لا بد من أن يؤخذ بعين الاعتبار عامل الزمن المشبع بالتطلعات حين يتم الحديث عن مدرسة من مدارس القرى في البوادي المغربية في فترة الخمسينات و ما تلاها من عقود. فقد كان الأفق الاجتماعي مفتوحا. و لم تكن هناك أزمة تشغيل.و المستقبل كان مضمونا لكل من تطأ أقدامه الفصول الدراسية.و لعل هذا المصعد الأوتوماتيكي قد أخفى و طمس الكثير من القضايا الحيوية التي كانت لها انعكاسات سلبية على مستوى إعداد الأفراد كمواطنين مسؤولين. فلم يكن هناك من ساءل يوما مدرسا عن أسلوب و طريقة عمله و نهجه في التدريس. و لا كان هناك من احتج يوما على من مارس القسوة التي كانت تصل حد العنف بكل أنواعه. بل كان دائما هناك مقابل هذا تفاهم عميق يصل حد التواطؤ بين المدرسة و الأسرة. و يزكي اللجوء لكل الوسائل التي من شأنها تحقيق الصعود في سلم التعلم. و لذلك غاب النوع و حضر الكم. و قد زكى هذا الوضع التوجه النفعي الذي يمكن تحقيقه بأقصر الطرق و أكثرها اقتصادا في بذل الجهد. و لا شك أن ذلك كان على حساب الإعداد المعقلن للإنسان ككائن اجتماعي له أدوار مهمة في بناء مجتمع متنور همه أكبر من مجرد تحصيل اللقمة. و لهذا صار المدرس الأكثر شهرة و احتراما من قبل الناس، هو ذلك الذي يمارس أكبر قدر من القسوة. و هذا ما يسمح بالقول أن التمدرس في تلك الفترة إن كان قد نجح في مهام معينة، فهو قد فشل في أخرى لعل أهمها أنه أهل المجتمع كي يقبل بالاستبداد و يتعايش معه. غير أن هناك قلة من الأساتذة حادوا عن هذا النهج. و لعلهم في ذلك قد استندوا على قناعاتهم الشخصية ووعيهم بمهامهم كمدرسين و مهندسين لعقول اجيال المستقبل. و بالرغم من هذا التفرد، فلا احد نظر اليهم كقدوة . بل ربما حصل العكس و نظر إليهم وفق الثقافة السائدة أنذاك كأشخاص يفتقدون للإخلاص في مهامهم. و من هذه النماذج النادرة التي مرت بمدرسة المسيرة، أستحضر شخصيتين.
الأستاذ علال المخلوفي
تجدر الإشارة في البدء أن معظم معلمي اللغة العربية في تلك الحقبة لم يخضعوا لأي تكوين. و هم في الغالب كانوا من قبل مشرفين على الكتاتيب القرآنية أو فقهاء في المساجد. ساعدهم في الحصول على وظيفة ،الفراغ و الحاجة التي كانت تعاني منها الخريطة المدرسية. و هو وضع استمر إلى غاية عقد السبعينيات. إلا أنه مع ذلك، فقد حظي هؤلاء الأساتذة بالاحترام و التقدير. و ظلوا لحد الآن يعتبرون النموذج المثالي للمدرس. خصوصا حين يقارنوا بعطاء مدرس اليوم. و الحقيقة أن هذه المفاضلة لا يعود أساسها إلى الحصيلة المعرفية التي يحملها كل طرف ، بقدر ما تعود إلى المناخ الذي ترعرع فيه كل واحد منهما. و الأفكار التي تشبع بها أثناء تنشئته. فمدرس الستينيات و السبعينيات كان طفلا في فترة الأربيعينيات و الخمسينيات. و بالعودة لتلك الفترة نجد انه قد ساد وقتذاك مناخ مشبع بالوطنيةو الأفكار التحررية التي كانت تجتاح العالم بأسره، ناهيك عن الخطابات القومية و الثورية التي كانت تحاصر المد الاستعماري. و من ثم تشرب من عاش المرحلة الأفكار المشبعة بالوطنية و تنامى لديه حس التحرر و الانعتاق. و لذلك كان طبيعيا حين يصبح الانسان راشدا ان يعبر عما تشبع به أثناء تنشئنه الاجتماعية. و لهذا فإن كان مدرس تلك الحقب يعاني من قصور على مستوى تكوينه، فإنه غطىج
ذلك بحسه الوطني و غيرته.
أعتقد أن هذه هي السمة المشتركة بين مدرسي عقود ما بعد الاستقلال. لكن بالرغم كن ذلك فقد كان لهذا القصور تأثيره على المنتوج الذي لن يظهر إلا لاحقا. ذلك أن الاعتماد الكلي على التلقين و الحفظ و الاستظهار كان له تأثيره السلبي . و كان عدم الاستيعاب و الفهم مسؤولية يتحملها المتعلم بناءا على افتراض أن الدروس قدمت بشكلها المثالي الممكن. و التقويم هو العقاب الذي كان الجانب الوحيد الذي يحظى بالابداع.
داخل هذه الأقسام أو المخافر، سيظهر فجأة الأستاذ " علال المخلوفي" . شاب فارع الطول أنيق المظهر. شارب كثيف و وجه بملامح هادئة. وجوده بذلك الشكل جعله وسط حشد من الجلادين كشخص غريب ظل طريقه. إلا أنه بمهارة رسم مسلكا انتهى به إلى قلوب الصغار.
تتلمذت عليه لثلاث سنوات. في القسم الأول بعد أن كررت السنة. و في القسم الثالث و الرابع.
لا يمكنني أبدا أن أنسى أننا كنا في القسم الأول نجلس ثلاثا في كل طاولة. و قد منح زميلي مرة نقطة 10 على 10
لكنه حين نظرإلى دفتري، تأمله و أوضح لي أن لدي مشكلة في الخط. لذلك سيمنحني نقطة أقل من زميلي على أساس أنه سيمنحني نقطة مماثلة متى تحسن خطي.
كانت تلك المرة الأولى في تلك الطفولة الشقية التي يتحدث إلي شخص راشد بطريقة تخلو من التعنيف. طريقة استحضرتني ككائن له حواس و مشاعر. و أذكر أنني أحسست أن تعامله ذاك فاق كل النقط التي حصلت عليها في العمر كله.
لقائي الثاني بالأستاذ علال المخلوفي كان في القسم الثالث. وقد بدا كمحطة وصلنا إليها لاهثين بعد مرورنا بإحدىأعسر السنوات عشناها في القسم الثاني، حاملين منها كل الذكريات المرعبة. فقد كان معلم ذلك القسم يملأ أفواه الأشخاص الذين كان بصدد عقابهم بكل ما يحتويه متحف القسم من مواد صلبة من فول و حمص. و يتوعدهم بأشد العقوبان إن هم فتحوا افواههم و أسقطوا حبة واحدة. ثم يشرع في جلهم. او حشرهم بين النوافذ و الشبابيك. او وضعهم داخل الخزانة...
لدى فصول الأستاذ علال المخلوفي كان الاعتقاد السائد هو أننا في مدرسة داخل مدرسة. كل ما كان يفضي به للتلاميذ كان يجد صداه. و الجديد هذه المرة كان دروس التاريخ و الإنشاء. و أعتقد أن كل الذين مروا بفصوله لابد و أن يكونوا قد عشقوا دروس التاريخ و تنامى لديهم القدرة و حب التعبير و الإفصاح. و أيضا تشكل لديهم يقين في كون التدريس هو فن قبل أن يكون وظيفة.
في دروس التاريخ لم نكن بصدد مادة ميتة كما يقال. بل كان سفرا حقيقيا أو استدعاء لوقائع كي تعيد تشكيل نفسها ، لننظر إليها من موقع المتفرج حينا. و أحيانا كان يصل تأثير التفاعل إلى حد محاولة إيجاد مكان لنا داخل الجزئيات و التفاصيل من أجل صنع المجد الذي ما كنا نرضى بغيره بديلا.
أستطيع أن أستعيد كيف سالت دموع الأطفال حين اندحر المسلمون في غزوة "أحد" . و أستطيع أن أذكر كيف تصايحوا مهللين بالنصر في غزوات أخرى. و كل ذلك نابع من ذلك التقديم و التشخيص الرائع الذي كان يبدعه الأستاذ علال المخلوفي الذي أطال الله في عمره إن كان لا يزال على قيد الحياة. و أدخل عليه الرحمة و المغفرة إن كان قد رحل عن هذه الدنيا.
الأستاذ علال المخلوفي
تجدر الإشارة في البدء أن معظم معلمي اللغة العربية في تلك الحقبة لم يخضعوا لأي تكوين. و هم في الغالب كانوا من قبل مشرفين على الكتاتيب القرآنية أو فقهاء في المساجد. ساعدهم في الحصول على وظيفة ،الفراغ و الحاجة التي كانت تعاني منها الخريطة المدرسية. و هو وضع استمر إلى غاية عقد السبعينيات. إلا أنه مع ذلك، فقد حظي هؤلاء الأساتذة بالاحترام و التقدير. و ظلوا لحد الآن يعتبرون النموذج المثالي للمدرس. خصوصا حين يقارنوا بعطاء مدرس اليوم. و الحقيقة أن هذه المفاضلة لا يعود أساسها إلى الحصيلة المعرفية التي يحملها كل طرف ، بقدر ما تعود إلى المناخ الذي ترعرع فيه كل واحد منهما. و الأفكار التي تشبع بها أثناء تنشئته. فمدرس الستينيات و السبعينيات كان طفلا في فترة الأربيعينيات و الخمسينيات. و بالعودة لتلك الفترة نجد انه قد ساد وقتذاك مناخ مشبع بالوطنيةو الأفكار التحررية التي كانت تجتاح العالم بأسره، ناهيك عن الخطابات القومية و الثورية التي كانت تحاصر المد الاستعماري. و من ثم تشرب من عاش المرحلة الأفكار المشبعة بالوطنية و تنامى لديه حس التحرر و الانعتاق. و لذلك كان طبيعيا حين يصبح الانسان راشدا ان يعبر عما تشبع به أثناء تنشئنه الاجتماعية. و لهذا فإن كان مدرس تلك الحقب يعاني من قصور على مستوى تكوينه، فإنه غطىج
ذلك بحسه الوطني و غيرته.
أعتقد أن هذه هي السمة المشتركة بين مدرسي عقود ما بعد الاستقلال. لكن بالرغم كن ذلك فقد كان لهذا القصور تأثيره على المنتوج الذي لن يظهر إلا لاحقا. ذلك أن الاعتماد الكلي على التلقين و الحفظ و الاستظهار كان له تأثيره السلبي . و كان عدم الاستيعاب و الفهم مسؤولية يتحملها المتعلم بناءا على افتراض أن الدروس قدمت بشكلها المثالي الممكن. و التقويم هو العقاب الذي كان الجانب الوحيد الذي يحظى بالابداع.
داخل هذه الأقسام أو المخافر، سيظهر فجأة الأستاذ " علال المخلوفي" . شاب فارع الطول أنيق المظهر. شارب كثيف و وجه بملامح هادئة. وجوده بذلك الشكل جعله وسط حشد من الجلادين كشخص غريب ظل طريقه. إلا أنه بمهارة رسم مسلكا انتهى به إلى قلوب الصغار.
تتلمذت عليه لثلاث سنوات. في القسم الأول بعد أن كررت السنة. و في القسم الثالث و الرابع.
لا يمكنني أبدا أن أنسى أننا كنا في القسم الأول نجلس ثلاثا في كل طاولة. و قد منح زميلي مرة نقطة 10 على 10
لكنه حين نظرإلى دفتري، تأمله و أوضح لي أن لدي مشكلة في الخط. لذلك سيمنحني نقطة أقل من زميلي على أساس أنه سيمنحني نقطة مماثلة متى تحسن خطي.
كانت تلك المرة الأولى في تلك الطفولة الشقية التي يتحدث إلي شخص راشد بطريقة تخلو من التعنيف. طريقة استحضرتني ككائن له حواس و مشاعر. و أذكر أنني أحسست أن تعامله ذاك فاق كل النقط التي حصلت عليها في العمر كله.
لقائي الثاني بالأستاذ علال المخلوفي كان في القسم الثالث. وقد بدا كمحطة وصلنا إليها لاهثين بعد مرورنا بإحدىأعسر السنوات عشناها في القسم الثاني، حاملين منها كل الذكريات المرعبة. فقد كان معلم ذلك القسم يملأ أفواه الأشخاص الذين كان بصدد عقابهم بكل ما يحتويه متحف القسم من مواد صلبة من فول و حمص. و يتوعدهم بأشد العقوبان إن هم فتحوا افواههم و أسقطوا حبة واحدة. ثم يشرع في جلهم. او حشرهم بين النوافذ و الشبابيك. او وضعهم داخل الخزانة...
لدى فصول الأستاذ علال المخلوفي كان الاعتقاد السائد هو أننا في مدرسة داخل مدرسة. كل ما كان يفضي به للتلاميذ كان يجد صداه. و الجديد هذه المرة كان دروس التاريخ و الإنشاء. و أعتقد أن كل الذين مروا بفصوله لابد و أن يكونوا قد عشقوا دروس التاريخ و تنامى لديهم القدرة و حب التعبير و الإفصاح. و أيضا تشكل لديهم يقين في كون التدريس هو فن قبل أن يكون وظيفة.
في دروس التاريخ لم نكن بصدد مادة ميتة كما يقال. بل كان سفرا حقيقيا أو استدعاء لوقائع كي تعيد تشكيل نفسها ، لننظر إليها من موقع المتفرج حينا. و أحيانا كان يصل تأثير التفاعل إلى حد محاولة إيجاد مكان لنا داخل الجزئيات و التفاصيل من أجل صنع المجد الذي ما كنا نرضى بغيره بديلا.
أستطيع أن أستعيد كيف سالت دموع الأطفال حين اندحر المسلمون في غزوة "أحد" . و أستطيع أن أذكر كيف تصايحوا مهللين بالنصر في غزوات أخرى. و كل ذلك نابع من ذلك التقديم و التشخيص الرائع الذي كان يبدعه الأستاذ علال المخلوفي الذي أطال الله في عمره إن كان لا يزال على قيد الحياة. و أدخل عليه الرحمة و المغفرة إن كان قد رحل عن هذه الدنيا.