ميشلين غوليبالي Micheline Coulibaly - السقـف.. قصة قصيرة

يتنافس القمر مع مصابيح النيون في إطلاق الضوء وإنارة الشارع الرئيس لحي بيافري دي تريشفيل، فيما تنساب الموسيقى من مكبرات الصوت، لتختلط مع الأغاني وصرخات الناس. ومن بين الراقصين المتصببين عرقاً، فتاة شابة تتململ، وتستدير حول نفسها، وتدق الأرض بقدميها، ثم يتمايل رأسها وذراعاها. ويبدو أن لاشيء يمكن أن يوقفها. فهي ترقص مغمضة العينين، مأخوذة بحمى أصوات قرع الطبول. إنها تعيش لحظتها هذه. وماذا عن الغد، أو الأمس؟ إنها كلمات بعيدة عن الواقع في معناها ومفهومها. وأي شيء أكثر روعة من الرقص والاسترسال مع الموسيقى التي تجعلها في ذروة السعادة!

ماذا؟ من يجرؤ على تعكير صفو مثل هذه اللحظة الرائعة؟ تقول كلوي لنفسها وهي تسمع همسات ووشوشات من حولها. قال أحد الأصوات:

- "المسكينة كلوي! لايمكنها رؤيتنا".

وتمتم آخر:

- "إنها لاتريد ذلك".

وتدخل صوت ثالث:

- "دعوها تَرْتَحَ".

أصوات مجهولة، وأخرى غريبة. خمنت كلوي مايحدث في غرفتها وهي ممددة على سريرها، وعيناها مسمرتان نحو السقف دون أن ترى فيه شيئاً سوى الحياة التي ترسمها عليه بعينيها المضطربتين.

كلوي شابة جميلة ترقص هناك على أنغام آلة البلافون. وقد حدث ذلك منذ مدة طويلة.. طويلة جداً.

تسعل كلوي، ويراودها الإحساس بأن ثمة مركبة بحمولة ألف طن تجثم على صدرها .. وتعاود السعال. فتضغط جيان على الجرس، لتتشبع الغرفة برائحة الأدوية. ثم تغلق كلوي عينيها لتتفادى النظر إلى الممرضة التي تغرز الإبرة في ذراعها.. فتصك أسنانها، وتترك جسدها يصعد، نحو السقف.

تعتلي كلوي المنصة، ويدوي التصفيق. فقد اختيرت ملكةً للأناقة في تريشفيل. لقد أمدتها سنواتها العشرون بهالة من السعادة والحبور لتعيش حالة لامثيل لها. تتفحص عيناها حشد الحاضرين، فينتابها الدوار. تتناثر الزهور عند قدميها، وتنعكس عليها أضواء كاميرات التصوير. غداً ستكون كلوي نجمة في جميع صحف المدينة.

فتغلق عينيها لشدة ما يغمرها من أحساس بالسعادة. ويتلألأ التاج على شعرها الأسود، فتسحبه وتلقي نظرة عليه. وتتوافد صديقاتها لتقديم التهاني.

يا له من أحساس بالسعادة، خاصة بعد أن فشلت في النجاح بامتحاناتها المدرسية. علماً أنها لم تولِ اهتماماً بذلك وكانت تردد: "ليس هذا كل شيء في الحياة!".

وتطلق ضحكة مدوية عندما تعيب عليها صديقتها "ليا" ميلها المحموم للحفلات.

- "الأمور غير المهمة تأتي في ما بعد. أريد أن أستمتع بالحياة قبل أن تُطفئ الأعوام والسنون جمالي. فلاشيء يدعو للحزن أكثر من الشيخوخة".

- "لكننا هنا من أجل الدراسة قبل كل شيء".

فتجيبها كلوي بتلك الضحكة الرنانة التي تذيب معها أكثر القلوب قساوة:

- "هذا صحيح، لكننا شابات وعلينا أن نتسلى أيضاً. لاتنسي ذلك!".

كان ذلك قبل خمس سنين.

تسمع كلوي الممرضة وهي تدفع عربتها خارج الغرفة، لكنها تمضي في إبقاء عينيها مسمّرتين تجاه السقف. وفجأة، تنتفض لسماعها صوتاً أجشَّ لأحد الرجال.

- "حالتها مستقرة. أخطريني عند حدوث أي تغيير".

من المتكلم؟ كلا، لاتريد كلوي أن تخفض عينيها على العالم الكريه الذي يحيط بها. فتتوتر، وتمد رقبتها نحو السقف، حيث ملجأها الذي تشعر فيه براحة تامة، وتعاود رؤية تاجها، ذلك التاج ذو الفصوص الماسية المزيفة. إن كل شيء مزيف في هذا العالم، أليس كذلك؟ مزيف مثل الجمال، مثل الشباب! كل شيء يمضي يوماً ما، كل شيء! مثل الحياة التي تشعر بأنها تفلت من جسدها رويداً رويداً. والدليل، ها هي هنا، ترقد على هذا السرير في مستشفى تريشفيل.

ماذا قال الطبيب؟ "حالتها مستقرة"! وماذا يعني ذلك؟ لاشيء. إنها صيغة تشيع الاطمئنان لدى الوالدين حسب!

تعاود كلوي المضي بنظرها إلى سقفها. فهناك ينتظرها أصدقاؤها. إنها جميلة وبصحة جيدة. والحياة تعني لها التسلية، وإلاّ فما فائدة العيش فيها؟

تمثل كلوي رمزاً لجيل جديد من النساء، فهي فتاة متحررة، ترفض فكرة أن تكون لعبة بيد الرجال. لأنها، هي اللاعب، وهي التي تحدد قوانين اللعب، هذا ما تعتقد به في أقل تقدير. وهي تؤمن أن الإنسان لايعيش سوى مرة واحدة، ولذلك دعنا نَعِشْ! ولا أريد أن تفلت من أي دقيقة من هذه الحياة الثمنية".

تسألها ليا:

- "ألا ترغبين في الوقوع بالحب؟".

- "أنا؟ أتهزئين بي؟ هذا لن يحدث أبداً!".

وقد حدث هذا قبل ثلاث سنوات.

طوال الليل، كانت كلوي تسمع أمها تتضرع إلى الله وهي تمسح جبينها من العرق. هذا العرق الذي لم تفلح جيان في تنشيفه. الحياة كلها تختزن هذا الجسد. وكلوي تعرف ذلك، مثلما تعلم أن أطناناً من الحياة تكمن فيها. ولا شيء يمكن أن يُنضب هذا المخزون. عليها أن تحيا؟ تحاول كلوي تحريك ساقيها، لكنها تشعر بالألم، ويبدو لها كأنهما مغلفتان بالاسمنت. ومع ذلك، تشعر كلوي بالخِفّة. فهناك، ما يتراءى لها في السقف، أليست هي التي تنزلق على حلبة الرقص بفستانها الجميل من التافتا الذي يُبدي جمال جسدها الممشوق؟ إنها ترقص، وتحيا! من قال أنها مريضة؟ ومن تحدث عن"حالتها المستقرة"؟ هذا هراء!

تتطلع ليا إلى كلوي وهي تتمايل وتنتقل من ذراع رجل إلى آخر فتسألها منتهزة فترة استراحة قصيرة:

- "ألا ترغبين في الزواج؟".

تضحك كلوي وتجيبها:

- "إن قلبي يتغير بسرعة كبيرة. فماذا أفعل له؟".

- "لا أصدق ذلك! هل تقعين في الحب بهذه السهولة؟".

- "الحب، كلمة كبيرة تخلو من المعاني. كل ما أعرفه هو أنه ينبغي ألاّ أبقى مع رجل واحد مدة طويلة، فالتعود يولد المتاعب".

- "أذن، فأنت لاتخططين للزواج!".

- "في ما بعد، ربما!".

- "قد يفوت الأوان! أخشى عليك من هذه الأمراض الفظيعة".

- "أمراض؟ إنها للفقراء حسب! وأنا لا أتردد إلا على الأشخاص ميسوري الحال، ثم إن الرفاهية تعني الصحة".

- "وقد تعني الطيش أيضاً. كما إن رجالك ذوي الشأن ليسوا بمعزل عن الأمراض".

فتجيبها كلوي.

- "كفى هراءً! يا لك من معكرة للمزاج!".

حدث ذلك قبل عامين.

يجتاح كلوي ألم واخز في معدتها فتتلوى ألماً. ثم تعتصر أحشاءها نوبة حادة أخرى من المغص الذي لم يعد يفارقها, إنه "الإسهال المزمن" كما يقول الطبيب. وماذا يعني هذا الإسهال؟ إنه ينتمي للعالم الآخر، السفلي، هذا الذي تأبى كلوي الانضمام إليه.

تحاول تحريك أصابعها. ألا يزال بمقدورها التمايل على أنغام الموسيقى؟ أجل! فكلوي تدندن الأغاني وهي تستعرض الوثائق الموضوعة فوق مكتبها. فهي تشغل وظيفة مرموقة في أحد مشاريع تصنيع البلاط الاسمنتي، وهي مسؤولة عن توحيد الطلبات وتسليمها. وهو موقع ينطوي على قدر من المسؤولية.

أكملت ليا دراستها وتعمل مدرّسة للغة الانجليزية في الثانوية الكلاسيكية لابيدجان. أما كليوي، فقد أهملت دراستها. وتفرغت لموقعها الذهبي في هذا العمل. كما إن الحياة تبتسم لها: حيث اقتنت سيارة جميلة! وشقة فاخرة! مع أعداد من الرجال طوع بنانها! فماذا هناك بعد لتحقيق السعادة لكلوي؟

تنساب المزيد من الصور، وتشعر كلوي بالدهشة.

- "ليا، لقد وقعتُ في شَرَك الحب، وأريد الزواج".

- "أيعقل هذا؟ أنت كلوي؟ من هو؟ وماذا يعمل؟".

- "شاب وسيم، في الثلاثين من العمر، طوله متر وثمانين سنتمتراً، يعمل طبيباً ولديه سيارة نوع بي. ام. دبليو".

- "إني أتحدث عن طباعه، وميوله!".

- "يحبني وأحبه".

- "لايكفي ذلك ياكلوي. خذي وقتك لمعرفته!".

- "من يمكن أن يقدم لي دروساً بشأن الرجال؟".

فبدأت ليا تشرح لها:

- "الزواج أمر مهم. ومن جهتي فقد اتخذت قراري بأن أعرف المزيد عن جوزيف قبل الارتباط به".

- "وماذا عن العفوية، وسحر الفنطازيا؟".

حدث ذلك قبل سنة تحديداً.

تبتلع كلوي بصعوبة اللقمة التي وضعتها أمها في فمها. ولكن، لمَ المحاولة في تغذيتها؟ فلا شهية لها. فالصور وحدها في السقف تكفيها. فهناك تأكل وتشرب حتى الشبع. ألا يفهمون إذن أنها لا تحتاج إلى طعامهم لتشعر بالسلام. ثم إن لكلوي خطة تسير عليها إذ تغلق عينيها عندما تقرب جيان الملعقة من فمها.

تقول جيان:

- "لقد نامت. سأتركها لترتاح".

ويقول زوجها البرت كيفي:

- "عليها أن تأكل لتستعيد قواها!".

قوى؟ راحة؟ عمّ يتحدثون؟ ينبغي أن يأتي فرانك ليأخذها إلى حفلة الأطباء. وكلوي جاهزة. فتدخل جوف سيارة البي. أم. دبليو ليغلق فرانك الباب خلفها.

تشعر كلوي بسعادة غامرة لأن فرانك هو الرجل الذي كانت تنتظره، وهو الذي ستؤسس معه بيتاً يمتلئ بالمرح.

- "إنني أُحب وأُحَب ياليا! إنني أطير من شدة السعادة".

- "آمل ذلك من كل قلبي".

- "وما رأيه بماضيك؟".

- "إنه واسع الأفق ويتقبلني على ما أنا عليه".

- "يمكن أن يكون واسع الأفق مع الأخريات، لكن قد يختلف الأمر عندما يتعلق بخطيبته. هكذا هو مجتمعنا، حيث يُغفر للرجال دون النساء".

- "فرانك يحبني وسيتزوجني".

- "آمل ذلك. أريدك أن تكوني سعيدة".

- "أنا كذلك!".

حدث ذلك قبل عشرة أشهر.

تمسد جيان جسد ابنتها الذي يتقلص وجعاً. وتتبين بشرتها الذابلة المليئة بالانتفاخات البُنيَة التي قال عنها الطبيب أنها تدعى "ساكروم دي كابوسي". تبكي جيان، بينما تلبث كلوي ساكنة، تحدق بعينيها في العالم الذي اختلقته لنفسها. هناك، هناك، في السقف، ليس ثمة التهاب للقصبات الحاد، ولا الإسهال المزمن، ولا الساكروم! أو الكلمات الفظة! فكلوي تشعر بالسعادة.

السعادة! أجل، تشعر كلوي بذلك. لأن فرانك لطيف ومحبوب حتى وإن تأخر في إعلان رغبته في الزواج منها. إنهما شابان، ولايزال لهما متسع من الوقت للحياة معاً. وكلوي تنتظر الوقت المناسب.

حَلّ موسم الإمطار، وراح المطر ينهمر ليالي كاملة. ويهبط مؤشر الترمومتر. وتصاب كلوي بالتهاب القصبات فترقد في السرير عشرة أيام. وبعد أسبوع ترقد مرة أخرى. إذ يتطور التهاب القصبات فتدخل المستشفى.. فيهدأ مرضها قليلاً، ولكن، سرعان ما تعاودها الأزمة الحادة، ويزداد ترددها على المستشفى، وتتكرر معها التحاليل. ويقولون لها، لم نجد شيئاً. فتبقى كلوي طريحة الفراش في المستشفى ترافقها جيان وزوجها، "ألبرت كيفي".

- "عمّا قريب سأغادر هذا السرير اللعين يا ماما".

- "أجل يا بُنيتي، سنعود إلى منزلنا قريباً".

- "وعدني أصدقائي بتنظيم سهرة على شرفي حالما أُشفى".

- "يالك من محظوظة ياكلوي؟ فكل أصدقائك يعودونك، وأعتقد أن فرانك يحبك كثيراً".

- "سأبوح لك بسرٍ ياماما، أنا وفرانك سنتزوج".

كان ذلك قبل ثمانية أشهر.

منذ متى وهي هنا؟ لم تعد كلوي تعرف. منذ مدة طويلة، طويلة جداً، منذ الأزل! كانت جيان تعتني بها بمساعدة الممرضة، فيما تبقى كلوي جامدة، تأبى التحرك. ولكن، أكانت تتمتع بقدرة على الحركة؟ إنها تفضل نسيان هذا الجسد الذي لم يعد موجوداً، والذي تنهشه أمراض الأرض كلها.

فكرت جيان وهي منهمكة بالاعتناء بابنتها:

- " أيتها المسكينة! في كل يوم، تُصابين بمرض يضاف إلى الأمراض الأُخَر".

فحصها الطبيب المتخصص بالأمراض النفسية وقال لها:

- "استجيبي ياكلوي! فلجسمك حاجة إلى رأسك ليسيطر على حالتك. لم هذا الاستسلام؟ أتقرين بالهزيمة قبل أن تخوضي غمار الصراع؟".

تركته كلوي يتحدث وحده. كانت تنصت فقط، إذ كان صوته بعيداً، كأنما ينبعث من عالم آخر. ما الذي يقوله؟ أصارع؟ كيف؟ أيمكن أن أصارع هذا الشيء الفاضح؟ أيظنون جميعاً أنها تجهل المرض الذي تعانيه؟ ثم إن كلوي لاوقت لها كي تفكر بالهراء الذي يتلفظ به الطبيب. فهي منشغلة الآن في سقفها حيث ينتظرها أصدقاؤها. لقد جاءوا جميعاً لرؤيتها.

هتف من حولها لتقديم التهاني لشفائها: "برافو كلوي!" لقد عادت لتكون كلوي السابقة. (برافو) فكلوي الآن ملكة الحفل. كانت ترى كل ذلك في سقفها. وكل العالم يقبع في الغرفة الصغيرة. إنه يوم السبت، وقد تم تدشين قنينة شمبانيا.

- "لقد افتقدناك ياكلوي! أُخرجي من المستشفى بسرعة فالحفلات حزينة بدونك!".

كان ذلك قبل ستة أشهر.

وضعت كلوي تحت وسادتها أشياءها العزيزة: خاتماً من الذهب، وهو آخر هدية من فرانك، مع صورة له ورسائل عديدة منه. لكنها لم تعد تراها.

لم يعد فرانك يأتي إلى المستشفى. وندرَ وجود الأصدقاء فانطوت كلوي على يأسها. و"ليا" تزوجت.

"سأرحل في سفرة غير محددة الوقت، تماثلي للشفاء بسرعة. إلى اللقاء... فرانك".

استعادت كلوي في ذهنها كلمات فرانك التي كتبها في آخر بطاقة بعث بها إليها، مع باقة من الزهور الوردية التي تفضلها والتي لاتزال تشم عطرها الأخّاذ. ثم راحت تنظر إلى السقف ورأت نفسها تحضر زفاف ليا لكنها كانت هي العروس! ترتدي كلوي فستان عرس من الحرير بلون العاج مطعماً باللؤلؤ الصدفي، فيما يرفع الذيل الطويل عدة أطفال يرتدون ثياباً وردية وزُرْق. في الوقت الذي تصدح فيه الموسيقى على نغمات آلة الأورغ في كاتدرائية سان- بول دي بلاتو. فتتقدم كلوي وينتظرها فرانك في الطرف الآخر ببدلته الغامقة المائلة إلى اللون الفضي. تنهمر الدموع من عيني كلوي ويمد فرانك لها ذراعه، فتحبس رغبتها في الارتماء بين أحضانه، وتلتصق به، وتكاد الكنيسة تتهاوى تحت ثقل الزهور وأصوات التراتيل.

بقيت جيان جالسة قرب ابنتها التي راحت تردد الصلوات فجأة. فأجهشت الأم بالبكاء، ومضت كلوي تشدو وقد ثبتت نظرها في السقف.

كان ذلك قبل ثلاثة أشهر...

في غرفة كلوي، لم يعد أحد يزورها سوى أبويها وليا صديقتها العزيزة. وتبدو جيان كأنها قد كبرت عشرين عاماً، أما ألبرت كيفي، فلم يعد يخفي ألمه، فيبكي بلا خجل، ويقول لزوجته:

- "علينا القبول بقدرنا".

- "إنها ابنتي الوحيدة! يالتعاستي!".

تتظاهر كلوي بعدم سماعها أنين أمها، وقد اختارت السقف ليكون قدرها.

كانت ترى فيه فرانك، ذلك العاشق المتيم، الذي يملأ السقف بكامله.

- "أحبك ياشيطانتي الصغيرة!".

- "وأنا أيضاً، أحبك أيها الشيطان الكبير".

تنطلق كلوي ضاحكةً، فتسرع والدتها نحوها مذعورة:

- "كلوي! ماذا دهاك؟".

وتمضي كلوي في الضحك فتهرع والدتها لاستدعاء الطبيب. كانت كلوي تضحك لشدة إحساسها بالسعادة لأن فرانك بالقرب منها، ليضمها بين ذراعيه وتشعر هي بنبضات قلبه المتسارعة.

قالت الأم للطبيب:

- "دكتور، إن ابنتي تهذي. وهي لاتستجيب لأسئلتي".

فقال الطبيب يطمئنها:

- "حالتها على ما هي".

توسلت إليه:

- "افعل شيئاً يادكتور".

أجابها وهو يتفحص جهاز الزرق:

- "لقد فعلنا ما بوسعنا. لندع الأدوية تؤدي مفعولها".

قطبت كلوي حاجبيها، ولإحساسها بالضجر من وجود الطبيب رددت في نفسها متسائلة:

- "لِمَ يتحدثون؟ أريد أن أكون مع زوجي فرانك لوحدنا".

ترى كلوي فرانك يبتعد ويختفي في السقف. فتشعر بالانقباض وتظن أنه مضى بسببهم.

كان ذلك منذ شهرين.

ظلت كلوي تحدق مراراً في السقف، لكن فرانك لم يظهر فيه. فتستمر تتأمل لونه الأبيض وحافاته، ثم لاشيء. وفجأة رأت فيه وجه طبيبها المعالج، الدكتور جويل كوفي، وهو أحد أصدقاء فرانك. ذلك محال! فالسقف مخصص لأصدقائها، ولأولئك الذين تود رؤيتهم. ترى ما الذي يفعله الدكتور في "سقفها"؟ لايحق له ذلك! فتود أن تطرده. وترى جيان ابنتها تتحرك في سريرها فتطمئنها قائلة:

- "إهدئي يابُنيتي، كل شيء سيكون على مايرام".

تتوتر كلوي وهي تصغي، تسمعها، لكنها لاتُنصت إليها، بل ترفض ذلك. ومن جديد تراه في "سقفها". بوجهه المتّصبب عرقاً وعينيه الغائرتين في محجريهما خلف النظارتين يردد كلمات غير مفهومة، كلمات علمية بالنسبة لها، كأنما يريد أن يغلف مرضها بورق زينة ليجعلها تتقبل حالتها بسهولة أكبر. كانت ترى فمه يكبر ويغدو مهدداً، بينما تبدو أسنانه كأنها تريد الخروج لتعضّها وتأكلها. وقد آلمها ذلك الفم المكشّر.

قبل أن تلتقي الدكتور، كانت تعاني من نزلة صدرية عادية. لكنها الآن تعلم أنها مصابة بمرض رهيب. الفم هو الذي أخبرها بذلك، وهو نفسه الذي نقل إليها المرض جرّاء القبلات. وفم الطبيب هو الذي أعلن لها عن أصابتها بالمرض الرهيب.

كان ذلك قبل شهر.

بعد مغادرة الطبيب، أغلقت كلوي أُذنيها وعينيها. وكانت أحيانا تخاف النظر إلى السقف الذي لم يعد ميدانها المفضل، بعد أن بات المتطفلون يظهرون فيه، أناس لاتود رؤيتهم هناك. ترى، أيأخذ منها المرض كل شيء؟

تنظر جيان إلى هُزال ذراعي ابنتها، لم يعد ثمة شيء من جمال كلوي المتألق، ويبدو جسدها الساكن فوق السرير كجسد عجوز. فغطت جيان شعر كلوي بوشاح لتخفي خصلات شعرها المبعثرة الباقية في رأسها. ففي غضون ستة أشهر، أحدث المرض أضراراً في جسد الشابة، واستولى على جمالها وشلَّ حركتها. كانت جيان على علم بالحقيقة الرهيبة منذ البداية. وطلبت عدم البوح بها لابنتها. فالأمل يقوي الإنسان كما يقولون، وقد تحدث معجزة. ولذا حرصت على الاختباء عندما تبكي، لكنها سرعان ما كانت تستجمع شجاعتها فتعود للاعتناء بابنتها. لم تعد كلوي تتحدث معها، فراود جيان شعور بأنها تسهر على جثة ميتة.

كانت جيان تتساءل عمّا يختفي خلف جفنيها المطبقين وعينيها اللتين تفتحانها أحياناً على عالم تراه مجهولاً بالنسبة إليها. ترى بأي عالم تحتمي ابنتها؟

وفجأة، تعتدل كلوي في استلقائها على السرير وتصرخ:

- "ماما، لِمَ تبقى هذه العجوز في سريري؟ أريد أن أنام".

- "لقد طردت العجوز يا بُنيتي. لن يضايقك أحد، نامي الآن".

كان ذلك قبل ثلاثة أسابيع.

لمَ هذه الضجة؟ تشعر كلوي بأن ثمة من يلمسها ويديرها في جميع الاتجاهات. أليس بمقدورهم تركها في سلام؟ لم تطلب منهم شيئاً. تريد أن تضحك وترقص مع أصدقائها في السقف لاغير. فلَمِ هذا الحشد من الناس في غرفتها؟ أليس من حقها التمتع بقدر من الخصوصية؟

بقيت كلوي مغمضة العينين ساعات طوالاً. ولم يعد السقف ملجأها الخاص بها، إذ بات ثمة أشخاص آخرون يرتادونه الآن، أناس تحاول ألاّ تراهم. ولحسن الحظ، يبقى السقف أحياناً لها وحدها، عندئذ، تفتح عينيها على وسعهما لتستوعب كل ما يثير سعادتها.

تنظر كلوي في مرآة غرفة المعيشة، ويلحظها فرانك من فوق جريدته. كان ثوبها القطني القصير يُظهر بطنها المنتفخة قليلاً. فتداعب كلوي بطنها بحنان وتقول لفرانك:

- "طفلنا الأول. إذا كان ولداً سأسميه إيمانويل. أريده أن يشبه أباه".

- "أنا واثق في أنها بنت. وستكون جميلة مثل أمها، وسنسميها إيمانويل".

اضطربت يد كلوي تحت الشراشف وتحسست بطنها. فأمسكت جيان بيدها وداعبتها. وأرهفت السمع للكلام الذي تلفظت به ابنتها. وبكت. مسكينة كلوي! هل ستتذوق يوماً ما سعادة الإحساس بالأمومة؟

- "الله رؤوف عادل. وبقدرته أستغيث!".

كان ذلك قبل أسبوعين.

منذ بضعة أيام وكلوي لم تعد تتحرك. كان تنفسها ضعيفاً. وكانت جيان تنحني مراراً لتلتقط أي دليل على أنها مازالت حية. كانت تتضرع إلى الله وهي تُسبّح بمسبحتها القديمة. وزوجها بالقرب منها. بقيت كلوي مغمضة العينين، ولم تعد بها حاجة إلى التحديق في السقف لتراه، لأنه الآن تحت نظرها، وهو لها وحدها.

ترى كلوي مجموعة من الشباب يركضون نحوها، ويقبلونها، ويهنئونها وهي بصحبة فرانك، فتقول لهم:

- "أنتم رائعون!".

- "بل أنت رائعة لأنك تماثلت للشفاء".

ترقص كلوي، وتأخذها الموسيقى فتشعر بالتعب. وتركض لتجلس على أريكة، فيلتحق بها فرانك، فتنظر إلى عينيه. قبل أن تصيح فجأة:

- "أنا مصابة بمرض خطير! أرى ذلك في عينيك!".

تثير صرخاتها انتباه الآخرين فيركضون نحوها.

- "كلوي مريضة جداً. انظروا كيف تغيرت".

لقد تغيرت كلوي، وتساقط شعرها وهزلت، حتى باتت ثيابها تطفو فوق عظام جسدها. جاهدت لتُبقي نفسها واقفة، إلا أنها بدأت تزحف صوب فرانك الذي دفعها، فراحت تنتحب.

الجميع ينظر إليها باشمئزاز، فهم يخافونها. لم تعد واحدة منهم. وفجأة، شرع الجميع بالركض في الاتجاهات كافة هاربين من المكان اللعين.

- "كلوي مصابة بمرض معدٍ! هيا! لنبتعد من هنا!".

كانت عينا كلوي المغرورقتان بالدموع تنظران إليهم وهم يبتعدون عنها بسبب مرضها الرهيب.

كان ذلك قبل أسبوع.

تجلس ليا قرب سرير كلوي وإمارات وجهها تترجم حلماً لانهاية له. فتارة تنطلق بضحكة مدوية، وتارةً تجهش باكية من عجزها حيال مصير صديقتها. فهل من العدل الموت في الخامسة والعشرين، لا لشيء إلا لأنها تحب الحياة؟!

تشعر كلوي بالوحدة والإهمال من جانب أصدقائها الذين هجروا السقف جميعاً، فينتابها أحساس بفراغ ووهن يجتاحان قلبها. إنها تريد أن تتقبل مرضها. وكل شيء يهون لدى الإحساس بأنها موضع حب وحماية. بيد أن الشعور بالوحدة والإهمال لايطاق. وماذا بقي لها بعد أن خوى السقف؟ لاشيء سوى رخام شاحب وعادي. ولكن، من جديد، انبثق لناظريها وجه الدكتور جويل كوفي:

- "آنستي، عليك التحلي بالشجاعة".

تسمع الجملة التالية بوضوح. إن كلوي مصابة بمرض الايدز. بالكلمة المكونة من أربعة حروف. لقد سمعت حكمها بالموت حتى النهاية. ومن الطبيعي أن يتحدث لها الدكتور عن مختلف مراحل العلاج، وعن تطور المرض، لكنها أدركت أن لامستقبل لها! ولكن، لِمَ يَعُدُّون الايدز مرضاً مثيراً للخجل؟ فالأولى لها أن تكون مريضة على مجابهة الاشمئزاز والخجل. لقد كانت كلوي تعرف طبيعة مرضها منذ ثلاثة أشهر، هذا المرض الذي نجحت في الهرب منه عبر الاحتماء بسقفها.

كان ذلك قبل ثلاثة أيام.

كانت ليا تتضرع إلى الله برفقة جيان وألبيرت والدي كلوي. في حين كانت كلوي تحتضن صليباً بين يديها. وتجتاحها بين حين وآخر قشعريرة، فيرتسم ذلك على شفتيها عبر ابتسامة مرّة. بمَ تفكر؟ أين هي؟ تتأمل جيان بمرارة الجسد المسكين المتكور على نفسه، أهو كل ما بقي من الشابة الحسناء التي كانت من قبل؟! ولكن ماعسى أن تفعل أمٌ حيال مأساة كهذه؟ أتحبُ، وتواصل حب الطفلة التي ولدتها وصلّت لأجلها؟

تبتسم كلوي في الحقيقة وهي تتخيل ما كان يدور في رأس فرانك عندما أخبره صديقه الدكتور جويل كوفي بتدهور صحة كلوي. لابد أنه أسرع لإجراء الفحوص والتحاليل الأكثر تطوراً. مسكين فرانك! لابد أنه يلعنها لتعريضه إلى الموت. أهي المسؤولة؟ لكن من هو المذُنب حقاً؟

شاع الخبر في المدينة سريعاً، وسرت حالة من الرعب في أبيدجان. تبتسم كلوي بحزن وهي تفكر بما آلت إليه حال وجوه عُشاقها. لقد نقل إليها أحدهم الفايروس اللعين، ومن المؤكد أن تكون قد نقلته هي إلى واحد منهم، من الذين ظنوا أنهم يفوزون بفرصة غانمة بإقامتهم علاقة معها. يالها من سخرية!

كان الخبر ينتقل من منزل إلى آخر.

- "هل سمعتم بالخبر؟ إن كلوي كيفي مصابة بالايدز".

الإصابة بالايدز تعني الموت قبل حلول الأجل المحتوم. تصرخ كلوي مراراً مستدعيةً أصدقاءها، لكنهم مضوا جميعاً بعيداً عنها، لأنها لم تعد كما كانت لهم من قبل. إنهم يخافون منها الآن. فتبكي بحرقة.

كان ذلك يوم أمس.

بعد أن جرى استدعاء ذويها، وفُصلت جميع الأجهزة الطبية التي كانت تربطها بالحياة، قال ألبيرت:

- "كانت غاية في الشجاعة".

تيبست كلوي في سريرها. وراحت تنحب. فاحتضنتها أمها بين ذراعيها، لكن كلوي كانت ماضية بعيداً.. بعيداً جداً.

اكتظ السقف بشكل مفاجئ. ورأت كلوي وجوهاً تضحك. فعرفتهم جميعاً. رأت تييري الذي ينظر إليها باستهزاء؟ أهو من زرع فيها السم القاتل؟ كلا إنه ساليفو الذي يضحك بحدة أكبر من الآخرين. بل هو بيرت الذي يشير إليها بأصبعه؟ أم تُراه كوسي الذي يهددها بإصبعه؟ أم روجر الذي يغمز لها؟ تقدم الآخرون منها وأحاطوا بها وراحوا يسخرون من أحلامها المنهارة. لم تكن كلوي تخافهم، بل تود أن تواجههم جميعاً.

فتصيح بهم:

- "أنتم لاتثيرون خوفي! لقد استغللتكم. وانتهى الآن كل شيء! هيا، امضوا".

فأجابوها وهم يتضاحكون:

- "أتظنين أنك استغللتنا؟ نحن الذين استنفدناك. لقد اغتلنا شيئاً فيك: براءتك، شبابك، جمالك، صحتك وحياتك. لقد أخذناك ولم يبقَ لك شيء".

وأضاف فرانك وهو يلتحق بهم:

- "لم تعودي تمتلكين شيئاً".

ولكن، انبثق الآن وجها جيان وألبيرت كيفي. كانا يهددان تلك الوجوه ويطردانها. شاهدت كلوي وجه والدتها وتبينت الحنان المرتسم في عينيها، ونظرة والدها المتفهمة. لكنها تشعر بالتعب البالغ، والإنهاك. لم تعد تود البقاء في السقف الذي لم يعد يمثل لها المأوى من الحقيقة المرّة. فأغلقت عينيها، وتركت لنفسها العنان لتنزلق في الظلمات..

حدث ذلك اليوم.

مكسيكو، آذار 1997


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ميشلين غوليبالي
0ولدت عام 1950 في Xuarc-Lai في فييتنام. وأكملت دراستها الأولية والثانوية في ساحل العاج. نالت شهادة الدبلوم في العلاقات العامة في 1994 قبل أن تترك ساحل العاج لتلتحق بعائلتها في المكسيك حيث مكثت ست سنوات ثم سافرت إلى دبي لتقيم هناك. كتبت عدة كتب للأطفال ومجموعة قصص ورواية. نالت جائزة في أدب الأطفال عن روايتيها: "الأمير" و"الفأرة البيضاء)

1711326700409.png


تعليقات

لا توجد تعليقات.

هذا النص

ملف
في الأدب الإفريقي - ملف
المشاهدات
751
آخر تحديث
أعلى