ليس هناك من لا يخطئ ؛ فما دام الله قد جعلنا أحرارا لكي نتحمل المسؤولية عند اتخاذ قراراتنا ؛ وما دمنا بشرا محدودي القدرات العقلية والتي تجعلنا نربط بين المتناقضات ، ونفكك التشابكات المعقدة في إطار هذه المحدودية ، فلابد أننا لن نلم بكل الدقائق ، تلك التي يمكن أن تحدث _رغم صغرها- تداعيات كبيرة ؛ بحيث أن ما ينتج في الخلاصة قد لا يلامس الصواب. وهذا هو الغلط. أي أن نفهم الوقائع بوجه غير صحيح.
والقضاء ليس منزها عن الغلط ؛ وإن كان غلطه عظيم الجسامة ، لأنه لا يغير فقط في مراكزنا الواقعية والقانونية بل قد يستأصلنا من الوجود بمجرد غلطه البسيط في الفهم.
من هنا سأسرد بعض الوقائع من مضابط القضاء والتي قضي فيها بإعدام بعض الأشخاص على نحو رأيت فيه بعض القصور في الاستدلال والخطأ الذي أفضي لإعدام أشخاص لا يستحقون الإعدام:
▪قصة العسكري الذي سرقوا خصيتيه:
بعد يوم عمل شاق وتحت قيظ الشمس وقف شاب في أواخر العشرين من العمر في انتظار سيارة نقل وهو يحمل بندقيته العسكرية ، ومرتديا بذته ذات القماش الأخضر السميك ، وبعد انتظار ليس بالطويل استقل عربة نقل صغيرة الحجم ، تلك التي تقل حوالى اثنا عشر راكبا ، وجلس في مؤخرة المركبة ناحية النافذة ، وتحرك سائق السيارة بتؤدة ساربا في طريق معبد قد اختفى تحت طبقة من الرمل ، كان هناك رجل يجلس قرب العسكري الشاب ، ومع ذلك لم يتبادل الرجلان الحديث. لسبب ما وضع الرجل يده فوق فخذ الجندي ، ثم ابعدها بسرعة. وحينها دارت في مخيلة الشاب أساطير كثيرة كانت تجوب فضاءات قريته ، عن السحرة الذين يستلبون وعي الآخرين بمجرد لمسهم أو الحديث معهم. نفض العسكري كل ذلك حين بلغ مقصده فنزل من العربة ؛ وما أن وطأت قدماه الأرض حتى ارتجف جسده كله بشدة وأخذ يتعرق ، وشعر بأن الموت يتربص به ، ثم أحس بخفة لم يعهدها بين فخذيه فدفع بكفه إلى داخل بنطاله ليجد أن كل جهازه التناسلي قد اختفى. كانت العربة تهم بتركه لكنه أحس بالرعب فأوقف سائقها. هرول نحوها ووقف يحدق في الراكب الذي كان يجلس قربه ، ورآه يبتسم بسخرية ، ثم رأى جميع الركاب يلتفتون نحوه ويبتسمون بسخرية حتى سائق العربة. كانوا يستهزؤون برجولته التي ضاعت بضربة سحرية واحدة حولته لشبه رجل. وبكل مقت تبادله معهم رفع بندقيته وأفرغ رصاصها في رأس الراكب الذي كان قربه. ثم حمل سلاحه وسلم نفسه للشرطة.
قامت الشرطة بإجراء الفحوصات اللازمة في تلك الحالات الجنائية حيث تبين لها أن أعضاءه التناسلية لازالت موجودة ، فتمت إحالته للمحكمة بتهمة القتل العمد.
وفي المحكمة سرد العسكري اعترافه أمام القضاء ، الذي لم يقر بوجود سحر كهذا فالفحوصات قد أثبتت وجود أعضائه التناسلية ، فصدر الحكم بإعدامه وأيدت المحكمة العليا الحكم بإعدامه وهي لا تنكر وجود السحر لأن إنكاره يعد طعنا في الدين الذي أكد وجود السحر وسردت المحكمة آيات عدة تؤكد على وجود السحر كقصة هاروت وماروت الذان يعلمان الناس السحر ، وكسحرة فرعون ضد موسى..الخ غير أنها أكدت في نهاية حكمها ، أنها رغم ذلك اكدت أنه وما دام الفحص الطبي قد أكد وجود الاعضاء التناسلية فلا مندوحة من تأييد حكم الاعدام بحق العسكري الشاب. وتناوب القضاة جدلا حول السحر في تداولهم ثم قضوا - على نحو غامض بإعدام الشاب قصاصا وقد نفذ الأمر فيه وتدلى جسده من حبل المشنقة حاملا تساؤلات عدة حول حقيقة السحر في عالمنا الذي لا تعكر صفوه سوى واقعيته المريرة ، فليس هناك جن ولا شياطين بقادرين على تحسين أوضاع الإنسانية التي هي لا إنسانية ، ولا على علاج من يموتون بالآلاف بسبب الفقر والجوع والمرض أو تحت تعذيب جلادي الأنظمة الدكتاتورية. ولو كان هناك جن يفعلون ذلك لحكموا هذا العالم بل ولوجدوا من يعبدونهم بخشوع وورع. إن ما اخطأت فيه المحكمة -كما أعتقد- هو أنها لم تحاول النظر للأمر بغير الزاوية التي سردها المسكين ، ولم توسع من مداركها لتخرج من إطار الصورة النمطية التي نشأ القضاة أنفسهم في ثقافتها وهي تلك التي تؤكد وجود السحر والسحرة وتؤسس ذلك على الدين ، فلقد كان من الأصوب للمحكمة أن تناقش مسائل مهمة ومنها:
- هل كانت هناك أي معرفة بين القاتل والمقتول؟
- هل كانت هناك دوافع أخرى للقتل سوى ما شعر به العسكري من فقدان جهازه التناسلي؟
- هل دارت أي مناقشات عنيفة أو غير عنيفة بين القاتل والمقتول؟
وفقا للوقائع في محاضر الجلسات فلم تكن هناك علاقة بين القاتل والمقتول ولا سابق معرفة كما لم يدر بينهما أي نقاش داخل مركبة النقل. وبالتالي أنتفى وجود أي دوافع أخرى غير تلك التي سردها العسكري الشاب. وهنا كان على المحكمة أن تنظر للأمر من ناحيتين ؛ الأولى متعلقة بالصحة العقلية والثانية بالثقافة الشعبية. فمن المعروف أن اضطرابات الشيزوفرينيا ذات الصور المتعددة تتكامل مع ثقافة المرء فتنتج اختلالا في الوعي والإدراك ، وأن هذه الأمراض العقلية قد تكون كامنة داخل العقل حتى تجد ما يستنفر بروزها للوجود بغتة بدون سابق إنذار. إن هناك مبادئ كثيرة خاطئة يعتمد عليها القضاء وهو بصدد تقرير الأهلية الجنائية ، ومنها أن الإضطرابات العقلية يتم الاستيثاق منها عبر التاريخ الطبي للمريض فقط ، فالاضطرابات العقلية ليس بالضرورة أن تسبقها مؤشرات على المرض ، فهي ليست كاضطرابات الأمعاء أو الدم أو القلب ألخ ، إنما هي كتلة مظلمة تقبع في قعر النفس البشرية ، تنتفض فجأة كحيوان مفترس حينما تحفزها عوامل ما ، فإذا بشخص كنت تتحدث معه قبل ثوان يتحول لإنسان مجنون أو مضطرب العقل في لحظة وجيزة وبائسة في حياته - وقانا الله وإياكم هذا الابتلاء المرير- وإني أتذكر صديقا لي كان معي في عصر يوم من الأيام ولما عاد إلى منزله اتصل بي وأخذ يهذي بكلام مضطرب جدا فأدركت أن الجنون قد أصابه وأحزنني ذلك ، وإن كان قد كشف لي عن ضعف الإنسان الذي لا يعرف ليس فقط ماذا يكسب غدا بل حتى ماذا يكسب بعد ثانية واحدة من لحظته الراهنة وهو الذي كان يحسب نفسه القوي المتين.
ومن الأخطاء التي رأيتها من واضعي التشريعات الجنائية أنهم يجعلون الاضطرابات النفسية مخففة للمسؤولية الجنائية فقط ، وإني أرى أن هذا اتجاه تشريعي خاطئ تمام ، فالاضطراب النفسي الذي يدفع بالمرء لاقتراف الجريمة لا يفعل ذلك إلا عندما يتحكم بإرادة المريض تحكما لا فكاك من سيطرته ، فالمرء إما أن تكون إرادته حرة أو غير حرة ، ولا يمكن أن تجمع أو تتوسط بين هذين النقيضين أبدا. ولذلك فماذا نعنيه عندما نعتبر الاضطراب النفسي مخففا للمسؤولية؟ ولماذا-إذا كان الاضطراب النفسي لا يصادر على كامل إرادة المرء- لماذا إذن يقضي القضاء بتدابير احترازية كالوضع في مصحة عقلية أو نفسية أو علاجه علاجا داخليا أو خارجيا؟ ثم ما نفع العقوبة إن كانت الجريمة ناتجة عن اضطراب نفسي؟ إن أهم أهداف العقوبة لا تتحقق هاهنا ، كتحقيق الردع الخاص مثلا ؛ لأن المرء أساسا حينما اقترف فعلته التي فعل كان قد بلغ مبلغ عدم القدرة على مقاومة المرض.
لقد تدلت جثة العسكري الشاب من المشنقة نتيجة لحظة عاثرة في عمره الكئيب ، ونتيجة ضعف إدارة العدالة الجنائية.
(تنويه للقوات النظامية: نستغل هذا السانحة ونلتمس من قيادات القوات النظامية عدم منح الجنود والشرطيين أسلحة مذخرة بالرصاص الحي خارج إطار عملهم الرسمي).
▪قصة دماء على الأسفلت:
تبدوا وقائع هذه القصة غريبة جدا لسرعتها ووجازتها وبساطتها ، فهناك شابان ، أحدهما قوي البنية والآخر هزيلها ، ولنقاش بينهما قام قوي البنية بشنكلة الهزيل ودفعه فسقط الهزيل على الأسفلت وارتطم دماغه به فنزف ومات. والشاب القوى في ذهول مما حدث. تلك الحركة البسيطة (الشنكلة والدفع) قد أفضت إلى موت الشاب الهزيل. وربما كان هذا تحذيرا هاما لنا بأن نتريث كثيرا عندما نتعامل مع أنفسنا ومع الآخرين ، فلربما سلوك خاطئ بسيط يفضي إلى نتائج جسيمة ومحزنة تظل عالقة في ذاكرة المرء لتنغص عليه سنوات عمره ، وإن كان حظنا أكثر سواء فقد يفضي بنا هذا السلوك إلى فقد حريتنا بالسجن أو أرواحنا بالإعدام.
لقد انتجت هوليوود فيلما (شاهدته مرة وامتنعت عن اكمال مشاهدته) يتحدث عن كيفية ملاحقة الموت لمجموعة من الشباب الذين حاولوا أن يكونوا حذرين جدا غير أنه قد كان للموت وسائله العجيبة للقضاء عليهم. ومن ذلك مشهد في الفيلم عن شاب يجلس أمام عجلة القيادة وهو يكتب بقلمه فاصدمت به سيارة من الخلف -أو شيء من هذا القبيل- فاندفع رأس الشاب وانغرز القلم في عينه حتى بلغ جمجمته ومات.
والحقيقة أن الموت - يا سادتي- لا يحتاج لكل تلك التعقيدات الهوليودية- فهو يستخدم أساليب اكثر بساطة ؛ وفي هذه البساطة تكمن قوته وعظمته وسخريته من البشر وهم يحاذرون الموت دون جدوى.
لقد قضت المحكمة بمعاقبة الشاب القوى بالإعدام شنقا حتى الموت معتبرة أن الشنكلة والدفع كانا وسيلة يرجح بها تسبيب الموت. وهذا قضاء -مع احترامي له- اعتبره منكرا جدا ؛ فكم منا من تعرض للشنكلة والدفع دون أن يقضي حتفه. بل وإني اتساءل: ماذا لو طلب محامي المدان أن ينفذ القصاص فيه بمثل السلوك الذي قام به ضد المجني عليه؟ ماذا لو قضت المحكمة بأن ينفذ الاعدام بالإتيان بمصارع ضخم الجثة فيشنكل الجاني ويدفعه وهما فوق الأسفلت ، فهل ستكون المحكمة متأكدة من أن الجاني حين يسقط على الأسفلت سيموت حتما؟ بالتأكيد لا. ونحن في طفولتنا تعرضنا ليس فقط للشجارات البسيطة والشنكلة والدفع بل حتى للسقوط والضرب في أم الدماغ دون أن يلقى التلاميذ نحبهم جراء ذلك. في الوقت الذي قد يقضي فيه رجل ضخم نحبه جراء خدشة في الساق أو طعنة دبوس ، وقد قال الفقهاء المسلمون -تعبيرا عن ذلك- بأن في جسد الإنسان مقاتل كثيرة.
كانت تلك الشنكلة والدفع التي قام بها ذلك الشاب لحظة فارقة في حياته القصيرة وحياة من قام بشنكلته ودفعه ، فقد مات الثاني وتدلى الأول من حبل المشنقة.
فأحذروا يا أولي الألباب.
سأتوقف هنا لأكمل بقية القصص ذات العظة والعبرة التي قد تمنحنا ومضة من الوعي تحول بيننا وبين موتنا أو موت الآخرين وقد تنير للعدالة موطئا لأحكام قادمة. وذلك في مقالات لاحقة بإذن الله تعالى.
والقضاء ليس منزها عن الغلط ؛ وإن كان غلطه عظيم الجسامة ، لأنه لا يغير فقط في مراكزنا الواقعية والقانونية بل قد يستأصلنا من الوجود بمجرد غلطه البسيط في الفهم.
من هنا سأسرد بعض الوقائع من مضابط القضاء والتي قضي فيها بإعدام بعض الأشخاص على نحو رأيت فيه بعض القصور في الاستدلال والخطأ الذي أفضي لإعدام أشخاص لا يستحقون الإعدام:
▪قصة العسكري الذي سرقوا خصيتيه:
بعد يوم عمل شاق وتحت قيظ الشمس وقف شاب في أواخر العشرين من العمر في انتظار سيارة نقل وهو يحمل بندقيته العسكرية ، ومرتديا بذته ذات القماش الأخضر السميك ، وبعد انتظار ليس بالطويل استقل عربة نقل صغيرة الحجم ، تلك التي تقل حوالى اثنا عشر راكبا ، وجلس في مؤخرة المركبة ناحية النافذة ، وتحرك سائق السيارة بتؤدة ساربا في طريق معبد قد اختفى تحت طبقة من الرمل ، كان هناك رجل يجلس قرب العسكري الشاب ، ومع ذلك لم يتبادل الرجلان الحديث. لسبب ما وضع الرجل يده فوق فخذ الجندي ، ثم ابعدها بسرعة. وحينها دارت في مخيلة الشاب أساطير كثيرة كانت تجوب فضاءات قريته ، عن السحرة الذين يستلبون وعي الآخرين بمجرد لمسهم أو الحديث معهم. نفض العسكري كل ذلك حين بلغ مقصده فنزل من العربة ؛ وما أن وطأت قدماه الأرض حتى ارتجف جسده كله بشدة وأخذ يتعرق ، وشعر بأن الموت يتربص به ، ثم أحس بخفة لم يعهدها بين فخذيه فدفع بكفه إلى داخل بنطاله ليجد أن كل جهازه التناسلي قد اختفى. كانت العربة تهم بتركه لكنه أحس بالرعب فأوقف سائقها. هرول نحوها ووقف يحدق في الراكب الذي كان يجلس قربه ، ورآه يبتسم بسخرية ، ثم رأى جميع الركاب يلتفتون نحوه ويبتسمون بسخرية حتى سائق العربة. كانوا يستهزؤون برجولته التي ضاعت بضربة سحرية واحدة حولته لشبه رجل. وبكل مقت تبادله معهم رفع بندقيته وأفرغ رصاصها في رأس الراكب الذي كان قربه. ثم حمل سلاحه وسلم نفسه للشرطة.
قامت الشرطة بإجراء الفحوصات اللازمة في تلك الحالات الجنائية حيث تبين لها أن أعضاءه التناسلية لازالت موجودة ، فتمت إحالته للمحكمة بتهمة القتل العمد.
وفي المحكمة سرد العسكري اعترافه أمام القضاء ، الذي لم يقر بوجود سحر كهذا فالفحوصات قد أثبتت وجود أعضائه التناسلية ، فصدر الحكم بإعدامه وأيدت المحكمة العليا الحكم بإعدامه وهي لا تنكر وجود السحر لأن إنكاره يعد طعنا في الدين الذي أكد وجود السحر وسردت المحكمة آيات عدة تؤكد على وجود السحر كقصة هاروت وماروت الذان يعلمان الناس السحر ، وكسحرة فرعون ضد موسى..الخ غير أنها أكدت في نهاية حكمها ، أنها رغم ذلك اكدت أنه وما دام الفحص الطبي قد أكد وجود الاعضاء التناسلية فلا مندوحة من تأييد حكم الاعدام بحق العسكري الشاب. وتناوب القضاة جدلا حول السحر في تداولهم ثم قضوا - على نحو غامض بإعدام الشاب قصاصا وقد نفذ الأمر فيه وتدلى جسده من حبل المشنقة حاملا تساؤلات عدة حول حقيقة السحر في عالمنا الذي لا تعكر صفوه سوى واقعيته المريرة ، فليس هناك جن ولا شياطين بقادرين على تحسين أوضاع الإنسانية التي هي لا إنسانية ، ولا على علاج من يموتون بالآلاف بسبب الفقر والجوع والمرض أو تحت تعذيب جلادي الأنظمة الدكتاتورية. ولو كان هناك جن يفعلون ذلك لحكموا هذا العالم بل ولوجدوا من يعبدونهم بخشوع وورع. إن ما اخطأت فيه المحكمة -كما أعتقد- هو أنها لم تحاول النظر للأمر بغير الزاوية التي سردها المسكين ، ولم توسع من مداركها لتخرج من إطار الصورة النمطية التي نشأ القضاة أنفسهم في ثقافتها وهي تلك التي تؤكد وجود السحر والسحرة وتؤسس ذلك على الدين ، فلقد كان من الأصوب للمحكمة أن تناقش مسائل مهمة ومنها:
- هل كانت هناك أي معرفة بين القاتل والمقتول؟
- هل كانت هناك دوافع أخرى للقتل سوى ما شعر به العسكري من فقدان جهازه التناسلي؟
- هل دارت أي مناقشات عنيفة أو غير عنيفة بين القاتل والمقتول؟
وفقا للوقائع في محاضر الجلسات فلم تكن هناك علاقة بين القاتل والمقتول ولا سابق معرفة كما لم يدر بينهما أي نقاش داخل مركبة النقل. وبالتالي أنتفى وجود أي دوافع أخرى غير تلك التي سردها العسكري الشاب. وهنا كان على المحكمة أن تنظر للأمر من ناحيتين ؛ الأولى متعلقة بالصحة العقلية والثانية بالثقافة الشعبية. فمن المعروف أن اضطرابات الشيزوفرينيا ذات الصور المتعددة تتكامل مع ثقافة المرء فتنتج اختلالا في الوعي والإدراك ، وأن هذه الأمراض العقلية قد تكون كامنة داخل العقل حتى تجد ما يستنفر بروزها للوجود بغتة بدون سابق إنذار. إن هناك مبادئ كثيرة خاطئة يعتمد عليها القضاء وهو بصدد تقرير الأهلية الجنائية ، ومنها أن الإضطرابات العقلية يتم الاستيثاق منها عبر التاريخ الطبي للمريض فقط ، فالاضطرابات العقلية ليس بالضرورة أن تسبقها مؤشرات على المرض ، فهي ليست كاضطرابات الأمعاء أو الدم أو القلب ألخ ، إنما هي كتلة مظلمة تقبع في قعر النفس البشرية ، تنتفض فجأة كحيوان مفترس حينما تحفزها عوامل ما ، فإذا بشخص كنت تتحدث معه قبل ثوان يتحول لإنسان مجنون أو مضطرب العقل في لحظة وجيزة وبائسة في حياته - وقانا الله وإياكم هذا الابتلاء المرير- وإني أتذكر صديقا لي كان معي في عصر يوم من الأيام ولما عاد إلى منزله اتصل بي وأخذ يهذي بكلام مضطرب جدا فأدركت أن الجنون قد أصابه وأحزنني ذلك ، وإن كان قد كشف لي عن ضعف الإنسان الذي لا يعرف ليس فقط ماذا يكسب غدا بل حتى ماذا يكسب بعد ثانية واحدة من لحظته الراهنة وهو الذي كان يحسب نفسه القوي المتين.
ومن الأخطاء التي رأيتها من واضعي التشريعات الجنائية أنهم يجعلون الاضطرابات النفسية مخففة للمسؤولية الجنائية فقط ، وإني أرى أن هذا اتجاه تشريعي خاطئ تمام ، فالاضطراب النفسي الذي يدفع بالمرء لاقتراف الجريمة لا يفعل ذلك إلا عندما يتحكم بإرادة المريض تحكما لا فكاك من سيطرته ، فالمرء إما أن تكون إرادته حرة أو غير حرة ، ولا يمكن أن تجمع أو تتوسط بين هذين النقيضين أبدا. ولذلك فماذا نعنيه عندما نعتبر الاضطراب النفسي مخففا للمسؤولية؟ ولماذا-إذا كان الاضطراب النفسي لا يصادر على كامل إرادة المرء- لماذا إذن يقضي القضاء بتدابير احترازية كالوضع في مصحة عقلية أو نفسية أو علاجه علاجا داخليا أو خارجيا؟ ثم ما نفع العقوبة إن كانت الجريمة ناتجة عن اضطراب نفسي؟ إن أهم أهداف العقوبة لا تتحقق هاهنا ، كتحقيق الردع الخاص مثلا ؛ لأن المرء أساسا حينما اقترف فعلته التي فعل كان قد بلغ مبلغ عدم القدرة على مقاومة المرض.
لقد تدلت جثة العسكري الشاب من المشنقة نتيجة لحظة عاثرة في عمره الكئيب ، ونتيجة ضعف إدارة العدالة الجنائية.
(تنويه للقوات النظامية: نستغل هذا السانحة ونلتمس من قيادات القوات النظامية عدم منح الجنود والشرطيين أسلحة مذخرة بالرصاص الحي خارج إطار عملهم الرسمي).
▪قصة دماء على الأسفلت:
تبدوا وقائع هذه القصة غريبة جدا لسرعتها ووجازتها وبساطتها ، فهناك شابان ، أحدهما قوي البنية والآخر هزيلها ، ولنقاش بينهما قام قوي البنية بشنكلة الهزيل ودفعه فسقط الهزيل على الأسفلت وارتطم دماغه به فنزف ومات. والشاب القوى في ذهول مما حدث. تلك الحركة البسيطة (الشنكلة والدفع) قد أفضت إلى موت الشاب الهزيل. وربما كان هذا تحذيرا هاما لنا بأن نتريث كثيرا عندما نتعامل مع أنفسنا ومع الآخرين ، فلربما سلوك خاطئ بسيط يفضي إلى نتائج جسيمة ومحزنة تظل عالقة في ذاكرة المرء لتنغص عليه سنوات عمره ، وإن كان حظنا أكثر سواء فقد يفضي بنا هذا السلوك إلى فقد حريتنا بالسجن أو أرواحنا بالإعدام.
لقد انتجت هوليوود فيلما (شاهدته مرة وامتنعت عن اكمال مشاهدته) يتحدث عن كيفية ملاحقة الموت لمجموعة من الشباب الذين حاولوا أن يكونوا حذرين جدا غير أنه قد كان للموت وسائله العجيبة للقضاء عليهم. ومن ذلك مشهد في الفيلم عن شاب يجلس أمام عجلة القيادة وهو يكتب بقلمه فاصدمت به سيارة من الخلف -أو شيء من هذا القبيل- فاندفع رأس الشاب وانغرز القلم في عينه حتى بلغ جمجمته ومات.
والحقيقة أن الموت - يا سادتي- لا يحتاج لكل تلك التعقيدات الهوليودية- فهو يستخدم أساليب اكثر بساطة ؛ وفي هذه البساطة تكمن قوته وعظمته وسخريته من البشر وهم يحاذرون الموت دون جدوى.
لقد قضت المحكمة بمعاقبة الشاب القوى بالإعدام شنقا حتى الموت معتبرة أن الشنكلة والدفع كانا وسيلة يرجح بها تسبيب الموت. وهذا قضاء -مع احترامي له- اعتبره منكرا جدا ؛ فكم منا من تعرض للشنكلة والدفع دون أن يقضي حتفه. بل وإني اتساءل: ماذا لو طلب محامي المدان أن ينفذ القصاص فيه بمثل السلوك الذي قام به ضد المجني عليه؟ ماذا لو قضت المحكمة بأن ينفذ الاعدام بالإتيان بمصارع ضخم الجثة فيشنكل الجاني ويدفعه وهما فوق الأسفلت ، فهل ستكون المحكمة متأكدة من أن الجاني حين يسقط على الأسفلت سيموت حتما؟ بالتأكيد لا. ونحن في طفولتنا تعرضنا ليس فقط للشجارات البسيطة والشنكلة والدفع بل حتى للسقوط والضرب في أم الدماغ دون أن يلقى التلاميذ نحبهم جراء ذلك. في الوقت الذي قد يقضي فيه رجل ضخم نحبه جراء خدشة في الساق أو طعنة دبوس ، وقد قال الفقهاء المسلمون -تعبيرا عن ذلك- بأن في جسد الإنسان مقاتل كثيرة.
كانت تلك الشنكلة والدفع التي قام بها ذلك الشاب لحظة فارقة في حياته القصيرة وحياة من قام بشنكلته ودفعه ، فقد مات الثاني وتدلى الأول من حبل المشنقة.
فأحذروا يا أولي الألباب.
سأتوقف هنا لأكمل بقية القصص ذات العظة والعبرة التي قد تمنحنا ومضة من الوعي تحول بيننا وبين موتنا أو موت الآخرين وقد تنير للعدالة موطئا لأحكام قادمة. وذلك في مقالات لاحقة بإذن الله تعالى.