رولان بارت - السلطة و اللغة.. ترجمة: عبدالسلام بنعبد العالي

تتحدث البراءة الحديثة عن السلطة كما لو كانت مفردة : فهناك من بيده السلطة، ثم هناك من لا يملكونها.
لطالما آمنا بأن السلطة موضوع سياسي صرف، ثم أصبحنا نعتقد أنها موضوع إيديولوجي كذلك، يتسلل خلسة حيث لا عهد لنا به لأول وهلة، داخل المؤسسات وفي التدريس، و لكننا بقينا نعتقد أنها واحدة و حيدة ، و ماذا لو كانت السلطة متعددة مثل الشياطين ؟
إنها يمكن أن تقول عن نفسها: “اسمي كثرة كثيرة” في كل مكان، و في جميع الجهات، جهة الرؤساء والأجهزة كبيرها وصغيرها، وصوب الجماعات المقهورة أو القاهرة؛ هناك في كل مكان أصوات “مشروعة” تعطي لنفسها الصلاحية لتسمع خطاب كل سلطة، و أعني خطاب الغطرسة.
ها نحن نرى أن السلطة حاضرة في أكثر الآليات التي تتحكم في التبادل الاجتماعي رهافة، في الدولة، وعند الطبقات و الجماعات، و لكن أيضا في أشكال الموضة و الآراء الشائعة، والمهرجانات، والألعاب، والمحافل الرياضية والأخبار والعلاقات الأسرية و الخاصة، بل وحتى عند الحركات التحررية التي تسعى إلى معارضتها :أُسمي خطاب السلطة كل خطاب يولّد الخطأ عند من يتلقاه، وبالتالي الشعور بالإثم.
ينتظر منا البعض، نحن المثقفين، أن نقوم، في كل مناسبة، ضد السلطة بصيغة المفرد، بيد أن معركتنا تدور خارج هذا الميدان؛ إنها تقوم ضد السلطة في أشكالها المتعددة.
و ليست هذه بالمعركة اليسيرة: ذلك أنه إن كانت السلطة متعددة في الفضاء الاجتماعي، فهي بالمقابل، ممتدة في الزمان التاريخي.
وعندما نبعدها وندفعها هنا، سرعان ما تظهر هنالك؛ وهي لا تزول البتة. قم ضدها بثورة بغية القضاء عليها، وسرعان ما تنبعث وتنبت في حالة جديدة، ومرد هذه المكابدة والظهور في كل مكان هو أن السلطة جرثومة عالقة بجهاز يخترق المجتمع ويرتبط بتاريخ البشرية في مجموعه، وليس بالتاريخ السياسي وحده. هذا الشيء الذي ترتسم فيه السلطة، ومنذ الأزل، هو اللغة، أو بتعبير أدق: اللسان.
اللغة سلطة تشريعية ، اللسان قانونها، إننا لا نلحظ السلطة التي ينطوي عليها اللسان، لأننا ننسى أن كل لسان تصنيف، وأن كل تصنيف ينطوي على نوع من القهر: “ordo” : تعني في ذات الوقت التوزيع والإرغام. هذا ما أوضحه ياكوبسون .
إن كل لهجة تتعين، أكثر ما تتعين، لا بما تخوّل قوله بل بما تُرغم على قوله. وفي اللغة الفرنسية أنا مرغم على أن أضع نفسي كفاعل قبل أن أعبر عن الفعل الذي لن يكون إلا صفة تحمل علي؛ و ليس ما أقوم به إلا نتيجة تتمخض عما أنا عليه، و على نحو مماثل، أنا مرغم دوما على الاختيار بين صيغة التذكير والتأنيث، و ليس بإمكاني على الإطلاق أن أحيد عنهما معا أو أجمع بينهما؛ ثم إنني مرغم على تحديد علاقتي بالآخر، إما باستعمال ضمير المخاطب بصيغة المفرد أنت أو بصيغة الجمع أنتم؛ و ليس بإمكاني أن أترك المجال لمبادرة العاطفة والمجتمع.
وهكذا فإن اللغة، بطبيعة بنيتها، تنطوي على علاقة استلاب قاهرة. ليس النطق ، أو الخطاب بالأحرى، تبليغا كما يقال عادة: إنه إخضاع: فاللغة توجيه و إخضاع معممان.
أورد عبارة لرينان ساقها في إحدى محاضراته: “إن الفرنسية، سيداتي سادتي، لا يمكن أن تكون البتة لسان المحال و العبث، كما أنها لا يمكن أن تكون لغة رجعية، لا يمكن أن أتصور موقفا رجعيا يستعمل الفرنسية أداة”
لنقل إن رينان، كان بطريقته الخاصة، ثاقب النظر، لقد استطاع أن يدرك أن اللغة لا تنحصر في ما تبلغه، وأنها يمكن أن تجتازه لتسمع عن طريقه، و بلهجة صارخة، غير ما تقوله، مضيفة للصوت الواعي المتعقل للذات الناطقة، الصوت المهيمن العنيد القاسي للبنية، أي صوت النوع البشري بما هو ناطق؛ كان خطأ رينان تاريخيا لا بنيويا.
إنه كان يظن أن اللغة الفرنسية التي أبدعها العقل، بحسب اعتقاده، كانت ترغم على التعبير عن عقل سياسي لم يكن ليكون في نظره إلا ديمقراطيا. بيد أن اللسان، من حيث هو إنجاز كل لغة، ليس بالرجعي ولا بالتقدمي ، إنه، بكل بساطة فاشي: ذلك لأن الفاشية ليست هي الحيلولة دون الكلام، وإنما هي الإرغام عليه.
إن اللغة، ما إن ينطق بها، حتى وإن ظلت مجرد همهمة، فهي تصبح في خدمة سلطة بعينها.
إذ لا بد وأن ترتسم فيها خانتان: نفوذ القول الجازم، و تبعية التكرار والاجترار: فمن ناحية اللغة جزم وتقرير: و ما النفي والشك و الإمكان وتعليق الحكم إلا حالات تستلزم عوامل خاصة سرعان ما تدخل هي ذاتها في عمليات التغليف اللغوي؛ و ما يطلق عليه علماء اللسان الجهوية ليس إلا تكملة للغة، و ما أحاول بفضله، استرحاما، التخفيف من سلطتها التقريرية القاهرة.
ومن ناحية أخرى، فإن الدلائل والعلامات التي تتكون منها اللغة، لا توجد إلا بقدر ما يعترف بها، أي بقدر ما تتكرر و تردد. فالدليل تبعي مقلد؛ و في كل دليل يرقد نموذج متحجر: ليس باستطاعتي الكلام دون أن يجر كلامي في ذيوله ما يعلق باللسان. وما أن أصغ عبارة ما حتى تلتقي عندي الخانتان المذكورتان، وأكون في ذات الوقت سيدا و مَسودا: إذ أنني لا أكتفي بأن ألوك ما قيل و أردده، مرتكنا بارتياح إلى عبودية الدلائل، بل إنني أؤكد وأثبت وأفند ما أردده.
في اللغة إذن خضوع و سلطة يمتزجان بلا هوادة ، فإذا لم تكن الحرية مجرد القدرة على الانفلات من قهر السلطة، و إنما على الخصوص، عدم إخضاع أي كان، فلا مكان للحرية إلا خارج اللغة.
بيد أن اللغة البشرية، من سوء الحظ، لا خارج لها: إنها انغلاق، و لا محيد لنا عنها إلا عن طريق المستحيل : إما بفضل الوحدة الصوفية، مثلما وصفها ” كيير كغارد” عندما حدد فداء إبراهيم كفعل لا مثيل له، خال من أي كلام، حتى و لو كان كلاما باطنيا، يقوم ضد شمولية اللغة و تبعيتها و طاعتها: أو بفعل أمين “نيتشه ” الذي يشبه خلخلة مبتهجة موجهة ضد استبعاد اللغة، و ما يطلق عليه “دولوز” رداءها الرجعي. و لكن، نحن الذين لسنا فرسان الإيمان، مثل ابراهيم، و لا الإنسان الأعلى الذي يتحدث عنه “نيتشه” لا يتبقى لنا إلا مراوغة اللغة و خيانتها.
هذه الخيانة الملائمة، وهذا التلافي والهروب، هذه الخديعة العجيبة التي تسمح بإدراك اللغة خارج سلطتها، في عظمة ثورة دائمة للغة، هذا هو ما أطلق عليه أدبا.
لست أعني بالأدب، جملة أعمال، ولا قطاعا من التبادل والتعليم، وإنما الخدش الذي تخلفه آثار ممارسة هي ممارسة الكتابة.
وأقصد أساسا النص، وأعني نسيج الدلائل والعلامات التي تشكل العمل الأدبي، ما دام النص هو ما تثمره اللغة، و ما دامت اللغة ينبغي أن تحارب داخل اللغة، لا عن طريق التبليغ الذي تشكل هي أداة له، و إنما بفعل الدور الذي تقوم به الكلمات والتي تشكل هي مسرحه.
سيان أن أقول إذن أدبا أو كتابة أو نصا. إن قدرات التحرر التي ينطوي عليها الأدب لا تتوقف على الشخص المدني ولا على الالتزام السياسي للكاتب، الذي لا يعدو أن يكون إنسانا بين البشر، كما أنها لا تتوقف على المحتوى المذهبي لعمله، وإنما على ما يقوم به من خلخلة للغة.
ـــــــــ
المصدر: كتاب "درس السيميولوجيا" رولان بارت، ترجمة: عبد السلام بنعبد العالي، تقديم عبد الفتاح كيليطو، دار توبقال للنشر -المغرب، الطبعة الثالثة 1993، ص 14:11.
https://www.facebook.com/permalink.php?story_fbid=2972368169459517&id=267925119903849&__tn__=K-R
أعلى