كتب – جعفر الديري
نفى عالم الاجتماع الكويتي د.خلدون النقيب أن يكون هناك مصدر واحد للتغير الاجتماعي، مستدركا أنه من الممكن أن تكون متطلبات التكيف مع البيئة أو ما يسمى بلغة الداروينيين المساومة التطورية أحد مصادر هذا التغير وكذلك التغيرات في المناخ التي يتسبب فيها نشاط الانسان وابتكاراته التقنية أو أن تتسبب النظم الاقتصادية والصراع الثقافي في التغير الاجتماعي وأن يكون صراع الأفكار والايديولوجيات أحد أسباب التغير الاجتماعي.
وأوضح النقيب خلال محاضرته "آليات التغير الاجتماعي"، ألقاها في مركز الشيخ إبراهيم بن محمد آل خليفة للثقافة والبحوث في محافظة المحرق، الاثنين 31 يناير/ كانون الثاني 2005: أن جميع الأشياء تحمل عند ميلادها بذرة فنائها - كما يقول ماركس - وجميع الأشياء مبرمجة للتغير بحسب لغة العصر. وإن التغير الاجتماعي هو التبدل والتحول الذي يقع أو يطرأ على النظام الاجتماعي بشكل مستمر وليس كحالات طارئة.
ولفت النقيب إلى ضرورة لا تتناقض التفسيرات التي نتوصل إليها مع بعضها بعضا ودلل على ذلك بقوله "سأضرب مثالا لذلك من قبل ستيفن روز حين يقول: تخيل أن خمسة علماء أحياء خرجوا في نزهة ورأوا ضفدعة تقفز في بحيرة. إن عالم الأحياء يقول إن العلامات المكونة من البروتينات مكنتها بسبب اندلاقتها بالماء من القفز، وذلك هو التفسير الاختزالي للحركة. بينما عالم الفسيولوجيا يفسر حركة القفز بأنها نتيجة تركيبة أرجل الضفدعة وجهازها العصبي، حين يقول إن دوائر معينة سارت من عدسة عين الضفدعة إلى دماغها ومن ثم إلى أعصاب الحركة وإلى العضلات، وفي الوقت الذي يقول فيه عالم الأحياء التطورية إنه بمرور الزمن تكون الجهاز العصبي والتكوين العضلي للضفدعة يشير عالم سلوك الحيوان إلى أن وجود أفعى على الشجرة دفع الضفدعة إلى الغوص هربا من الأفعى. بينما عالم الأحياء التطورية يذكر أن عمليات الاختيار الطبيعي قد مكنت أسلاك الضفدعة من القفز بسرعة هربا، ما أعطاها فرصة للبقاء والتناسل.
أهمية التعدد
وموضحا أهمية هذا التعدد في التفسيرات قال النقيب: يجب ألا ننزعج من هذه التعددية في التفسيرات وخصوصا من علوم الاجتماع. ذلك أن هذه التعددية هي تعددية معرفية ولا يمكن اختزال أي من هذه التفسيرات إلى تفسير آخر. وهذا ينطبق بدرجة كبيرة على دراسة التغير الاجتماعي شريطة ألا تتناقض هذه التفسيرات مع بعضها بعضا. ثم إن الدراسة العلمية للتغير الاجتماعي تتطلب تعريفا واسعا للعلم أوسع من التجارب القابلة للتكرار في المختبر، إذ إن العلم نشاط - في تقديري - يهدف إلى الحصول على معرفة موثوقة عن العالم المحيط بنا، ومن هذا المنطلق فإن المعرفة المنطوقة عن التغير الاجتماعي ومظاهرة متولدة عن المنهج المقارن للديناميات الاجتماعية الثقافية.
حدود وقيود الاختزال
ومؤكدا وجود حدود وقيود على الاختزال أضاف النقيب: يتضح من المثال السابق في حال علم الأحياء أن هناك حدودا وقيودا على الاختزال. وأريد أن أؤكد هنا أن الاختزال محدود جدا في العلوم الاجتماعية وفي علاقة العلوم الاجتماعية بالعلوم الطبيعية، ولكن ما تأثير بنائنا الحيوي على سلوك الإنسان؟ وهو موضوع نادرا ما يتطرق له علماء الاجتماع وهو موضوع قديم والجدال عنه بأسلوب الدراسة العلمية بدأ منذ أن وضع داروين نظريته في الاختيار الطبيعي ولو أن نظرية داروين ناقصة نقصا شديدا عندما تطبق على السلوك الإنساني. إن الموضوع الذي أثاره هذا الجدال هو مشروع الجينوم البشري واحتمال أن يختزل السلوك الإنساني إلى معرفة جينات محددة تتحكم في السلوك الاجتماعي وبالتالي فبإمكاننا إذا ما تحكمنا في الجينات من خلال الهندسة الوراثية أن نتحكم في السلوك الإنساني. والداروينيون الجدد تخلوا الآن عن فكرة الاختزال بصورة عامة ويتكلمون عن الوراثة المزدوجة لأن الثقافة والجينات يمكنهما أن يقدما تفسيرين منفصلين ولكن مترادفين.
انتقال الثقافات
ومردفا أوضح النقيب أهمية تلك التفسيرات لموضوع الوراثة الثقافية بقوله: إن أهمية تلك التفسيرات لموضوع الوراثة الثقافية التي يهتم بها علماء النفس التطوري بشكل خاص أدارت ردود فعل سلبية كثيرة ومن الجدال بشأنها بين جماعة علم النفس التطوري ولكنه جدال لم نستفد - للأسف - حتى الآن منه أو أننا لم نتطرق اليه في علومنا الاجتماعية وخصوصا في موضوعات علم الاجتماع السياسي وعلم النفس الاجتماعي، لكن الذي يعنينا من هذا الجدال هو السؤال الذي لا نجد له إجابة مرضية وهو كيفية انتقال الثقافة من جيل إلى جيل، إن داوتن من جماعة علم النفس التطوري وهو يقول إن الثقافة تنتقل عن طريق الميمات وهي عند داوتن شحنات من المعلومات التي تصل إلينا ليس عن طريق التنشئة الاجتماعية، إنما عن طريق الميديا ووسائل الإعلام وعن طريق القيم السائدة كما في الأفكار والموضات حتى في أسلوب أو نمط الحياة.
موجات من الأفكار
وشارحا لتفسير آخر، أضاف: في تفسير آخر لكيفية انتقال الثقافة هناك الكمومات، والكمومات هي موجات من الأفكار من القيم والمحرمات والمسموحات وهو قول موجود منذ نحو قرن ونصف القرن أو قرن وربع القرن حين تصور بتريم سوشن أن هناك عقلية عامة وأن هناك انفعالات مهيمنة تسيطر على كل مجتمع من المجتمعات في فترات زمنية محددة وتكلم عن سيادة الأفكار التي تتجاوز الحواس والتي تسود في فترة زمنية معينة ثم بسبب تغير الأوضاع، الصراع بين العلم والدين. ويضع سوشن دورات لسيادة الأفكار إلى الأفكار المادية إلى الأفكار الحسية ويقول إن هناك أربعة أنواع من المجتمعات تناوبت على تطور الإنسان بحسب تصوره. وذكر ذلك في كتاب له كان في مجلدين وأصبح في أربعة مجلدات. وتلك الفكرة عن سيادة الأفكار تحتاج إلى شيء كثير من التفصيل وضبط الدورات، ولكن - للأسف - بسبب العمل الموسوعي وبسبب البحوث التي تجرى على مستوى ضيق وعلى فترة زمنية أقصر لم يجرؤ أحد من علماء الاجتماع اليوم على دراسة التاريخ الإنساني خلال ثلاثة آلاف أو ألفين وخمسمئة عام كما عمل ذلك سوشن، ذلك أن العقليات التي تطبع المجتمعات بطابعها خلال فترات زمنية مختلفة هي التي تناوبت على المجتمعات البشرية خلال ألفين وخمسمئة عام.
صحيفة الوسط البحرينية
العدد : 881 | الأربعاء 02 فبراير 2005م الموافق 25 صفر 1441هـ
نفى عالم الاجتماع الكويتي د.خلدون النقيب أن يكون هناك مصدر واحد للتغير الاجتماعي، مستدركا أنه من الممكن أن تكون متطلبات التكيف مع البيئة أو ما يسمى بلغة الداروينيين المساومة التطورية أحد مصادر هذا التغير وكذلك التغيرات في المناخ التي يتسبب فيها نشاط الانسان وابتكاراته التقنية أو أن تتسبب النظم الاقتصادية والصراع الثقافي في التغير الاجتماعي وأن يكون صراع الأفكار والايديولوجيات أحد أسباب التغير الاجتماعي.
وأوضح النقيب خلال محاضرته "آليات التغير الاجتماعي"، ألقاها في مركز الشيخ إبراهيم بن محمد آل خليفة للثقافة والبحوث في محافظة المحرق، الاثنين 31 يناير/ كانون الثاني 2005: أن جميع الأشياء تحمل عند ميلادها بذرة فنائها - كما يقول ماركس - وجميع الأشياء مبرمجة للتغير بحسب لغة العصر. وإن التغير الاجتماعي هو التبدل والتحول الذي يقع أو يطرأ على النظام الاجتماعي بشكل مستمر وليس كحالات طارئة.
ولفت النقيب إلى ضرورة لا تتناقض التفسيرات التي نتوصل إليها مع بعضها بعضا ودلل على ذلك بقوله "سأضرب مثالا لذلك من قبل ستيفن روز حين يقول: تخيل أن خمسة علماء أحياء خرجوا في نزهة ورأوا ضفدعة تقفز في بحيرة. إن عالم الأحياء يقول إن العلامات المكونة من البروتينات مكنتها بسبب اندلاقتها بالماء من القفز، وذلك هو التفسير الاختزالي للحركة. بينما عالم الفسيولوجيا يفسر حركة القفز بأنها نتيجة تركيبة أرجل الضفدعة وجهازها العصبي، حين يقول إن دوائر معينة سارت من عدسة عين الضفدعة إلى دماغها ومن ثم إلى أعصاب الحركة وإلى العضلات، وفي الوقت الذي يقول فيه عالم الأحياء التطورية إنه بمرور الزمن تكون الجهاز العصبي والتكوين العضلي للضفدعة يشير عالم سلوك الحيوان إلى أن وجود أفعى على الشجرة دفع الضفدعة إلى الغوص هربا من الأفعى. بينما عالم الأحياء التطورية يذكر أن عمليات الاختيار الطبيعي قد مكنت أسلاك الضفدعة من القفز بسرعة هربا، ما أعطاها فرصة للبقاء والتناسل.
أهمية التعدد
وموضحا أهمية هذا التعدد في التفسيرات قال النقيب: يجب ألا ننزعج من هذه التعددية في التفسيرات وخصوصا من علوم الاجتماع. ذلك أن هذه التعددية هي تعددية معرفية ولا يمكن اختزال أي من هذه التفسيرات إلى تفسير آخر. وهذا ينطبق بدرجة كبيرة على دراسة التغير الاجتماعي شريطة ألا تتناقض هذه التفسيرات مع بعضها بعضا. ثم إن الدراسة العلمية للتغير الاجتماعي تتطلب تعريفا واسعا للعلم أوسع من التجارب القابلة للتكرار في المختبر، إذ إن العلم نشاط - في تقديري - يهدف إلى الحصول على معرفة موثوقة عن العالم المحيط بنا، ومن هذا المنطلق فإن المعرفة المنطوقة عن التغير الاجتماعي ومظاهرة متولدة عن المنهج المقارن للديناميات الاجتماعية الثقافية.
حدود وقيود الاختزال
ومؤكدا وجود حدود وقيود على الاختزال أضاف النقيب: يتضح من المثال السابق في حال علم الأحياء أن هناك حدودا وقيودا على الاختزال. وأريد أن أؤكد هنا أن الاختزال محدود جدا في العلوم الاجتماعية وفي علاقة العلوم الاجتماعية بالعلوم الطبيعية، ولكن ما تأثير بنائنا الحيوي على سلوك الإنسان؟ وهو موضوع نادرا ما يتطرق له علماء الاجتماع وهو موضوع قديم والجدال عنه بأسلوب الدراسة العلمية بدأ منذ أن وضع داروين نظريته في الاختيار الطبيعي ولو أن نظرية داروين ناقصة نقصا شديدا عندما تطبق على السلوك الإنساني. إن الموضوع الذي أثاره هذا الجدال هو مشروع الجينوم البشري واحتمال أن يختزل السلوك الإنساني إلى معرفة جينات محددة تتحكم في السلوك الاجتماعي وبالتالي فبإمكاننا إذا ما تحكمنا في الجينات من خلال الهندسة الوراثية أن نتحكم في السلوك الإنساني. والداروينيون الجدد تخلوا الآن عن فكرة الاختزال بصورة عامة ويتكلمون عن الوراثة المزدوجة لأن الثقافة والجينات يمكنهما أن يقدما تفسيرين منفصلين ولكن مترادفين.
انتقال الثقافات
ومردفا أوضح النقيب أهمية تلك التفسيرات لموضوع الوراثة الثقافية بقوله: إن أهمية تلك التفسيرات لموضوع الوراثة الثقافية التي يهتم بها علماء النفس التطوري بشكل خاص أدارت ردود فعل سلبية كثيرة ومن الجدال بشأنها بين جماعة علم النفس التطوري ولكنه جدال لم نستفد - للأسف - حتى الآن منه أو أننا لم نتطرق اليه في علومنا الاجتماعية وخصوصا في موضوعات علم الاجتماع السياسي وعلم النفس الاجتماعي، لكن الذي يعنينا من هذا الجدال هو السؤال الذي لا نجد له إجابة مرضية وهو كيفية انتقال الثقافة من جيل إلى جيل، إن داوتن من جماعة علم النفس التطوري وهو يقول إن الثقافة تنتقل عن طريق الميمات وهي عند داوتن شحنات من المعلومات التي تصل إلينا ليس عن طريق التنشئة الاجتماعية، إنما عن طريق الميديا ووسائل الإعلام وعن طريق القيم السائدة كما في الأفكار والموضات حتى في أسلوب أو نمط الحياة.
موجات من الأفكار
وشارحا لتفسير آخر، أضاف: في تفسير آخر لكيفية انتقال الثقافة هناك الكمومات، والكمومات هي موجات من الأفكار من القيم والمحرمات والمسموحات وهو قول موجود منذ نحو قرن ونصف القرن أو قرن وربع القرن حين تصور بتريم سوشن أن هناك عقلية عامة وأن هناك انفعالات مهيمنة تسيطر على كل مجتمع من المجتمعات في فترات زمنية محددة وتكلم عن سيادة الأفكار التي تتجاوز الحواس والتي تسود في فترة زمنية معينة ثم بسبب تغير الأوضاع، الصراع بين العلم والدين. ويضع سوشن دورات لسيادة الأفكار إلى الأفكار المادية إلى الأفكار الحسية ويقول إن هناك أربعة أنواع من المجتمعات تناوبت على تطور الإنسان بحسب تصوره. وذكر ذلك في كتاب له كان في مجلدين وأصبح في أربعة مجلدات. وتلك الفكرة عن سيادة الأفكار تحتاج إلى شيء كثير من التفصيل وضبط الدورات، ولكن - للأسف - بسبب العمل الموسوعي وبسبب البحوث التي تجرى على مستوى ضيق وعلى فترة زمنية أقصر لم يجرؤ أحد من علماء الاجتماع اليوم على دراسة التاريخ الإنساني خلال ثلاثة آلاف أو ألفين وخمسمئة عام كما عمل ذلك سوشن، ذلك أن العقليات التي تطبع المجتمعات بطابعها خلال فترات زمنية مختلفة هي التي تناوبت على المجتمعات البشرية خلال ألفين وخمسمئة عام.
صحيفة الوسط البحرينية
العدد : 881 | الأربعاء 02 فبراير 2005م الموافق 25 صفر 1441هـ