جعفر الديري - محمد جواد رضا: الجواهري كان ضحية حبة لنفسه ووطنه

كتب – جعفر الديري

قال مستشار الدراسات التربوية والاجتماعية أ.د. محمد جواد رضا ان الشاعر محمد مهدي الجواهري لم يكسر قيدا واحدا وانما عدة قيود، سواء في حياته السياسة أو الشخصية، وقد كان الجواهري ضحية حبه لنفسه وحبه لوطنه، إذ كانت الغلبة دائما لوطنه.
جاء ذلك خلال استضاف الملتقى الثقافي الأهلي للدكتور محمد جواد رضا في محاضرة قدم وراجع فيها لكتابه «عراق الجواهري ... جواهري العراق»، بين فيها أنه: " إنما أنا سائح في دنيا الأدب وفي دنيا الجواهري تحديدا، فأنا ألجأ اليها كلما أتعبتني الحياة، ولكنني وعلى رغم هذه السياحة الدائمة لست بمستطيع حتى الآن تلخيص هذه الحياة الطويلة العاصفة الممتدة الى مئة عام. لقد كانت حياة الجواهري حياة صراع مستمر مع نفسه ومع الآخرين ومع حبه لوطنه، حبه للعراق العظيم، العراق الذي فيه من العجب الكثير والذي حير قدامى المفكرين، والذي اجتهد جهابذة الدنيا في تفسيره وتفسير طباع أهله».

فرجينيا 1989

وعن الإشارة التي أوحت إليه بهذا الكتاب، قال المحاضر «في فرجينيا في العام 1989 كنت أقضي إجازتي، وكنت أعبر نهرها كل يوم، واقفا على الجسر عاجزا عن منازعة غوايته، متسائلا: هل أن الأنهار تتعانق؟ هل يمكن أن تتلاقى الأنهار عبر الآمال؟! كانت شمس نوفمبر/ تشرين الثاني باهتة، وبين الفينة والفينة كانت صفحة الماء يضربها عابر ريح، وكنت أتذكر هدير الأمواج تحت جسور بغداد وخيال دجلة في خيال الشاعر الجواهري أصيلا للحب والصفاء والجمال، من هنا ولد الحب بتأليف هذا الكتاب، ولم يكن حلما في الواقع فلكل أمة شاهدها، فالانجليز شاهدهم شكسبير والباكستانيون شاهدهم محمد إقبال أما العراق فشاهده الجواهري».

وأضاف: «لقد قر عزمي على تصنيف الكتاب الى قسمين رئيسيين الأول عراق الجواهري وأسميته أرض العبقرية، والثاني جواهري العراق وأسميته الكينونة في الأروقة المظلمة. فقد كان الجواهري يحس بعبقرية العراق وكان قدره أن يولد في ناحية من نواحي الكوفة، ولا أعلم حقيقة سر هذا التوافق العجيب بين نفسية الجواهري التي تضج بكل صراع وولادته على أرض كلها صراع، فالكوفة - التي لم يكن أهلها من أولئك الذين يسلمون بالأمر الواقع أو يقبلون بأي والٍ يُولّى عليها والذين يرى الجاحظ أن سلوكهم هذا كان راجعا الى أنهم أهل فطنة ودقة وتمحيص - كانت تتجسد قوية في نفس الجواهري، فقد كانت الكوفة أرضا للرفض وطبعتها حرب المضادات وفيها نشأت ثقافة خاصة قلما ترضى بالسلم اذ كانت تنشد الحل الأمثل. العراق هذه التي عاش فيها الجواهري والتي كان قدرها قدرا باهظا، كان قدر الجواهري أن يعيش فيها متحسسا أحزانها وأحزان الآخرين، والتي عبر عما يشغلها ويشغل أهلها من أوجاع خير تعبير يوم نظم رائعته (أم عوف)».

قصة أم عوف

ثم ذكر جواد رضا حكاية قصيدة أم عوف وكيف أن الجواهري وأثناء ذهابه الى قطعة أرض وهبت له في جنوب العراق تعطلت العربة به في الطريق، فظل يبحث عن مكان أو أناس يأوونه بعد أن جنَّ عليه الليل فاكتشف خيمة منزوية وامرأة وحيدة ذات أغنام، ودخل عليها معرفا نفسه فلقي من التكريم عندها ما لم يلقه عند غيرها، إذ استقبلته بحفاوة وقدمت له لبن الماعز وفراشا ينام عليه على رغم فقرها، ولم ينم ليلتها وأخذ بالتفكير في طبع الانسان ونبله وكيف أن النبل الإنساني لا يعنى بالغنى أو الفقر وإنما هو طبع ينتظر خروجه"، مضيفا «من هذا التكرس لأحزان الآخرين فُتح لي باب للنفوذ الى دنيا الجواهري الشخصية بعواطفه وأحزانه وكبريائه، ووجدتني أختار اسما للقسم الثاني من دراستي وهو الكينونة في الأروقة المظلمة، فقد زرت معابد الدنيا الكبرى وزرت أضرحة الصالحين وزرت معابد وكنائس، فوجدتني في جو معتم لا تبدو فيه الأشياء، فاقتنعت بأنني لن أفهم الجواهري الا بالمرور على أروقته مقدسا لها».

رواق القيد

وذكر بعدها الرواق الأول قائلا: «أول الأروقة التي يجب علينا عبورها في حياة الجواهري هي رواق القيد، فقد عاش الجواهري في حياته الأولى وسط ثقافة ظالمة، وكان يشعر بثقل هذا القيد الذي كان لابد له من كسره فكسره، فقد كان الجواهري واعيا لتمرده وبأنه كان يطلب أشياء لا يطلبها الآخرون، لذلك بدأ بتمرده هذا صراعه الطويل».

رواق الغربة

الرواق الثاني يقول الكاتب: «هو رواق الغربة، فمثل كل المثقفين الآخرين الذي يحيون في أرض ووطن لا يقدر عبقريتهم فيطلبون الغربة اغترب الجواهري، اغترب الجواهري في براغ بتشيكوسلوفاكيا، حيث كان هناك موضع حفاوة، ولكنه أبدا كان محاسبا لنفسه، لذلك كانت غربته قاسية مؤلمة، ولكنه اختارها على إذلال نفسه وخفض رأسه. ومن خلال هذا الرواق - يقول المحاضر- نعبر الى الأروقة الأخرى في حياة الجواهري ، وهي رواق العشق إذ كانت المرأة عنده رمزا للتحولات الروحية، ومنه الى رواق الحزن، وأخيرا رواق الحكمة الذي كان آخر المراحل».

عبدالكريم قاسم

ثم أجاب صاحب الكتاب على بعض مداخلات الحضور بقوله: «إن الجواهري لم يكسر قيدا واحدا وانما عدة قيود، سواء في حياته السياسة أو الشخصية، وقد كان الجواهري ضحية حبه لنفسه وحبه لوطنه، إذ كانت الغلبة دائما لوطنه. ولكن الجواهري لم يعتقل وليس له تاريخ في السجون العراقية ولكنه كان يعرف عن السجون والمعتقلين الشيء الكثير ويعبر عنهم خير تعبير في قصائده العصماء، فقد كان أي خبر ينقل عن اعتقال الجواهري يترك أثرا مدويا في العراق، وفي احدى المرات التي اعتقل فيها تجمهر ثلاثون محاميا للدفاع عنه وقامت الصحف بنقل المحاكمات يوميا فكان يدخل المحكمة ويخرج منها مرفوع الرأس، ولكن أكبر إهانة أصيب بها كانت في عهد عبدالكريم قاسم وليس في العصر الملكي فقد كان فيصل الأول يحبه، فقد أمر عبدالكريم قاسم باعتقاله ثم أمر بالإفراج عنه نظير كفالة مقدارها خمسون فلسا، وقد كانت الرسالة واضحة من قبل عبدالكريم قاسم، لذلك ظل الجواهري متذكرا لهذه الاهانة طوال عمره».
وختم المحاضر مراجعته بقوله: «ان الجواهري كان يدرك تماما حجم منزلته عند أبناء الأقطار العربية ولم يكن معنيا بلقب يلصق به مثل لقب أمير الشعراء أو خلافه، وأتذكر أنه عندما توفي أمير الشعراء أحمد شوقي دعي الجواهري للمشاركة في حفل تأبينه في دار الأوبرا المصرية، وقد كان الجواهري السابع ضمن كوكبة من الشعراء، وقد كان الحضور متململا اشتياقا إلى سماع قصيدة الجواهري حتى اذا أتى دوره وألقى بيتين من شعره ضجت القاعة بالبكاء. فقد كان الجواهري معبرا عن أحزان الناس بعمق».

في ذمة الله

وفي دراستي هذه اتخذت من الجانب الإنساني محورا وهدفا، الجانب الإنساني الذي يتمثل خير تمثيل حينما فجع الجواهري برسالة وصلته تنبئه بوفاة زوجته وكيف أنه بكى بكاء شديدا، وكان بالقرب منه رجل إفريقي فبكى لبكائه، إذ تحدث عنه في قصيدته التي يقول فيها:

في ذمة الله ما ألقى وما أجـد
أهــذه صــخرة أم هــذه كبـــد
بكيت حـتى بكى من ليس يعـرفني
ونحت حتى حكاني طائر غرد.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى