' ما لم يقله الإسرائيلي عن سيد زكريا'
' إن أكبر مفاجآت حرب أكتوبر كانت
روح الجندي المصري العالية وكفاءته'(1)
.... ثم كيف يمكنني الاختباء من القمر, رمال الصحراء استطعت الابتعاد عنها, لكنه القمر, كيف أزيحه من السماء؟ أكثر من عشرين سنة مرت, شهور وراء شهور تمر بأقمارها كأنها تترصدني, تلقي بي في قلب الجحيم مرة أخري,وكأنها المرة الأولي, التي أبتعد عنها الآن بعشرين عاما.
عشرون عاما و أنا أحمل أوراقه كتميمة, أينما رحلت فهي معي, حتي ملامحه أجدها منطبعة في مخيلتي و كأنه يوم كيبور اللعين; الاسم: سيد زكريا خليل. جندي, فقط جندي, كنت أعتقد وقتها و أنا أقلب أوراقه لأول مرة أن يكون ضابطا, خبيرا بأعمال القتال, لكنه جندي, فقط جندي, هل بدأت وقتها متاعبي, أم قبلها, حين رأيته يقاتل, بالضبط متي؟ و القمر الذي صار يطاردني, فأهرب داخل البلاد الغائمة أحتمي بسحبها منه, لكني أراه بشوارع كل المدن التي أختبئ بها, هادئا يبدو, هازئا, يمد يده بخنجره و يصوبه نحوي, فاتخبط بالشوارع وسط دهشة المارة, أندس بحجرتي لأتركه يذبحني بهدوء فأقوم صارخا فزعا في اللحظة الأخيرة و أنا أتصبب عرقا, أراه يغادر الشرفة و يلحق بالقمر الذي ينتظره عند النافذة.
لا أدري متي سألته, عندما جاءني كما اعتاد, و خاصة في الخريف يكون أكثر وضوحا و تجليا, في تلك المرة حين كلمته, وجدت السؤال يندفع فوق لساني:' لم تمشي هكذا علي مهل؟ اسرع. أتاني صوته عميقا و هو يضغط علي نبراته كي تبين: أنني سأصل إلي غايتي قريبا, لكنك أنت ستظل في دنياك حائرا مضللا إلي يوم أعود.'(2) ذهلت و عرفت أنه كتب علي التوهة بالبلاد, أخذت أرتجف و أنا أبكي, لمدة اسبوع كامل كنت غير قادر علي مغادرة غرفتي, أو حتي مقابلة صديقتي, هكذا أخذت البلاد تتقاسمني و لا تستقر بي أرض أبدا, أضرب في أرض تيه واسعة بحدود العالم حولي, العالم الذي لا يستطيع أن يردني لبلادي كما فعل مع اسرائيل.
كيف أعود لإسرائيل و القمر هناك أشد ضراوة و فتكا من قمر بلاد التوهة, هناك يتحالف مع رمل الصحراء فيصبح عذابي مضاعفا, هل كنت أدرك هذا و أنا أتقدم لآخذ أوراقه وصورته, هذه التي تدفعني الآن للإنتحار و تشريدي بالبلاد, و لا يطيب لي مقام بأحدها.
رغم ارتحالي و غربتي أقول لعل القمر يغير شكله و يعود كما كان عشية يوم كيبور, كان يومها يتوسط السماء فوق أرض تيه الجدود الفارين من المصريين إلي أرض إسرائيل أيام موسي, و كنا نحن المظليين نمرح داخل الطائرات المروحية, نقول: هي نزهة نؤدب هؤلاء الفراعنة الذين تجاسروا و عبروا القناة إلي أرض تيههم.
كنا عقب حرب الأيام الستة قد استرخينا مضمخين بنصر ساحق, مددنا الأقدام علي أخرها و أرحناها, و رحنا نشرب نخب توسيع أرض' يهوه'(3) واصلين لقناعة كاملة بأن البدو و الفراعنة لا يمكنهم الحرب, حتي و إن حاولوا يمكننا سحقهم ببساطة كحشرة تحت أحذيتنا.
دقائق و كنا فوق الرمال التي لا استطيع الآن أن أزيحها من فوق صدري, كانوا أسفل منا, قليل عددهم, لا يتخطون عدد أصابع اليدين, قلنا: ها أخيرا نغير رتابة يوم كيبور, سيكون رائعا عندما نعود و نحكي عما فعلناه بهم, و أثبت لصديقتي أنني حصدت الكثير منهم برشاشي فتغرقني في صدرها.
و أنا أهبط بالمظلة متأرجحا كأنني أراقص جسد صديقتي, علق نظري بالقمر, كان متوهجا علي غير عادته, وبه بسمة كبيرة و مطمئنة أيضا, هكذا بدا لي, أقلقني هذا, فانتبهت علي صوت الرصاص, وجدت زملائي يتساقطون, يحصدهم رصاص المصريين, كنت بعيدا نوعا, لكن الجحيم والصراخ كان يقترب, شعرت علي نحو مباغت, و انا أري جثث زملائي, بأن القمر يضحك للمصريين, كان عددهم سبعة- كما قالوا لنا- لكن أين هم؟ رغم اتساع' وادي غرندل'(4) و تطويقنا له, لا يكاد يبين لهم أثر, رغم هذا الرصاص يغمرنا من كل جانب, رجلي تنزل علي الأرض/ الرمل فتسوخ, قلت: و الرمال أيضا معهم. تماسكت و أنا أتخلص من المظلة, و كان هو أمامي- سيد زكريا- و أنا خلفه, بدا في المعركة غير هياب, يحصد ما أمامه ولا يغطي ظهره شيء, كانه يحتمي بالفراغ, أخذتني جرأته وقدرته الفريدة في القتال, رحت أرقبه غير عابئ بزملائي الذين يقتلهم, مسقطا عني كل ما تعلمته: لا تنبهر بعدوك, ودون رحمة اقتله. بدا واضحا لي تماما أنه عدوي, ولا أحد غيره, تقدمت نحوه, من وراء ظهره المكشوف لي تماما.
حين فرغت ذخيرته شرع في استخدام سلاحه الأبيض, الذي أضاء في عيني حين برق في ضوء القمر, فرفعت رأسي لأجد بسمته قد أصبحت هازئة, كان يلتحم غير مهتم بالرصاص المنهمر عليه و الذي لا يكاد يصل إليه و يصيبه, حسبته أحد الشياطين, حتي الأرض تساعده, أرض تيههم أثناء الستة أيام, و أرض تيهنا الآن, كنت أحس بها تحميه, تجذب الرصاص نحوها و تقوم كحائل يغطي ظهره, و هو سادر في ذبح رفاقي, و أنا ملجم تماما.
كان زملاؤه الآخرون قد قتلوا و هو يقاتل وحيدا, كان أمامي, و ظهره لي, شددت أجزاء الرشاش, و هو استدار كنمر ليواجهني, لكني لم أمهله و أطلقت النار علي ظهره, هل كنت قادرا أن أنتظر حتي يستدير و أنظر في عينيه, و لو كنت فعلت ذلك أكنت قتلته؟.
مذهولا من سقوطه وقفت, رأيت زميلين لي يسوقان أحد رفاقه(5), عندما رآه ممدا علي الأرض و الدماء تغطيه حاول أن يجري نحوه, لكن زميلي منعاه بسلاحيهما, و أنا تقدمت من الممدد علي الأرض, قلت: ها أخيرا امتلكت حكاية. و كأن علي أن أتأكد من موته, تقدمت بوجل كبير شاهرا سلاحي وإصبعي علي الزناد, خوفا و تحرزا من خديعة قد تحدث, فأنا لا أصدق أنه سقط, صرخة لم يصرخ, أنة ضعيفة لا تكاد تبين, كأنه تأوه ارتياح بعد تعب طويل, أو كأنه شوق قديم وحب دفين لتوه ينطلق, هل يكون هذا موتا؟ حين وصلت إليه كان وجهه ينظر نحوي و نفس الابتسامة الهازئة التي يطل بها القمر علي, فزعت لكني تمالكت نفسي, و مددت يدي نحو جيبه, و أخذت حافظته و ما معه من أوراق, حين مست يدي جسده المكلل بالهدير و السخونة, فارتجفت يدي, و شعرت علي نحو مباغت بأني أسرقه, بالفعل كنت أسرقه, آخذ أوراقه في غيبة الروح و حضور الموت و الدم و رائحة البارود المحترق, و الرمال و القمر الذي لن ينفك بعدها يطاردني, كنت فقط أريد أن أتأكد من موته, و أنني_ أيضا_ قتلته, و لأؤكد لنفسي المضطربة أن هذا الذي قتلته مجرد واحد استطاع لوحده أن يقتل أكثر من عشرين مظليا من خيرة جنود العالم, فقط هو مات, و أنا قتلته و سرقته, و القمر شاهد و معه رمل البلاد التي لن استطيع التخلص منها حين تباغتني صورته, والتي لن تمل مطاردتي بطول البلاد التي أرتحل فيها وعرضها.
في البداية حاولت التآلف مع صورته الموضوعة بالكارنيه, لكنه شيئا فشيئا بدأ يتحول إلي شبح, وحش قاتل يهاجمني أثناء النوم بضحكته الهازئة متخذا من القمر مسكنا له, وصارت كلماته:' ستظل مضللا إلي يوم أعود.'(6) سكينا خبيئة تطاردني بكل مكان أذهب إليه, قلت: علي أن أتخلص من الأوراق. حاولت كثيرا نسيانها و تركها في مكان قد لا أعود إليه, لكنني في كل مرة أجدها عالقة في يدي, أقلب فيها و استعيد ما حدث و لا قدرة لي علي الفرار, كان يترسخ بداخلي و أتحول أنا إلي يهودي تائه تطارده خرافة تنسجها صورة بجيبه, و حرب قد مر عليها أكثر من عشرين عاما.
أخطبوط بألف ذراع يعتصرني, أذرعه تقبض علي أطرافي و تشدني, تتنازعني نحو الجهات الاربع, أصير موزعا بطول الأرض و عرضها و الألم الهائل يعتصر مفاصلي, وجهي نحو السماء مشدود, رائحة لبارود و دماء ورمال تغمر أنفي, و يجئ القمر, قمر صحراء البدو القاتل, وكأني ما رأيته قبل الليلة, لكنه يأتي و يهبط حتي حد الشرفة, و يقف غامرا الحجرة بضوء لزج ثقيل, يضغط فوق صدري فلا أقوي علي إخراج النفس أو لقفه.
من قلب الضياء ينزل هو- سيد زكريا- بنفس جرمه حين كان يقاتل, يتقدم نحوي شاهرا سلاحه الأبيض و علي وجهه ابتسامة هادئة, هازئة, يتقدم حتي يضع سن الشفرة الحاد فوق رقبتي, و أنا جاحظ العينين و مقيدة أطرافي باركان السرير, لا أقوي علي شيء سوي صرخة أطلقها فتوقظني مطلقا نفسا مكتوما و عرقا غزيرا يغرق جسدي.
' إلي يوم أعود' في البداية لم أفهم و صارت غربتي قدرا, وحين لم استطع البقاء بأرض إلا و هاجمني فيها, قلت: أرض تيه الأجداد كانت سيناء و ارض تيهي واسعة, تبدأ من هنا, من صدري و لا حدود لها, علي أن أعيده حتي أصل لغايتي وأرجع لأرض' يهوه', اتخلص منه بعودته, لكن عودته إلي أين؟ سؤال أرقني كثيرا, حين جاءني في المرة الأخيرة انتبهت إلي القمر الذي ينتظره عند الشرفة, و عرفت أنه قمر الصحراء, قمر بلاده, إذن علي أن أعيده إليهم, إلي أهله حتي أصل لمستقر.
' إلي يوم اعود'. كيف أعيده؟ و رحت بهدوء أفكر حتي أنتصر عليه ولو لمرة, لآ أقتله من الخلف, لست أفكر بالسياسة و أحابيلها, لكنني ذلك الإسرائيلي, اليهودي, الذي سيحترمه العالم, و يقف تقديرا لعمله و أمانته, و قدرته علي أن يكون كريما و متسامحا حتي مع أعدائه, و يعيد إليهم متعلقات أحد جنودهم, ستطير وكالات الأنباء الخبر إلي جميع أرجاء الأرض, تنشر صورتي و كلامي, فتلملمني من توهة البلاد و غربتي فيها, و تعيدني إلي أرض' يهوه'. سيفرح المصريون ببطلهم و يحتفلون به, لكنهم دوما سيقرنونني به, كلما تذكروه سأكون حاضرا بينهم, في أحاديثهم, سأري الإعجاب من عيونهم و كلامهم يطل, يعود هو إلي أهله بطلا, أعود أنا لأرض' يهوه' مضمخا بالبطولة و النصر و قتل سيد زكريا خليل.
هوامش
(1) من أقوال الجنرال ديفيد إليعازر رئيس هيئة أركان جيش الدفاع الإسرائيلي أثناء حرب1973 م.
(2) حوار بين السيد المسيح و أحد حراس بيلاطس في أسطورة اليهودي التائه.
(3) وادي بمنطقة رأس ملعب بسيناء حيث استشهد البطل سيد زكريا.
(4)' يهوه' إله اليهود.
(5) أحمد الدفتار: زميل سيد زكريا في سرية الجراد_ ب من الكتيبة153 صاعقة.
(6) كلمات السيد المسيح إلي اليهودي في أسطورة اليهودي التائه.
أحمد أبو خنيجر
نشر في الأهرام اليومي يوم 08 - 10 - 2010
' إن أكبر مفاجآت حرب أكتوبر كانت
روح الجندي المصري العالية وكفاءته'(1)
.... ثم كيف يمكنني الاختباء من القمر, رمال الصحراء استطعت الابتعاد عنها, لكنه القمر, كيف أزيحه من السماء؟ أكثر من عشرين سنة مرت, شهور وراء شهور تمر بأقمارها كأنها تترصدني, تلقي بي في قلب الجحيم مرة أخري,وكأنها المرة الأولي, التي أبتعد عنها الآن بعشرين عاما.
عشرون عاما و أنا أحمل أوراقه كتميمة, أينما رحلت فهي معي, حتي ملامحه أجدها منطبعة في مخيلتي و كأنه يوم كيبور اللعين; الاسم: سيد زكريا خليل. جندي, فقط جندي, كنت أعتقد وقتها و أنا أقلب أوراقه لأول مرة أن يكون ضابطا, خبيرا بأعمال القتال, لكنه جندي, فقط جندي, هل بدأت وقتها متاعبي, أم قبلها, حين رأيته يقاتل, بالضبط متي؟ و القمر الذي صار يطاردني, فأهرب داخل البلاد الغائمة أحتمي بسحبها منه, لكني أراه بشوارع كل المدن التي أختبئ بها, هادئا يبدو, هازئا, يمد يده بخنجره و يصوبه نحوي, فاتخبط بالشوارع وسط دهشة المارة, أندس بحجرتي لأتركه يذبحني بهدوء فأقوم صارخا فزعا في اللحظة الأخيرة و أنا أتصبب عرقا, أراه يغادر الشرفة و يلحق بالقمر الذي ينتظره عند النافذة.
لا أدري متي سألته, عندما جاءني كما اعتاد, و خاصة في الخريف يكون أكثر وضوحا و تجليا, في تلك المرة حين كلمته, وجدت السؤال يندفع فوق لساني:' لم تمشي هكذا علي مهل؟ اسرع. أتاني صوته عميقا و هو يضغط علي نبراته كي تبين: أنني سأصل إلي غايتي قريبا, لكنك أنت ستظل في دنياك حائرا مضللا إلي يوم أعود.'(2) ذهلت و عرفت أنه كتب علي التوهة بالبلاد, أخذت أرتجف و أنا أبكي, لمدة اسبوع كامل كنت غير قادر علي مغادرة غرفتي, أو حتي مقابلة صديقتي, هكذا أخذت البلاد تتقاسمني و لا تستقر بي أرض أبدا, أضرب في أرض تيه واسعة بحدود العالم حولي, العالم الذي لا يستطيع أن يردني لبلادي كما فعل مع اسرائيل.
كيف أعود لإسرائيل و القمر هناك أشد ضراوة و فتكا من قمر بلاد التوهة, هناك يتحالف مع رمل الصحراء فيصبح عذابي مضاعفا, هل كنت أدرك هذا و أنا أتقدم لآخذ أوراقه وصورته, هذه التي تدفعني الآن للإنتحار و تشريدي بالبلاد, و لا يطيب لي مقام بأحدها.
رغم ارتحالي و غربتي أقول لعل القمر يغير شكله و يعود كما كان عشية يوم كيبور, كان يومها يتوسط السماء فوق أرض تيه الجدود الفارين من المصريين إلي أرض إسرائيل أيام موسي, و كنا نحن المظليين نمرح داخل الطائرات المروحية, نقول: هي نزهة نؤدب هؤلاء الفراعنة الذين تجاسروا و عبروا القناة إلي أرض تيههم.
كنا عقب حرب الأيام الستة قد استرخينا مضمخين بنصر ساحق, مددنا الأقدام علي أخرها و أرحناها, و رحنا نشرب نخب توسيع أرض' يهوه'(3) واصلين لقناعة كاملة بأن البدو و الفراعنة لا يمكنهم الحرب, حتي و إن حاولوا يمكننا سحقهم ببساطة كحشرة تحت أحذيتنا.
دقائق و كنا فوق الرمال التي لا استطيع الآن أن أزيحها من فوق صدري, كانوا أسفل منا, قليل عددهم, لا يتخطون عدد أصابع اليدين, قلنا: ها أخيرا نغير رتابة يوم كيبور, سيكون رائعا عندما نعود و نحكي عما فعلناه بهم, و أثبت لصديقتي أنني حصدت الكثير منهم برشاشي فتغرقني في صدرها.
و أنا أهبط بالمظلة متأرجحا كأنني أراقص جسد صديقتي, علق نظري بالقمر, كان متوهجا علي غير عادته, وبه بسمة كبيرة و مطمئنة أيضا, هكذا بدا لي, أقلقني هذا, فانتبهت علي صوت الرصاص, وجدت زملائي يتساقطون, يحصدهم رصاص المصريين, كنت بعيدا نوعا, لكن الجحيم والصراخ كان يقترب, شعرت علي نحو مباغت, و انا أري جثث زملائي, بأن القمر يضحك للمصريين, كان عددهم سبعة- كما قالوا لنا- لكن أين هم؟ رغم اتساع' وادي غرندل'(4) و تطويقنا له, لا يكاد يبين لهم أثر, رغم هذا الرصاص يغمرنا من كل جانب, رجلي تنزل علي الأرض/ الرمل فتسوخ, قلت: و الرمال أيضا معهم. تماسكت و أنا أتخلص من المظلة, و كان هو أمامي- سيد زكريا- و أنا خلفه, بدا في المعركة غير هياب, يحصد ما أمامه ولا يغطي ظهره شيء, كانه يحتمي بالفراغ, أخذتني جرأته وقدرته الفريدة في القتال, رحت أرقبه غير عابئ بزملائي الذين يقتلهم, مسقطا عني كل ما تعلمته: لا تنبهر بعدوك, ودون رحمة اقتله. بدا واضحا لي تماما أنه عدوي, ولا أحد غيره, تقدمت نحوه, من وراء ظهره المكشوف لي تماما.
حين فرغت ذخيرته شرع في استخدام سلاحه الأبيض, الذي أضاء في عيني حين برق في ضوء القمر, فرفعت رأسي لأجد بسمته قد أصبحت هازئة, كان يلتحم غير مهتم بالرصاص المنهمر عليه و الذي لا يكاد يصل إليه و يصيبه, حسبته أحد الشياطين, حتي الأرض تساعده, أرض تيههم أثناء الستة أيام, و أرض تيهنا الآن, كنت أحس بها تحميه, تجذب الرصاص نحوها و تقوم كحائل يغطي ظهره, و هو سادر في ذبح رفاقي, و أنا ملجم تماما.
كان زملاؤه الآخرون قد قتلوا و هو يقاتل وحيدا, كان أمامي, و ظهره لي, شددت أجزاء الرشاش, و هو استدار كنمر ليواجهني, لكني لم أمهله و أطلقت النار علي ظهره, هل كنت قادرا أن أنتظر حتي يستدير و أنظر في عينيه, و لو كنت فعلت ذلك أكنت قتلته؟.
مذهولا من سقوطه وقفت, رأيت زميلين لي يسوقان أحد رفاقه(5), عندما رآه ممدا علي الأرض و الدماء تغطيه حاول أن يجري نحوه, لكن زميلي منعاه بسلاحيهما, و أنا تقدمت من الممدد علي الأرض, قلت: ها أخيرا امتلكت حكاية. و كأن علي أن أتأكد من موته, تقدمت بوجل كبير شاهرا سلاحي وإصبعي علي الزناد, خوفا و تحرزا من خديعة قد تحدث, فأنا لا أصدق أنه سقط, صرخة لم يصرخ, أنة ضعيفة لا تكاد تبين, كأنه تأوه ارتياح بعد تعب طويل, أو كأنه شوق قديم وحب دفين لتوه ينطلق, هل يكون هذا موتا؟ حين وصلت إليه كان وجهه ينظر نحوي و نفس الابتسامة الهازئة التي يطل بها القمر علي, فزعت لكني تمالكت نفسي, و مددت يدي نحو جيبه, و أخذت حافظته و ما معه من أوراق, حين مست يدي جسده المكلل بالهدير و السخونة, فارتجفت يدي, و شعرت علي نحو مباغت بأني أسرقه, بالفعل كنت أسرقه, آخذ أوراقه في غيبة الروح و حضور الموت و الدم و رائحة البارود المحترق, و الرمال و القمر الذي لن ينفك بعدها يطاردني, كنت فقط أريد أن أتأكد من موته, و أنني_ أيضا_ قتلته, و لأؤكد لنفسي المضطربة أن هذا الذي قتلته مجرد واحد استطاع لوحده أن يقتل أكثر من عشرين مظليا من خيرة جنود العالم, فقط هو مات, و أنا قتلته و سرقته, و القمر شاهد و معه رمل البلاد التي لن استطيع التخلص منها حين تباغتني صورته, والتي لن تمل مطاردتي بطول البلاد التي أرتحل فيها وعرضها.
في البداية حاولت التآلف مع صورته الموضوعة بالكارنيه, لكنه شيئا فشيئا بدأ يتحول إلي شبح, وحش قاتل يهاجمني أثناء النوم بضحكته الهازئة متخذا من القمر مسكنا له, وصارت كلماته:' ستظل مضللا إلي يوم أعود.'(6) سكينا خبيئة تطاردني بكل مكان أذهب إليه, قلت: علي أن أتخلص من الأوراق. حاولت كثيرا نسيانها و تركها في مكان قد لا أعود إليه, لكنني في كل مرة أجدها عالقة في يدي, أقلب فيها و استعيد ما حدث و لا قدرة لي علي الفرار, كان يترسخ بداخلي و أتحول أنا إلي يهودي تائه تطارده خرافة تنسجها صورة بجيبه, و حرب قد مر عليها أكثر من عشرين عاما.
أخطبوط بألف ذراع يعتصرني, أذرعه تقبض علي أطرافي و تشدني, تتنازعني نحو الجهات الاربع, أصير موزعا بطول الأرض و عرضها و الألم الهائل يعتصر مفاصلي, وجهي نحو السماء مشدود, رائحة لبارود و دماء ورمال تغمر أنفي, و يجئ القمر, قمر صحراء البدو القاتل, وكأني ما رأيته قبل الليلة, لكنه يأتي و يهبط حتي حد الشرفة, و يقف غامرا الحجرة بضوء لزج ثقيل, يضغط فوق صدري فلا أقوي علي إخراج النفس أو لقفه.
من قلب الضياء ينزل هو- سيد زكريا- بنفس جرمه حين كان يقاتل, يتقدم نحوي شاهرا سلاحه الأبيض و علي وجهه ابتسامة هادئة, هازئة, يتقدم حتي يضع سن الشفرة الحاد فوق رقبتي, و أنا جاحظ العينين و مقيدة أطرافي باركان السرير, لا أقوي علي شيء سوي صرخة أطلقها فتوقظني مطلقا نفسا مكتوما و عرقا غزيرا يغرق جسدي.
' إلي يوم أعود' في البداية لم أفهم و صارت غربتي قدرا, وحين لم استطع البقاء بأرض إلا و هاجمني فيها, قلت: أرض تيه الأجداد كانت سيناء و ارض تيهي واسعة, تبدأ من هنا, من صدري و لا حدود لها, علي أن أعيده حتي أصل لغايتي وأرجع لأرض' يهوه', اتخلص منه بعودته, لكن عودته إلي أين؟ سؤال أرقني كثيرا, حين جاءني في المرة الأخيرة انتبهت إلي القمر الذي ينتظره عند الشرفة, و عرفت أنه قمر الصحراء, قمر بلاده, إذن علي أن أعيده إليهم, إلي أهله حتي أصل لمستقر.
' إلي يوم اعود'. كيف أعيده؟ و رحت بهدوء أفكر حتي أنتصر عليه ولو لمرة, لآ أقتله من الخلف, لست أفكر بالسياسة و أحابيلها, لكنني ذلك الإسرائيلي, اليهودي, الذي سيحترمه العالم, و يقف تقديرا لعمله و أمانته, و قدرته علي أن يكون كريما و متسامحا حتي مع أعدائه, و يعيد إليهم متعلقات أحد جنودهم, ستطير وكالات الأنباء الخبر إلي جميع أرجاء الأرض, تنشر صورتي و كلامي, فتلملمني من توهة البلاد و غربتي فيها, و تعيدني إلي أرض' يهوه'. سيفرح المصريون ببطلهم و يحتفلون به, لكنهم دوما سيقرنونني به, كلما تذكروه سأكون حاضرا بينهم, في أحاديثهم, سأري الإعجاب من عيونهم و كلامهم يطل, يعود هو إلي أهله بطلا, أعود أنا لأرض' يهوه' مضمخا بالبطولة و النصر و قتل سيد زكريا خليل.
هوامش
(1) من أقوال الجنرال ديفيد إليعازر رئيس هيئة أركان جيش الدفاع الإسرائيلي أثناء حرب1973 م.
(2) حوار بين السيد المسيح و أحد حراس بيلاطس في أسطورة اليهودي التائه.
(3) وادي بمنطقة رأس ملعب بسيناء حيث استشهد البطل سيد زكريا.
(4)' يهوه' إله اليهود.
(5) أحمد الدفتار: زميل سيد زكريا في سرية الجراد_ ب من الكتيبة153 صاعقة.
(6) كلمات السيد المسيح إلي اليهودي في أسطورة اليهودي التائه.
أحمد أبو خنيجر
نشر في الأهرام اليومي يوم 08 - 10 - 2010