( وشاهد إذا استجليت نفسك ما ترى
- بغير مراء - فى المرائى الصقيلة
أغـيـرك فيـها لاح أم أنت ناظـر
إليـك بـها عنـد انعـكاس الأشعة)
سيدى ابن الفارض
( ما الذى يفعل بى وقد تجاذبنى جانبان )
كل شئ فى بدائيته الأولى ، السراخس و الطحلبيات ، وكائنات لم تندثر بعد .
لم تكن الذات الجماعية ولم يكن ثمة اتصال ينم عن الجمع .. كل شئ منفرد بذاته ولذاته .. كل شيئ فى اكتماله الأول لا إحصاء ولا عدد 0
كل شئ لا يزال كما هو .. كما تلمس صخرة زلقة وتتحسسها بحواسك الخمس وتحاول جاهداً أن تقيم علاقة بين الصخرة والماء ، بين الخشن والناعم ، بين الشئ واللاشئ ..
فإذا أجهدت تماماً تركت عقلك اليقظ وسألت نفسك :
ما الفرق بين الروح والجسد ؟! هل الجسد هو برطمان الروح ومحتواها ، وماذا يحدث إذا انفصلت الروح عن الجسد ؟! وهل ثمة تلاقى في زمن ما أو خارج زمن ما .. وتسأل ما الدليل ؟!
وما عاد أحد من الموت ليخبرك بما سيكون لكنك قادر على الإخبار بما كان ، إلا أن تغيب عنك أشياء تطفو في وقت ما فإذا هى الجحيم الثقيل .. وتدور فى دائرة لا يستقيم محيطها تبعد وتدنو عن بؤرتها حسب أحوالك ، حتى إذا أسلمتك بؤرتها تعود غير متذكر لشئ كأنك ما برحت جسدك ولا زمنك لحظة ، وتعود تبدأ من جديد وتبحث من جديد كأنك ما عرفت ، كأنك منجذب لشئ لا تفارقه حتى بعد الموت وأنت متنافر معه فى الاتجاه .
ويقينى أنني لا أعرف ، هل أحدث روحك أم جسدك أم الاثنين معاً، وكيف أبدأ ؟! وكيف أحدد اللحظة الفاصلة بين الحديث مع الروح أو الحديث مع الجسد أو الحديث عنهما .
ربما هناك نقطة ما .. كاليقين الذى لا يخضع لعقلك إنما تختاره لا عن إيمان وإنما عن رغبة فى أن يكون له وجود حتى تركن إليه وقت الشدة .
كأنك لا تؤمن بشئ .. إذ كيف تؤمن بما لا تراه وأنت متشكك بما تراه .
سأحاول جاهداً أن أوضح ، وإنى أعتذر مسبقاً عن إغفال بعض النقاط والأحداث دون قصد مسبق ، فأنت الذى تحكى وأنا الذى أنصت ،فقل ما بدا لك ، ولكن سيبقى دائما سؤال :
من الذى يكتب ؟ أنا .. أنت .. ؟؟!!
هل لأننا فى حقيقة الأمر متداخلان ؟؟ .. ليس على الوضوح وليس عليك الترقيع فلنتفق رغم اختلاف رؤانا ..
فلم تكن الأشياء فى يوم من الأيام على قدر كتلتها ولا ما تشغله من خير بل بمدى فاعليتها في الوسط داخل الإطار الذى تعيش فيه ونشاطها الذى يمكنها من التأثير والتأثر ، ومن الضرورى أن أذكرك أن خيبة المسعى يمكن أن تؤدى إلى الضلال وعلىّ وحدى تبعات ذلك .. إما البلوغ إلي الهدف أو الدوران إلي ما لا نهاية .. فلا تشفق على إذا ما عدت خائباً من مسعاى ، وعلى الرغم من ذلك ربما أحاول مرة أخرى .
امسك يدى جيداً .. لسوف تطفو أشيائى القديمة .. سوف نسترجع تفاصيلها فى وقت يموت تماماً .. امسك يدى .. لسوف تنفصل العوالم ثم تتشابك .. ما بيننا غير خيط .. سننسى الانهيارات وسنظل مشدودين لشئ واحد .. متشبثين بقوة ..
فكل ما يخرج منى أجده أمام عينى وأتعامل معه كأنني الجمع ، كأنني الكائن الوحيد الظاهر والباطن ، الأعلى على كل الموجودات والسابق على كل وجود .. المتعدد الوحيد .
في أغوار الظلمة كنت واثقا تماماً أننى وحيد ، يد الظلمة أطبقت على قلبى فانطفأ مصباح كان يضئ لى .. وسألتنى فى أى اتجاه أسير وأنا مقيد إلى المكان من ساعة التشكيل ..
كان الخرج فظاً وخشناً وكانت الظلمة أشواكاً ، ودعوت :
إن لم يكن بك غضب علىّ فلن أبالى ..
وما كنت أستطيع السير إلا أن يأمر الآمر .
تماماً إذا انفصلت الروح وبقى الجسد كانت روحى منفصلة إلا أن جسدى كان متشبثاً بقوة لا أستطيع مقاومتها ، قوة قادرة على التشكيل والتحريك فقلت :
ما الذى تريدون ، ولما أنا غير مكتمل وجامد ؟!
كانت يد التشكيل ما تزال في عملها ، ورائحة الفخار تملأ المكان ، هذه الرائحة التى ما فارقتنى لحظة للآن تذكرنى بأصلى كلما نسيته أو حاولته ..
فكيف الهروب منها والسمو عليها وهى تحت الجلد وفى الدم .. أذكر الآن كيف كانت تلك الرائحة أول حدود المعرفة .. لا تعرف كيف تهرب منها .. أتت من حيث أتيت ، وتذهب حيث ذهبت حتى آخر حدود الحياة وما بعدها .
عطست طويلاً فقلت :
لك الحمد
كفت يد التشكيل ..
تلك هى أول حدود المعرفة وأول الابتلاء .
نظرت فوجدتنى واحداً وسألت :
من أين أتت هذه المرآة ؟!
لم يجيبنى أحد .. لكن شيئاً ما فى البعيد حدثنى : هى نفسك وأنا صوتك .
فقلت : لم أنت بعيد ؟
فقال : ستعرف فى حينه فلا تكثر السؤال .
الآن فهمت .. حيث يوجد الصمت لا يوجد الكلم .. هذا أوان الصمت .
كمن يدير حواراً لا يستطيع السيطرة عليه ، وتتداعى مفرداته وتتشابه صوره كنت في تلك اللحظة .
ـ أول المعرفة أن تتعرف الأشياء أولها نفسك .
من تكون أيها الفخار ؟
كان السؤال فوق حدود معرفتى ، وكان الجواب ما يزال في آخر المطاف 0
أطلقتنى يد التشكيل فدرت في المكان أتعرف الأشياء ، أستنطق مدلولاتها .. كان المكان فسيحاً وخانقاً ..
أنت وحدك أيها الفخار كيف تسير فى هذا العالم وحيداً تكلم الهواء والأحجار وتخلق وحيداً عالمك وأنت تجهل من تكون ..
كانت يد الظلمة تقبض على قلبي بشدة ..
ـ هذا ابتلاؤك الأول فلا تتجاوز قدرك .
هذا هو العالم .. العالم ما كان بداخلك وانطبع على الموجودات .. لا تفتح صندوقك مرة واحدة بل ببطء شديد .. وتأمل داخلك .. هذا هو العالم .
أذكر أنه عندما هبط الليل نام العالم إلا أنا ظللت محدقاً للفراغ إلى أن تلاشت الحواس .. محدقاً نحو ضوء لا يكاد يبين ، ظللت متتبعاً مسرى الضوء الذى يبين ويختفى ، حملت أشيائى وتخففت قدر الإمكان .. فكأن روحى فى جوف طائر أخضر تارة أو هى فى الجحيم تارة أخرى ..
ربما كنت مثقلاً بحزن غامض وربما كنت متخففاً مما يحمله البشر عادة من أحزان لا ترقى لمستوى هذا الحزن الغامض .. وقد استقر عندى أننى خلقت عبثاً وأن هذه الحياة لا قيمة لها .. أنت تعرف ما أعنيه .. عندما تلتقى عيناك بعينين تحتضران وينطفئ بريقهما - أنت تدرك وتفهم - كيف تتحول هذه الحيوية إلى جثة .. أين ذهبت الروح والقوة وعندما يذهب الجسد وصاحبه إلي غير رجعة يبقي الكلام معلقاً فى الهواء ، كلامه ونظراته .. كأن الحياة التي امتدت به حلم طال ثلاثين سنة هو عمرك في هذه اللحظة .. تتذكره قاعداً وجالساً ومتكلماً حتى يتحول الحلم إلي كابوس يعيش معك البقية الباقية من حياتك لا تألفه بسهوله ولا تستسيغه ..
ربما يكون العدم الذى رُكِّبَ في تكوين العالم - من لاشئ إلى لا شئ وما بينهما لا شئ - هو الجحيم ..
جحيم الأسئلة المستفزة ، تغوص يدك لا تصل إلى قاع ولا قرار وتعود دون أن تبتل ودون ارتواء .. كفأر في مرحاض كلما هممت بالصعود تنتهى للمصفاة .. كفكرة تومض فى متاهة ..
هذا الوجود هو نفسه الوجود الذى عشته فى زمن قديم ..
هل أنا الذى كان منذ لحظة ؟!
هل أنا الذى غادرت هذا الثقل ؟!
هل أنا الذى دخلت هذه الخفة التى أحس بها الآن ؟!
صرت خفيفاً .. خفيفاً
هل إلى نقص أو اكتمال ؟!
كل شئ له فاعلية السقوط ، إرث الأسلاف ، ألبوم العائلة ، الميلاد ، أشياؤنا البسيطة ، الموت ..
كان السقوط عنيفاً ومدوياً ، إنه السقوط الذي عانا ، آدم الأول وما زال صداه فى نفسى ، بئر السقوط بلا قاع ، تحمل إرث الأسلاف على كاهلك وطوال عمرك لا تعرف معني للسقوط سوى السقوط .
أنت تشغل نفسك بالخفة بكتلتها وكثافتها وهى جزء من السقوط .. أن تكون الخفة والثقل فى جسد واحد أو معنى واحد هذا هو الجحيم .
كانت الأضداد تتجمع وتحلق فوق جثتى ، كان الهواء ثقيلاً على جثتى ، صرت شيئين ، روح وجسد ، خفة وثقل .. ساخن وبارد .. كانت روحى قلقة وما استقرت يوماً على حال ..
أنا واحد فلما صرت اثنين ولما هذه الحال ولماذا اختلفت الدوائر ، من الذى يعذبنى كل هذا العذاب ..
لست ميتاً ولست حياً ولست أعرف .. كل ما أعرفه أننى انتقلت بلا انتقال وفارقت بلا افتراق .. لم أتعلم شيئاً ولا أستطيع ..
ـ اعطنى على قدر ما أعطيك وسأعلمك كيف تغوص يدك وتقبض على ما تريد وتعود دون أن تبتل .
ـ أنا في خصام دائم مع هذا الوجود ذلك أن وجودى مخالف لوجوده .. هل الوجود الحقيقى فى الانفصال ؟!
الانفصال يجعل الأشياء تعود إلى طبيعتها إلى عالم الجزيئات والذر إلى بداية الدائرة ..
أم أن الوجود الحقيقى فى اتحاد العناصر وجسميتها وشكلها وصورتها وما غير ذلك لا يعد له وجود ؟!
لا أدعى أننى فهمت شيئاً .
كأنما أمشى على حد الكتابة .. ليس من الضرورى أن تعرف آلة الطباعة ما هو مكتوب .. فليس هناك خطاً مستقيماً .. ذلك الخط الوهمى الذى نتوهمه عن عمد .. إنه دوائر تنتهى لدوائر وتتقاطع فى دوائر تسلم لبعضها البعض بمسميات جديدة .. وأستطيع أن أزعم أن التنامى الذى ستتحدث عنه فيما بعد تنامى مغلوط ـ ستجده فى الفراغات التى تركتها ـ كالفرق بين الليل والنهار فمسببات حدوث الليل هى هى مسببات حدوث النهار ..
أثر الليل والنهار مختلف .. الأسباب دائماً تلقى بظلالها فى اتجاهين على الكائنات ..
( أنت الذى وضعت هذه
المتناقضات فى سلة واحدة
وقلت كن فكنتُ )
تماماً كما تبحث عن حل مشكلة فتقع فى عدة مشكلات تصرفك عن حل مشكلتك الأصلية .. هكذا الحال ما إن تبلغ منبعاً حتى تجد نفسك في المصب مرة أخرى .. تشرب من ماء البحر ولا ترتوى .. إنها بحار المرايا لا نهاية ولا شاطئ لها ، عميقة بعيدة لا تصل إلى قاع .. أنت تسير قصراً إلى حتفك ، تحمل صخرة على كاهلك حتى إذا توهمت الوصول تجد عبث المحاولة متمثلاً فى خيبة كبرى .. لا تملك حيالها المنطق والعقل فتقع الصخرة عن كتفك لا تحس أثراً لخفتها فتعود تحملها وتمضى فى عبثية لا نهائية ، تتمحور في المكان ويمر عليك الزمن كجواد جامح تصبح بعدها الموجودات أثراُ بعد عين .. تبقى وحيداً فى صحراء غربتك ترى الآل من بعيد وتذهب إليه فيتراءى لك فى مكان آخر كصوفى فى طريقه إلى الله ومازال بعيداً .. بعيد عن اليقين .. اليقين الحقيقى .. اليقين الذى ليس بعده يقين ، كأنك تفعل ما تفعله المرأة عادة بعد حيضها الأول ، تجمع الخرق ، وأنت تجمع شتات نفسك .. كل ما فيك جميل ، وأنت تجهل أى كائن تكون .. هذا هو الصندوق الذى فتحت ، خرج كل ما فيه إلا شئ واحد.. ( هكذا أنا معلق على بابك من ساعة التشكيل ) فأى اتجاه أسير.. الاختيار صعب .
كان العالم ممتداً امتداداً لا نهائياً .. قلت أغترف من أشيائه ما يعيننى على التذكر ..
كانت هناك شجرة فى البعيد سرت إليها ، وكلما سرت كانت تبتعد حتى أجهدت تماماً فجلست لأستريح .. كانت الشجر قبالتى ترنو إلى فى عظمة وشموخ ، وأرنو إليها في كبرياء وتحدى .. كعدوين التقيا بعد فرقة ولا يستطيعان النزال 0
جلست أياماً طويلة لم أذق طعم النوم وما عرفت الراحة .. فلا طائر في السماء أستشيره ـ هذا الطائر الذى ينقر صدرى ، ويختفى ويغيب ـ ولا قمر يطل على .. الظلام وراءه نهار ووراءهما ظلام لا معنى له وهكذا ..
قلت فى نفسى أنا فى المفترق .. قمت من مجلسى فإذا الشجرة تتحرك قلت أركض ، فإذا هى تركض .. ما توقفت لحظة وما غابت عن عينى برهة .. كأننا فى سباق حميم ، فلا أدركتها ولا هى حنت على .. كأنما تفرقنا فى الجهات الست 0. وهناك ظهرت جوهرة على الظلمة ، وامتدت يد ليس كمثلها شئ ، إذ هى تمتد لم أصافحها ومضيت يائساً ..
ربما مرت على آلاف من الأعوام أسير وسط جراب فلا ماء شربت ولا طعام أكلت .. وعندما ظهرت مرة أخرى لم أعانقها ، لقد كانت خشنة جداً ، هى التى عانقتنى فطفحت البثور .. وقابلت نهراً وخلعت ملابسى واغتسلت فتبدل جلدى ..
وحين خرجت لم أجد ما يستر عورتى ، وجلست فى النهر مدة طويلة لا أستطيع الخروج .. والمشاهد تتبدل علي الشاطئ .. قرى تتجمع وتتبعثر إلي أن تختفى .. ومدن تنمو وتستطيل بناياتها إلى أن تتلاشى ، والمشاهد تترى .. والنهر يرتجف ويشتد .. ثم انحسر ماؤه ، فوجدت شعراً كثيفاً قد نما على جسدى ، فحمدت وشكرت ..
هكذا سرت بين المشاهد حتى وجدت شبيها لي وازددنا وتكاثرنا ، وبينما نحن ماشين رأينا على البعد بناية بيضاء ، دورنا حولها وجدنا بابها مفتوحاً فدخل رفاقي .. وعندما هممت .. انفلق دوني فأصبحت وحدى أنا وشبيهى .. ناديت حتى انحبس صوتى :
رفاقى
رفاقى
لا أحد يجيب .. كلَّت يداى فانهرت باكياً .. ولم ينبس شبيهى بشئ كل الذى فعله أنه طار في الهواء حتى استقر فوق رأسى ، وحينئذ ندت عنى صرخة مدوية وارتج لها الكون ورأيتنى عاريا وملابسى فى الهواء أخذتهما واتزرت .. رأيت على البعد غابة سوداء .. دخلتها وأنا خائف وأوغلت أنا واثق أن طرقاتها ليست من صنع بشر .. إذ أنها مستوية فى بعض المناطق ومنحدرة فى بعضها الآخر .. وصفت الأشجار فى هندسة عجيبة .. وبلغت مكانا ليس فسيحا وليس ضيقا فيه حجارة من رخام بعضه أحمر وبعضه يميل إلى درجات مختلفة من الاحمرار وأنا أتأمل .. وإذا بى أمام شاهد أبيض ، كتب عليه بالمداد الأحمر . . هنا روحك فخذها ..
وإذا بصوت لا أدرى من أين هو يقول :
مد يديك ..
فمددت يداً واحدة ، فإذا بخشونة تحت سبابتى اليمنى كخدش على زجاج وانفتحت طاقة .. فقال : الأخرى ..
وعندما تجاورت اليدان داخل الطاق انبعث نور ، وإذا بصوت :
هى نار ليست كالنيران ،
وأنت تدخل فيها ولا تخرج
كما ولدتك أمك مبرأً من كل عيب
لا تحمل إرثاً ولا عائلة ،
أنت لا تبحث عن أحد ،
كما أن لا أحد يبحث عنك
هل تحلم بكل ما سبق وتطارد ميراثك
هل أنت آخر الخونة ؟1 ..
ـ ............................................
ودخلنى شئ .. فصرت أنا هو وهو أنا ، فانطلق صوتى مغنياً وربما أول مرة أسمع صوتى ـ ما نسينى صوتى كل تلك القرون ـ
فإذا بى أقول :
لك الحمد يا خالق النور ، لك ما ترضاه لى ،
وإذا الأشجار تتراقص حولى ، وتفتحت زهور كثيرة بألوان مختلفة وتضوع المكان بأريج غامض ، وتغيرت ألوان الرخام وأنا أنظر و أحدق في فرحة غمرتنى .
وفيما أنا أسير رأيت وجهاً كنت أعرفه فى الزمن القديم .. أشار لى فدنوت ، وأشار لى فسجدت .
وفيما أنا ساجد رأيت ببصيرتى خيالات تهوّم ، وأطيافاً تسبح في النور .. وانبثقت ثمار كثيرة .. وازدحم المكان .. مكان يتسع كلما ازدحم .
بشر كثيرون .. كثيرون .. كثيرون .. لست أعرفهم ولا هم يعرفوننى فقلت : إنى وحيد
وعند ذاك انفتح مشهد في الفضاء .. رأيت وجوه رفاقى تذوى ، وتذوب ، وأغلالاً من نار كلما هدأت حميت ، وكلما لانت تساقطت جلودهم وعظامهم .. ثم يعادوا خلقاً من جديد 0
كنت أرتجف ارتجافاً شديداً .. والعرق ما بين إليتى بارد .. بارد ، وتحت إبطى نهر من العرق .. كان العرق يزداد حتى وصل إلى عنقى فكدت أغرق ، فجاءنى صوت :
ـ ما بالك لو سمعت أصواتهم ..
وعند ذاك انبسطت تحتى أرض خضراء ونبت زهر جميل .. جميل ، ظلت ترتفع حتى ظننت أني بلغت السماء السابعة وأنى وصلت سدرة المنتهى ..
فسبحان من له الدوام ، والحمد لله يأمر بكن فيكون ولو شاء لاختصر ذلك فى حرف واحد أو أقل من ذلك بكثير .
وبينما أسير إذ طلع علىّ لص رفع علىّ السيف ، وأخذ أحمالى وأنا أستغيث :
مالى ..
مالى ..
فقال : أقتلك .
فقلت : عيالى ..
فتركنى
وهكذا تبدلت الأرض غير الأرض ، ونزلت من جبل إلى أرض منبسطة فرأيت حماراً فقال :
اركب ولا تسأل ..
فركبت مائة عام لا تزيد ولا تنقص ، ما بيننا لغة غير يا رحمن يا رحيم0
وعندما انقضت المائة عام .. قال : الآن تعلمت الصبر والحكمة .. وقال : انزل .
فنزلت فى قرية غريبة ما وجدت أحداً من الناس فيها مرسوم على كل باب نجمة خضراء ، بها حروف متداخلة وأحرف داخلية مسننة ، وفى أثناء تجوالى رأيت كلباً صغيراً يلهث من العطش فأخذته إلى حوض ماء قريب .. وأخذت بيدى غرفة ماء .. فانهمرت حجارة علىّ من كل اتجاه ، وهجم خلق غلاظ .. ألقونى خارج القرية بجوار حائط خرب فأصلحته وأنا أقول :
لك العتبى حتى ترضى .
وأنا أبكي بكاء شديداً ..
فإذا بجناح الرحمة يحملنى وإذا بصرخة عظيمة فمات أهل القرية فى أماكنهم ودمرت تدميرا .. وأنزلنى بأرض أخرى .
وجدتني جالساً بجوار طاحون قديم وبينما أنا جالس جاءنى رجل وألقى السلام .. وقال لى :
افتح يدك ..
ففتحت فوضع بها زمردة حمراء ومضى ..
غربت الشمس سبعة أعوام ثم أشرقت وهبت الريح سبعة أعوام وكفت ثم هطل المطر سبعة أعوام أخرى ..
وأنا جالس أتفكر وأتعجب وصوتى داخلى .. وزمردتى في يدى قبلتها .. فإذا هى زرقاء زرقة بحر السماء .. وتفتحت ممالك ما انفتحت لبشر .. سمعت أصوات الدويبات والهوام .. ورأيت تناسل الألوان .. ورأيتنى فى ظلمات تسع أتخلق علقه فمضغة فعظاماً .. أنزل إلي العالم المضئ .. وأحبو ثم أنتصب ثم أتوكأ على عصاى .. وزمردتى فى يدى زرقاء زرقة بحر السماء .. وحلق صوتى فوق رأسى فأخذته وثبته فى مكانه فهدأ .. وعند ذلك جاءنى الرجل اقترب منى وألقى السلام ؛ فرددت عليه وسألت :
لم الشر متغلب على الخير ؟
فقال : وهل يبنى الخير شيئاً .. الشر يبنى أسرع من الخير .. انظر إلى الآثار العظيمة هل بناها العدل ؟ إنما بنيت بظلم ملوكها وجبروتهم ، لقد طبع الإنسان على الظلم ، فالظلم كامن فى النفس القوة تظهره والعجز يخفيه .. كذلك فى كل قرية أكابر مجرميها فأخذنى وضمنى ضمة شديدة .. فغشينى النوم سبعة أعوام 0
فى العام الأول تغيرت الأرض وتبدلت وأخذت شكلها ، وفى العام الثانى انحصر ماء البحر فأصبح يابساً وماء .. وفى العام الثالث بدأت الريح فى الدوران ، وفى العام الرابع ظهرت الكائنات وكثرت ؛ كائنات تعيش فى الماء ، وكائنات تعيش على اليابسة ، وفي العام الخامس انقسمت كائنات البحر فأصبحت ذكراً وأنثى ، وانقسمت كائنات اليابس إلى ذكر وأنثى ، وفى العام السادس هدأت الرياح واستقر الهواء .. وأخذ كل يسعى .. وفي العام السابع تناسلت الكائنات وظهرت القرى وتجمعت فى أقاليم ومدن وتعددت اللغات وانفصلت شعوباً وأخذ كل شعب لونا من الألوان .. وصحوت فى آخر العام .
فإذا أنا على خضرة جالس وفى يدى زمردتى زرقاء زرقة بحر السماء .
انقضى أحد عشر ليلا ، وأحد عشر نجماً لا أحس وحشة ولا غربة فإذا الكلب الصغير يأتينى ويقول اتبعنى فأتبعه وزمردتى فى يدى .. ودخل الطاحون فتبعته ..
فرأيت كائناً ما لا هو ذكر أعرفه ولا أنثى فأصفها ، يدور مع حجر الطاحون مربوط على عمود من زبرجد أحمر وتحت الحجر بشر مطحونون إذ مسهم الحجر أسمع صرخات مرعبة وتعجن عظامهم بلحومهم فيسيل دم أحمر تتلقفه كائنات أخرى مرعبة المنظر شديدة الاحمرار فقلت :
من هؤلاء ؟!
فأجابنى : الكائن الذى تراه هو الطمع إما أن تأكله أو يأكلك وأنت من هذا فى حرز .. وأما هؤلاء وأشار إلى البشر فهؤلاء التافهون الطماعون تطحن عظامهم مع جلودهم جزاء ما عملوا وأما هؤلاء وأشار إلى الكائنات المرعبة فهؤلاء بقية من الصفات الذميمة إذا ما التصقت وتمكنت شربت من دم الإنسان فكل ذلك باق إلى يوم يبعثون .
فخرجت مهرولاً إلى صبارة عظيمة في البعيد ، وما اقتربنا حتى وجدت أسفلها طيوراً تبنى أعشاشها ، وطيوراً تبيض وطيوراً راقدة على بيضها والشجرة بلا ظل ولا ثمر ..
وخرج تمساح عظيم فأورقت الشجرة وأثمرت ولم تهرب الطيور بل تمسحت فيه فكان يختار البعض ويترك البعض .. أما الذى يختاره فيأكله وأما الذى يتركه فيطلقه فى الهواء .. فإذا هو يعود إليه ويتمسح به فقلت :
من هؤلاء ؟!
قال : هؤلاء لهم قصة :
أما الشجرة فزوجة هذا التمساح إذا طلع من النهر اخضرت من فرحتها وتلك الطيور أولادهما فهو يأخذ البعض فى رحلاته ويترك البعض وهذا التمساح كان فى الأصل ذكر نخل إذا حان موسم التلقيح يميل على أنثاه فلا تأتى بثمر وإذا طلع عليه أحد رماه من فوقه وهشم رأسه فاستجار صاحب المكان وعزم على قطعه ، فدعا الله أن يمن عليه فمن الله عليه ولكن كل عاد إلى سيرته الأولى ، فمسخه الله تمساحاً ، وأما الشجرة فهى فى الأصل أوزة ما كانت ترقد على البيض تباهيا بريشها .. فمسخها الله شجرة ، ولها قصة أخرى :
وأما هذه الطيور فهى فى الأصل آدميون أغار بعضهم على بعض طمعاً فمسخهم الله ويقال :
هى العناصر إذ تتزاوج ما بين جذب وشد ، على أن هناك عنصراً يغيب دائماً فلا يبقى للتزاوج قيمة فتصبح هذه العناصر بلا جدوى ويعود دولاب العمل .
فقلت :
أتعبنى التأويل
قال : كذلك نولى بعض الظالمين بعضاً .
كفَّـت الأرض عن الدوران أعواماً كثيرة لا أعرف عددها ، وبقى الليل فى مكانه البعيد والشمس عارية .. وسمعت صوت النهار يتوسل أن يستريح ، وهربت الكائنات فى جحور .. كانت يد الشمس تلتوى وتدخل إليهم حتى فزع الخلق فزعاً شديداً طوال هذه المدة .
تعب كل شئ على وجه الأرض حتى أن الكائنات كانت تترك نفسها لتموت في العراء .. وامتلأت الأرض بجثث كثيرة وبعض المخلوقات اندثرت وطمرتها الرمال .. وبقيت عظامها إلى يومنا هذا ..
قلت لصاحبى :
لنبرح هذا المكان .
وأنا أبحث فى يدى فلا أجد شئ فركبنى هم عظيم ..
فقلت : يا واحد
فإذا أنثى بجانبى وتلاشى صاحبى .
وقلت : يا واحد
فإذا هى اكتست ..
وقلت : يا واحد
فإذا نحن بأرض أخرى ..
كانت الأشجار تنمو نمواً عجيباً ، وأنا أأتنس بصاحبتى وكلما هممت بها أثمرت الأشجار وتوالدت فإذا هى زيتوناً ونخلاً ، وكروماً ورماناً ، وجميزاً وسنطاً ، ولوتس وبردى .
وسميت الأسماء بمسمياتها ، وكلما أوغلت كانت تزيد طلباً واستمتاعاً .. وتعلمت المخلوقات .
كانت جسداً عجيباً فلا هو لين فيعصر ولا هو صلب فيكسر ..ما بيننا لغة غير هذه اللغة .. وما تعلمت شيئاً طوال مائة عام غير هذا ، فى عناق وسباق وتداخل وولوج وخروج .. وكثرت الروائح الطيبة رائحة القرنفل والفل والياسمين ، والمسك والعنبر والنعناع ، والتمرحنة والبرتقال والليمون ، والنارنج والكافور والزعتر ..
وانفصلت الأيام والأعوام وكان الوقت والزمن ووجدت الأسباب والحوادث ، وانتظمت الأنهار في جريانها ، وبدأت الفصول الأربعة وعرفت الطيور أعشاشها وميقاتها ، وانبثق النهار من الظلمة .. كل شئ يتحول ..
تفرقت العناصر بعد امتراج فكان الذهب والنحاس والحديد وبقية المعادن وكان الخشب والفحم والبازلت والكوارتز وبقية الصخور ، كل شئ يأخذ لوناً من الألوان فكان الأحمر والبرتقالى والأصفر والأزرق والنيلى والبنفسجى وما غير ذلك كان أسودا 0
ورأيتنى واحدا واثنين وثلاثة إلى آخر الأعداد ، وأحصي كل شئ وتدورت الحروف وأصبح الألف والياء إلى آخر الأبجديات .. وظهرت النقوش الغائرة والبارزة واكتملت الأرض وانفصل القمر وتتابع الليل والنهار وأنا بين شد وجذب وارتخاء وانتصاب وجهد لا تبلغه الراحة..
لقد جئت من هنا ومن هناك ومن كل الجهات ، تماماً كما حدث أول مرة
عند الهبوط ، لكنى الآن أصعد وأصعد لا منتهى أجتازه أو سور
وقت فاصل ، فهل لكل منتهى بداية ؟!
أعلم إذا أسلمتنى الدائرة إلى بؤرتها لن أكف وحتى الآن يشهد طائر بعيد .. وأنصت .. لعلى أسمع الدفقة الأولى لعلى اسمع أول صوت على وجه البسيطة وأنا أرى أيامى تمر وتصير قروناً .. وأنا أفضى زمام هذه الأرض وأحفر مجارى الأنهار والآبار .. كأنى قد خلقت خالقاً .. وإذا الأرض تهتز من تحتى فقلت :
اهدئى لم يحن بعد وقتها ، كأنها فى نصف الطريق الذى ابتدأت ..
انتثرت الكواكب .. كل كوكب أخذ مداره ، كل شئ يتشكل من الفوضى وتشويش الحواس .. وإذا الكون ينتفض نفضة واحدة ..
فقلت : الدفقة جاءت .
ثم هدأ كل شئ وجاءت الروائح الكريهة .. وانتبهت ...
فإذا بزمردتى فى يدى زرقاء زرقة بحر السماء .. وجاء الرجل وقال : جاهد .. تشاهد .
قلت : قد جاهدت ما شاهدت غير ما يرنو فى المرايا ، وما لا تدركه الحواس .. فبأى ذاكرة أقيس ما رأيت ؟!
قال :بقلبك ، وستشاهد ..
وتركنى ومضى .. فانقبض قلبى بشدة .
ما الذى يفعل بى وقد تجاذبنى جانبان أنا بينهما كريشة فى مهب الريح .. وما دخلت وما خرجت ولا حللت فى مكان ، ولا خضت فيما لا طاقة لى به فلم أنا فى وادى الحيرة ، وما هذا الذى يجيئنى ثم يختفى .
وإذا بصوت :
يا ابن آدم .. جئت عرياناً وخرجت عريانا .. فماذا تلبس الآن ؟!
يا ابن آدم : هذى هى الدنيا تدخل محمولاً ، وتعيش محمولا ، وتخرج محمولا ، كل شئ عليك حتى أنت فماذا تحمل الآن ؟!!
يا ابن آدم : كل باب ولجته بى ، لا بيسراك ولا بيمناك فماذا تحسب الآن؟!!!
يا ابن آدم : أول كلامك ماء ، وآخر كلامك ماء ، فأين أنت وأين الماء ؟!!!
يا ابن آدم : أنذرتك فما ارعويت وحببت أن أسلك بك طريق الخير فما سلكت . فماذا تفعل الآن ؟!!!!
قلت في نفسى : كأننى مأمور أن أذهب إليها كل مساء تحملنى قدماى على غير وعى منى .. أجلس قبالتها تحدثنى وأحدثها ، وتسقينى وأسقيها ، وعندما يؤذن بالرجوع أكون قد نسيت ما قلته وما قالته .. وكانت تصغى وقالت : أنت تدرى ما معنى أن تكون وحيداً ..
قلت : أنا أكثر وحدة بين أصدقائى .. كان أصدقائى من البشاعة ما لم أستطع معها أن أعاشرهم .
قالت : كنت مجبراً على ذلك ؟!
قلت : نعم .. لكني حزين على مفارقتها
قالت : هكذا الحال .. فماذا أعددت ؟!
قلت : ما أعددت شيئاً .
قالت : أنت غير باحث عن شئ ؟!
قلت : أنا بين بين وبين عالمين ، لا أنا ميت ولا أنا حى أنا ميت حى أو حى ميت .
قالت : هكذا الحال إذن .. تغيب عنك أشياء أنت أحوج ما تكون إلى معرفتها .. لعلك كنت واثقاً من تمام الحواس وقدرتها على الإدراك والحكم .. اترك الدنيا لأهلها لم يبق من العمر إلا قليل وجميع ما كنت فيه رياء وتخيل فإن لم تستعد الآن فمتى تستعد ؟ . *
سأعلمك ما لم تكن تعلم وستغلق حواسك الخمس لترى الأشياء على حقيقتها .. سأعد لك قلباً يسع العالم .
انتزعت قلبى فإذا هو ينبض فى يديها وضغطت عليه برفق ووضعته فى طبق من الخزف الشفاف ، وقال : انظر ..
وضعت الطبق على قاعدة من الرخام الأبيض .. تحتها خشب الصندل موقد
وقالت : سأنضجه لك حتى تتيقن ..
وكانت تقلبه بين الحين والحين .. كل شئ كان يتوهج بحرارة وضوء باردين ، ووشيش الخشب المحترق يملأ المكان برائحة عبقة .. أخذته أخذاً لطيفاً إلى نبع قريب فإذا هو يمتص كل ماء الجدول .. أحسست بالراحة والهدوء ..
قالت : انظر ..
فنظرت إلى قلبى فرحاً ..
قلت : ماذا تفعلين بى وبأى أرض أنا ..
أشارت فدنوت وقالت :
أنت بأرض السمسمة ، أنت بعالم الجبروت .. نم . فنمت .. رأيت الحواس الخمس طالعة منى ومنسربة لأعماق الكون ، وصوتها فى أذنى : سأثبتها وسأطلقك فلا تحزن .. ولا افتراق .. ستذكرنى كلما ظهر القوس فى السحاب ..
تحسست قلبى كان مغسولاً فى مكانه ولا أثر لجرح ..
قالت : احملنى بقلبك ..
فأخذتها بمجامع قلبى فتجمعت مقدار قبضة وقبلتها فإذا هى تتلاشى فى .. وأنا لا أحس وحشة ولا غربة ..
قالت : اخرج إلى العالم المضئ ..
تذكرت .. هذا أوان الكلام ومربط البداية ..
قلت أعيد ترتيب الكون .. أخذت من كل الأشياء اثنين ، وزاوجت ما بين اثنين واثنين ، وحضرت الأشجار كلها فتخيرت واحدة بعينها .. جلست فى ظلها وأنا واثق أنها هى .. هذى هي فروعها الخمس والوصايا وأعمار الدنيا .. كل شئ صائر إلى ما تريد ..
قالت :
جاءك اليقين على رجلين وعرفت الجوهر الفرد .. وتحسست روحك بعد غربة ونأى .. لن تتجزأ بعد الآن .. هذا هو الماء غسلت قلبك ومسحت على رأسك .. هذا ما بناه الأقدمون بين يديك لا تفرط ولا تتخذ سوطاً على الآخرين ، إنهم إخوانك وأنت بهم أولى ، فلا تقسو ولا تك ليناً كن بين بين لا كما أنت 0
أنا واثقة منك ولقد فضلتك على العالمين ، وسترى آياتى وستشاهد
قلت : لا تتركينى ..
قالت : لن يعرف الخوف الطريق إلى قلبك .. لقد عرفتك ما لم تكن تعرف وستصل إلى نهاية الطريق .. أنا أعدك بذلك .. لقد زودتك بأشياء .. إنها ستقويك فلا تخشى ..
تتحرك الأزمنة وتتداخل وتتغير عليك الصفات .. وتأتى من بعيد القبائل لطواطمها والتعاويذ ، والتمائم وأنت تتقلب من مشهد إلى مشهد ومن حال إلى حال ..
لقد انتقلت من كفك إلى قلبك وكنت قاب قوسين أو أدنى .. وحببت إليك العدد بعد إفراد ووحشة .. فلن تعرف إلا أنا ولن أعرف إلا أنت ولن يعرف أحد إلا أنا وأننت فاستعن على قضاء حوائجك بى .. نطقت بلسان حقيقتك ولم أدع ما ليس لى وعرفتك أطوار الخلق وثبتك على شئ تريده .. تلك مخاطبات بينى وبينك .. أنا حقيقتك وأنت حقيقتى ، وصفيى وخليلى .. عرفتك الموت والحساب والدرجات وما كنت نبياً و حدثتك بلسان الواحد وفيك روح منه .. وأنا محض روح لا تعرف كنهها .. فخذ بيمينك ما كتبت لك ولا تعجل به ..
كلانا عارف بقدره ومنشغل به ..
كلانا عارف من هو ..
آن لك أن تتكلم بسر محبتى وشهودى وبسر النجاة ..
كان الكون هادئا منساباً وها هى الحواس الخمس تعود أفضل مما كانت .. رجعت إلى مكانها فعلمت كل شئ ..
ووجدتنى على جبل عال وبين يدى قبس من نار وفى يدى عصا وبقلبى ما يسع العالم وأرانى فى زوايا الكون ممتداً فى كل الجهات وفى السماء هلال كبير يتأرجح بين خيطين .
صلاح عبدالعزيز
- بغير مراء - فى المرائى الصقيلة
أغـيـرك فيـها لاح أم أنت ناظـر
إليـك بـها عنـد انعـكاس الأشعة)
سيدى ابن الفارض
( ما الذى يفعل بى وقد تجاذبنى جانبان )
كل شئ فى بدائيته الأولى ، السراخس و الطحلبيات ، وكائنات لم تندثر بعد .
لم تكن الذات الجماعية ولم يكن ثمة اتصال ينم عن الجمع .. كل شئ منفرد بذاته ولذاته .. كل شيئ فى اكتماله الأول لا إحصاء ولا عدد 0
كل شئ لا يزال كما هو .. كما تلمس صخرة زلقة وتتحسسها بحواسك الخمس وتحاول جاهداً أن تقيم علاقة بين الصخرة والماء ، بين الخشن والناعم ، بين الشئ واللاشئ ..
فإذا أجهدت تماماً تركت عقلك اليقظ وسألت نفسك :
ما الفرق بين الروح والجسد ؟! هل الجسد هو برطمان الروح ومحتواها ، وماذا يحدث إذا انفصلت الروح عن الجسد ؟! وهل ثمة تلاقى في زمن ما أو خارج زمن ما .. وتسأل ما الدليل ؟!
وما عاد أحد من الموت ليخبرك بما سيكون لكنك قادر على الإخبار بما كان ، إلا أن تغيب عنك أشياء تطفو في وقت ما فإذا هى الجحيم الثقيل .. وتدور فى دائرة لا يستقيم محيطها تبعد وتدنو عن بؤرتها حسب أحوالك ، حتى إذا أسلمتك بؤرتها تعود غير متذكر لشئ كأنك ما برحت جسدك ولا زمنك لحظة ، وتعود تبدأ من جديد وتبحث من جديد كأنك ما عرفت ، كأنك منجذب لشئ لا تفارقه حتى بعد الموت وأنت متنافر معه فى الاتجاه .
ويقينى أنني لا أعرف ، هل أحدث روحك أم جسدك أم الاثنين معاً، وكيف أبدأ ؟! وكيف أحدد اللحظة الفاصلة بين الحديث مع الروح أو الحديث مع الجسد أو الحديث عنهما .
ربما هناك نقطة ما .. كاليقين الذى لا يخضع لعقلك إنما تختاره لا عن إيمان وإنما عن رغبة فى أن يكون له وجود حتى تركن إليه وقت الشدة .
كأنك لا تؤمن بشئ .. إذ كيف تؤمن بما لا تراه وأنت متشكك بما تراه .
سأحاول جاهداً أن أوضح ، وإنى أعتذر مسبقاً عن إغفال بعض النقاط والأحداث دون قصد مسبق ، فأنت الذى تحكى وأنا الذى أنصت ،فقل ما بدا لك ، ولكن سيبقى دائما سؤال :
من الذى يكتب ؟ أنا .. أنت .. ؟؟!!
هل لأننا فى حقيقة الأمر متداخلان ؟؟ .. ليس على الوضوح وليس عليك الترقيع فلنتفق رغم اختلاف رؤانا ..
فلم تكن الأشياء فى يوم من الأيام على قدر كتلتها ولا ما تشغله من خير بل بمدى فاعليتها في الوسط داخل الإطار الذى تعيش فيه ونشاطها الذى يمكنها من التأثير والتأثر ، ومن الضرورى أن أذكرك أن خيبة المسعى يمكن أن تؤدى إلى الضلال وعلىّ وحدى تبعات ذلك .. إما البلوغ إلي الهدف أو الدوران إلي ما لا نهاية .. فلا تشفق على إذا ما عدت خائباً من مسعاى ، وعلى الرغم من ذلك ربما أحاول مرة أخرى .
امسك يدى جيداً .. لسوف تطفو أشيائى القديمة .. سوف نسترجع تفاصيلها فى وقت يموت تماماً .. امسك يدى .. لسوف تنفصل العوالم ثم تتشابك .. ما بيننا غير خيط .. سننسى الانهيارات وسنظل مشدودين لشئ واحد .. متشبثين بقوة ..
فكل ما يخرج منى أجده أمام عينى وأتعامل معه كأنني الجمع ، كأنني الكائن الوحيد الظاهر والباطن ، الأعلى على كل الموجودات والسابق على كل وجود .. المتعدد الوحيد .
في أغوار الظلمة كنت واثقا تماماً أننى وحيد ، يد الظلمة أطبقت على قلبى فانطفأ مصباح كان يضئ لى .. وسألتنى فى أى اتجاه أسير وأنا مقيد إلى المكان من ساعة التشكيل ..
كان الخرج فظاً وخشناً وكانت الظلمة أشواكاً ، ودعوت :
إن لم يكن بك غضب علىّ فلن أبالى ..
وما كنت أستطيع السير إلا أن يأمر الآمر .
تماماً إذا انفصلت الروح وبقى الجسد كانت روحى منفصلة إلا أن جسدى كان متشبثاً بقوة لا أستطيع مقاومتها ، قوة قادرة على التشكيل والتحريك فقلت :
ما الذى تريدون ، ولما أنا غير مكتمل وجامد ؟!
كانت يد التشكيل ما تزال في عملها ، ورائحة الفخار تملأ المكان ، هذه الرائحة التى ما فارقتنى لحظة للآن تذكرنى بأصلى كلما نسيته أو حاولته ..
فكيف الهروب منها والسمو عليها وهى تحت الجلد وفى الدم .. أذكر الآن كيف كانت تلك الرائحة أول حدود المعرفة .. لا تعرف كيف تهرب منها .. أتت من حيث أتيت ، وتذهب حيث ذهبت حتى آخر حدود الحياة وما بعدها .
عطست طويلاً فقلت :
لك الحمد
كفت يد التشكيل ..
تلك هى أول حدود المعرفة وأول الابتلاء .
نظرت فوجدتنى واحداً وسألت :
من أين أتت هذه المرآة ؟!
لم يجيبنى أحد .. لكن شيئاً ما فى البعيد حدثنى : هى نفسك وأنا صوتك .
فقلت : لم أنت بعيد ؟
فقال : ستعرف فى حينه فلا تكثر السؤال .
الآن فهمت .. حيث يوجد الصمت لا يوجد الكلم .. هذا أوان الصمت .
كمن يدير حواراً لا يستطيع السيطرة عليه ، وتتداعى مفرداته وتتشابه صوره كنت في تلك اللحظة .
ـ أول المعرفة أن تتعرف الأشياء أولها نفسك .
من تكون أيها الفخار ؟
كان السؤال فوق حدود معرفتى ، وكان الجواب ما يزال في آخر المطاف 0
أطلقتنى يد التشكيل فدرت في المكان أتعرف الأشياء ، أستنطق مدلولاتها .. كان المكان فسيحاً وخانقاً ..
أنت وحدك أيها الفخار كيف تسير فى هذا العالم وحيداً تكلم الهواء والأحجار وتخلق وحيداً عالمك وأنت تجهل من تكون ..
كانت يد الظلمة تقبض على قلبي بشدة ..
ـ هذا ابتلاؤك الأول فلا تتجاوز قدرك .
هذا هو العالم .. العالم ما كان بداخلك وانطبع على الموجودات .. لا تفتح صندوقك مرة واحدة بل ببطء شديد .. وتأمل داخلك .. هذا هو العالم .
أذكر أنه عندما هبط الليل نام العالم إلا أنا ظللت محدقاً للفراغ إلى أن تلاشت الحواس .. محدقاً نحو ضوء لا يكاد يبين ، ظللت متتبعاً مسرى الضوء الذى يبين ويختفى ، حملت أشيائى وتخففت قدر الإمكان .. فكأن روحى فى جوف طائر أخضر تارة أو هى فى الجحيم تارة أخرى ..
ربما كنت مثقلاً بحزن غامض وربما كنت متخففاً مما يحمله البشر عادة من أحزان لا ترقى لمستوى هذا الحزن الغامض .. وقد استقر عندى أننى خلقت عبثاً وأن هذه الحياة لا قيمة لها .. أنت تعرف ما أعنيه .. عندما تلتقى عيناك بعينين تحتضران وينطفئ بريقهما - أنت تدرك وتفهم - كيف تتحول هذه الحيوية إلى جثة .. أين ذهبت الروح والقوة وعندما يذهب الجسد وصاحبه إلي غير رجعة يبقي الكلام معلقاً فى الهواء ، كلامه ونظراته .. كأن الحياة التي امتدت به حلم طال ثلاثين سنة هو عمرك في هذه اللحظة .. تتذكره قاعداً وجالساً ومتكلماً حتى يتحول الحلم إلي كابوس يعيش معك البقية الباقية من حياتك لا تألفه بسهوله ولا تستسيغه ..
ربما يكون العدم الذى رُكِّبَ في تكوين العالم - من لاشئ إلى لا شئ وما بينهما لا شئ - هو الجحيم ..
جحيم الأسئلة المستفزة ، تغوص يدك لا تصل إلى قاع ولا قرار وتعود دون أن تبتل ودون ارتواء .. كفأر في مرحاض كلما هممت بالصعود تنتهى للمصفاة .. كفكرة تومض فى متاهة ..
هذا الوجود هو نفسه الوجود الذى عشته فى زمن قديم ..
هل أنا الذى كان منذ لحظة ؟!
هل أنا الذى غادرت هذا الثقل ؟!
هل أنا الذى دخلت هذه الخفة التى أحس بها الآن ؟!
صرت خفيفاً .. خفيفاً
هل إلى نقص أو اكتمال ؟!
كل شئ له فاعلية السقوط ، إرث الأسلاف ، ألبوم العائلة ، الميلاد ، أشياؤنا البسيطة ، الموت ..
كان السقوط عنيفاً ومدوياً ، إنه السقوط الذي عانا ، آدم الأول وما زال صداه فى نفسى ، بئر السقوط بلا قاع ، تحمل إرث الأسلاف على كاهلك وطوال عمرك لا تعرف معني للسقوط سوى السقوط .
أنت تشغل نفسك بالخفة بكتلتها وكثافتها وهى جزء من السقوط .. أن تكون الخفة والثقل فى جسد واحد أو معنى واحد هذا هو الجحيم .
كانت الأضداد تتجمع وتحلق فوق جثتى ، كان الهواء ثقيلاً على جثتى ، صرت شيئين ، روح وجسد ، خفة وثقل .. ساخن وبارد .. كانت روحى قلقة وما استقرت يوماً على حال ..
أنا واحد فلما صرت اثنين ولما هذه الحال ولماذا اختلفت الدوائر ، من الذى يعذبنى كل هذا العذاب ..
لست ميتاً ولست حياً ولست أعرف .. كل ما أعرفه أننى انتقلت بلا انتقال وفارقت بلا افتراق .. لم أتعلم شيئاً ولا أستطيع ..
ـ اعطنى على قدر ما أعطيك وسأعلمك كيف تغوص يدك وتقبض على ما تريد وتعود دون أن تبتل .
ـ أنا في خصام دائم مع هذا الوجود ذلك أن وجودى مخالف لوجوده .. هل الوجود الحقيقى فى الانفصال ؟!
الانفصال يجعل الأشياء تعود إلى طبيعتها إلى عالم الجزيئات والذر إلى بداية الدائرة ..
أم أن الوجود الحقيقى فى اتحاد العناصر وجسميتها وشكلها وصورتها وما غير ذلك لا يعد له وجود ؟!
لا أدعى أننى فهمت شيئاً .
كأنما أمشى على حد الكتابة .. ليس من الضرورى أن تعرف آلة الطباعة ما هو مكتوب .. فليس هناك خطاً مستقيماً .. ذلك الخط الوهمى الذى نتوهمه عن عمد .. إنه دوائر تنتهى لدوائر وتتقاطع فى دوائر تسلم لبعضها البعض بمسميات جديدة .. وأستطيع أن أزعم أن التنامى الذى ستتحدث عنه فيما بعد تنامى مغلوط ـ ستجده فى الفراغات التى تركتها ـ كالفرق بين الليل والنهار فمسببات حدوث الليل هى هى مسببات حدوث النهار ..
أثر الليل والنهار مختلف .. الأسباب دائماً تلقى بظلالها فى اتجاهين على الكائنات ..
( أنت الذى وضعت هذه
المتناقضات فى سلة واحدة
وقلت كن فكنتُ )
تماماً كما تبحث عن حل مشكلة فتقع فى عدة مشكلات تصرفك عن حل مشكلتك الأصلية .. هكذا الحال ما إن تبلغ منبعاً حتى تجد نفسك في المصب مرة أخرى .. تشرب من ماء البحر ولا ترتوى .. إنها بحار المرايا لا نهاية ولا شاطئ لها ، عميقة بعيدة لا تصل إلى قاع .. أنت تسير قصراً إلى حتفك ، تحمل صخرة على كاهلك حتى إذا توهمت الوصول تجد عبث المحاولة متمثلاً فى خيبة كبرى .. لا تملك حيالها المنطق والعقل فتقع الصخرة عن كتفك لا تحس أثراً لخفتها فتعود تحملها وتمضى فى عبثية لا نهائية ، تتمحور في المكان ويمر عليك الزمن كجواد جامح تصبح بعدها الموجودات أثراُ بعد عين .. تبقى وحيداً فى صحراء غربتك ترى الآل من بعيد وتذهب إليه فيتراءى لك فى مكان آخر كصوفى فى طريقه إلى الله ومازال بعيداً .. بعيد عن اليقين .. اليقين الحقيقى .. اليقين الذى ليس بعده يقين ، كأنك تفعل ما تفعله المرأة عادة بعد حيضها الأول ، تجمع الخرق ، وأنت تجمع شتات نفسك .. كل ما فيك جميل ، وأنت تجهل أى كائن تكون .. هذا هو الصندوق الذى فتحت ، خرج كل ما فيه إلا شئ واحد.. ( هكذا أنا معلق على بابك من ساعة التشكيل ) فأى اتجاه أسير.. الاختيار صعب .
كان العالم ممتداً امتداداً لا نهائياً .. قلت أغترف من أشيائه ما يعيننى على التذكر ..
كانت هناك شجرة فى البعيد سرت إليها ، وكلما سرت كانت تبتعد حتى أجهدت تماماً فجلست لأستريح .. كانت الشجر قبالتى ترنو إلى فى عظمة وشموخ ، وأرنو إليها في كبرياء وتحدى .. كعدوين التقيا بعد فرقة ولا يستطيعان النزال 0
جلست أياماً طويلة لم أذق طعم النوم وما عرفت الراحة .. فلا طائر في السماء أستشيره ـ هذا الطائر الذى ينقر صدرى ، ويختفى ويغيب ـ ولا قمر يطل على .. الظلام وراءه نهار ووراءهما ظلام لا معنى له وهكذا ..
قلت فى نفسى أنا فى المفترق .. قمت من مجلسى فإذا الشجرة تتحرك قلت أركض ، فإذا هى تركض .. ما توقفت لحظة وما غابت عن عينى برهة .. كأننا فى سباق حميم ، فلا أدركتها ولا هى حنت على .. كأنما تفرقنا فى الجهات الست 0. وهناك ظهرت جوهرة على الظلمة ، وامتدت يد ليس كمثلها شئ ، إذ هى تمتد لم أصافحها ومضيت يائساً ..
ربما مرت على آلاف من الأعوام أسير وسط جراب فلا ماء شربت ولا طعام أكلت .. وعندما ظهرت مرة أخرى لم أعانقها ، لقد كانت خشنة جداً ، هى التى عانقتنى فطفحت البثور .. وقابلت نهراً وخلعت ملابسى واغتسلت فتبدل جلدى ..
وحين خرجت لم أجد ما يستر عورتى ، وجلست فى النهر مدة طويلة لا أستطيع الخروج .. والمشاهد تتبدل علي الشاطئ .. قرى تتجمع وتتبعثر إلي أن تختفى .. ومدن تنمو وتستطيل بناياتها إلى أن تتلاشى ، والمشاهد تترى .. والنهر يرتجف ويشتد .. ثم انحسر ماؤه ، فوجدت شعراً كثيفاً قد نما على جسدى ، فحمدت وشكرت ..
هكذا سرت بين المشاهد حتى وجدت شبيها لي وازددنا وتكاثرنا ، وبينما نحن ماشين رأينا على البعد بناية بيضاء ، دورنا حولها وجدنا بابها مفتوحاً فدخل رفاقي .. وعندما هممت .. انفلق دوني فأصبحت وحدى أنا وشبيهى .. ناديت حتى انحبس صوتى :
رفاقى
رفاقى
لا أحد يجيب .. كلَّت يداى فانهرت باكياً .. ولم ينبس شبيهى بشئ كل الذى فعله أنه طار في الهواء حتى استقر فوق رأسى ، وحينئذ ندت عنى صرخة مدوية وارتج لها الكون ورأيتنى عاريا وملابسى فى الهواء أخذتهما واتزرت .. رأيت على البعد غابة سوداء .. دخلتها وأنا خائف وأوغلت أنا واثق أن طرقاتها ليست من صنع بشر .. إذ أنها مستوية فى بعض المناطق ومنحدرة فى بعضها الآخر .. وصفت الأشجار فى هندسة عجيبة .. وبلغت مكانا ليس فسيحا وليس ضيقا فيه حجارة من رخام بعضه أحمر وبعضه يميل إلى درجات مختلفة من الاحمرار وأنا أتأمل .. وإذا بى أمام شاهد أبيض ، كتب عليه بالمداد الأحمر . . هنا روحك فخذها ..
وإذا بصوت لا أدرى من أين هو يقول :
مد يديك ..
فمددت يداً واحدة ، فإذا بخشونة تحت سبابتى اليمنى كخدش على زجاج وانفتحت طاقة .. فقال : الأخرى ..
وعندما تجاورت اليدان داخل الطاق انبعث نور ، وإذا بصوت :
هى نار ليست كالنيران ،
وأنت تدخل فيها ولا تخرج
كما ولدتك أمك مبرأً من كل عيب
لا تحمل إرثاً ولا عائلة ،
أنت لا تبحث عن أحد ،
كما أن لا أحد يبحث عنك
هل تحلم بكل ما سبق وتطارد ميراثك
هل أنت آخر الخونة ؟1 ..
ـ ............................................
ودخلنى شئ .. فصرت أنا هو وهو أنا ، فانطلق صوتى مغنياً وربما أول مرة أسمع صوتى ـ ما نسينى صوتى كل تلك القرون ـ
فإذا بى أقول :
لك الحمد يا خالق النور ، لك ما ترضاه لى ،
وإذا الأشجار تتراقص حولى ، وتفتحت زهور كثيرة بألوان مختلفة وتضوع المكان بأريج غامض ، وتغيرت ألوان الرخام وأنا أنظر و أحدق في فرحة غمرتنى .
وفيما أنا أسير رأيت وجهاً كنت أعرفه فى الزمن القديم .. أشار لى فدنوت ، وأشار لى فسجدت .
وفيما أنا ساجد رأيت ببصيرتى خيالات تهوّم ، وأطيافاً تسبح في النور .. وانبثقت ثمار كثيرة .. وازدحم المكان .. مكان يتسع كلما ازدحم .
بشر كثيرون .. كثيرون .. كثيرون .. لست أعرفهم ولا هم يعرفوننى فقلت : إنى وحيد
وعند ذاك انفتح مشهد في الفضاء .. رأيت وجوه رفاقى تذوى ، وتذوب ، وأغلالاً من نار كلما هدأت حميت ، وكلما لانت تساقطت جلودهم وعظامهم .. ثم يعادوا خلقاً من جديد 0
كنت أرتجف ارتجافاً شديداً .. والعرق ما بين إليتى بارد .. بارد ، وتحت إبطى نهر من العرق .. كان العرق يزداد حتى وصل إلى عنقى فكدت أغرق ، فجاءنى صوت :
ـ ما بالك لو سمعت أصواتهم ..
وعند ذاك انبسطت تحتى أرض خضراء ونبت زهر جميل .. جميل ، ظلت ترتفع حتى ظننت أني بلغت السماء السابعة وأنى وصلت سدرة المنتهى ..
فسبحان من له الدوام ، والحمد لله يأمر بكن فيكون ولو شاء لاختصر ذلك فى حرف واحد أو أقل من ذلك بكثير .
وبينما أسير إذ طلع علىّ لص رفع علىّ السيف ، وأخذ أحمالى وأنا أستغيث :
مالى ..
مالى ..
فقال : أقتلك .
فقلت : عيالى ..
فتركنى
وهكذا تبدلت الأرض غير الأرض ، ونزلت من جبل إلى أرض منبسطة فرأيت حماراً فقال :
اركب ولا تسأل ..
فركبت مائة عام لا تزيد ولا تنقص ، ما بيننا لغة غير يا رحمن يا رحيم0
وعندما انقضت المائة عام .. قال : الآن تعلمت الصبر والحكمة .. وقال : انزل .
فنزلت فى قرية غريبة ما وجدت أحداً من الناس فيها مرسوم على كل باب نجمة خضراء ، بها حروف متداخلة وأحرف داخلية مسننة ، وفى أثناء تجوالى رأيت كلباً صغيراً يلهث من العطش فأخذته إلى حوض ماء قريب .. وأخذت بيدى غرفة ماء .. فانهمرت حجارة علىّ من كل اتجاه ، وهجم خلق غلاظ .. ألقونى خارج القرية بجوار حائط خرب فأصلحته وأنا أقول :
لك العتبى حتى ترضى .
وأنا أبكي بكاء شديداً ..
فإذا بجناح الرحمة يحملنى وإذا بصرخة عظيمة فمات أهل القرية فى أماكنهم ودمرت تدميرا .. وأنزلنى بأرض أخرى .
وجدتني جالساً بجوار طاحون قديم وبينما أنا جالس جاءنى رجل وألقى السلام .. وقال لى :
افتح يدك ..
ففتحت فوضع بها زمردة حمراء ومضى ..
غربت الشمس سبعة أعوام ثم أشرقت وهبت الريح سبعة أعوام وكفت ثم هطل المطر سبعة أعوام أخرى ..
وأنا جالس أتفكر وأتعجب وصوتى داخلى .. وزمردتى في يدى قبلتها .. فإذا هى زرقاء زرقة بحر السماء .. وتفتحت ممالك ما انفتحت لبشر .. سمعت أصوات الدويبات والهوام .. ورأيت تناسل الألوان .. ورأيتنى فى ظلمات تسع أتخلق علقه فمضغة فعظاماً .. أنزل إلي العالم المضئ .. وأحبو ثم أنتصب ثم أتوكأ على عصاى .. وزمردتى فى يدى زرقاء زرقة بحر السماء .. وحلق صوتى فوق رأسى فأخذته وثبته فى مكانه فهدأ .. وعند ذلك جاءنى الرجل اقترب منى وألقى السلام ؛ فرددت عليه وسألت :
لم الشر متغلب على الخير ؟
فقال : وهل يبنى الخير شيئاً .. الشر يبنى أسرع من الخير .. انظر إلى الآثار العظيمة هل بناها العدل ؟ إنما بنيت بظلم ملوكها وجبروتهم ، لقد طبع الإنسان على الظلم ، فالظلم كامن فى النفس القوة تظهره والعجز يخفيه .. كذلك فى كل قرية أكابر مجرميها فأخذنى وضمنى ضمة شديدة .. فغشينى النوم سبعة أعوام 0
فى العام الأول تغيرت الأرض وتبدلت وأخذت شكلها ، وفى العام الثانى انحصر ماء البحر فأصبح يابساً وماء .. وفى العام الثالث بدأت الريح فى الدوران ، وفى العام الرابع ظهرت الكائنات وكثرت ؛ كائنات تعيش فى الماء ، وكائنات تعيش على اليابسة ، وفي العام الخامس انقسمت كائنات البحر فأصبحت ذكراً وأنثى ، وانقسمت كائنات اليابس إلى ذكر وأنثى ، وفى العام السادس هدأت الرياح واستقر الهواء .. وأخذ كل يسعى .. وفي العام السابع تناسلت الكائنات وظهرت القرى وتجمعت فى أقاليم ومدن وتعددت اللغات وانفصلت شعوباً وأخذ كل شعب لونا من الألوان .. وصحوت فى آخر العام .
فإذا أنا على خضرة جالس وفى يدى زمردتى زرقاء زرقة بحر السماء .
انقضى أحد عشر ليلا ، وأحد عشر نجماً لا أحس وحشة ولا غربة فإذا الكلب الصغير يأتينى ويقول اتبعنى فأتبعه وزمردتى فى يدى .. ودخل الطاحون فتبعته ..
فرأيت كائناً ما لا هو ذكر أعرفه ولا أنثى فأصفها ، يدور مع حجر الطاحون مربوط على عمود من زبرجد أحمر وتحت الحجر بشر مطحونون إذ مسهم الحجر أسمع صرخات مرعبة وتعجن عظامهم بلحومهم فيسيل دم أحمر تتلقفه كائنات أخرى مرعبة المنظر شديدة الاحمرار فقلت :
من هؤلاء ؟!
فأجابنى : الكائن الذى تراه هو الطمع إما أن تأكله أو يأكلك وأنت من هذا فى حرز .. وأما هؤلاء وأشار إلى البشر فهؤلاء التافهون الطماعون تطحن عظامهم مع جلودهم جزاء ما عملوا وأما هؤلاء وأشار إلى الكائنات المرعبة فهؤلاء بقية من الصفات الذميمة إذا ما التصقت وتمكنت شربت من دم الإنسان فكل ذلك باق إلى يوم يبعثون .
فخرجت مهرولاً إلى صبارة عظيمة في البعيد ، وما اقتربنا حتى وجدت أسفلها طيوراً تبنى أعشاشها ، وطيوراً تبيض وطيوراً راقدة على بيضها والشجرة بلا ظل ولا ثمر ..
وخرج تمساح عظيم فأورقت الشجرة وأثمرت ولم تهرب الطيور بل تمسحت فيه فكان يختار البعض ويترك البعض .. أما الذى يختاره فيأكله وأما الذى يتركه فيطلقه فى الهواء .. فإذا هو يعود إليه ويتمسح به فقلت :
من هؤلاء ؟!
قال : هؤلاء لهم قصة :
أما الشجرة فزوجة هذا التمساح إذا طلع من النهر اخضرت من فرحتها وتلك الطيور أولادهما فهو يأخذ البعض فى رحلاته ويترك البعض وهذا التمساح كان فى الأصل ذكر نخل إذا حان موسم التلقيح يميل على أنثاه فلا تأتى بثمر وإذا طلع عليه أحد رماه من فوقه وهشم رأسه فاستجار صاحب المكان وعزم على قطعه ، فدعا الله أن يمن عليه فمن الله عليه ولكن كل عاد إلى سيرته الأولى ، فمسخه الله تمساحاً ، وأما الشجرة فهى فى الأصل أوزة ما كانت ترقد على البيض تباهيا بريشها .. فمسخها الله شجرة ، ولها قصة أخرى :
وأما هذه الطيور فهى فى الأصل آدميون أغار بعضهم على بعض طمعاً فمسخهم الله ويقال :
هى العناصر إذ تتزاوج ما بين جذب وشد ، على أن هناك عنصراً يغيب دائماً فلا يبقى للتزاوج قيمة فتصبح هذه العناصر بلا جدوى ويعود دولاب العمل .
فقلت :
أتعبنى التأويل
قال : كذلك نولى بعض الظالمين بعضاً .
كفَّـت الأرض عن الدوران أعواماً كثيرة لا أعرف عددها ، وبقى الليل فى مكانه البعيد والشمس عارية .. وسمعت صوت النهار يتوسل أن يستريح ، وهربت الكائنات فى جحور .. كانت يد الشمس تلتوى وتدخل إليهم حتى فزع الخلق فزعاً شديداً طوال هذه المدة .
تعب كل شئ على وجه الأرض حتى أن الكائنات كانت تترك نفسها لتموت في العراء .. وامتلأت الأرض بجثث كثيرة وبعض المخلوقات اندثرت وطمرتها الرمال .. وبقيت عظامها إلى يومنا هذا ..
قلت لصاحبى :
لنبرح هذا المكان .
وأنا أبحث فى يدى فلا أجد شئ فركبنى هم عظيم ..
فقلت : يا واحد
فإذا أنثى بجانبى وتلاشى صاحبى .
وقلت : يا واحد
فإذا هى اكتست ..
وقلت : يا واحد
فإذا نحن بأرض أخرى ..
كانت الأشجار تنمو نمواً عجيباً ، وأنا أأتنس بصاحبتى وكلما هممت بها أثمرت الأشجار وتوالدت فإذا هى زيتوناً ونخلاً ، وكروماً ورماناً ، وجميزاً وسنطاً ، ولوتس وبردى .
وسميت الأسماء بمسمياتها ، وكلما أوغلت كانت تزيد طلباً واستمتاعاً .. وتعلمت المخلوقات .
كانت جسداً عجيباً فلا هو لين فيعصر ولا هو صلب فيكسر ..ما بيننا لغة غير هذه اللغة .. وما تعلمت شيئاً طوال مائة عام غير هذا ، فى عناق وسباق وتداخل وولوج وخروج .. وكثرت الروائح الطيبة رائحة القرنفل والفل والياسمين ، والمسك والعنبر والنعناع ، والتمرحنة والبرتقال والليمون ، والنارنج والكافور والزعتر ..
وانفصلت الأيام والأعوام وكان الوقت والزمن ووجدت الأسباب والحوادث ، وانتظمت الأنهار في جريانها ، وبدأت الفصول الأربعة وعرفت الطيور أعشاشها وميقاتها ، وانبثق النهار من الظلمة .. كل شئ يتحول ..
تفرقت العناصر بعد امتراج فكان الذهب والنحاس والحديد وبقية المعادن وكان الخشب والفحم والبازلت والكوارتز وبقية الصخور ، كل شئ يأخذ لوناً من الألوان فكان الأحمر والبرتقالى والأصفر والأزرق والنيلى والبنفسجى وما غير ذلك كان أسودا 0
ورأيتنى واحدا واثنين وثلاثة إلى آخر الأعداد ، وأحصي كل شئ وتدورت الحروف وأصبح الألف والياء إلى آخر الأبجديات .. وظهرت النقوش الغائرة والبارزة واكتملت الأرض وانفصل القمر وتتابع الليل والنهار وأنا بين شد وجذب وارتخاء وانتصاب وجهد لا تبلغه الراحة..
لقد جئت من هنا ومن هناك ومن كل الجهات ، تماماً كما حدث أول مرة
عند الهبوط ، لكنى الآن أصعد وأصعد لا منتهى أجتازه أو سور
وقت فاصل ، فهل لكل منتهى بداية ؟!
أعلم إذا أسلمتنى الدائرة إلى بؤرتها لن أكف وحتى الآن يشهد طائر بعيد .. وأنصت .. لعلى أسمع الدفقة الأولى لعلى اسمع أول صوت على وجه البسيطة وأنا أرى أيامى تمر وتصير قروناً .. وأنا أفضى زمام هذه الأرض وأحفر مجارى الأنهار والآبار .. كأنى قد خلقت خالقاً .. وإذا الأرض تهتز من تحتى فقلت :
اهدئى لم يحن بعد وقتها ، كأنها فى نصف الطريق الذى ابتدأت ..
انتثرت الكواكب .. كل كوكب أخذ مداره ، كل شئ يتشكل من الفوضى وتشويش الحواس .. وإذا الكون ينتفض نفضة واحدة ..
فقلت : الدفقة جاءت .
ثم هدأ كل شئ وجاءت الروائح الكريهة .. وانتبهت ...
فإذا بزمردتى فى يدى زرقاء زرقة بحر السماء .. وجاء الرجل وقال : جاهد .. تشاهد .
قلت : قد جاهدت ما شاهدت غير ما يرنو فى المرايا ، وما لا تدركه الحواس .. فبأى ذاكرة أقيس ما رأيت ؟!
قال :بقلبك ، وستشاهد ..
وتركنى ومضى .. فانقبض قلبى بشدة .
ما الذى يفعل بى وقد تجاذبنى جانبان أنا بينهما كريشة فى مهب الريح .. وما دخلت وما خرجت ولا حللت فى مكان ، ولا خضت فيما لا طاقة لى به فلم أنا فى وادى الحيرة ، وما هذا الذى يجيئنى ثم يختفى .
وإذا بصوت :
يا ابن آدم .. جئت عرياناً وخرجت عريانا .. فماذا تلبس الآن ؟!
يا ابن آدم : هذى هى الدنيا تدخل محمولاً ، وتعيش محمولا ، وتخرج محمولا ، كل شئ عليك حتى أنت فماذا تحمل الآن ؟!!
يا ابن آدم : كل باب ولجته بى ، لا بيسراك ولا بيمناك فماذا تحسب الآن؟!!!
يا ابن آدم : أول كلامك ماء ، وآخر كلامك ماء ، فأين أنت وأين الماء ؟!!!
يا ابن آدم : أنذرتك فما ارعويت وحببت أن أسلك بك طريق الخير فما سلكت . فماذا تفعل الآن ؟!!!!
قلت في نفسى : كأننى مأمور أن أذهب إليها كل مساء تحملنى قدماى على غير وعى منى .. أجلس قبالتها تحدثنى وأحدثها ، وتسقينى وأسقيها ، وعندما يؤذن بالرجوع أكون قد نسيت ما قلته وما قالته .. وكانت تصغى وقالت : أنت تدرى ما معنى أن تكون وحيداً ..
قلت : أنا أكثر وحدة بين أصدقائى .. كان أصدقائى من البشاعة ما لم أستطع معها أن أعاشرهم .
قالت : كنت مجبراً على ذلك ؟!
قلت : نعم .. لكني حزين على مفارقتها
قالت : هكذا الحال .. فماذا أعددت ؟!
قلت : ما أعددت شيئاً .
قالت : أنت غير باحث عن شئ ؟!
قلت : أنا بين بين وبين عالمين ، لا أنا ميت ولا أنا حى أنا ميت حى أو حى ميت .
قالت : هكذا الحال إذن .. تغيب عنك أشياء أنت أحوج ما تكون إلى معرفتها .. لعلك كنت واثقاً من تمام الحواس وقدرتها على الإدراك والحكم .. اترك الدنيا لأهلها لم يبق من العمر إلا قليل وجميع ما كنت فيه رياء وتخيل فإن لم تستعد الآن فمتى تستعد ؟ . *
سأعلمك ما لم تكن تعلم وستغلق حواسك الخمس لترى الأشياء على حقيقتها .. سأعد لك قلباً يسع العالم .
انتزعت قلبى فإذا هو ينبض فى يديها وضغطت عليه برفق ووضعته فى طبق من الخزف الشفاف ، وقال : انظر ..
وضعت الطبق على قاعدة من الرخام الأبيض .. تحتها خشب الصندل موقد
وقالت : سأنضجه لك حتى تتيقن ..
وكانت تقلبه بين الحين والحين .. كل شئ كان يتوهج بحرارة وضوء باردين ، ووشيش الخشب المحترق يملأ المكان برائحة عبقة .. أخذته أخذاً لطيفاً إلى نبع قريب فإذا هو يمتص كل ماء الجدول .. أحسست بالراحة والهدوء ..
قالت : انظر ..
فنظرت إلى قلبى فرحاً ..
قلت : ماذا تفعلين بى وبأى أرض أنا ..
أشارت فدنوت وقالت :
أنت بأرض السمسمة ، أنت بعالم الجبروت .. نم . فنمت .. رأيت الحواس الخمس طالعة منى ومنسربة لأعماق الكون ، وصوتها فى أذنى : سأثبتها وسأطلقك فلا تحزن .. ولا افتراق .. ستذكرنى كلما ظهر القوس فى السحاب ..
تحسست قلبى كان مغسولاً فى مكانه ولا أثر لجرح ..
قالت : احملنى بقلبك ..
فأخذتها بمجامع قلبى فتجمعت مقدار قبضة وقبلتها فإذا هى تتلاشى فى .. وأنا لا أحس وحشة ولا غربة ..
قالت : اخرج إلى العالم المضئ ..
تذكرت .. هذا أوان الكلام ومربط البداية ..
قلت أعيد ترتيب الكون .. أخذت من كل الأشياء اثنين ، وزاوجت ما بين اثنين واثنين ، وحضرت الأشجار كلها فتخيرت واحدة بعينها .. جلست فى ظلها وأنا واثق أنها هى .. هذى هي فروعها الخمس والوصايا وأعمار الدنيا .. كل شئ صائر إلى ما تريد ..
قالت :
جاءك اليقين على رجلين وعرفت الجوهر الفرد .. وتحسست روحك بعد غربة ونأى .. لن تتجزأ بعد الآن .. هذا هو الماء غسلت قلبك ومسحت على رأسك .. هذا ما بناه الأقدمون بين يديك لا تفرط ولا تتخذ سوطاً على الآخرين ، إنهم إخوانك وأنت بهم أولى ، فلا تقسو ولا تك ليناً كن بين بين لا كما أنت 0
أنا واثقة منك ولقد فضلتك على العالمين ، وسترى آياتى وستشاهد
قلت : لا تتركينى ..
قالت : لن يعرف الخوف الطريق إلى قلبك .. لقد عرفتك ما لم تكن تعرف وستصل إلى نهاية الطريق .. أنا أعدك بذلك .. لقد زودتك بأشياء .. إنها ستقويك فلا تخشى ..
تتحرك الأزمنة وتتداخل وتتغير عليك الصفات .. وتأتى من بعيد القبائل لطواطمها والتعاويذ ، والتمائم وأنت تتقلب من مشهد إلى مشهد ومن حال إلى حال ..
لقد انتقلت من كفك إلى قلبك وكنت قاب قوسين أو أدنى .. وحببت إليك العدد بعد إفراد ووحشة .. فلن تعرف إلا أنا ولن أعرف إلا أنت ولن يعرف أحد إلا أنا وأننت فاستعن على قضاء حوائجك بى .. نطقت بلسان حقيقتك ولم أدع ما ليس لى وعرفتك أطوار الخلق وثبتك على شئ تريده .. تلك مخاطبات بينى وبينك .. أنا حقيقتك وأنت حقيقتى ، وصفيى وخليلى .. عرفتك الموت والحساب والدرجات وما كنت نبياً و حدثتك بلسان الواحد وفيك روح منه .. وأنا محض روح لا تعرف كنهها .. فخذ بيمينك ما كتبت لك ولا تعجل به ..
كلانا عارف بقدره ومنشغل به ..
كلانا عارف من هو ..
آن لك أن تتكلم بسر محبتى وشهودى وبسر النجاة ..
كان الكون هادئا منساباً وها هى الحواس الخمس تعود أفضل مما كانت .. رجعت إلى مكانها فعلمت كل شئ ..
ووجدتنى على جبل عال وبين يدى قبس من نار وفى يدى عصا وبقلبى ما يسع العالم وأرانى فى زوايا الكون ممتداً فى كل الجهات وفى السماء هلال كبير يتأرجح بين خيطين .
صلاح عبدالعزيز