في الحادية عشرة والنصف صباحا، توجهتُ نحو الشباك لآخذ تذكرة سفر بالحافلة من مكناس إلى الرشيدية. أخبرتني الموظفة أن الانطلاقة ستكون في الثانية عشرة والنصف، وأن الحافلة الآتية من الدار البيضاء ستلج المحطة بعد قليل؛ لكن الأخبار تقول إن الطريق مقطوعة بين مكناس والرشيدية عبر إفران وآزرو، بسبب الثلوج، ومن المحتمل أن تتجه الحافلة إلى فاس ثم إلى الرشيدية عبر بولمان. كما أخبرت أنها ستتصل بالمسؤولين للتأكد من الخبر. وكذلك كان. وتأكد أننا سنتجه عبر بولمان.
قبل انطلاق الحافلة، أخبر السائق الركاب بالأمر، وعن احتمال أن تطول الرحلة عبر تازة وكرسيف إذا تبين أن الطريق بين فاس وميدلت عبر بولمان، مقطوعة، هي أيضا. وطلب من المتجهين إلى إفران وآزرو النزول في مكناس.
لم يكن في الحافلة سوى ستة عشر أو سبعة عشر راكبا وسائقان يتناوبان على السياقة. وسرعان ما ساد بين الجميع استئناس وألفة، وتكوّن في الحافلة مجتمع مصغر تُتبادل فيه الأحاديث والطرائف والنكت وحتى الأمثال الشعبية ("طريق السلامة ولو طالت"، "ما تمشي غير فاش مشّاك الله"..)..
في مدينة صفرو، توقفت السيارة في مكان معين، فنزل السائق الشاب وسلم على والدته التي كانت تنتظره (ربما أخبرها هاتفيا بمروره عبر صفرو). تعانقا فقبّل رأسها ويدها وتسلم منها سلة وضعها في صندوق بالحافلة ، ثم اتجه بالحافلة نحو مركز الدرك للاستفسار عن حال الطريق عبر بولمان. حين سأل الحارس، أخذ هذا الأخير هاتفه، ويبدو أن المكالمة لم تأت بشيء مفيد. في تلك اللحظة، أقبل من داخل المركز، شخص بلباس مدني وقبعة صوفية تغطي رأسه وأذنيه اتقاء للبرد. بدا أنه معرفة قديمة للسائق، تعانقا وسلم عليه السائق بحرارة، قائلا: تحية مون أدجودان.، ثم صعدا معا إلى الطابق الأول من البناية. حين عاد السائق إلى الحافلة، أخبرنا أن الطريق مقطوعة بين صفرو وميدلت عبر بولمان. عاد السائق بالحافلة إلى فاس وولج الطريق السيار نحو تازة.
لم تنقطع الهواتف المحمولة عن الاشتغال، طيلة الرحلة، منذ خروجنا من مكناس. المعارف يسألون (بعد الأخبار التي أذاعتها التلفزيونات عن أحوال الطقس، والفيديوهات التي تصور تراكم الثلوج، والتي راجت في مواقع التواصل الاجتماعي)، والركاب يحكون قصة انقطاع الطريق بين مكناس وميدلت، بسبب تساقط الثلوج، عبر أزرو وتمحضيت، وبين فاس وميدلت عبر بولمان، واضطرار الحافلة إلى السير عبر تازة وكرسيف وميسور فميدلت. المكالمات لا تقتصر على أخبار الطريق؛ بين الفينة والأخرى يضطر الجميع إلى التقاط بعض الأخبار الخاصة. سألت أم شابة إن كان بمقدور رضيعتها (3 ـ 4 أشهر) تحمّل عناء الطريق إلى ميدلت، وتحدث قيّم ديني عن اللجان العلمية وعدم اختصاصها في التدخل في الإجراءات الإدارية، وببعض الإيحاءات والرموز التي حاولت أن تكون خافتة وغير مفهومة، تحدث شاب يبدو أنه موظف بالداخلية عن بعض المهام الخاصة...
وامتازت امرأة خمسينية، بسيطة وأصيلة من مدينة الرشيدية، بالعدد القياسي من المكالمات. وكانت تتحدث بلكنة "بلدية" محببة، وبصوت مرتفع يسمعه الجميع بوضوح. ويبدو أن مكلميها كانوا قلقين عليها، فكانت تطمئنهم بأن الحافلة مكيفة ومريحة وكل مسافر يحتل مقعدين، لأن عدد الركاب قليل، والسائق ظريف وأننا لم نرَ ثلجا، بل بالعكس، أن الناس من كرسيف إلى ميسور فميدلت "مساكين" و"مغبونون" ليس عندهم إلا الشمس والجفاف مثلنا (في الرشيدية)، وأنها قد تعرفت على فتاتين لطيفتين، دعتها/عزمتها إحداهما (أم الطفلة الرضيعة) إلى النزول معها في ميدلت، كما أخبرت مكلميها أنها استمتعت كثيرا بالرحلة (المْسارية) وبرؤية مدن وأماكن لم يكن بإمكانها رؤيتها لولا رحلة الحافلة. وكانت تكرر كل مرة نفس الحكاية، كما يفعل باقي الركاب (وأنا ضمنهم)، بل قد تعيدها عدة مرات مع نفس المخاطب لطمأنة الجميع على أنها بخير، بل إنها أخبرت محدثيها أنها طلبت من السائق أن يمر من نفس المسار في كل الرحلات التي تكون ضمن ركابها.
توقفت الحافلة أمام مطعم في مدخل مدينة تازة، واتفق السائق مع الركاب حول تناول الغداء، (كان الوقت عصرا) وحول مدة الوقفة.
قبل استئناف المسير، أذاق السائق جميع المسافرين من بعض التين الجاف الذي أخرجه في منديل، من سلة أمه.
بين كرسيف وأوطاط الحاج (حوالي 130 كلم)، بدأت الرضيعة تبكي بكاء شديدا، فتعاونت الأم مع زوجها على تبديل حفاظاتها على المقعد، مع استمرار الصغيرة في بكائها المرتفع الذي لم ينقطع إلا بعد أن أتم الزوجان عملية التبديل التي دامت بعض الوقت. في نفس المسافة التمس أب توقفَ الحافلة لتقضي ابنته (5 ـ 6 سنوات) التي لم تتحمل طول الطريق، حاجتها. من بين الركاب كانت هناك شابة تغير من جلستها على المقعد، بين الفينة والأخرى، ثم تقف ممسكة بيديها بجنبها وظهرها لبعض الوقت، ثم تجلس، وتغير من جلستها، ثم تقف.. وهكذا.. يبدو أنها كانت تشكو من آلام في الظهر.
بعد تحرك الحافلة من جديد، سأل مسافر مسن: ألم نصل بعد إلى تمحضيت؟ يبدو أن طول المسافة وعناء السفر قد أثرا عليه، أو أن معلوماته الجغرافية لم تسعفه. تطوع الكثيرون لتصحيح تصوره متحدثين في وقت واحد.
أحد الركاب طمأن محدثه بالأمازيغية بأن الحافلة دافئة (ترغى) وبأننا لم نصادف لا ثلجا (أتفل) ولا مطرا (أنزار).
شابة أنيقة، يبدو أنها لم تتحمل وعثاء السفر وطول الرحلة، أخبرت من يهاتفها حين وصلنا ميدلت ليلا: "سا فا مال" (الأمر سيّئ).
في ميدلت، نزل 5 أو 6 ركاب ضمنهم الشابة أم الرضيعة و"رجل السلطة"، ولاحظت، باستغراب، أن السائق الشاب الثاني "يتنفح" السعوط. يضعه بعناية، والحافلة متوقفة، فوق إبهامه، كما هو معتاد، ثم يستنشقه ويعطس عدة عطسات... قام بالعملية بضع مرات قبل أن تنطلق الحافلة.
من حديث المرأة الخمسينية، التي كانت تثير بعض ابتسامات الركاب، ظهر أنها فخورة بأبنائها، وقد حرصت على أن نفهم أن ابنها وابنتها يمتلك كل واحد منهما سيارة، وأنها رغم العناية التي يحفها بها أبناؤها بالرباط، فإنها فضلت الرحلة الطويلة (من الرباط من العاشرة صباحا، إلى الرشيدية في الثانية عشرة ليلا) والعودة إلى الرشيدية على البقاء في الرباط.
خلال الرحلة الطويلة، استمتع الركاب، قبل نزول الظلام بتنوع مناظر المغرب من السهول المنبسطة التي بدأت تخضر مع سقوط الأمطار الأخيرة، إلى ضيعات أشجار الزيتون والبرتقال وباقي الأشجار المثمرة (وغير المثمرة)، إلى المرتفعات والهضاب والسهوب، وبمنظر المطر وكذا سطوع الشمس... وظهر أن السائقين غير متهورَين، ويتعاملان بلطف مع الركاب، كما تبين أن الطريق، رغم طولها لا مشاكل بها من حيث الصيانة والاتساع (دون الحديث عن الطريق السيار بين مكناس وتازة، وقبل ذلك بين الدار البيضاء ومكناس)، بل إن علامات التشوير بها مكثفة، يظهر ذلك بالليل، على الخصوص، لأن كل العلامات عاكسة للضوء، وتتيح للسائقين رؤية كل مستجدات الطريق...
لقد كانت الرحلة، رغم التعب وطول المسافة، ممتعة كما ذكرت المرأة، وتبين كيف أن المغاربة يستطيعون أن يخلقوا جو ائتلافهم واستمتاعهم، ولو في بعض الظروف الاستثنائية...
قبل انطلاق الحافلة، أخبر السائق الركاب بالأمر، وعن احتمال أن تطول الرحلة عبر تازة وكرسيف إذا تبين أن الطريق بين فاس وميدلت عبر بولمان، مقطوعة، هي أيضا. وطلب من المتجهين إلى إفران وآزرو النزول في مكناس.
لم يكن في الحافلة سوى ستة عشر أو سبعة عشر راكبا وسائقان يتناوبان على السياقة. وسرعان ما ساد بين الجميع استئناس وألفة، وتكوّن في الحافلة مجتمع مصغر تُتبادل فيه الأحاديث والطرائف والنكت وحتى الأمثال الشعبية ("طريق السلامة ولو طالت"، "ما تمشي غير فاش مشّاك الله"..)..
في مدينة صفرو، توقفت السيارة في مكان معين، فنزل السائق الشاب وسلم على والدته التي كانت تنتظره (ربما أخبرها هاتفيا بمروره عبر صفرو). تعانقا فقبّل رأسها ويدها وتسلم منها سلة وضعها في صندوق بالحافلة ، ثم اتجه بالحافلة نحو مركز الدرك للاستفسار عن حال الطريق عبر بولمان. حين سأل الحارس، أخذ هذا الأخير هاتفه، ويبدو أن المكالمة لم تأت بشيء مفيد. في تلك اللحظة، أقبل من داخل المركز، شخص بلباس مدني وقبعة صوفية تغطي رأسه وأذنيه اتقاء للبرد. بدا أنه معرفة قديمة للسائق، تعانقا وسلم عليه السائق بحرارة، قائلا: تحية مون أدجودان.، ثم صعدا معا إلى الطابق الأول من البناية. حين عاد السائق إلى الحافلة، أخبرنا أن الطريق مقطوعة بين صفرو وميدلت عبر بولمان. عاد السائق بالحافلة إلى فاس وولج الطريق السيار نحو تازة.
لم تنقطع الهواتف المحمولة عن الاشتغال، طيلة الرحلة، منذ خروجنا من مكناس. المعارف يسألون (بعد الأخبار التي أذاعتها التلفزيونات عن أحوال الطقس، والفيديوهات التي تصور تراكم الثلوج، والتي راجت في مواقع التواصل الاجتماعي)، والركاب يحكون قصة انقطاع الطريق بين مكناس وميدلت، بسبب تساقط الثلوج، عبر أزرو وتمحضيت، وبين فاس وميدلت عبر بولمان، واضطرار الحافلة إلى السير عبر تازة وكرسيف وميسور فميدلت. المكالمات لا تقتصر على أخبار الطريق؛ بين الفينة والأخرى يضطر الجميع إلى التقاط بعض الأخبار الخاصة. سألت أم شابة إن كان بمقدور رضيعتها (3 ـ 4 أشهر) تحمّل عناء الطريق إلى ميدلت، وتحدث قيّم ديني عن اللجان العلمية وعدم اختصاصها في التدخل في الإجراءات الإدارية، وببعض الإيحاءات والرموز التي حاولت أن تكون خافتة وغير مفهومة، تحدث شاب يبدو أنه موظف بالداخلية عن بعض المهام الخاصة...
وامتازت امرأة خمسينية، بسيطة وأصيلة من مدينة الرشيدية، بالعدد القياسي من المكالمات. وكانت تتحدث بلكنة "بلدية" محببة، وبصوت مرتفع يسمعه الجميع بوضوح. ويبدو أن مكلميها كانوا قلقين عليها، فكانت تطمئنهم بأن الحافلة مكيفة ومريحة وكل مسافر يحتل مقعدين، لأن عدد الركاب قليل، والسائق ظريف وأننا لم نرَ ثلجا، بل بالعكس، أن الناس من كرسيف إلى ميسور فميدلت "مساكين" و"مغبونون" ليس عندهم إلا الشمس والجفاف مثلنا (في الرشيدية)، وأنها قد تعرفت على فتاتين لطيفتين، دعتها/عزمتها إحداهما (أم الطفلة الرضيعة) إلى النزول معها في ميدلت، كما أخبرت مكلميها أنها استمتعت كثيرا بالرحلة (المْسارية) وبرؤية مدن وأماكن لم يكن بإمكانها رؤيتها لولا رحلة الحافلة. وكانت تكرر كل مرة نفس الحكاية، كما يفعل باقي الركاب (وأنا ضمنهم)، بل قد تعيدها عدة مرات مع نفس المخاطب لطمأنة الجميع على أنها بخير، بل إنها أخبرت محدثيها أنها طلبت من السائق أن يمر من نفس المسار في كل الرحلات التي تكون ضمن ركابها.
توقفت الحافلة أمام مطعم في مدخل مدينة تازة، واتفق السائق مع الركاب حول تناول الغداء، (كان الوقت عصرا) وحول مدة الوقفة.
قبل استئناف المسير، أذاق السائق جميع المسافرين من بعض التين الجاف الذي أخرجه في منديل، من سلة أمه.
بين كرسيف وأوطاط الحاج (حوالي 130 كلم)، بدأت الرضيعة تبكي بكاء شديدا، فتعاونت الأم مع زوجها على تبديل حفاظاتها على المقعد، مع استمرار الصغيرة في بكائها المرتفع الذي لم ينقطع إلا بعد أن أتم الزوجان عملية التبديل التي دامت بعض الوقت. في نفس المسافة التمس أب توقفَ الحافلة لتقضي ابنته (5 ـ 6 سنوات) التي لم تتحمل طول الطريق، حاجتها. من بين الركاب كانت هناك شابة تغير من جلستها على المقعد، بين الفينة والأخرى، ثم تقف ممسكة بيديها بجنبها وظهرها لبعض الوقت، ثم تجلس، وتغير من جلستها، ثم تقف.. وهكذا.. يبدو أنها كانت تشكو من آلام في الظهر.
بعد تحرك الحافلة من جديد، سأل مسافر مسن: ألم نصل بعد إلى تمحضيت؟ يبدو أن طول المسافة وعناء السفر قد أثرا عليه، أو أن معلوماته الجغرافية لم تسعفه. تطوع الكثيرون لتصحيح تصوره متحدثين في وقت واحد.
أحد الركاب طمأن محدثه بالأمازيغية بأن الحافلة دافئة (ترغى) وبأننا لم نصادف لا ثلجا (أتفل) ولا مطرا (أنزار).
شابة أنيقة، يبدو أنها لم تتحمل وعثاء السفر وطول الرحلة، أخبرت من يهاتفها حين وصلنا ميدلت ليلا: "سا فا مال" (الأمر سيّئ).
في ميدلت، نزل 5 أو 6 ركاب ضمنهم الشابة أم الرضيعة و"رجل السلطة"، ولاحظت، باستغراب، أن السائق الشاب الثاني "يتنفح" السعوط. يضعه بعناية، والحافلة متوقفة، فوق إبهامه، كما هو معتاد، ثم يستنشقه ويعطس عدة عطسات... قام بالعملية بضع مرات قبل أن تنطلق الحافلة.
من حديث المرأة الخمسينية، التي كانت تثير بعض ابتسامات الركاب، ظهر أنها فخورة بأبنائها، وقد حرصت على أن نفهم أن ابنها وابنتها يمتلك كل واحد منهما سيارة، وأنها رغم العناية التي يحفها بها أبناؤها بالرباط، فإنها فضلت الرحلة الطويلة (من الرباط من العاشرة صباحا، إلى الرشيدية في الثانية عشرة ليلا) والعودة إلى الرشيدية على البقاء في الرباط.
خلال الرحلة الطويلة، استمتع الركاب، قبل نزول الظلام بتنوع مناظر المغرب من السهول المنبسطة التي بدأت تخضر مع سقوط الأمطار الأخيرة، إلى ضيعات أشجار الزيتون والبرتقال وباقي الأشجار المثمرة (وغير المثمرة)، إلى المرتفعات والهضاب والسهوب، وبمنظر المطر وكذا سطوع الشمس... وظهر أن السائقين غير متهورَين، ويتعاملان بلطف مع الركاب، كما تبين أن الطريق، رغم طولها لا مشاكل بها من حيث الصيانة والاتساع (دون الحديث عن الطريق السيار بين مكناس وتازة، وقبل ذلك بين الدار البيضاء ومكناس)، بل إن علامات التشوير بها مكثفة، يظهر ذلك بالليل، على الخصوص، لأن كل العلامات عاكسة للضوء، وتتيح للسائقين رؤية كل مستجدات الطريق...
لقد كانت الرحلة، رغم التعب وطول المسافة، ممتعة كما ذكرت المرأة، وتبين كيف أن المغاربة يستطيعون أن يخلقوا جو ائتلافهم واستمتاعهم، ولو في بعض الظروف الاستثنائية...