نجوى صليبه - رياض صالح الحسين.. حياة قصيرة وإبداع في قصيدة التفاصيل اليومية

“ يركض في عينيه كوكب مذبوح..
وسماء منكسرة..
بركض في عينينه بحر من النيون..
ومحيط من العتمة الطبقية”
مقطع من قصيدة أطلق عليها الشاعر الراحل رياض الصالح الحسين “صورة شخصية ل ر. ص. ح”، لكنها كما يقول الزميل علي الراعي قصيدة تكاد تكون “ بورتريه” عن هذا الشعر الذي أثار جدلاً واسعاً خلال مدّة قصيرة وفرتها له الحياة من الزاوية الأشد ضيقاً، يضيف الراعي: ومع ذلك اتسطاع هذا الشاعر الذي تبدو حياته أقرب إلى معجزات الحياة، أن يقدم إبداعه كله دفقة واحدة في كمشة العمر القصيرة، ويرحل تاركاً القوم من بعده، يقضون الأوقات الكثيرة في قراءته والاندهاش بما قدم من نتاج شعري كثيراً ماتأثر به شعراء لدرجة أصبح أسلوباً في المشهد الشعري السوري له ملامحه المفارقة، فهو لايشبه في التجربة أو الحياة غير قلة من الشعراء الذين استطاعوا أن يقدموا مشروعهم الشعري مبكراً وخلال فسحة حياة قصيرة.

وخلال الندوة التي أقامها فرع دمشق لاتحاد الكتّاب العرب، تكريماً للشاعر الراحل رياض الصالح الحسين، قال الناقد عماد فياض: يكتب الشاعر رياض الحسين بفورية وعفوية ويقول الكلمة كما هي من دون تزويقها أو إضافات، بلغة بسيطة بساطة الأشياء، إنه يكتب قصيدة حارة وفورية وهي قصيدة الحياة التي تذكرنا بمناخات محمد الماغوط، وقد لفت رياض الحسين انتباه محمد جمال بارون الذي سجل اسمه في كتابه “الشعر يكتب اسمه” ووضعه إلى جانب شعراء السبعينيات نزيه أبو عفش وبندر عبد الحميد ومحمد منذر المصري وعادل محمود وفيصل خليل، وربما ماقاله بارون عن تجربة محمد الماغوط يمكن سحبه على تجربة رياض الحسين، يقول: لقد كان نموذجاً لتجربة شعرية موغلة إلى أقصى الحدود في الالتصاق بالشاعر الوطني والقضايا المطروحة فيه، لم تفجر هذه التجربة اللغة وإنما فجرت الكلام العادي اليومي وارتفعت به ليكون كلاماً شعرياً ولو توغل في تجربة رؤيوية ميتافيزيقية وإنما تجربة إنسانية حية.

ويبين فياض أن مشكلة رياض الصالح الحسين كانت وماتزال إلى اليوم أنه لم يتم تناوله بالنقد بحيث يضعه في مكانته اللائقة، مضيفاً: بدلاً من ذلك، نجد ادعاءات بتبني رياض الصالح الحسين في بداياته والوقوف إلى جانبه في وقت انفض فيه الجميع من حوله، يقول أسعد الجبوري: للمرة الأولى أعترف بأنني أول من نشر قصائد الشاعر رياض الحسين في جريدة “المسيرة” ليمتد بعد ذلك تدخلي في مراجعة وإعادة بعض نصوص مخطوطه الأول “ خراب الدورة الدموية”، منوهاً بما ذكره الشاعر شوقي بزيع في مقالة له في جريدة “ الحياة” والتي استغرب فيها تجاهل النقد العربي لشاعر بقامة رياض الحسين.

بدوره، قال الأديب نزار بني مرجة: لقد كان رياض الحسين بارعاً في اختيار عناوين مجموعاته ونصوصه القصيرة، فتلك العتبات والعناوين كانت تمتلك قدرة مذهلة لتبقى عالقة في ذاكرة كل من يقرأها بتأنٍ وحتى لدى من يمر بها مروراً سريعاً أو عابراً، ولعل العنوان الأكثر ألماً بين عناوينه هو “ خراب الدورة الدموية” لأنه يصف المرض المزمن الذي أدى إلى وفاته وهو الفشل الكلوي، واللفات في قصائده أيضاً هي أنها أشبه ماتكون بسيرة ذاتية شعرية مكتوبة بصوت الأنا تارةً وبصوت الآخر تارةً أخرى، لقد برع في كتابة مااصطلح على تسميته بقصيدة التفاصيل اليومية وهي ذاتها تفاصيل حياته القصيرة المرة في معظمها والحلوة في القليل القليل منها، وبلغة في غاية البساطة والوضوح تؤهلها لأن تكون مدرسة مبتكرة يمكن تسميتها مدرسة السهل الممتنع جداً والقلب للانتشار جداً” فهو حتى عندما يكتب عن معاناته الذاتية يتقمص الآخر وتكون الحالة قابلة للتماهي مع المتلقي أيضاً لأن يتقمص شخص الشاعر ويشاطره اللحظة المعاشة ذاتها، وتلك هي كما أرى مايميز تجربة الشاعر ومدرسته المدهشة في كتابة قصيدة النثر العربية والتي طوبته ليكون بجدارة واحداً من أبرز روادها.

وتحدث بني مرجة عن لقائه الوحيد بالشاعر الراحل، يقول: التقينا في المركز الثقافي السوفييتي آنذاك، الروسي اليوم، وكانت أمسية جميلة متميزة بمضمونها وحضورها، كان ذلك اللقاء الوحيد الشخصي اليتيم معه، والذي كنت أتابعه بمحبة واهتمام، ليس لكونه من جيلي تماماً لجهة الشعر حيث يكبرني بضعة أشهر فقط، بل باعتباره واحداً من أحد أصوات جيلنا جيل السبعينيات وكم كنت سعيداً عندما يصادف نشر نص شعري لي مع نص شعري له في إحدى الصحف أو الدوريات.

حياة قصيرة وآلام كثيرة قضاها الشاعر الراحل رياض الصالح الحسين، تذكرها أصدقاؤه والنقاد باحترام لتلك التجربة وذاك الإبداع وبحزن على مدرسة لم تنال حقها من النقد والدراسة، لكن تبقى شهادة أهله هي الأكثر قرباً وعمقاً من ألمه، يقول أكرم شقيق الشاعر الحسين: التحدث عن رياض ليس بالأمر السهل، لقد كان لمعاناته التي عاشها في بداية حياته من مرض وتركه مقاعد الدراسة مبكراً كلها أثّرت على حياته فيما بعد، مرضه بدأ بمشكلات في الكلية وتطور إلى فشل بعملها، وخضع لعمليات جراحية عدة كان لبعضها آثار جانبية تسببت في عطب العصب السمعي، لقد كان لطيفاً معنا نحن أخوته الصغار، وأذكر مرة أتى إلينا ومعه ربطة خبز وقال لوالدي: هذا الخبز من الشعر، لقد اشتريته من المكافأة التي حصلت عليها لقاء بعض القصائد التي نشرتها في صحف عدّة.




أعلى