إن كل ما يبثه العرض المسرحي للمتلقي هو علامة لها دلالتها، والتي من خلالها يمكننا قراءة العالم الدرامي والوقوف على فهمه.
وإذا تأملنا ملابس الممثلين الثلاثة في العرض المغربي «علاش» بالإضافة إلى الممثلتين؛ وجدناها لا تحيلنا إلى مجتمع محدد: مدني، قروي.. إلخ. ولكن توحي المعاطف الطويلة الشبيهة بزي رجال التفتيش في القرن العشرين بأننا في عملية تحقيق في جريمة حدثت في وقت ما. ولكن أي نوع من الجرائم نحن بصدده في هذا العرض؟
هل ينمحي الماضي بتراكم الزمن؟ وهل يمكن للعار أن يتلاشى إذا طوته السنون والأيام؟ يقترح «إيكو» أن للماضي زمن موازٍ لزمننا الحاضر، ينمو معه، ويسعى للقائه في نقطة ما، حين يتلاقى الماضي والحاضر تسقط كل الأسباب وتتكشف الحقيقة عارية، هل يمكن أن نتطهر مما ارتكبناه في الماضي؟ وهل تمحو طهارة الحاضر دنس الماضي؟
لم ينجح أي دال بصري في فض شفرة المكان، وربما حمل الحوار العبء الأكبر من ذلك، لكن الإخراج بواسطة «عبد الفتاح عشيق» حرص على شحذ أدواته كي لا يفلت المُشاهِد من الموضوع بقدر الإمكان، ولا تخلف السينوغراف سوى رسمة لحيوان منوي تفشل كل محاولات محوها حتى آخر العرض، ولكن انفعالات الأداء أثناء قيام الممثلة بالرسم على الجدار، توحي بالاستنكار، والآهات المكتومة، توحي بالسخط، وطأطأة الرأس إلى الأرض تؤكد أن عارا قد حدث.
إننا أمام جريمة شرف، أو مسألة نسب، وهذا ما نتبينه من مونولوج البداية، والذي يسرد وقائع طرد «عائشة» بعد أن افتضح عارها، ويتناول العرض اختلاف الأبناء الثلاثة حول طهارة أمهم من دنسها، في لعبة أشبه بالمحاكمة للذكريات وتعرية الماضي من غلافه الجميل. وعندما يخلع أحد الأبناء معطفه فإننا في صراع مع الماضي ليس أقل صعوبة من الاغتصاب.
تعد قضية البنية الدرامية من العتبات اللافتة في هذا العرض، حيث تمثل تجربة «علاش» محاولة جادة لإعادة صياغة دراما الشرف التقليدية بأسلوب عصري على مستوى السينوغراف، فابتعدت عناصر الديكور والملابس عن الواقعية، والتمست الصورة حالة من الهذيانية. أما على مستوى البنية الدرامية والأداء هل ابتعدا عن التناول التقليدي لبنية كلاسيكية بائدة؟
إن التعرف على شخصية عائشة يبدأ بمونولوج تقديمي على لسان شخصية أخرى، ومن ثم تبدأ عائشة في سرد حكايتها مع الاغتصاب عبر التداعي الحر، ولكن بالاعتماد على التعبير الحركي وحده، ثم يمر الزمن ويظهر الأولاد الذين يحاكمون تاريخ الأم، هذه البنية السردية، لم تختلف عن ما هو معتاد وشائع حتى في سياقها التأثيري الذي يخضع تحت ضغط الدين والمجتمع، دون لفت الانتباه إلى الفرد باعتباره الذات التي تدين نفسها وإرادتها من منطلق إدراكها لامتلاكها حرية الاختيار والإرادة.
تعمل الأغاني طوال العرض حالة من ضبط السياق الدلالي للتدفق السردي لعلامات العرض، وهو ما يجعل تيمة «من رحم أبي أتيت.. أعلم هذا.. وأعلم خطأ العبارة» مفتاحا لإدانة عائشة تارة والتعاطف معها تارة أخرى.
إن الطبيعة الإشارية التي تتسم بها التبادلات؛ أنا وأنت بين الشخصيات الثلاث تتضح على الفور عندما يشتبك الأشقاء الثلاثة معا، لأن هناك سياقا هو يحكمهم هو: «هنا والآن» الخاص بالمكان، وهو ما يؤلف موضوع الحوار الرئيسي بينهم، حيث يلمح عدة مرات عن وضعنا الآن عبر الإشارة طوال الوقت إلى الماضي.
وإذا واصلنا تأمل الحوار فيما يتعلق بمقولة الكلام كفعل، يصبح تصدير عائشة كفعل واضحا. فهي تمر كطيف، عملت المؤثرات الضوئية على إحكامها في سياق الكبت والحرية حيث لا تتوانى الإشارة إلى دوائر الإدانة والتي طوال الوقت تحكم بظاهر الأمور، وعندما يحيط المسجد والجبال التي تأخذ شكل الذئاب بالحيوان المنوي تتجه أصابع الدراما إلى الدين والمجتمع، وهو ما يتسق مع مشهد الاغتسال في آخر العرض، حيث يقف كل منهما -الدين والمجتمع- حائلا دون رؤية عائشة كحقيقة لم ترتكبها، كون الشروع في الطهارة عملية غير فاعلة إلا بتمزيق القيود، وعلى هذا يأتي مؤثر صوتي خارجي: «كفرت بدين الله»، لا للإشارة الظاهرة بالكفر العقائدي، إنما إشارة لسقوط كل المدخلات التي تعيق النظر إلى الإنسان على حقيقته العارية.
محمد علام
وإذا تأملنا ملابس الممثلين الثلاثة في العرض المغربي «علاش» بالإضافة إلى الممثلتين؛ وجدناها لا تحيلنا إلى مجتمع محدد: مدني، قروي.. إلخ. ولكن توحي المعاطف الطويلة الشبيهة بزي رجال التفتيش في القرن العشرين بأننا في عملية تحقيق في جريمة حدثت في وقت ما. ولكن أي نوع من الجرائم نحن بصدده في هذا العرض؟
هل ينمحي الماضي بتراكم الزمن؟ وهل يمكن للعار أن يتلاشى إذا طوته السنون والأيام؟ يقترح «إيكو» أن للماضي زمن موازٍ لزمننا الحاضر، ينمو معه، ويسعى للقائه في نقطة ما، حين يتلاقى الماضي والحاضر تسقط كل الأسباب وتتكشف الحقيقة عارية، هل يمكن أن نتطهر مما ارتكبناه في الماضي؟ وهل تمحو طهارة الحاضر دنس الماضي؟
لم ينجح أي دال بصري في فض شفرة المكان، وربما حمل الحوار العبء الأكبر من ذلك، لكن الإخراج بواسطة «عبد الفتاح عشيق» حرص على شحذ أدواته كي لا يفلت المُشاهِد من الموضوع بقدر الإمكان، ولا تخلف السينوغراف سوى رسمة لحيوان منوي تفشل كل محاولات محوها حتى آخر العرض، ولكن انفعالات الأداء أثناء قيام الممثلة بالرسم على الجدار، توحي بالاستنكار، والآهات المكتومة، توحي بالسخط، وطأطأة الرأس إلى الأرض تؤكد أن عارا قد حدث.
إننا أمام جريمة شرف، أو مسألة نسب، وهذا ما نتبينه من مونولوج البداية، والذي يسرد وقائع طرد «عائشة» بعد أن افتضح عارها، ويتناول العرض اختلاف الأبناء الثلاثة حول طهارة أمهم من دنسها، في لعبة أشبه بالمحاكمة للذكريات وتعرية الماضي من غلافه الجميل. وعندما يخلع أحد الأبناء معطفه فإننا في صراع مع الماضي ليس أقل صعوبة من الاغتصاب.
تعد قضية البنية الدرامية من العتبات اللافتة في هذا العرض، حيث تمثل تجربة «علاش» محاولة جادة لإعادة صياغة دراما الشرف التقليدية بأسلوب عصري على مستوى السينوغراف، فابتعدت عناصر الديكور والملابس عن الواقعية، والتمست الصورة حالة من الهذيانية. أما على مستوى البنية الدرامية والأداء هل ابتعدا عن التناول التقليدي لبنية كلاسيكية بائدة؟
إن التعرف على شخصية عائشة يبدأ بمونولوج تقديمي على لسان شخصية أخرى، ومن ثم تبدأ عائشة في سرد حكايتها مع الاغتصاب عبر التداعي الحر، ولكن بالاعتماد على التعبير الحركي وحده، ثم يمر الزمن ويظهر الأولاد الذين يحاكمون تاريخ الأم، هذه البنية السردية، لم تختلف عن ما هو معتاد وشائع حتى في سياقها التأثيري الذي يخضع تحت ضغط الدين والمجتمع، دون لفت الانتباه إلى الفرد باعتباره الذات التي تدين نفسها وإرادتها من منطلق إدراكها لامتلاكها حرية الاختيار والإرادة.
تعمل الأغاني طوال العرض حالة من ضبط السياق الدلالي للتدفق السردي لعلامات العرض، وهو ما يجعل تيمة «من رحم أبي أتيت.. أعلم هذا.. وأعلم خطأ العبارة» مفتاحا لإدانة عائشة تارة والتعاطف معها تارة أخرى.
إن الطبيعة الإشارية التي تتسم بها التبادلات؛ أنا وأنت بين الشخصيات الثلاث تتضح على الفور عندما يشتبك الأشقاء الثلاثة معا، لأن هناك سياقا هو يحكمهم هو: «هنا والآن» الخاص بالمكان، وهو ما يؤلف موضوع الحوار الرئيسي بينهم، حيث يلمح عدة مرات عن وضعنا الآن عبر الإشارة طوال الوقت إلى الماضي.
وإذا واصلنا تأمل الحوار فيما يتعلق بمقولة الكلام كفعل، يصبح تصدير عائشة كفعل واضحا. فهي تمر كطيف، عملت المؤثرات الضوئية على إحكامها في سياق الكبت والحرية حيث لا تتوانى الإشارة إلى دوائر الإدانة والتي طوال الوقت تحكم بظاهر الأمور، وعندما يحيط المسجد والجبال التي تأخذ شكل الذئاب بالحيوان المنوي تتجه أصابع الدراما إلى الدين والمجتمع، وهو ما يتسق مع مشهد الاغتسال في آخر العرض، حيث يقف كل منهما -الدين والمجتمع- حائلا دون رؤية عائشة كحقيقة لم ترتكبها، كون الشروع في الطهارة عملية غير فاعلة إلا بتمزيق القيود، وعلى هذا يأتي مؤثر صوتي خارجي: «كفرت بدين الله»، لا للإشارة الظاهرة بالكفر العقائدي، إنما إشارة لسقوط كل المدخلات التي تعيق النظر إلى الإنسان على حقيقته العارية.
محمد علام