محمد فتحي المقداد - النوافذ المحطمة (مقالات ملفقة ٢٣ /2)

تتفتّح نوافذ الذكريات في قلبي على ساحات طفولتي في تأسيس وعيي، كم كانت تُبهرني وتخطف انتباهي للتركيز على نوافذ بيت الأستاذ (عبدالمنعم) الواسعة وارتفاعها غير المعتاد في مدينتنا، المُتشكّلة على شكل قوس نصف دائرة، المشرّبة بألوان الزّجاج المعشّق بجماله اللّافت للنّظر بمثلّثاته المتناظرة والمتعاكسة، وذلك قُبيل وصولي إلى (بوابة الهوى) التي كانت المدخل الغربي إلى بُصرى الشام في الشارع المستقيم المحفوفة بمهابة التاريخ تظلله أشجار الكينا والفلفل على جانبيْه في منظر قلّ نظيره، وصولًا (للبوابة النبطيّة) في الشرق.
ومن بُصرى الشام إلى باريس للوقوف التأمّلي للواجهة الرئيسيّة لكاتدرائيّة (نوتردام) و نوافذ ها المُتسعة طولًا وعرضًا لتُفصح عن فلسفتها بتجسيد العلاقة ما بين نور العقل والقلب والحواسّ، ليأتي نور البصر بتفسير جدليّة العلاقة بتحوّل المشهد الماديّ إلى معنويّ، والرّبط ما بين اللامحسوس والرّوحيّ، ويتجلّى هذا المنحى في نافذة (الزهرة) بتشكيلها الدائريّ.
والنافذة جمعها نوافذ، وهي الشبّاك في الجدار ينفذ منه النّور والضوء والهواء إلى الحجرة، ومنها نافذة تضيء الحجرة من فوق (السقف)، وفي حوران تسمّى (الرّوزنة).
ولعلّه من النّادر لأيّ إنسان إلّا أن يكون لازم النّوافذ وتشبّث بها؛ لتصريف ألمه، أو انتظارًا لقادم من غياب، أو لوداع واختزان آخر ملامح المُفارق.
والنّافذة تُشرَع للرّيح وللقلب، وتُفتح إذا ما جئتَ غُرفتك لطرد عتمة المكان. وخلف النّوافذ تلتصق آذان المُخبرين والجواسيس لاستراق الأخبار والأسرار. ولا تفتأ عيون المُحبّين والعاشقين تطلُّعًا إلى النّوافذ لرؤية اليد التي تفتحها وإطلالة وجه المحبوبة؛ لتتكلم العيون وتصمت الشّفاه.
وإذا كان الرّجل مُطاعًا، حازمًا، ماضٍ في كلّ أموره، فهو رجلٌ نافذٌ، والأمر النّافذ أي المُطاع، المُنجز، مُطبّق ساري المفعول، نهائيٌّ قاطع.
وبالإطلال عبر الأطلسيّ غرباً ظهرت نظريّة (النوافذ المُحطّمة) فقلبت الموازين في العقد الماضي، وغيرت في قوانين الإدارة عمومًا، وفي الإدارة المدنيّة خصوصاً على مستوى المدن الأمريكية. مثلًا فُرضت الضرائب على كلّ من يرمي المُخلّفات في الشوارع مهما صغر حجمها، ونُظفت الجدران يوميًّا من كلّ ما يُكتب عليها، وغُسلت وسائل المواصلات يوميًّا ونظفت؛ فأحسّ النّاس أنّ من واجبهم المساهمة في الحفاظ على هذا الإنجاز الحضاريّ، وعلى مستوى المرور فُرضت الضرائب على كل مخالفة صغيرة (مهما صغرت) فقلّت المخالفات الكبيرة، واختفت الحوادث، وعلى المستوى الأمنيّ تحوّلت (نيويورك) تلك المدينة المعروفة بالإجرام والسطو والفوضى في حقبة الثمانينيّات - بعد تطبيق هذه النظرية - إلى مدينة أكثر أمناً ونظافة وترتيباً .. ثم تبنّت الإدارات الحكوميّة والمؤسّسات الخاصّة هذه النظريّة كأساس مُهمٍّ في فن الإدارة لتطوير العمل ورفع الإنتاجية والارتقاء بالمنتج.
وهي نظرية في علم الجريمة لإرساء القواعد والإشارة إلى تأثير الفوضى و التخريب على المناطق الحضرية المتمثلة بالجرائم والسلوكيّات المعادية للمجتمع. نظرية النوافذ المحطمة هي نتاج فكر المُنظّريْن (واضعي النظريات) في علم الجريمة (جيمس ويلسون - وجورج كيلنج)
وتتلخّص هذه النظريّة ببساطة:
(أن الجريمة هي نتاج الفوضى، وعدم الالتزام بالنظام في المجتمعات البشريّة. إذا حطّم أحدهم نافذة زجاجيّة في الطريق العامّ، وتُركت هذه النافذة دون تصليح؛ فسيبدأ المارّة في الظنّ بأنّه لا أحد يهتمّ.
وبالتالي فلا يوجد أحد يتولّى زمام الأمور، ومنه فستبدأ نوافذ أخرى تتحطّم على ذات المنوال، وستعمّ الفوضى البيت المقابل لهذه النافذة، ومنه إلى الشارع، ومنه إلى المجتمع كله).
ولا تزال مقولة غاندي: (افتحوا النّوافذ لدخول الهواء الجيّد). حيث أصبحت النّوافذ الكبيرة سِمة الأبنية الحديثة؛ فتجعل البيوت مُضاءة ومُهوّاة لائقة صحيًّا لقاطنيها، (فالبيت الذي تدخله الشمس لا يرى أهله المرض). وهذا خلاف الأبنية القديمة في (بُصرى) ذات النّوافذ الصغيرة وبعضها لا يتعدّى فُتحة صغيرة إمّا فوق الباب، أو في جانب عالٍ من الجدار. وإذا اعتبرنا الأبواب من جنس النّوافذ فإنّها كانت صغيرة نسبيًّا؛ لتسهيل حمايتها من اللصوص والغُزاة.
ومن يتمتّع بالذكاء والذّهن والعقل الثّاقب فهو نافذ البصيرة، وذا النّفوذ والتأثير والمكان فإنّ شخصيّته نافذة.
وبالتوقّف عند مصطلح (نافذة الإطلاق) فهو فترة زمنيّة قصيرة، عندما تُطلق سفينة فضائيّة أو قذيفة لتحقيق هدفها أو مُهمّتها.
و في عالم المال والأعمال(نافذة الخصم) مكانٌ في بنك الاحتياط أو البنك المركزيّ؛ يمكن فيه للبنوك أن تقترض بخصم مُقابل ضمان.
وهناك أيضًا النّافذة الأولى: عبارة عن شُبّاك الإقراض بشروط تجاريّة، أي بشروط السّوق من البنك الدوليّ، والنّافذة الثانية: شُبّاك الإقراض المُيسّر من مؤسّسة التنمية الدوليّة، والنافذة الثالثة: شُبّاك إقراض جزء بشروط السّوق، والجزء الآخر بشروط مُيسّرة.
و(نافذة العواصف) نافذة ثانويّة مُلحقة بالنّافذة العاديّة للحماية من الرّياح والبرد.
ومن تلقّى طعنة نافذة في القلب فقد خرقته وتجاوزته، وأحدثت شقّيْن من الطرفيْن لتوغّلها بحدّة،
وفي أساليب الإدارة الحديثة هناك (نافذة التغيير) عبارة عن فترة زمنيّة منتظمة مُتفّق عليها؛ لتنفيذ التّغييرات والإطلاقات بأقلّ تأثير ممكن على الخدمات، وعادة ما تُوثّق في اتفاقيّات مستوى الخدمة.
وللمتتبّع فإنّ الرّبيع العربيّ جاء نافذة للتغيير فاقت مستوى التوقّعات؛ بارتداد الدكتاتوريّات القائمة على إرادة شُعوبها لاحتوائها بأساليب وحشيّة غاية في القمع والقتل والتّشريد والتدمير الممنهج.
وإذا فتحنا النّافذة الثقافيّة لمتابعتها ورؤية النّتاجات الأدبيّة الروائيّة، ونُطالع رواية (نافذة على الجحيم - عبدالوهّاب مطاوع) ورواية (نافذة في السّماء - ياسمين خليفة) ورواية (نافذة من ورق - أمنية المدني).
وفي إطلالتي من نافذة مُلفّقتي تواثبت أفكاري؛ لِوُلُوج نوافذ الكون أجمع صُعودًا إلى نوافذ السّماء الأعلى بسموٍّ روحيّ تأخذني بعيدًا في رحلة خلاصٍ أبديّ من قبضة نوافذ محدودة لا تصلح إلّا لرؤية حيّز صغير.
تعدّدت النّوافذ بأشكالها وألوانها واستخداماتها ومهمّاتها، لكنها تبقى نافذة تواصل مع الآخر والمحيط الخارجيّ والداخليّ تأثّرًا وتأثيرًا. ونافذة النّوافذ الأرقى على الإطلاق هي نافذة الأخلاق.
و (شكرًا للطير إذ راح ينقر النافذة؛ مُعلنًا بأن النّهار راح يدقُّ كثيرًا، إذ أقلقه الأرق الذي يعذبني). شاعر داغستان (رسول حمزاتوف).

عمّان - الأردنّ
٢٩/ ١٠ / ٢٠١٩

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى