والسياسية .
هنا ترتبط الحكاية الشعبية بالوطن العربي فبقدر ما تمتلك مساحة في وطننا الصغير البحرين هي أيضاً تسير على امتداد الوطن العربي وتتجاوز الجزيرة العربية إلى بلاد الشام والمغرب ومصر وكل البقاع لكن ما يختلف في نطقها للأساطير القصصية هو الشخوص التي تمثل أدواراً رئيسية ويتحفظها الجدات والأمهات لتنقلها لأجيال تعشق سماعها في لحظات قبل النوم .
عن الوطن