عبدالغفار مكاوي - الدهشة أصل الفلسفة..

بالدهشة نخطو الخطوة الأولى على طريقها الطويل، نسأل الموجود: ما أنت؟ من أين أتيت؟ وإلى أين تصير؟ لِمَ وُجِدتَ ولم تكن بالأَولى عدمًا؟ نحن جميعًا مطالَبون بالسير على هذا الطريق الذي قد لا يكون له آخر وقد لا يبدو له هدف، إنه طريق يسير عليه الإنسان ولا يدري إن كان «سيصل»، فهو لا يعرف هنا معنًى لكلمة «الوصول»، إنه يحمل على ظهره منتهى شجاعته ومنتهى حزنه، يتخبط في ليل السؤال ولا يدري إن كانت ستشرق عليه شمس الجواب، كلمة «لماذا» هي عصا الوحيد على الطريق الوحيد، تلمس الحجر فتَنبت له عينان تستفسران: مَنْ أنا؟ ما أصلي؟ وما نهايتي؟ وتمس الحيوان فيرتعش، يفيض السؤال البريء من النظرة البريئة: هل تعرف إلى أين؟ وتهزُّ عقل الإنسان وقلبه فيفتح عينيه كما فتحهما آدم على الوجود أول مرة ويسأل: من هو الإنسان؟ ماذا أُريد من العالم؟ وماذا يُريد العالم مني؟
نقول: إن الدهشة أصل الفلسفة، ويوشك القارئ أن يسأل: وهل تحتاج الكلمتان إلى تفسير؟ أمَّا الدهشة فأراها كل يوم، في العيون المفتوحة والحواجب المرفوعة والأفواه الفاغرة، وأمَّا الفلسفة فأقرأ عنها في كل مكان، وأستطيع أن أتتبع تاريخها في كل مكتبة، وألمَّ بماضيها وحاضرها في بضعة أيام، غير أن من الكلمات ما يعاني نفس المصير التعس الذي عانته الكلمات على يدَي محدثي سقراط، فكلهم كان يدَّعي معرفتها، فإذا به ينتهي إلى اكتشاف جهله بها، كل لسان يلوكها وكل قلم يجري بها يُسدل عليها ستارًا جديدًا من النسيان ويلفُّها في سحابة من الغموض.
لن نعرف الطريق إلى الكلمة حتى نبدأه من أوله، ولا طعم القطرة حتى نعود بها إلى منبعها، وأول فم نطق بكلمة الفلسفة كان فمًا يونانيًّا، فلنحاول أن نستمع إليه كما خرج منه أول مرة، ولنحاول أن نفتش عنه تحت أكوام المعارف التي تنهال عليه منذ أكثر من خمسة وعشرين قرنًا.
حين نسمع الكلمة في أصلها اليوناني نجدها تقول: «فيلوسوفيا»، الكلمة الآن تتحدث بلسان يوناني، وتحدد بنفسها الطريق، الطريق يمتد أمامنا، فهناك دهرٌ طويلٌ يفصل بيننا وبين مَنْ نطق بها لأول مرة، والطريق يمتد من خلفنا، فقد طالما سمعناها وأجريناها على أفواهنا، وهو في الوقت نفسه طريق نسير عليه وما نزال نتابع المسير، ولكن ما أقل ما نعرف معالمه، برغم كل ما نعرفه عن الفلسفة اليونانية من حقائق وما نقرأ في تاريخها من بحوث.١
الكلمة اليونانية تقول لنا أيضًا: إن الفلسفة هي التي حددت وجود اليونان في فجر حضارتهم، وليس ذلك فحسب، بل إنها هي التي حددت ملامح التاريخ الغربي الأوروبي، والواقع أن عبارتنا «الفلسفة الغربية الأوروبية» هي من قبيل تحصيل الحاصل، لماذا؟ لأن الفلسفة في صميم جوهرها ونشأتها يونانية، فحين نقول إن الفلسفة يونانية فإنما نعني أنها مسَّت قلب اليوناني وعقله، واليوناني وحده، وسيطرت أول ما سيطرت على روحه؛ لتطبعها وتطبع الروح الأوروبي من بعده حتى يومنا هذا؛ فعبارة «الفلسفة في صميم جوهرها يونانية» لا تريد إلا أن تقول: إن تاريخ الغرب وأوروبا — وتاريخهما وحدهما — في صميمه فلسفي، ونشأة العلم وسيادة الصنعة الفنية «التكنيك» في أيامنا هما دليلنا على هذا، إنهما الزهرتان الشائكتان اللتان تنحدران من جذور الشجرة اليونانية.٢
ما كان للعلم أن يقوم لو لم تسبقه الفلسفة، ولن نعرف ما الذرة والصاروخ حتى نعود إلى السؤال الذي ألقاه الحكيم اليوناني الأوَّل: ما هذا «الوجود»؟ إن كلمة الفلسفة — كما يقول هيدجر — مكتوبة على شهادة ميلاد أوروبا والغرب، وفي استطاعتنا لا بل من واجبنا أن نقول: إنها مكتوبة على شهادة ميلاد عصرنا الذي نسميه في رهبة وإشفاق بعصر الذرة.
بالسؤال: «ما هذا؟» نحاول أن نحدد «ماهية» الشيء، فحين نسأل: ما هذا الذي يبدو على البعد؟ ونتلقَّى الجواب: إنه شجرة، ثم نعود فنسأل: وما هو هذا الذي ندعوه شجرة؟ فإننا نكون قد اقتربنا من طريقة اليونان في السؤال، أي اقتربنا من الفلسفة. هكذا كان يسأل سقراط وأفلاطون وأرسطو، إنهم يسألون: ما هذا الذي نسميه بالجمال؟ وما هذا الذي نسميه بالمعرفة والطبيعة والحركة؟ إن السؤال عن «ما هو الموجود؟» ليس سؤالًا من أسئلة، ولكنه «السؤال» الذي طبع الروح الغربي من المهد حتى لحظتنا الراهنة، فسؤالنا «ما هو» سؤال عن ماهية شيء، عن جوهره وحقيقته، والسؤال عن الماهية يستيقظ في عقل الإنسان وقلبه حين يصيب الاضطراب والغموض ماهية ما يسأل عنه، وحين تهِن صلته به أو تهدد بالضياع والانهيار، فسؤالنا إذن عن ماهية الفلسفة ينبع من إحساسنا بأن الفلسفة نفسها أصبحت موضع السؤال، إنه يصدر عن شعور بالمحنة، محنتنا نحن، السائلين والمسئولين جميعًا؛ ذلك لأن الفلسفة لا تُصاب بالمحنة. والذين يحلو لهم أن يتحدثوا عن محنة الفلسفة إنما يتحدثون عن محنتهم هم، عن عجزهم عن الاتصال بروحها وانقطاع الأسباب التي تربطهم بما هو حق وباقٍ وخالد، وكم مرت المحن المزعومة — من جانب الفلاسفة قبل كل شيء — كما تمر السحب على وجه الشمس.
دار بنا الحديث في دائرة، كُنَّا نسأل عن أصل الفلسفة، فساقنا الحديث إلى ماهيتها، ثم إذا بنا نتهم أنفسهما ونتهم غيرنا بأننا نعيش من إهمال السؤال عنها في محنة. ولكي نعرف سر هذه المحنة لا بد لنا من معرفة ذلك الذي أدرنا ظهورنا له، وعصبنا أعيننا عن رؤيته حتى تعثَّرنا في المحنة، أعني لا بد لنا أن نعود فنسأل: ما هي الفلسفة؟
الكلمة اليونانية «فلسفة» تعود إلى كلمة «فيلسوف»، كان أول من استخدم هذه اللفظة الأخيرة وطبعها بطابعها هو هيراقليطس، ومعنى هذا أن كلمة الفلسفة لم توجد بعدُ عند هيراقليطس، وكل ما نجده لديه هو كلمة الفيلسوف، مستخدمة استخدام الصفات،٣ فالفيلسوف عنده هو الذي يحب «السوفون»، والحب عنده فعل يحاول به المحب أن يطابق بينه وبين المحبوب، فيتحدث كما يتحدث «اللوجوس»، ويعيش ويفكر في «هارمونية»، أي في انسجام وتجانس معه، ومن العسير أن نعرف، على وجه الدقة، ما يريده هيراقليطس بكلمة «السوفون»، إنه من أعقد الفلاسفة وأشدهم غموضًا، حتى لقد سماه الأقدمون بالمظلم، ولكننا نستطيع أن نعتمد على هيراقليطس نفسه: «إن لم يسمعوني واستمعوا إلى اللوجوس (المعنى، الجوهر، الكلمة) فسيكون من صواب الرأي أن نقول بما يُطابق الحكمة: إن الواحد هو الكل»، أمَّا «الكل» فيعني هنا كل ما هو موجود، وأمَّا «الواحد» فتعني الواحد الفريد المتوحد، كل الموجودات متَّحدة في الوجود، والسوفون تعني إذن كل موجود في الوجود، أو بعبارةٍ أشدَّ حدة: الوجود هو الموجود، ورابطة الكينونة المضمرة في الجملة الأخيرة متعدية، نستطيع أن نترجمها بقولنا: إن الوجود يجمع (يكون) الموجود، فيكون الوجود بهذا المعنى هو التجميع «اللوجوس»، قد تبدو لنا هذه العبارة تافهة، وقد نحسب أن كل ما يوجد فهو بطبيعته مشترك و«مجتمع» في الوجود، ومع ذلك فقد كان اجتماع الموجودات في الوجود وبقاؤها فيه هو الذي أثار الدهشة في عينَي اليوناني القديم (أقول في عينيه ولا أقول في سمعه أو قلبه؛ ذلك أن فلسفة اليونان كلها فلسفة رؤيا وتأمل، وكلنا يعرف منزلة العين عند أفلاطون وأرسطو، من يدري في أي اتجاه كان يمكن أن تسير الفلسفة والفكر الغربي كله لو أن اليوناني أصغى سمعه وخشع بقلبه بدلًا من أن يفتح عينيه ليسأل ما الوجود؟ فينتهي به السؤال إلى السيطرة عليه والتحكم فيه؛ هذه السيطرة وهذا التحكم اللذين وصلا إلى قمتهما فيما نسميه اليوم بالروح العلمية أو الروح الوضعية).
هذا الذي أدهش اليونان حاولوا أن يحموه وينقذوه ممن لا يحس بالدهشة، من حكماء السوق، من السفسطائي الذي يعرف لكل مشكلة حلًّا ويجد لكل سؤال جوابًا، ولم يكن من سبيل إلى إنقاذ الدهشة إلا بالصعود في طريق المدهش، فأصبح الحكيم هو الذي يسعى إلى الحكمة، ويوقظ بسعيه الشوق إليها في نفوس الآخرين، فمحبة الحكمة — بالمعنى الذي ذكرناه من الانسجام مع الواحد أو الكل، والتجانس مع الجوهر أو المعنى — هي في السعي إليها سعيًا يحدده الحب ويبين له الطريق إلى وجود الموجود، إلى الكل. ربما كان هذا السعي هو الفلسفة التي قصد إليها هيراقليطس، ومع ذلك فلم يكن هيراقليطس فيلسوفًا بالمعنى الذي نتعارف عليه اليوم كما ورثناه عن أفلاطون وأرسطو، وكل ما نستطيع أن نقوله عنه: إنه مفكر عظيم، محب للحكمة، دائب السعي إلى التشبه بها، والمجانسة بين لغته ولغة «اللوجوس»، والحياة والتفكير بما يطابق الواحد الكل. هذا السعي المفعم بالدهشة نحو مصدر كل دهشة هو الذي يعبر عنه فيما بعدُ في هذا السؤال الذي يتحول به الفكر بمعناه عند هيراقليطس والفلاسفة قبل سقراط بوجه عام إلى ما نسميه اليوم بالفلسفة: ما هو الوجود من حيث هو موجود؟ هذه الخطوة التي مهد لها السفسطائيون وقام بها سقراط وأفلاطون يعبر عنها أرسطو في جملة مشهورة يقولها بعد هيراقليطس بحوالي قرنين من الزمان: «وهكذا كان من قديم، ولم يزل الآن، وسيبقى أبدًا؛ السؤال الذي تسأله الفلسفة وتحار في الوصول إلى الجواب عنه وهو: ما هو الموجود؟»٤
السؤال يُشير إلى ما يسأل عنه، إنه وجود الموجود، هو التغير الدائم عند هيراقليطس، والمثال عند أفلاطون، والطاقة عند أرسطو، والأنا أفكر عند ديكارت، والأنا أتصور لنفسي عند كانط، و«الأنا» عند المثاليين الألمان من بعده، وإرادة القوة عند نيتشه … إلخ. إجابات يطول بنا المقام لو حاولنا أن نتتبعها؛ لأن ما نريده أبسط من هذا بكثير، نريد أن نقف عند الباعث على هذا السؤال ونعرف الدافع إليه؛ فالتحولات المختلفة التي مرت بها الفلسفة في تاريخها الطويل لن تُجدينا في الإجابة على سؤالنا، أجدى من ذلك أن نحاول الاقتراب من جوهر الفلسفة نفسها، ونعرف الباعث الخالد الذي دفع الإنسان في كل مرة إلى محاولة الإجابة على سؤالها الخالد.
يقول أفلاطون في محاورة ثيايتيتوس:٥ «هذا الانفعال أو العاطفة — يعني بذلك الدهشة — يميز الفيلسوف حقًّا، وليس للفلسفة أصل سواه.» انفعال الدهشة إذن هو أصل «أرخيه» الفلسفة، كلمة الأصل هنا — بمعناها اليوناني — تعني أمرين: أولهما ذلك الذي تصدر عنه الأشياء وتنبع منه، وثانيهما ذلك الذي يسود ويسيطر على ما يصدر ويتفرع منه، فالدهشة بهذا المعنى ليست هي البذرة التي تبدأ منها حياة الفلسفة فحسب، بل هي قوة الحياة نفسها التي تحملها وتسيطر على مراحل نموها وتوجِّه مصيرها. يقول أرسطو في هذا المعنى:٦ «من خلال الدهشة بدأ الناس الآن وفي أول الأمر يتفلسفون.» أي أنهم توصلوا من خلال الدهشة إلى المبدأ الذي تصدر عنه الفلسفة ويسري في تيارها الذي لا ينقطع.
من الخطأ الظن بأن أفلاطون وأرسطو يتحدثان عن الدهشة والاندهاش كما لو كانا علة الفلسفة والتفلسف، فلو صحَّ هذا لما زادت الدهشة عن أن تكون مجرد دفعة ساقت الفلسفة في طريقها حتى إذا سارت في هذا الطريق استغنت عنها وتقطعت أسبابها بها، ولكن الدهشة هي الأصل — بالمعنى الذي أشرنا إليه — في كل فلسفة، إنها تلازم كل خطوة من خطواتها، وتسري سريان الدم في مشكلاتها ومسائلها، الدهشة انفعال وعاطفة، لا بالمعنى النفسي الحديث لهذه الكلمة، بل بالمعنى الذي يحتمل العذاب والتعذُّب والصبر والمعاناة، حيث ننفعل انفعال الدهشة، نجدنا نقف وقفة مع أنفسنا، نفزع إليها من الموجود الذي أدهشنا أن نجده أمامنا، وأن يكون على هذه الحال بعينها لا على حالٍ أخرى، هذا التوقف عند الموجود وهذا الفزع منه هو في نفس الوقت فزعٌ إليه ووقوع في أَسْرِه. الدهشة هي الحال التي يتفتح لنا فيها وجود الموجود ويكشف عن نفسه، هي الرجفة التي اقشعر بها كيان الحكيم اليوناني الأوَّل ففتح فمه ليسأل: ما أنت أيها الموجود؟ لِمَ كنت ولم يلفَّني وإياك ليل العدم؟ أيها القريب البعيد، لِمَ لا تكشف عن وجهك إلا لتُسدل عليه القناع؟ في هذه الحال سعى الحكيم اليوناني إلى أن يطابق بينه وبين الموجود، أي إلى أن يكون حكيمًا.٧
نعود فنقول: إنه ليس من همِّنا هنا أن نتابع السؤال الفلسفي الأوَّل: ما هو الموجود؟ والتحولات التي طرأت عليه خلال الطريق الطويل الذي يمتد خلفنا وسيمتد أمامنا ما عاش الإنسان. إن محاولتنا هنا أكثر تواضعًا: نريد أن نفتش عن الدهشة في قلوبنا وعقولنا؛ لنعرف إن كُنَّا ما نزال قادرين على معاناتها، وإن كان في استطاعة الإنسان اليوم أن يسأل ويتساءل، بالمعنى الحقيقي لهاتين الكلمتين.
يقول باسكال في كلمة مشهورة: «تعلَّموا أن الإنسان يعلو على الإنسان بما لا نهاية له»،٨ ولقد كان التفلسف من قديم وسيبقى دائمًا هو الفعل الذي يتعدى به الإنسان عالم كل يوم ويتجاوز به حدود ذاته، ولا يتسنى له ذلك حتى يعلو فوق كل شيء، أعني فوق العالم بوصفه كل الموجودات، نقول: إن الفيلسوف يعلو على عالم كل يوم ولا نقول يتعالى عليه؛ ذلك لأنه بشر كسائر البشر، مُلْقًى به في قلب الحياة اليومية التي لا يستطيع أن يتفلسف بعيدًا عنها، مسئول عن إشباع حاجاته الجسدية التي لا يستطيع أن يعيش بغيرها، ولكنه يعلو على عالم كل يوم لا ليخرج منه بل ليعود إليه أوثق اتصالًا بجذوره، لا عن أنَفةٍ أو كبرياء، بل ليتفرغ لتأمله والنظر فيه، فعمل الفيلسوف إذن مجرد عن الهدف والمنفعة، ولا سبيل إلى قياسه بالعمل اليومي (ليس الفيلسوف وحده هو الذي يعلو فوق العالم. إن كل مَنْ تصيبه هزة تُدنيه من حدود الوجود يفعل مثل ذلك، العاشق والشاعر والثائر والمريض على فراش الموت والمؤمن في بيت الله، كل أولئك يعلون فوق العالم اليومي ويَنْفذون من دائرته الضيقة المتناهية، لا مكان للفلسفة والتفلسف في عالم يطغى عليه العمل ويتحكم فيه، عالم لا تنمو فيه شجرة الدين، ولا يتنفس فيه إلهام الشعر، ولا تهزه رجفة الحب أو يعمقه إحساس الموت).
قلنا: إن الفلسفة تعلو بالإنسان فوق حدود العالم اليومي، وتسمو به على أسواره الضيقة، وكذلك زعمنا عن كل تجربةٍ عميقة تقرب الإنسان من ذاته ومن الكل المحيط به، في الشعر والحب والدين والموت، ولكننا لم نقل: إن كل فلسفة أو كل شعر أو كل حب يفعل به ذلك، إن هناك ألوانًا من التفلسف الظاهري التي تُحكِم أسر الإنسان في سجنه اليومي بدلًا من أن تخلِّصه منه، وهناك ألوان زائفة من الشعر والعبادة والحب لا تحمل من أصل معناها الحق إلا الاسم والقناع، هناك لا نستطيع أن نعلو فوق العالم — هذا العلو الذي يستطيع وحده أن يدنينا منه — ولا فوق وجودنا المحدود، ومن أين لنا هذا العلو ونحن نضع كل ما من شأنه أن يتسامى بنا في سلة حياتنا اليومية؟ في العبادة الزائفة يصبح الإله نفسه حلقة في سلسلة الأهداف والوسائل اليومية، ووظيفة نبغي بها تحقيق غاية أو إدراك أمل. في الحب الزائف يصبح سر الحب وعاطفته وسيلة من وسائل الذات المحدودة الأنانية لا غاية في ذاته؛ فالمحب الحقيقي يجد نفسه مُلقًى في أحضان العالم العظيم العميق، والحب هو الذي يزيد من عظمته وعمقه. في الشعر الزائف والفن الظاهري لا ينفذ «الشاعر» من قبة العالم اليومي ولا يتصل بقلبه النابض (فلو فعل لكان ذلك عُلوًّا به) وإنما يرقش زخارف خدَّاعة على جدران هذه القبة، ويضعها في خدمة الحياة اليومية، تارةً باسم «الشعر الحالم» وأخرى باسم «الشعر السياسي»، وهناك أخيرًا الفلسفة الزائفة التي لا تعجز فحسب عن العلو بالإنسان على الحياة اليومية، بل إنها تُحْكِم إغلاقها عليه وتزيد من عذاب سجنه بين جدرانها، إنها تشبه عندئذٍ فلسفة السفسطائي بروتاجوراس الذي يسأله سقراط: أي شيء إذن تعلِّم الشباب الذين يتدافعون إليك؟ ويجيبه بروتاجوراس: عندي يتعلم الشباب الرشد سواء كان ذلك في أمورهم الخاصة، فيتعلمون على سبيل المثال كيف يؤثر الإنسان بالقول والفعل أفضل تأثير على الدولة. هذا هو برنامج الفلسفة الزائفة المتظاهرة التي ما زلنا نسمع المنادين به في كل مكان من العالم اليوم أكثر من أي وقت مضى، ارتفع به صوت هذا السفسطائي الذكي المتحمس الثرثار منذ أكثر من عشرين قرنًا في أسواق أثينا وشوارعها، وأثر هذه الفلسفة الزائفة في محنة الإنسان المعاصرة، التي يمتحن فيها بقدرته أو عجزه عن توجيه السؤال الفلسفي من جديد، بكل حرارته وجدِّيته وخطورته، يفوق بكثير كل ما قد يلصقه الفلاسفة برجل الشارع من احتقار لكل ما لا يتصل بالحياة العملية بسبب، وما أكثر ما يكون بريئًا منه! ذلك أن رجل الشارع لا يخلو في لحظات نادرة من حياته المتعبة أن يهتز لبيت من الشعر أو يرتجف لسؤال عن معنى الحياة. أمَّا الفيلسوف الزائف الذي يحشد قوى التفلسف في خدمة الحياة اليومية، فأين ما يمكن أن يهزه أو ينقل الرجفة إلى قلبه وعقله؟! إن ما يحمل هدفه في ذاته، كما تقول عبارة كانط المشهورة: لا يمكن بحال أن يصلح وسيلة لهدف من الأهداف أيًّا كان، ومع ذلك فنحن لا نحاول هنا أن ننقد عصرنا، بل نريد أن نفهم من جديد العلاقة الخالدة بين الإنسان والكون، ونُعيد الدهشة إلى عيوننا وقلوبنا ونحن نسأل السؤال القديم الجديد: ما هو الوجود؟ ومَنْ هو الإنسان؟
إن ضحكة الفتاة الثراكية التي جلجلت بها وهي ترى طاليس الميلي يتعثر فيقع في ماء النبع لأن عينيه كانتا مشغولتين بتأمل السماء؛ هذه الضحكة هي — في نظر أفلاطون — الجواب الذي يردُّ به «العاقلون» و«العمليون» في الحياة اليومية على كل سؤال فلسفي.
إن قصة هذه الفتاة ذات الضحكة البريئة — التي لا شك أن لها ما يبررها! — قصة يبدأ بها تاريخ الفلسفة ولا تزال عالية الأصداء حتى يومنا هذا:٩ «ودائمًا وأبدًا ما يكون الفيلسوف مدعاة للضحك، لا بالنسبة للفتيات الثراكيات فحسب، بل للكثير من الناس على وجه الإجمال؛ ذلك لأنه — وهو الغريب عن العالم — يسقط في نبع الماء وفي ألوان أخرى من الحيرة والارتباك.»١٠
ولكن مَنْ يجرؤ على الادِّعاء بأن في إمكانه أن يغادر عالم هذه الفتاة الثراكية إلى غير رجعة؟ مَنْ مِنَّا يستطيع أن يعيش بغير سقف فوق رأسه، ولا دفء حول جسده، ولا هدف على طريقه؟ ثم مَنْ مِنَّا يستطيع أن يوفر لنفسه ترف التأمل في النجوم، إلا إذا كان مُستعدًّا للوقوع تحت عجلات الترام أو الانخراط في عداد المشبوهين؟ أليس هذا مخاطرة بالخروج عن طبيعة الإنسان نفسه؟ ثم إلى أين يخرج الإنسان حين يخرج عن حدود العالم الذي نعيش فيه كل يوم إلى عالمٍ آخر؟ وماذا عسى أن يكون هذا العالم؟ هل هو عالمٌ «آخر» يكون عالمنا هذا ظله وشبحه — كما زعم البعض خطأً عن أفلاطون — ويقابله كما تتقابل المادة والروح والليل والنهار والنسخة والنموذج؟ الإجابة على هذا السؤال إجابة على سؤالنا القديم: ما هي الفلسفة؟
إن الإنسان حين يتفلسف يعاني تجربة يهتز فيها العالم اليومي تحت قدميه، تقف فيها دوامة العادات التي تجرفه صباح مساء: يقظة من النوم، ساعات يقضيها في العمل، ثم ساعات يقضيها في فراغ ليستعدَّ للعمل من جديد، ثم نوم فيقظة فساعات عمل … إلخ «حتى يتفجر ينبوع الدهشة ذات يوم في قلبه فيسأل: ما معنى هذا كله؟ … ويقف أمامه شبح المحال المعتم، كما وقف في السنين الأخيرة أمام المفكر العظيم ألبير كامي.» إنها التجربة التي تقول له: إن العالم المحيط به، الذي تحدده أهداف الحياة القريبة المباشرة؛ يمكن أن يهتز يومًا، وينبغي أن يهتز لدعاء «العالم»، أن يرتجف من صوت «الكل» الذي يعكس الصور الأبدية للأشياء، التفلسف معناه: أن يعلو الإنسان على عالم كل يوم ليواجه «العالم»، أن يترك الأمان إلى الخطر، أن يغادر بيته إلى حيث لا سقف يُظلُّه، أن يهجر الطرق التي تعرف هدفها ليسير على «الطريق» التي قد لا يكون لها هدف. هل معنى هذا أن يهيم الفيلسوف على وجهه، أشعث الشعر معلَّق البصر بالنجوم، عرضة في أيامنا هذه لأن يطرح عليه «القميص الأبيض» أو يضع جندي الداورية في يديه الحديد؟ نحن إن فعلنا هذا نكون قد صوَّرناه في صورة خيالية سخيفة بقدر ما هي باطلة؛ إذ كيف نستطيع أن نقول مثل هذا الكلام عن أناس عقلهم حادٌّ كالسيف ولغتهم ساطعة لا تعرف ظلًّا من خيال أو عاطفة؟ إن الإنسان يستطيع أن يتفلسف، أعني أن يتأمل تأمُّلًا نظريًّا، ويرى الوجود رؤية نقية (كلمة «ثيورين» اليونانية ليس لها معنًى غير هذا) مُجردة عن كل هدف من الأهداف المتصلة بحياته اليومية، قلنا: يستطيع، ومن حقنا أيضًا أن نقول: ينبغي عليه أنه في تأمله النظري الخالص هذا الذي سميناه بالتفلسف، يعلو على ذاته وعلى العالم، وهو بفعله هذا لا يحقق إنسانيته فحسب، بل يعلو عليها أيضًا (لنتذكر كلمة باسكال السابقة)، ولكن كيف وبأي شيء؟ بالدهشة التي هي أصل التفلسف، بالاندهاش الذي هو أصل الحرية، وأين يجد الإنسان حريته إن لم يجدها في النظرة الخالصة إلى الموجود وإلى العالم باعتباره كل الموجودات، نظرة مجرَّدة عن كل هدف، نقية من كل تغيير ومن كل محاولة في التغيير، لا لكي نعرف الموجود فنسيطر عليه كما يقول بيكون، ولا لكي نجعل من أنفسنا سادة على الطبيعة ومُلَّاكًا لها، كما يقول ديكارت في مقاله عن المنهج، ولا لكي نغير العالم كما يقول ماركس، ولكن لأي غاية إذن؟ وأي منفعة تعود عليك من وراء هذا العلو بالدهشة التي هي أصل كل تفلسف وبالتالي كل حرية؟ ولكن هذا السؤال نفسه — ألَّا نسأل فيه عن «غاية» و«منفعة» — سؤال غير فلسفي. إن عين الفيلسوف تتأمل العالم كله حين تتأمل، ولسانه يسأل عن مجموع ما هو كائن حين يسأل، إنه عندئذٍ يكون «مع كل موجود» كما يقول القديس توماس الأكويني، ولا يسأل الفيلسوف حتى يكون في فكره الوجود كله.
قلنا: إن الإنسان حين يتفلسف يعلو على «العالم اليومي» ليواجه «العالم»، ومن البديهي أننا حين نتحدث عن العالم اليومي الذي نعلو عليه بالتفلسف إلى العالم ككل لا نتحدث عن عالمَين منفصلَين، كما لو كانا مكانين يغادر الإنسان أحدهما ليدخل الآخر، فيترك هنا وراءه أشياء ليجد هناك أشياء أخرى، أو لا يجد شيئًا على الإطلاق، إنه لا ينفض يديه من غبار أحدهما ليغسلهما بنور الآخر، وحين يعلو بالتفلسف على العالم المحيط به لا يدير له ظهره، ولا يحوِّل عينيه عنه، ولا يسبح ببصره بعيدًا عن شقاء كل يوم، ولا يترك عالم العرق والدموع ولقمة العيش ليتجه بفكره إلى عالم الماهيات أو الكليات أو المُثُل أو ما شئت لها من أسماء، إن العالم الذي يمتد أمام أبصارنا ونتحسَّسه بأيدينا ونشقى به ويشقى بنا هو نفس العالم الذي نتأمَّله بالتفلسف، ولكن هذا العالم، هذه الأشياء، هذه الحقائق والموضوعات؛ تصبح موضع سؤال من نوعٍ آخر، إنها تسأل عن جوهرها الأخير، عن حقيقتها الكلية، عن طبيعتها الشاملة، وإذا بالأفق الذي يصدر عنه السؤال يصبح هو الأفق الذي يضم الواقع كله.
السؤال الفلسفي يتجه إلى هذا الشيء أو ذاك مما نراه كل يوم، إنه لا يتجه إلى شيء «خارج العالم» ولا إلى شيء موجود في عالمٍ آخر بعيدٍ عن تجربتنا اليومية،١١ لكنه سؤال يقول: ما هو هذا على الإطلاق وفي حقيقته الأخيرة؟ يقول أفلاطون في محاورة ثيايتيتوس: «لا ما إذا كنت أظلمك ها هنا أو كنت تظلمني — ليس هذا هو الذي يشتهي الفيلسوف أن يعرفه — بل ما هي العدالة على الإطلاق وما هو الظلم، لا ما إذا كان الملك الذي يملك الكثير من الذهب سعيدًا أو غير سعيد، بل ما هو الملك على وجه الإطلاق؟ وما السعادة وما التعاسة على الإجمال وفي حقيقتها الأخيرة.»١٢
سؤال الفيلسوف يتجه إذن إلى ما نراه وما نألفه كل يوم، وإذا بهذا الشيء يشفُّ أمام أعيننا، وكأننا نفتحها عليه لأول مرة، ويفقد أُلْفته ليكشف عن وجهٍ غريب وعميق معًا. إن سقراط الذي يعرف كيف يسأل فيسلب الأشياء وضوحها الموهوم كما يسلب المسئول يقينه المزعوم يشبِّه نفسه بالسمكة الرعاشة، تُصيب ضربتُه بالذهول والاندهاش كلَّ من يستمع إليه، في كل يوم نقول هذا «صديقي»، هذا «بيتي» أو هذا «مالي»، ولكن ما من أحد يسأل نفسه ما هو «الملك»؟ وما معنى أن «أملك» شيئًا؟ وهل يمكن لإنسان أن يملك هذه الأشياء؟ أو هل يمكن أن يمتلك شيئًا على الإطلاق؟ هل من الأمور الواضحة بذاتها أن أوجد وأرى وأولد وأموت؟ هل بلغت معرفتي بهذا كله من اليقين مبلغًا لا أملك معه الشك فيها؟ وهل يمكن أن يوجد شيء لا يحتمل الشك والسؤال؟ أليس في هذا كله ما يحمل على الدهشة؟!
الفلسفة ابتعاد وغربة، لا عما نراه ونحس به كل يوم من ناس أو أشياء، بل عن تفسيراتنا السائدة لها، عن قيمها التي نسلم بها كل يوم، لا لأننا نهوى الشك والهدم أو نريد أن نشذ فنفكر غير ما يفكر سائر الناس، بل لأن الأشياء نفسها تكشف لنا فجأة عن وجه جديد لم نألفه من قبل، ولأن ما اعتدناه كل يوم يصبح في لحظةٍ واحدة غير عادي ولا يومي ولا واضح بذاته. إن الوجه العادي يختفي فجأة ليظهر مكانه وجه الواقع على حقيقته، ولا يحدث شيء من هذا حتى يجري في أنفسنا شيءٌ آخر ارتبط بمبدأ التفلسف من قديم، ذلك هو الدهشة: «نعم، بحق الآلهة يا سقراط العزيز، إنني لا أستطيع أن أنتزع نفسي من الدهشة من معنى هذه الأشياء، وفي بعض الأحيان يكاد يصيبني الإغماء من مجرد النظر إليها.» بهذه الكلمات يهتف الرياضي الشاب ثيايتيتوس في وجه سقراط، بعد أن يستدرجه هذا الذكي الساخر الرحيم بالكلام حتى يعترف بجهله ويسلم بحيرته، ويجيب سقراط: «أجل، إن هذه الحال نفسها هي التي تميز الفيلسوف، هذا ولا شيء غيره هو أصل الفلسفة.»١٣ بهذا المرح المشرق الوديع يعبر سقراط عن الحقيقة التي دخلت الفلسفة من قديم كما دخلت ضمير كل إنسان يفكر، ولن تخرج منهما أبدًا، ليس من قبيل الصدفة أن يبدأ الفكر الفلسفي بهذه العبارة: «الدهشة أصل الفلسفة»، وأن يكتب ديكارت عبارةً قريبة منها على باب الفلسفة الحديثة تقول: «الشك أصل الفلسفة»، ولم يكن لشيء من ذلك أن يحدث لو لم يكن بين الدهشة والشك ما بينهما من قرابة وجوار، كانت طريقة سقراط أن يثير في صاحبه الدهشة بالنسبة لكل ما يعتقد في وضوحه وما يسلم به تسليمًا أعمى، وكانت طريقة ديكارت أن يحملنا على الشك في كل ما آمنا به في الفلسفة وما ورثناه بالتسليم والتصديق، تمهيدًا للبحث عن أساس سليم أو عن «صخرة لا تتزعزع» تقيم عليها بناء الفلسفة من جديد، الشيء الرئيسي إذن في الحالين هو الإرباك، على نحو ما يقول هيجل: «إنه الإرباك الذي ينبغي لكل فلسفة أن تبدأ به. إن على الإنسان أن يشك في كل شيء، ويتخلى عن كل ما افترضه من قبل؛ لكي يحافظ عليه من بعدُ شيئًا ناتجًا من خلال التصور.»١٤
في الدهشة كما في الشك يحار الفكر مع نفسه، هذه الحيرة هي الدفعة التي لا بد منها لكي يكون فكر على الإطلاق، وهي الدفعة التي لا بد منها لكي يستيقظ هذا الفكر ويجرب أن «العالم» أعظم وأعمق وأغنى بالأسرار مما توحي به حياته اليومية، وأن الوجود بما هو وجود غني بالأسرار، لا بل هو السر نفسه؛ لأنه غني بالتناقض والمشقة والغموض بالنسبة للإنسان، بل لأن مَعِين أسراره لا ينفد، ومنبع نوره لا يغيض.
في الدهشة تصمت الحياة اليومية — ولو للحظةٍ واحدة — لنرى «الحياة». ترفع الموجودات قناعها اليومي لتكشف عن وجه «الوجود»، ولكن ما الذي يدهشنا حين نندهش، فيصيبنا الذهول ونتجمد كما لو كُنَّا نجلس مع سقراط؟ ليس للمدهش صلة بالغريب المثير غير المعتاد، فمن كان في حاجة إلى شيء يثيره ليبعث الدهشة في نفسه، شيء لم تره عين ولا سمعت به أذن كما يُقال، فقَدَ كلَّ حاسة للاندهاش، أعني ذلك الاندهاش الحق من معجزة الوجود؛ فالدهشة التي تستثيرها عجيبة لا تحدث كل يوم ما زالت هي نفسها في حاجة إلى دهشة حقيقية تخلصها من قيد كل يوم، دهشة تجعل الإنسان يرى المدهش فيما يألف، والغريب فيما اعتاد، والمعجزة فيما تقع عليه عيناه كل يوم؛ هنالك يعرف وهو في الحقيقة لا يعرف شيئًا، هنالك يبدأ فعل التفلسف، ومعه يبدأ القلق والخطر؛ الجزيرة الآمنة لا تعود آمنة، الواحة السعيدة تصبح مسكنًا للشقاء، هنا يقترب الفعل الفلسفي من الفعل الشعري؛ فالفيلسوف والشاعر كلاهما يرى العالم وكأنه يراه لأول مرة، وكلاهما يتصل موضوعه بما يبعث الإنسان على الدهشة وما يطالبه بها، ولعل هذا هو الذي جعل توماس الأكويني في تعليقه على ميتافيزيقا أرسطو يقول: «أمَّا السبب الذي من أجله يقارن الفيلسوف نفسه بالشاعر فهو أن المدهش هو موضوع كليهما.»١٥ أمَّا الفيلسوف فقد عرفنا ما قاله على لسان أفلاطون، وأمَّا الشاعر فيقول جوته في نهاية قصيدة صغيرة بعنوان «بارابازة»١٦ وهو في السبعين من عمره:
وُجدت لكي أندهش:
كان الروح دائم المرح من قديم الزمان،
كان دائب السعي،
إلى أن يبحث ويُجرِّب،
كيف أن الطبيعة تحيا بالخلق.
إنه هو الواحد أبدًا،
يكشف عن ذاته في صورٍ متعددة،
الكبير يبدو صغيرًا، والصغير كبيرًا،
وكلٌّ بما يوافق طبيعته،
دائمًا يتغير، ثابت على الدوام،
قريب وبعيد، بعيد وقريب،
يصوغ الأشياء، ثم يعود فيعدل صياغتها.
وأنا جئت إلى هذا العالم
لأحيا في اندهاش.
ثم يقول في حديث له مع أكرمان١٧ بعد أن بلغ الثمانين:
إن الدهشة هي أسمى ما يستطيع أن يصل إليه الإنسان.
قدرة الإنسان على الاندهاش هي قدرته على الاحتفاظ ببراءته وحريته، إنها قدرته على البقاء إنسانًا، طالما بقي في استطاعته أن يسأل مَنْ هو الإنسان؟ إن دهشته نابعة من علمه بتناهيه، من إحساسه بوجوده المحدود، الإله لا يندهش؛ لأنه يعرف كل شيء ويحيط بكل شيء، والحيوان لا يندهش، فليس في حاجة إلى الدهشة؛ لأن الشوق إلى المعرفة الحقة لا يقلقه. تقول ديوتيما في محاورة «المأدبة» موجِّهةً حديثها إلى سقراط: «ما من أحد من الفلاسفة يتفلسف، والحمقى كذلك لا يتفلسفون؛ ذلك لأن ما يفسد في الحمق أن يتوهم الإنسان أنه مستغنٍ بنفسه.» ويمضي سقراط قائلًا: «سألتها مَنْ هم الفلاسفة إذن يا ديوتيما، إن لم يكونوا هم الحكماء ولا الجهلاء؟» عندئذٍ أجابت قائلةً: «إن هذا لأمر واضح حتى للطفل، إنهم أولئك الذين يشغلون من الفئتين مكان الوسط»، هذا الوسط هو الذي يميز الإنسان، إنه الكائن الوحيد الذي يملك أن يندهش، فلا هو يستطيع أن يعرف كل شيء، ولا هو بقادر على ألَّا يعرف أي شيء، إنه الموجود الذي يقف بين هوَّتين، والمتناهي الذي يجد نفسه بين لا متناهيين، بين العدم من ناحية والمطلق من ناحية أخرى (كما تقول عبارة باسكال المشهورة)، الإنسان هو الكائن الوحيد الذي تنطبق عليه «ليس بعدُ»، إنه لا يستطيع أن يمتلك الحكمة ولا يستطيع أن يكفَّ عن السعي في طلبها: «نحن لسنا شيئًا، نحن نأمل أن نكون» (باسكال). الإنسان وحده هو الذي كُتِبَ عليه أن يحسَّ بفنائه وفناء من حوله، فيعجب لكل ما يراه، ويكون أول ما يبدأ به هو العجب من نفسه، هذا العجب الدائم سيحتم عليه أن يعيش في خطرٍ دائم، ويبحر من جزيرة الاطمئنان إلى غير رجعة، فمع كل سؤال يولد خطرٌ جديد، وليست الفلسفة إلا سؤالًا متصلًا. وقدرة الإنسان على السؤال — بمعناه التأملي النظري المجرد من كل هدف كما قدمنا — هي قدرته على الدهشة، هذه الدهشة هي ضمان إنسانيته، وهي ضمان حريته (إن العبد لا يندهش ولا يسأل؛ لأنه إن فعل لم يعد عبدًا؛ ذلك أن كل شيء بالنسبة إليه واضحٌ وطبيعي، كل شيء كما كان وكل شيء كما ينبغي أن يكون).
فلنتعلم كيف نندهش (من علامات الزمن التعيس أن يضطر الإنسان إلى تعلُّم ما لا سبيل إلى تعلمه)، لنحاول أن نعيش لحظةً واحدة ما يعيشه الفيلسوف والشاعر طول حياته، أن ننظر إلى الموجود — وليكن زهرةً أو حجرًا أو وجهَ إنسان — كما لو كُنَّا نراه لأول مرة، وإلى الوجود كما وقعت عليه عينا آدم حين فتحهما أول مرة، لنذكر دائمًا أن أدهش المدهشات ألَّا يندهش الإنسان، وإذا كُنَّا لا نستطيع أن نقضي حياتنا في دهشة دائمة (مَنْ ذا الذي بلغ به الظلم والجنون أن يطلب ذلك من إنسان العصر الحديث؟) أعني في هزةٍ دائمة، تزلزل كياننا كله، فإن كل إنسان في حاجة إلى أن يهتز، ولو مرة واحدة في حياته، من أعمق أعماقه، في حاجة إلى أن يسأل السؤال الخالد الأليم: لِمَ كان وجودٌ ولم يكن بالأَولى عدم؟


...............................
١ مارتن هيدجر: ما هي الفلسفة؟ جنتر نسكه، فلنجن ١٩٥٦، ص١٢.
Heidegger, Martin: Was ist das—die Philosophie? Pfullingen, G. Neske, 1956.
٢ هذه العبارات المأخوذة من هيدجر تدل بوضوحٍ على تمُّكن النزعة المركزية الغربية منه، وإغفاله للفلسفة الشرقية التي لم يعد هناك باحثٌ أو مؤرخٌ جاد ينكر قيمتها وأهميتها وتأثيرها على الفلسفة اليونانية نفسها، راجع مناقشة مختصرة لهذه القضية في كتابي: «جذور الاستبداد: قراءة لأدب قديم»، سلسلة عالم المعرفة، ديسمبر ١٩٩٤.
٣ هيدجر، المرجع السابق، ص٢١.
٤ ما وراء الطبيعة، كتاب الزلزال: ١، ٢٨، ١، ب٢.
٥ ثيايتيتوس Theaitetos، ١٥٥.
٦ ما وراء الطبيعة، كتاب الألفا: ٢، ٩٨٢، ب١٢.
٧ راجع في هذا كله: هيدجر، المرجع السابق، ص٤٠.
٨ باسكال، الأفكار، الفكرة ٤٣٤، طبعة برنشفيك.
٩ يوزف بيبر: ما هو التفلسف؟ ميونخ ١٩٥٩، ص٢٣.
Joseph Pieper, Was heisst Philosophieren? Munchen, 1959.
١٠ أفلاطون، ثيايتيتوس، ١٧٤.
١١ يوزف بيبر، المرجع السابق، ص٦٢.
١٢ ثياتيتوس، ١٧٥.
١٣ محاورة ثيايتيتوس، ١٥٥.
١٤ في محاضراته عن تاريخ الفلسفة: ٢، ٦٩.
١٥ ذكر النص يوزف بيبر، المرجع السابق، المقدمة.
١٦ راجع أعمال جوته، طبعة هامبورج، المجلد الأوَّل، ص٣٥٨ (القصيدة بتاريخ ١٨٢٠)، وتنتمي إلى مجموعة القصائد الفلسفية التي كتبها جوته في شيخوخته، أمَّا عنوانها فهو مستعار من لغة الجوقة في الدراما اليونانية، ومعناه الحديث الذي تتوجه به الجوقة فجأة إلى الجمهور فتقطع به حبل السياق المسرحي.


١٧ الحديث بتاريخ ١١ فبراير سنة ١٨٢٩



- كتاب «مدرسة الحكمة» عبد الغفار مكاوي



أعلى