محمد عطية الأبراشي - الشخصية

مقدمة:

إذا تقدم أحد أقاربك من الشبان لوظيفة من الوظائف، ثم سئلت عما تعرفه عنه بالتفصيل، فقد تجيب بأنه: شاب أمين نزيه، صادق في قوله، كريم الخلق، حسن السلوك، سليم القلب طاهر السريرة، كثير التفاؤل، قليل التشاؤم. يقول ما يعتقد، ويعتقد ما يقول، هذا من الوجهة الخلقية. أما من الوجهة العقلية فهو: ذكي، حاضر البديهة، حسن البصيرة، صافي الذهن، صادق الحس؛ وأما من الناحية الاجتماعية فهو محب للتعاون، عدو للأثرة، يشارك الناس في مسراتهم، ويواسيهم في أحزانهم، يوقر الكبير، ويعطف على الصغير. مطيع للرئيس، وفيّ للنظير؛ وأما من الناحية الجسمية. فهو قوي الجسم، معتدل القامة، حسن الهيئة، جميل الذوق؛ وأما من الوجهتين العلمية والعملية فهو مثل في النشاط وأداء الواجب، واسع الإطلاع، غزير المادة. . . . . . وما إليها من الصفات المختلفة التي يتصل بها ذلك المثل الأعلى من الشباب

فمجموع هذه الصفات هو عبارة عن شخصيته العليا بصورة واضحة مفصلة. وقد أثبت علم النفس التطبيقي أن الشخصية شرط أساسي للنجاح في الحياة، وأن المؤهلات العلمية وحدها لا تكفي للنجاح، بل يجب أن تصحب بالشخصية القوية. فكثيرون من الأطباء والمدرسين والمحامين وغيرهم قد فشلوا في حياتهم العملية لضعف شخصياتهم مع كفايتهم من الوجهة العلمية.

ولكن ما تلك الشخصية التي طالما سمعنا الناس ولا نزال نسمعهم يتكلمون عنها، ولا ندري من أمرها شيئاً؟ وإجابة عن هذا السؤال نقول:

تعريف الشخصية

ليس من السهل أن نحدد الشخصية ونعرفها تعريفاً علمياً جامعاً مانعاً؛ فهي كالكهرباء والمغناطيسية والجارس (الراديو) لا تعرف إلا بآثارها. ولكن هذا كله لا يمنعنا أن نحاول البحث عن سرها وتعريفها ولو تعريفاً تقريبياً فنقول: (1) الشخصية هي مجموع الصفات والمزايا الذاتية التي يمتاز بها الشخص من غيره. أو هي:

(2) مجموعة الصفات العقلية والخلقية والجسمية والإرادية التي يتوج بها الإنسان. أو هي:

(3) مجموعة الفروق التي تميز الشخص من غيره.

والحق أن هذه التعريفات كلها تقريبية، وأن الشخصية لا يمكن تحليلها إلى عناصرها الأولية تحليلاً محساً، ولكنها تبدو لنا في مقدار ما عند الشخص من الاستقلال الفكري، وحضور البديهة، وسرعة الخاطر، وقوة الروح، وهي كالحب والكره اللذين لا يمكن تعليليهما عادة، فقد تحب شخصاً أو تبغضه لمجرد رؤيته بدون معرفة سابقة، وقد لا يمكنك إبداء السبب. وكل ما تستطيع أن تذكره هو أن تقول: إني أحبه أو لا أحبه. أما السبب فلا يمكن تعليله لأنه أمر معنوي وسر خفي يتعلق بشخصية ذلك الرجل. وقد يكون الشعور بالحب أو البغض ناشئاً عن صفات أو عيوب خاصة في الشخص الذي تعرفه وتقابله من حين لآخر، فنحن نحب فلاناً مثلاً لأنه مخلص كريم شجاع متفائل، يواسي الفقير ويساعد البائس. ونكره فلاناً لأنه لا يعرف الإخلاص، والإخلاص لا يعرفه، يتمثل فيه البخل، والجبن، والتشاؤم، والقسوة والغلظة، لا يحن إلى مسكين ولا يتألم لحزين. وفي مثل تلك الأحوال نعرف إلى حد ما سبب المحبة أو الكراهة، ولكن ليس ذلك بسهل دائماً؛ فقد نحب الشخص في أول لحظة نقابله فيها، وقد نبغضه لأول وهلة قبل أن نعرف شيئاً عنه، نحبه لمظاهره أو نكرهه لهذه المظاهر، ولا يمكننا أن نوضح الأسباب التي جذبتنا إليه، أو التي نفرتنا منه. والسبب الجوهري هو أن شخصيته محبوبة أو مكروهة.

هل الشخصية هبة طبعية أو صفة مكتسبة؟

والجواب أن الشخصية توهب بالفطرة، وقد تكتسب بالتربية الحق، ولكن الطيعية أقوى من المكتسبة. ولو كانت الشخصية هبة طبيعية فحسب لكنا ضحايا الظروف، وما كان للتربية أي أثر في تكوين العظماء من رجال الدين والعلم والأدب والفن. ولكن أثرها لا ينكر في تكوين الشخصية والعظمة في نفوس العظماء. وهنا نسأل هل قامت التربية وقام المربون حقيقة بواجبهم نحو تربية الشخصية؟ هل قاموا بواجبهم وقد أصبحنا نفكر فيما فكر فيه غيرنا، ونتكلم بما قاله سوانا، ونفعل مثل من سبقنا؟ إننا أصبحنا مقلدين في أفكارنا وأقوالنا وأفعالنا، مهملين أنفسنا وشخصياتنا، لأن التربية تربية إتكالية، لا تعرف معنى الثقة بالنفس والاعتماد على النفس في التفكير والقول والعمل. وقد نادى كبار المربين وبخاصة (السر برسي نن) المربي الإنجليزي الكبير بأن الغرض من التربية هو تربية الشخصية المستقلة، ولكن كتب التربية في واد، والمدارس في واد آخر. فبينما نقول: يجب أن يربى الفرد تربية كاملة من كل الوجوه، جسماً وعقلاً وخلقاً واجتماعاً، نجد أن الفرد مهمل إهمالاً تاماً من جميع الوجوه، وأن شخصيته تطبع بالطابع المدرسي، وتصب في قالب خاص، فتفقد مظاهرها الطبيعية. كل ذلك حباً في النظام، ولسنا ننكر أن النظام يجب أن يكون سائداً، بل إننا ننادي بالنظام، ونقول دائماً: النظام هو الحياة، ولكننا نعترض على الطريقة التي يسود ذلك النظام، تلك الطريقة التي تقتل شخصية الطفل وتضعف مواهبه، ونريد طريقة أخرى بها يستتب النظام من غير إضرار بعقلية الطفل أو وجدانه أو إرادته أو جسمه أو شخصيته، وليست هذه الطريقة بسهلة، لأنها تتطلب مشاركة في الوجدان، وفهماً لكل فرد من حيث الذكاء والميول والبيئة والظروف. . وما ذلك بالأمر الهين، فنحن لا نفكر إلا في المظاهر، والنظام الشكلي، والسكون العسكري. مهما ضحينا في سبيل هذه الأشياء من الضحايا. وإذا تحققت الثقة بين المعلم والمتعلم؛ ووجدت الصلة الروحية بينهما فمن المحال أن تكون هناك صعوبة في نظام أو غيره، ولن تضحي شخصية الفرد أو الأفراد بعد.

الاختلاف في الشخصية

كما أن الناس يختلفون في الذكاء والميول الفطرية كذلك يختلفون في الشخصية؛ فبينما تجد هذا قوي الشخصية قد تجد ذاك خاملاً ضعيف الشخصية، وكما أن الشخصية تختلف باختلاف الأفراد كذلك تختلف باختلاف الشعوب؛ ففي الشخصية الألمانية تتمثل الروح العسكرية، والطاعة العمياء، والاتكال على الحكومة في كثير من الأشياء. وفي الشخصية الإنجليزية تبدو الثقة بالنفس، واحترام الذات، وتقدير الحرية الشخصية والاستماتة في سبيلها. وفي الشخصية الأمريكية تظهر الروح العامة أو (الديموقراطية)، وعدم الاكتراث للتقاليد، لأن أمريكا كأمة حديثة لا تقاليد لها. وفي الشخصية الفرنسية تتغلب العاطفة على التفكير، والنظريات على الأعمال. وتكثر الآمال، والميل إلى الخيال، وحب الظهور؛ فكل فرنسي يريد أن يكون ضابطاً إذا تقدم للحرب. ولا ندري من أين يؤتى بالجنود إذا كان الجميع ضباطاً، وإذا كانوا ضباطاً فإنهم لا يفكرون في الجنود ولا يحتفظون بهم خوفاً من أن يقل احترامهم. والمثل يقال في العلاقة بين المدرسين والتلاميذ، فأولئك في واد، وهؤلاء في واد آخر، والصلة بين هؤلاء وأولئك لا تتجاوز صلة الحجرة الدراسية تزول بمغادرتها وتتجدد بالعودة إليها.

والشخصية صفة نسبية وقوة سرية توجد في كل شخص إلى حد ما، وتختلف في نوعها وقوتها باختلاف الأشخاص. وقد تكون بارزة واضحة في بعض الأفراد يشعر بها الإنسان في الحال، وقد تكون كامنة خفية في البعض الآخر.

وليست الشخصية مقصورة على جنس دون آخر. ولا على طبقة دون طبقة أخرى، فكما تكون بين المتعلمين تكون بين غيرهم، وكما تكون بين المدنيين تكون بين القرويين. وكما تكون بين الرجال تكون بين النساء، وكما تكون بين الأغنياء تكون بين الفقراء، ولكلٍ تفكيره وتقاليده وطرقه ومعيشته الخاصة. والعاديون من الناس قد يكونون في ضنك من العيش، ولكن لهم شخصية خاصة، فهم يستطيعون أن يتحدثوا عن الحوادث المحلية، ويذكروا حقائق قومية، بروح قوية لا تنقص عن روح الكبار من القوم وقد يمتازون عنهم لأنهم لا يرددون ما يقرؤون من أفكار غيرهم، ولكنهم يصلون إلى هذه الحقائق بتفكيرهم الخاص.

(يتبع)

محمد عطية الأبراشي
المدرس بكلية الآداب بالجامعة المصرية


مجلة الرسالة - العدد 62
بتاريخ: 10 - 09 - 1934
أعلى