صابر رشدي - أيام السبتية..

هنا السبتية، التابعة لقسم بولاق أبوالعلا، خلاصة الطبيعة المصرية فى قلب القاهرة. أطياف من أرجاء المحروسة، ذابوا فى دروبها ، مخلصين لروحها الخاصة، وقوانيها السرية المدفونة تحت أعماقها. شارع لايوصد االأبواب فى وجه أحد، عالم مفعم بروح شعبية خالصة، ونزوع إلى الحرية، ربما ملمح راديكاالى يتسم به معظم أبناء هذه المنطقة، ويجعلهم غير هيابين حيال الخطر، هؤلاء الذين يتعاطون الحياة بجسارة وثقة.
هنا المنشأ، الطفولة والصبا وسنوات الشباب الأولى .
فتوات، وخطرون، وناس فى منتهى الطيبة، تجار كبار. رجال أعمال ، أصحاب توكيلات كبرى ، مليارديرات يعيشون بين أبناء الحى العاملين لديهم فى متاجرهم ، ثم يعودون أخر االيوم إلى منازلهم الفارهة بالزمالك أو ضاحية المعادى .ربما أرسل أحدهم عاملا الى أحد المسامط لإحضار رغيف "سمين" ، ثم يذهب لتناول العشاء ليلا مع رئيس الوزراء. الوقائع التى تفوق الأساطير، لكنها تكتسب المنطق إذا مرت بمراحل نقدية حللت تناقضاتها الكبرى . إبراهيم كروم. فتوة بولاق الأسطورى، وما جاورها من أحياء القاهرة، التعبير االشعرى لفكرة المخلص، ومحامى الفقراء. بيته فى الحارة نفسها، على مبعدة خطوات قليلة من بيتى، بالطبع لم اره ، لأنه توفى قبل مجيئى إلى هذا العالم، لكن أعرف ابنائه جيدا ، وأحفاده بينهم أصدقاء لى .وكثير من أبناء أشقاءه. رجل يحكى عنه العالم حتى هذه اللحظات دون أن يعرف شيئا عن عائلته الكبيرة . ومكان تمركزهم. فهوفى المخيلة الجمعية شخصية لا نظير لها .
هنا العلاقات الإجتماعية الجيدة، والعلاقات الممزقة التى تصل إلى الصراع المسلح بين عائلتين على أشياء لا تذكر منها شيئا. الأقوال المزدوجة التى يلقيها نواب الحى وقتها. دائما ماكانوا من طائفة المحامين، ووكلاء لكبارتجار المخدرات فى المنطقة.
السيدات الجميلات اللواتى يمثلن الجمال القاهرى العتيد، الفتيات السعيدات . الشباب الذين يتسكعون أمام مدرسة قاسم امين الثانوية للبنات . ثم تأتى الشرطة للقبض عليهم.
إننى أضع هنا ومضات خاطفة، وجمل برقية سريعة، موزاييك متعجل. فى محاولة لاختراق هذا التاريخ المنفلت من ذاكرة تحاول القبض على اللقطات البارقة التى تتصاعد من هذا المكان . فالأمريستحق سردا أنثروبولجيا، يعمق هذه النوستالجيا ويضفى روحا تليق بهذا الحنين، لرصد التحولا ت الدراماتيكية التى حدثت فى مصر خلال العقود الأخيرة. حيث التحولات كانت اكثر وضوحا عندما مرت من هنا .
شارع السبتية. يبدأ من ميدان رمسيس وينتهى عند كورنيش النيل برملة بولاق. تتفرع منه دروب وشوارع تعج بالبشر والحياة المتواصلة. فى القلب منه مسجد " أحمد طلعت " . بداية تعلقى بالمساجد، والدروس الأولى لتحفيظ القرآن الكريم. مثل لى هذا المكان جنة كانت تساورنى فى أحلامى كثيرا، إنه تحفة معمارية ، بناه أحد رجال العصر الملكى وألحق به مدرسة، ومحلات وأوقف له عد من الأفدنة الزراعية فى وجه بحرى .لكنها نهبت جميعا .لابد من حكاية هذا الموقع المؤثر فى حياتى باستفاضة، وعلى نحو يوازى حبى له.
المخدرات. لا تستطيع أن تذكر السبتية وتتجاوز هذا التاريخ السرى ، والتحولات العنيفة فى أمزجة المصريين المحدثين، التى تواكبت مع سنوات الإنفتاح الأولى . حقن الماكستون فورت. وحبوب الاسبراكس وأبو صليبة والبودرة. كيف شاهدنا فنانين كبار، وأبناء أثرياء المرحلة، يأتون فجرا بسيارتهم الفارهة، إلى شارع الصحافة، للحقن أو شراء البودرة، يخرج أحدهم ذراعه من السيارة دون أن يغادرها كى يغرز فيها الصبى المادة المخدرة.
كانت هذا بدايات الخراب الشامل, من الغريب إنه واكب طفرة مالية ، وتلى انتصار أكتوبرالكبير، ولم يكن وليد هزيمة قاسية كحرب يونيو 1967!لقد لاحظنا هناك كل شئ بأعيننا وبإدراك ضعيف يوازى هذه العمر المبكرة.
الأشقياء المشهورين، الذين كانوا يشعرون بالعار، اذا حاول شرطى القبض عليه وإصطحابه إلى المخفرأمام الناس. رأينا من يقول للشرطى أذهب ألان . وسأتى وحدى . ثم يذهب الى القسم وحيدا وبكامل ارادته.

الموالد الكبرى . سيدى ابو العلا. سلامة الراضى . سيدى نصر. الخ
السبتية وبولاق عموما. المكان الذى يقع بين ماضيين حلميين . الزمالك ووسط البلد. الأرستقراطيقة فى ابهى صورها فى هذه الجزيرة الهادئة الصغيرة ، المنعزلة عنا وراء قصورها وأبنيتها الغامضة . وسط البلد. بدايات تحديث مصر ثقافيا واجتماعيا ومعماريا وفنيا وتعليميا. المسارح ودور السينما والمحلات التجارية الشهيرة .
لم ار فى بولاق عموما اية صراعات طائفية، أوأيديولوجية، حتى مع اكتساح المد السلفى ، أو صعود نجم اليسار. كان هناك اندماج كامل ، وغير مرئى لفكرة المواطنة دون الشعور بجوهرها. لم تكن معقلا فى يوم من الأيام لأفكار متطرفة، إنهم ثوريون على طريقتهم الخاصة منذ الحملة الفرنسية، موجودين دائما، فى أى حراك إيجابى وفاعل، ربما لقربهم الجغرافى من مربع العمليات الذى يوجه التاريخ فى اللحظات المؤثرة.
إنها أيام خوال رائعة. الحب وارهاصات سنوات المراهقة الأولى . الصداقة المتينة التى عبرت كل هذه السنين حتى هذه اللحظات الأنية . الصدفة الجغرافية التى جعلت كل المواصلات الى عموم مصر على بعد خطوات من بيوتنا . السكة الحديد. مترو مصر الجديدة . الترام الذى يجلجل فى الشارع مارا من هنا الى ربوع القاهرة .
هنا الإحترام والتوقيرللأسرالطيبة . وعدم التعرض لهم . احترام الجوار. احترام الضعيف . التلخيص البهى لتاريخ امة وتحولات الزمن . المسارات المكرسة عندما تضربها انحرافات السياسة وتشن هجماتها المغولية عليها . رأيت بقايا أتراك وأحباش وخواجات من جنسيات عديدة يتلاشون ببطء فى مصرية خالصة. رأيت أخر مبيض نحاس فى المحروسة .دكانه فى حارتنا . رأيته وهو يتحول الى بائع ترمس .رأيت النساء المستأجرات للعديد على الموتى وهن يصبغن وجوهن بالأزرق مستحضرات طقسا فرعونيا مرت عليه ألآف السنين . رأيت أسطورتين كرويتين لن يجود الزمن بمثلهما مرة أخرى : لاعبا كرة الشراب الشهيرين .جرانت وسعيد الحافى فى ارض الخدمة بجوارمدخل نفق السبتية أو شبرا . له اسمين . الراقصات البدينات . والأفراح التى غالبا مايسقط فيها قتلى ! لأسباب لا معنى لها . رأيت الكثير هنا .
وأحاول الأن أن استعيده فى عمل إبداعى تحت النوستالجى .



صابر رشدي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى