أدب السجون مبارك وساط - تلك الأيّام..

في سنة 1977، كنتُ قد انتقلت إلى السنة الثالثة فلسفة بكلية الآداب ( وكنتُ التحقتُ بكلية الآداب، بعد سنتين قضيتهما في كلية العلوم، وبعد أن انسحبتُ من هذه الأخيرة آسفاً لأسباب وأسباب)، ففكرت أنه بإمكاني أن أشتغل وأستمر في دراسة الفلسفة والتهيّؤ للامتحانات عن بعد. وبالفعل، تقدّمتُ بطلب لوزارة التعليم فتمّ تعييني مُدرّساً لمادّة العربيّة. ثمّ حلّ يومٌ من أبريل 1979 ، فإذا بي أُعتقَل ثمّ أجد نفسي في سجن مدينة آسفي ( وستُنقَل مجموعتنا منه، لاحقاً، إلى سجن مرّاكش).
كانت المجموعة المذكورة قد " وقعتْ في الأسر "، إذ اتُّهِمَ أعضاؤها بـــ " الاخلال بالنّظام العامّ " و"التّحريض على الإضراب"، وقِسْ على ذلك.
ما الذي ذكَّرني بتلك " الحَبْسة "؟ صورة للمرحوم سي المغامر - رأيتها عند أحد أفراد عائلتي، وقد كان هذا الأخير من تلامذة رفيقي في السجن آنذاك، وقد كان سي المغامر إنساناً رائعاً وكان أكبر المجموعة " الأسيرة " سِنّاً وأكثرها مرحاً. وهو ابن أخت شاعر الحمراء ( ابن إبراهيم المرّاكشي)، وقد كان يحفظ شِعْرا كثيراً، وكانَ يضيقُ بالسّجن بشِدّة في بعض الأحيان، وكثيراً ما يستحضر أبياتاً من قصيدة لابن زيدون قالها وهو أيضاً مسجون:

"ما عَلى ظَنِّيَ باسُ / يَجرَحُ الدَهرُ وَياسُو
أَذْؤُبٌ هامَت بِلَحمي /فَانْتِهاشٌ وَانْتِهاسُ
كُلُّهُم يَسأَلُ عَن حالي / وَلِلذِئبِ اعتِساسُ
/ إِن قَسا الدَّهرُ فَلِلماءِ / مِنَ الصَّخرِ انْبِجاسُ
وَلَئِنْ أَمسَيْتُ مَحْبوساً / فَلِلغَيثِ اِحتِباسُ ".

بعد أن نقلونا من سجن آسفي إلى سجن مرّاكش، تفرقت مجموعتنا على ثلاث زنازين، وهكذا أصبحتُ في نفس الزنزانة مع رفاق ثلاثة، همْ : سي المغامر وسي محمّد. ن و ع. م. الذي كان طويلاً جِدّا، وعريض المنكبين كما يُقال، وكان يتمدّد بالعرض في الزّنزانة فيكون على من يريد أن يمرّ من طرف منها إلى الطّرف المقابل أن يقفز من فوقه، ولذا أسماه سي المغامر ب"ناقة صالح"!
وقد كان سي محمد ن. أيضاً طيباً وشديد الميل للمرح، وكان يحلو له أن يمزح مع سي المغامر مزاحاً قد يجده هذا الأخير مبالغاً فيه، فيحاول سي المغامر أن يكيل له الصّاع صاعين. وفي أحد الأيّام مرض سي محمد ن. وأُجْرِيَتْ له فحوص طبية، من بينها تحليل للدّم، وإثر ذلك نزل عليه نبأ رهيب: "راه فيك السّيفليس" (أنت مصابٌ بالزُّهريّ أو السّفلس)، قال له الممرض أمامنا. وقد استنكر سي محمد ن. ما نُقِل إليه، فهو -حسب ما أكّد لنا- لم يُقِمْ في حياته علاقات يمكن أن يَترتّب عنها مرضٌ مثل هذا. وأبى سي المغامر إلّا أن يُسَمِّيَه "سي محمّد فيليس"! وسيظهر لاحقاً أن سي محمد ن. لم يكنْ مُصاباً بشيء، وأنّ ممرّضاً ما قام بتحليل دم سجين آخر واعتبر، رغم أنف الواقع، أنه كان دم سي محمد ن. ولكنّ ظهور الحقيقة لم يُثْنِ سي المغامر عن الاستمرار بمناداة صاحبنا ب" سي محمد فيليس"!..

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى