أحمد شحيمط - مشكلة الثقافة وميلاد المجتمع عند مالك بن نبي

الثقافة فلسفة المجتمع، زاد الفكر والسلوك، الموجه للفعل، والمشترك بين الجماعة البشرية الواحدة، حيث توحد الثقافة مجتمعا وأفرادا في قيم بعينها. تفنن الغرب في دراسة الشعوب البدائية والمتحضرة استنادا إلى علم الانثروبولوجيا، الذي يعني دراسة الانتاجات المادية وغير المادية للشعوب ، مشتقة من كلمتين: أنتروبوس الإنسان ولوجيا العلم، هذا العلم الفتي في الغرب أسهم في تحويل وجهة الدراسة، من الغرب إلى دراسة شعوب العالم، فروعه متنوعة، تندرج في سياق الرصد العلمي والميداني للخصائص والسمات المكونة لثقافة الآخر، البعيد في أدغال آسيا وإفريقيا وأستراليا. في قلب المجتمعات المعاصرة، ظلت الانثروبولوجيا موشومة بالبعد الأيديولوجي الخفي، فيما يعرف بالأنثروبولوجيا الكولونيالية ، ومغلفة بالنزعة العلمية الموجهة للفهم والتحليل للثقافات الإنسانية، من الانقسامية والتطورية والوظيفية والبنيوية، مسميات تندرج تحت يافطة دراسة ثقافة الآخر، وفهم مجتمعاتهم، هذه الدراسة ليست بريئة في مراميها وأهدافها، أطروحة الإنسان البدائي، والطيب المتوحش، وأطروحة الإنسان المتحجر والمتخلف، مواصفات الآخر في النزعة المركزية الغربية الاستئصالية .
كتب جيرار لوكلرك كتاب "الانثروبولوجيا والاستعمار"(1)، عن الارتباط المتين بين الانثروبولوجيا والاستعمار، وتحويل المعطيات من ميدان الدراسة في خدمة المخططات الاستعمارية، يعني أن الانثروبولوجيا غير موضوعية كما تدعي، والآراء المعروضة هنا تتعلق بالتصور الغربي للثقافة والمجتمع في البلاد المستعمرة، التقدم والتطور والوظيفة والتثاقف والتلاقح والبنية كلها مفاهيم أنثروبولوجية، لكن منطق الثقافة في فكر مالك بن نبي يتجلى في التجديد الثقافي للقضاء على أمراض الجهل والأمية . فالثقافة بوصفها منهجا تربويا، توجه العقول نحو العمل والإنتاج، وترسخ الفكرة القائلة أن الإنسان المسلم مطالب بأداء الواجبات، وليس فقط المطالبة بالحقوق، الواجب باعتباره نزوعا نحو الفعل، وامتثالا للقيم الرامية في تحقيق المنفعة للمجتمع ، واجب تمليه القيم الروحية والقانون الأخلاقي والوضعي. نسينا أن مشكلة العالم الإسلامي في ثقافة الفرد المبنية على تحديد الأهداف والغايات، من الفكرة وتوجيه الفعل. فالتوجيه هو تجنب الإسراف في الجهد والوقت. فهناك ملايين السواعد والعقول المفكرة في البلاد الإسلامية ، صالحة لان تستخدم في كل وقت(2)، لابد أن تكتسي الثقافة مقومات، وأسس راسخة في السلوك الفردي والجماعي، وفي عمق شبكة العلاقات الاجتماعية، التجديد مقبول ومسموح، وضخ الدم في شريان الحياة، وإلا يكون العالم الإسلامي أسيرا للتقليد والأفكار السلبية ، المثال الحي من ديكارت الذي رسم للثقافة الغربية منحى جديدا، وطريقا موضوعيا أساسه المنهج الرياضي الاستنباطي، وسلطة العقل في إنتاج المفيد من الطبيعة، وتحويل المجتمع من هيمنة الفكر القروسطي إلى مجتمع عقلاني تنويري. لا يستبعد مالك بن نبي الفكرة الدينية في انبثاق الحضارة المسيحية والإسلامية ، لقد فسر "هرمان كيسرلنج" الحضارة الغربية باعتبارها مكونا من روح المسيحية، والتي تجلت في التقاليد الجرمانية، والعالم الإسلامي تجلت فيه الفكرة التي ساهمت في وحدة المجتمع ، والجسر نحو الرقي والتمدن.يشترك الفقير والغني، العالم والأمي، رجل البادية والمدينة في المزاج المشترك، التصورات والتمثلات واحدة أساسها القيم الدينية المشتركة. فالثقافة إذن تتعرف بصورة عملية على أنها: مجموعة من الصفات الخلقية، والقيم الاجتماعية التي يلقاها الفرد منذ ولادته كرأسمال في الوسط الذي ولد فيه، والثقافة على هذا المحيط الذي يشكل فيه طباعه وشخصيته (3)، مجموعة من القيم الفنية والذوق الجمالي والمبدأ الأخلاقي، الثابت والمتغير في الثقافة، الأصيل الرمزي والمادي، دوافع مشتركة وميولات متشابهة بين الناس رغم الاختلاف في العرق والذوق، مهمة الثقافة في التوجيه والتهذيب وإدراك قيمة الفعل، وتربية الأجيال على القيم النبيلة، وتكتسب الثقافة مناعة وقوة في إشاعة روح التضامن والحركة في النسيج الاجتماعي، المجتمع الدينامي ضد المجتمع الساكن. المعنى الأول يوجه الفعل الإنساني للعمل والإنتاج .

تعتقد الماركسية أن سبب التغيير يوجد في العوامل الاقتصادية المادية، ويعتقد ماكس فيبر أن الربط بين القيم البروتستانتية والرأسمالية كان سببا في تقدم المجتمعات الغربية وتطور الرأسمالية، لما تنطوي عليه القيم الدينية من مميزات كالمبادرة والحرية الفردية، وتشجيع الفرد للعمل والإنتاج والنجاح، يناقش بن نبي الفكر الليبرالي والماركسي، ويفند فكرة العامل الاقتصادي كسبب في تطور المجتمعات. لكن مشكلة الثقافة عند بن نبي غير منفصلة عن المجتمع والفكر، علاقات فاسدة في عالم الأشخاص، علاقات اجتماعية نتيجة تفاعلات انحرفت عن مسارها الحقيقي، لا شك أن للعقد النفسية بين الأفراد محددات يمكن رؤيتها بدقة، وتتبع مسارها للقول أن الجماعة الإنسانية حينما تشرع في الحركة والتغير، تكون النتائج مثمرة وفعالة لإزالة الكسل، وبعث الدينامية في الطاقات الإبداعية. فالقوة الروحية التي تتطابق مع العمل المثمر الفعال تقع إذن بين حالتين من أحوال النفس، لا يوجد وراءهما إلا الخمول والرخاوة في جانب ، واليأس والعجز في جانب آخر(4)، والحركة التي أدت إلى ولادة المجتمع الإسلامي رفعت من قوة الطاقة الروحية، وأجهز الإنسان على ماضيه من ترسبات المرحلة الجاهلية ، نموذج بلال الحبشي في رأي مالك بن نبي الذي كان يئن من صخرة وضعت على بطنه ، وهو ينطق " أحد أحد "، صفاء الروح وتقبلها للرسالة الإسلامية . وفتور الروح يؤدي بالطبع إلى ضعف الثقافة والمجتمع معا .

إن الذي ينقص المسلم اليوم ليس منطق الفكرة، ولكن منطق العمل والحركة، وهو لا يفكر ليعمل، بل ليقول كلاما مجردا ، بل انه أكثر من ذلك يبغض أولئك الذين يفكرون تفكيرا مؤثرا، ويقولون كلاما منطقيا من شأنه أن يتحول في الحال إلى عمل ونشاط(5)، مشكلة الثقافة وليدة الانغماس في عالم الأشياء ، والانتكاسة مردها في الانحراف عن طريق الحضارة والثقافة التي انفصلت عن المجتمع، والوظائف التربوية والتنويرية للثقافة سرعان ما تحولت لأفعال وسلوكات غريبة عن عالمنا. فالثقافة في مهمتها التاريخية تقوم بالنسبة للحضارة بوظيفة الدم بالنسبة للكائن الحي(6)، ليست الثقافة إلا انعكاسا لنمط العيش في مجتمع ما، والفكرة التي توحد المجتمع في الكلمة المتماسكة، والروابط الاجتماعية القوية. والدين مكون أساسي في البناء الحضاري وقوة كبح الغرائز والعنف، وتوجيه الفرد نحو القواعد والإجراءات في العمل والإنتاج، وتوطيد شبكة العلاقات الاجتماعية، لذلك يصنف مالك بن نبي المجتمع إلى صنفين : مجتمع ما قبل الموحدين وما بعده، ويربط المجتمع بالحضارة ويعترف بالخطوط والصلات المركبة والمتفاعلة في المجتمع الأول ، سرعان ما تحولت هذه اللحظة إلى انقلاب على القيم والحضارة ، تغير في التاريخ والثقافة يوازيه تغير في سلوك الإنسان وأفعاله ، تقاعس الإنسان عن تجديد ذاته طبقا للتعاليم الإسلامية الحقة ، وما أحوج إنسان اليوم إلى فهم المعنى الحقيقي للروح في تجلياتها وفي عوالمها من الانتقال والتدرج في درجات المعرفة والعلم للقضاء على الجهل واكتساب مناعة ضد القابلية للاستعمار.
إن العلوم الأخلاقية والاجتماعية والنفسية تعد اليوم أكثر ضرورة من العلوم المادية ، فهي الأخرى تعد خطرا في مجتمع مازال الناس يجهلون فيه حقيقة أنفسهم، ومعرفة إنسان الحضارة، وإعداده أشق كثيرا من صنع محرك أو ترويض قرد على استخدام رباط العنق . وإنسان ما بعد الموحدين في أية صورة كان - باشا أو عالما مزيفا أو مثقفا مزيفا أو متسولا – يعد عموما عنصرا جوهريا بما يضم العالم الإسلامي من مشكلات منذ أفول حضارته ، وهو عنصر لا ينبغي أن يغيب عن أنظارنا عندما ندرس نشأة المشكلات وحلولها التي تشغل اليوم – فيما يبدو - الضمير الإنساني(7)، هذه العلوم اكتسبت قيمة في الفكر الغربي، ومنحت للغرب التفوق العلمي والمعرفي، طموح الغرب السيطرة والهيمنة بالمعرفة قبل الأدوات العسكرية أي القوة الناعمة في الفكر والمناهج والأدوات المعرفية في الاقتناع والاستمالة لما في الحضارة الغربية من تنوير وعقلنة، وأدبيات التسيير والتدبير للحياة، ولما في الحضارة الإسلامية من إشراق، لا بد من تغيير لأنماط وطرق التفكير، فلا شيء يعلو في سماء الخطاب الغربي غير دعوة المجتمعات للتغيير، لا شيء يعلو الخطاب الغربي غير البعد السلطوي ومكانة الغرب في القرن العشرين، بريق الخطاب يلفت النخب العربية والإسلامية في قلب لندن وباريس وبرلين، الرجوع للأوطان بالأيديولوجيا وليس بالخبرة العلمية والمعرفية، وهذا يطرح سؤالا إذا رمنا المقارنة بين البعثات الطلابية للعالم الإسلامي والبعثة الطلابية لليابان، والتي طالما يستند مالك بن نبي في الاستدلال بتجربتها الرائدة، لماذا تقدمت اليابان وتأخر المسلمون ؟
توقف مالك بن نبي عند التجربة اليابانية التي كانت متزامنة مع بدايات حركة النهضة في العالم الإسلامي ، يحلل مالك بن نبي أفكار حركة النهضة في العالم الإسلامي المقسمة بين المشكلة السياسية والاجتماعية والأخلاقية، إضافة إلى الآخر في حملاته وحروبه التي تواصلت واشتدت، عندما بدأت الأفكار تتغلغل في كيانات العالم الإسلامي، الأفكار المستوردة من حضارة الآخر، وأدت إلى انفصال تدريجي بين العنصر الروحي والعنصر الاجتماعي. هذا العالم كان بحاجة لمفكر ثوري كالمفكر(جمال الدين) يدعو الى الهدم من اجل إعادة البناء، أو إلى فكر منهجي يجري عمليات التشذيب الضرورية لتحرير النظام القائم من أوزار التقاليد، على أساس منهج مرسوم (8). بقي الفكر الإصلاحي وفيا للفكرة التي رفعت من قيمة الأمة، وكانوا حقا روادا عاشوا في بيئة متخلفة وفاقدة لإرادة التجدد الذاتي. خرج الأفغاني ومحمد عبده وابن باديس وغيرهم من رحم هذا المجتمع ، من أزمة السياسة والمجتمع لأزمة الثقافة والفكر، الآخر يخطو خطوات كبيرة نحو الأمام في التقدم، والنزعة للسيطرة على العالم، ونشر الفكر الجديد الذي يعني فتح المجتمعات أمام الإنتاج الصناعي، والثقافة الاستهلاكية، وغزو الآخر المخالف وإرغامه في العيش وفق نمط الثقافة الغربية، رغبة غير قابلة للتحقق في بيئة استوعبت منذ زمن طويل الحضارة، فكل مجتمع يحمل في بنياته الصفات الذاتية التي تضمن استمراره، وتحفظ شخصيته وأدواره التاريخية، هذا الثابت المركزي هو العمق الإيديولوجي الذي يرافق المجتمع من رحم تشكله ، فهو أشبه بالصفات البيولوجية الوراثية(9)، كل فرد في المجتمع يرتبط ارتباطا عضويا بالجماعة، حالة المجتمع الميكانيكي الذي يتشكل من ثقافة مشتركة ومخيال موحد بين كل أفراده، يتحول من داخله إلى مجتمع عضوي دينامي ، قابل للتطور والنقد لاستيعاب مستجدات العصر. تأثر بن نبي كثيرا بالفكر السوسيولوجي الفرنسي بالذات عند أوكست كونت في مراحل تطور الفكر البشري ، وتقسيم العمل الاجتماعي عند دوركايم وفق تطور المجتمعات، ثم قيمة التماسك الاجتماعي من الناحية الوظيفية ، إضافة إلى قراءة الفكر الخلدوني في سياق العصر والمفكرين الألمان، من كيسرلنج وشبنغلر وهيجل وماكس فيبر... هؤلاء تأملوا في تاريخ الحضارة الغربية التي ساهمت في بلورتها عوامل تاريخية وسياسية وثورات اجتماعية، والفكرة الدينية دفعت المجتمعات الغربية إلى أقصى شرط للتقدم والنهضة ، قيمة الفكرة مقياس في تقويم الفرد والجماعة، المثال من عمر بن الخطاب الذي طالب من الناس تقويم اعوجاجه وانحرافه ، وما كان للأعرابي أن قابله برأي صريح ينم عن استعداد الجماعة للتعامل معه بجدية وفق القواعد السائدة في الفكرة الدينية التي تربى عليها الإنسان المسلم.

الثقافة التي تمنح لحضارة سمتها الخاصة، تستمر في الوجود وتتحدى عامل الزمان والمكان والأشخاص، دينامية ومستمرة بالتربية والتوجيه، والصراع الفكري الدائر للاستقطاب لا يهدأ بانتهاء الاستعمار المباشر، وإذا وجدنا أن بن نبي ينطلق من إطار المشكلة ، فليس بدافع الشتائم والسلبية ، بل بدافع التغيير والنهضة، وقبل كل شيء علينا أن نحدد أولا وجهة البحث، ونؤسس الأصل في نظرية بن نبي، وهذا يتحقق من خلال زاويتين، الأولى: تصوره في أساس مشكلة الثقافة، والثانية: في مفهومه للثقافة، عندئذ نعرف القاعدة الكلية، ونقيس عليها الفروع والجزئيات أو التخصصات والتقييدات(10)، مشكلة الثقافة مشكلة تعديل وتوجيه الأفكار نحو الأهداف والغايات العملية، بوصلة الثقافة تبدأ بتحرير الفرد من ترسب الأفكار البالية والتقليدية ، تمكين هذا الفرد من القوالب الفكرية الممكنة في النهضة والتغيير، لا بد من النفاد إلى الفرد قبل الدولة والمجتمع لأن في عملية البناء الفكري إعادة صياغة الثقافة وتوجيه الطاقات والقدرات نحو رسم الممكن في عالم الاقتصاد والفكر والمجتمع. فالتوجيه هو تجنب الإسراف في الجهد والوقت، فهناك ملايين الطاقات العاملة والعقول المفكرة، صالحة لان تستخدم في كل وقت، والمهم أن ندير هذا الجهاز الهائل المكون من ملايين السواعد والعقول، في أحسن ظروفه الزمنية والإنتاجية، وهذا الجهاز حين الاجتماع: الإنسان الذي يكتسب من فكرته الدينية معنى (الجماعة ) ومعنى الكفاح (11)، سنن الكون وقوانين التاريخ ودوران الحضارة مفاهيم يكيفها بن نبي في سياق أفكار تقدمية ذات جذور إسلامية في سعيه نحو حداثة إسلامية منفتحة على الآخر المختلف حضاريا، إيمانا بالفكرة التي تستدعي الاقتباس والقبول بالنماذج التي كرست السمو الفعلي للإنسان، غاندي في الهند وفلسفة اللاعنف، أبو ذر الغفاري وبلال بن رباح في الصمود والجهر بالحق دفاعا عن الضعفاء، وردع الأقوياء بالكلمة والتحدي. لا يهدأ سلاح النقد، ولا يتوقف المثال والتحليل من تاريخ المسلمين، وبقي التصنيف موجودا للمجتمع ما قبل الموحدين الذي توطدت فيه شبكة العلاقات الاجتماعية، وعبرت فيه عن صفاء الروابط المتينة بين الناس ، مرحلة الروح في قوة تقبل العرب للإسلام، وصفاء الرسالة التي جاءت بتطهير الإنسان، وانتشاله من الاستعباد والاسترقاق. من المؤكد أنه عندما نتناول الحضارة الإسلامية فلا بد أن يدخل في اطرادها بالضرورة عاملان هما : الفكرة الإسلامية التي هي أصل الاطراد نفسه، والإنسان المسلم الذي هو السند المحسوس لهذه الفكرة (12). عالم هيمنت عليه البداوة والقبلية في أرقي صورها من النبذ والتعصب والتغلب، ومرحلة العقل بداية من العهد الأموي والعباسي، وأخيرا مرحلة الغريزة ، التفكك والانحطاط، فقدان العقل لوظيفته الاجتماعية، وانطفاء التوتر الذي تبثه العقيدة في النفوس. فمن صفات هذا النوع من المجتمع غياب الفعالية، والثقة بالذات كمجتمعات تمتلك من الموارد والسواعد ما يمكنها الانطلاق في دورة حضارية جديدة، وليس هناك أدنى شك في القراءة الواسعة للتاريخ وللتنظيرات الاجتماعية الغربية وابن خلدون، وللفكر الفلسفي الغربي والكبار من المصلحين الاجتماعيين في العالم، هذا وينهل بن نبي من العقيدة الإسلامية دون الانجرار للمذهبية والطائفية .

امن بن نبي بالوحدة الجوهرية للإسلام ، ومنها كان إيمانه بقدرة الإسلام على أن يجدد بناء كل شيء مهما كان شأنه ومرجعه ، لذلك كان أبعد ما يكون عن تقطيع المشكلات ليعالج كل قطاع مستقل عن الآخر، ومن هنا نفسر رؤيته للمشكلات من وحدة المجال، من طنجة إلى جاكرتا وكوالالمبور، وكذلك وحدة المجال بين مذاهب السنة والشيعة، إذ المشكلة عند بن نبي ليست في أصل الإسلام، بل في فاعلية المسلمين(13)، مشكلتنا أننا نعيش في عالم المظاهر، عالم اليوم صنعته قوى فاعلة في الحضارة الغربية ، حقق الإنسان الغربي القيم العقلانية والديمقراطية، وكل أشكال التدبير والتسيير والتنظيم ، الحضارة الغربية نابعة من أخلاق المسيحية ومبادئها. نشأت المسيحية في وسط فيه خليط من الديانات، والثقافات العبرية والرومانية واليونانية، فلم يتح لها أن تدخل إلى قلوب الناس وسط الزحام الفكري والثقافي(14)، ورغم التنوع في الثقافة الغربية استطاعت الفكرة الدينية أن تجد موطئها عند الشعوب الجرمانية ، التركيب النفسي للثقافة يدعو بالفعل لاستخلاص النتائج لحركية التاريخ ودينامية المجتمعات وتطور الحضارات، الخدمة التي قدمها الإسلام ، هذا الانتقال من الشرق إلى الغرب، وجدت المسيحية مناخا آخر للتوسع والانتشار، تغلغلت في المجتمع بواسطة سلطة الكنيسة، ومن خلال التربية والتعليم والإصلاح الديني، وتحولت عائدة إلى الشرق وإفريقيا، انتهت بالحملة الاستعمارية الغربية. ثقافة محملة بالعداء للآخر ومغلفة بالدوافع الإيديولوجية لإرغام الآخر على تبني الثقافة الغربية، وأنماطها في مستويات عدة، هنا يقع الاختراق الفكري ويتجلى الصراع الحضاري، لذلك أبدع بن نبي في دراسة الاستعمار والاستشراق، وشكل حوله نظرية عميقة ، التي استنبطها من مختبر كبير هو المجتمع الجزائري، الذي عايش التجربة المرة والقاسية من الاستعمار الفرنسي(1830-1960)، وقد مارس بن نبي دور رجل المختبر بتوسع وتعمق في دراسة ظاهرة الاستعمار في أطوار تاريخية متباينة، وأنماط اجتماعية مختلفة (15). فالثقافة كتلة متجانسة من المشاعر والعواطف والمشاعر والأفكار والتصورات والمبادئ ، الثقافة مسألة توجيه الأفكار والارتقاء بالدوق، والعناية بالجانب العملي، وهذا يستدعي الاهتمام بالإنسان أقوي رأسمال للتغيير والبناء .

المراجع :
(1) جيرار لكلرك " الانثروبولوجيا والاستعمار" كتاب في تشريح الخفايا التي كانت تحرك أعمال بعض العلماء في جمع المعطيات العلمية الكافية تمهيدا للاستعمار الغربي، ويكشف عن الدوافع الإيديولوجية للأنثروبولوجيا في قلب العالم الآخر، من التطورية والوظيفية والانقسامية . فكانت الانثروبولوجيا دعامة في خدمة المشروع الاستعماري التوسعي في افريقيا من خلال تغلغل الباحث في المجتمعات لدراسته عن قرب في مستويات عدة من الحياة الاجتماعية والفكرية .
(2) مالك بن نبي "مشكلة الثقافة " ترجمة عبد الصبور شاهين ، دار الفكر دمشق ،الطبعة الرابعة 2000 ص 67
(3) مالك بن نبي "شروط النهضة "، ترجمة عبد الصبور شاهين وعمر كامل مسقاوي ، دار الفكر للطباعة والتوزيع والنشر دمشق ،1986 ص 83
(4) مالك بن نبي " ميلاد مجتمع " ترجمة عبد الصبور شاهين ، دار الفكر دمشق ،الطبعة الثالثة 1986 ص 25
(5) مالك بن نبي " ميلاد مجتمع " ص 87-88
(6) مالك بن نبي " مشكلة الثقافة " ص 104
(7) مالك بن نبي " وجهة العالم الإسلامي " الجزء الأول ، ص 38
(8) مالك بن نبي " وجهة العالم الإسلامي " ج1 ، ص57
(9) مولاي الخليفة لمشيشي " مالك بن نبي دراسة استقرائية مقارنة " دار النايا للنشر دمشق ، الطبعة الأولى 2012 ص 114-115
(10) زكي الميلاد " مالك بن نبي ومشكلات الثقافة " دار الفكر دمشق ، الطبعة الأولى 1998 ص96
(11) زكي الميلاد . نفس المرجع . ص 96-97
(12) مالك بن نبي "شروط النهضة " ص 66
(13) عمر بن عيسى "مالك بن نبي في تاريخ الفكر الاسلامي وفي مستقبل المجتمع الإسلامي " دار الفكر دمشق 2010 ص 64
(14) مالك بن نبي " شروط النهضة " ص55
(15) زكي الميلاد " مالك بن ومشكلات الحضارة " ص 87

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى