حسن المسعود - رؤى الخيال في الخط العربي

- رؤى الخيال في الخط العربي الحديث
أثناء لحظات الصفاء والتركيز العالي تتبلور الرؤى في الذهن. فيرى الخطاط اشكالا ممكنة للخط، اشكال آتية من الذاكرة المنسية او من ترجمة اشكال ما هو مرئي في الحياة اليومية، كما اشكال القواقع البحرية، التي تتجول في مخيلتنا بهندستها اللولبية ، فتوفر هياكل هندسية يمكنها استقبال الحروف، لعمل تكوينات متعددة.
وهكذا يتحول الخط عند الخطاط الى طريق باتجاه نفسه. فيدخل في حوار مع عالمه الداخلي. ومهما تكن الرؤى واضحة في الذهن فان الطريق نحوها غير معروف. وامكانية التياه تكون ممكنة في اي لحظة. وهكذا تكون معضلة الابداع، ففي بعض الاحيان نرى في الذهن اشكال خطوط كاملة ولكنها لا تتحقق على الورق بنفس الكمال.

ولو نتسائل لماذا التجديد؟ ولماذا متاعب البحث والتياه؟ فأقول، ان الذهن البشري يحتاج ان يروى باستمرار، عبر اشكال والوان لم يكن قد شاهدها مسبقا. وياتي في كل يوم جديد فراغ جديد يتطلب امتلاء جديد، وان لا يملأ هذا الفراغ الجديد فسوف تسبب هذه الحالة الضجر. كذلك ان المشاهد المتامل للخطوط هو الآخر، تكون عنده رغبة الاندماج بالعمل الفني، وامتلاك الكمال الكامن في جماليات الخطوط. هو الآخر ينتظر الجديد كل يوم. وينتظر الجميل كل يوم وكما قال الامام الغزالي : ... كل جمال لذيذ في حق من أدرك جماله ... وهكذا ان العمل الفني يجعل القلب خافقا، مما يرفع الانسان روحيا.

الخط العربي هو احد ابتكارات الحضارة الاسلامية. وان تعني الحضارة التطور الدائم والابتكار المستمر في كافة انحاء الحياة، فأن الفنون هي أول علامات هذا التطور. والخط العربي هو من أهم فنون العالم الاسلامي. وان تمت في الماضي طفرات في الابداع بالخط العربي ضمن فترات الازدهار، فانها تقلصت في فترات الجمود. ولكن الخط العربي وبشكل عام استمر حاضرا في المدينة الاسلامية باشكاله المتعددة، برغبة حضارية من الخطاط في الاستمرار والتجديد، ومن بعض الهواة المشجعين للخطاط. ولكن ولادة هذا التجديد تواجه دائما المخاض المؤلم ، ككل ولادة جديدة.

ان معضلة تحديث الخط العربي تعود اليوم، الى وجود الخطاط امام اساليب وتكوينات قديمة كثيرة، وهي كاملة وفق مفاهيم الجمال الفني المتعارف عليه في الزمن الذي ولدت فيه، ولا ينقصها اي شيء. ولكن هذه الاساليب القديمة المستعملة لحد اليوم عملت حسب مفاهيم وقيم فنية تعود اكثرها الى القرن التاسع عشر. وبما ان كل زمن له قيم فنيه مختلفة، فلابد من ابتكار خطوط تنتمي الى القيم الفنية التي تناسب عصرنا الحالي. فالتطور ما هو الا الاستمرار انطلاقا من المكان الذي توقف فيه الاقدمون. وتوجد اليوم رغبة عند الكثير من الخطاطين في اضافة خط جديد يثري الارث الفني للخط العربي. والمحاولات في التحديث كثيرة وسوف يحكم الزمن على اهميتها.
ولما كانت القيم الجديدة غير معروفة مسبقا، وتتطلب البحث عنها فان عملية البحث لا تعني الوصول الى الكمال بسهولة من البداية. انها قد تستمر طيلة العمر، ولابد من قبول الاخطاء ان وجدت للوصول الى الجديد، فمن لا يبحث لا يخطأ.

نرى في زمننا الحالي عدة محاولات لتجديد الخط العربي في بلدان عربية، وبلدان اسلامية متعددة تستعمل الالفباء العربية. ولكننا نرى ان كل محاولة تجديد للخط تبدو لبعض المشاهدين وكأنها عملية غير اكيدة، أو تحطيم لما هو في ذروة الكمال من خطوط الامس. بينما ان الهدف من التحديث هو ليس هدم التكوينات القديمة، فأنها باقية في مكانها ويحترمها الكل، ويواصل الكثير من الخطاطين التأثر بها. انما الغرض هنا هو ابتكار خطوط اخرى اضافية تتجاوب مع التغير والتقدم في وسائل المعرفة، وتناسب التحولات الاجتماعية والعمرانية والفنية في مجتمع اليوم.

الخطوط الحديثة يمكنها ان تجاور الخطوط القديمة، لانهما ينبعان من نفس الحروف التي تعود لأكثر من الف سنة، ويواصلان نفس الهدف. فان الخطوط الحديثة يجب ان تكون على كمال وثراء، وبقيم جمالية تـتـناسب مع ما يحوطنا من مخترعات واكتشافات جديدة راقية في داخل المدينة، كبنايات المعمار الحديث ووسائط النقل والاتصالات السريعة.

وهكذا ان مشكلة التجديد في الخط العربي تعود الى كون الخطاط المجدد يستند على تراث الخط من جهة، ويسلك طريقاً معارضاً له من جهة اخرى، حسب ضرورة الابداع. وكانما ان وعي الخطاط يشطر الى نصفين، نصف يمتلك الاساليب الآتية من الاجداد، ونصف يتولى البحث لاضافة الجديد. وقد تكرر هذا الوضع سابقا عدة مرات في تاريخ الخط العربي، فلو نقارن كلمات مخطوطة في صفحة كتاب من الارث القديم للخط الكوفي الاول في القرن التاسع، وعمل خطي آخر من كوفي الطابوق والمسمى بالكوفي الهندسي في البنايات المعمارية للقرن الخامس عشر. لنجد ان الاخير ما هو الا تطور للكوفي الاول، تطور فرضته حركة التجديد في شكل معالم المدينة الاسلامية، وكثرة استعمال السيراميك الملون على الطابوق لتزيين الجدران. ورغم انحدار كلا الخطين من نفس السلالة فأنهما يختلفان كثيرا بالشكل الظاهر.
ربما لم يكن يرى خطاط المصاحف في كوفي الطابوق جمالا يستحق التقدير، ولكننا اليوم نرى ان الجمال هو في كلا الاثنين.
ولكن هل يمكن اطلاق الحكم الجمالي على خطوط الطابوق انطلاقا من مفهوم وقيم خطوط كوفي المصاحف القديمة؟
وان كان صعبا لخطاط المصاحف قبول ما توصل اليه خطاط الطابوق. فاننا نرى ان خطاط الطابوق ادرك في ذلك الوقت ان المساحات الجديدة والمواد الجديدة تتطلب اسلوب جديد من الخط الكوفي، ولا يمكن دائما تقليد شكل خط المصاحف الذي عمل بالقلم.

صعوبة التجديد عند الخطاط في عصرنا الحاضر تكمن في ان الحروف محددة مسبقا لكل اسلوب. ولها قواعدها الدقيقة تناقلتها وطورتها اجيال عديدة من الخطاطين، صقلتها التجارب الكثيرة على مدى سنين طويلة. وهي ذروة الجمال في الخط للكثير من المشاهدين. بينما ان يريد خطاط اليوم التجديد واستعمال الخط للتعبير عن احاسيسه الوجدانية فلابد له من عالم واسع وغير محدود.
قواعد محددة من جهة، ورغبة لا محدودة من جهة اخرى. كيف يمكن التوفيق ما بين هذين القطبين؟ اذن لا طريق امام المبدع سوى كسر الحدود للتعبير عن اللامحدود. وانتظار بما تأتي به رغبات الفكر والقريحة العفوية والتعابير التلقائية في حركة القلم. بأمل ان تولد اشكال جديدة. واضافة ما تولده الصدفة الغير منتظرة. صدفة قد لم تكن مسجلة في الذهن ولم تكن معروفة قبل حضورها.

ازاء الخوف من تكلس الخط العربي وتحوله الى عمل متحفي جامد، يقود الخطاط الحديث حركاته بسرعة وارتجال ، حركات آتية من العفوية. ولكنها وبنفس الوقت تبنى على هيكل هندسي سبق التفكير به والتحضير له، هيكل ذو تعادل وتناغم واناقة. وهكذا يكون مجيء هذه الخطوط قد تم بتزاوج ما بين الحدس والفكر في آن واحد. النظام الآتي من الحدس يتوفر لدى البشر وهو بداخلهم. وهو طبيعة انسانية مستمرة. كهندسة شبكات العناكب وخلايا النحل.

وخلال هذه التجارب ستولد اشكال متعددة تتطلب غربلة، لأخذ ما هو نافع وترك ما هو ضعيف. لان عمل الخطاط يكون محصورا ما بين رؤى الخيال الواسعة من جهة، ومن جهة اخرى قدرته على استلهام صور هذه الرؤى.
وعندما تأتي اشكال جديدة مقنعة، يكون الخطاط الحديث قد ظفر بما يريد. وسيجد مكانا لخطوطه بجانب الخطوط القديمة المعترف بها.

بعض الكلمات في خطوط الزمن الماضي استلهمت وقلدت هيئة البناء المعماري الذي خطت عليه. فالخطوط في معالم القاهرة اثناء حكم المماليك ورشاقتها الموسيقية، لا تشابه خطوط اسطنبول الثلثية الحادة والمتشابكة. وخطوط طابوق سمرقند لا تشابه رهافة خط التعليق الايراني.

والان هل تأثرت الخطوط التي نعملها في هذا العصر بأشكال المدينة الحديثة؟ وهل استلهمت هذا الصعود العمودي الشاهق للبنايات الحديثة في الفضاء الازرق المنير؟ بنايات من الزجاج يلعب النور فيها دورا كبيرا لم نكن نعرفه سابقا. وهل اُذهلت الخطاط كل المخترعات الحديثة التي تحوطنا في الزمن المعاصر؟

أن تكوينات الخطوط وتشابكاتها والمعاني التي احتوتها تخفي صور تجريدية، توحي للمشاهد بكتل بناء أو اغصان اشجار ومناظر اخرى لا حصر لها.

وكمثال اذكر الشاعر القديم أحمد بن اسماعيل نطاحة، يمدح احد الخطاطين:

وكأن أحرف خطه شجر = والشكل في أضعافها ثمره


والشاعر الحسن بن رجاء يرى صور في صفحة خطاط:

أضحكتَ قرطاسك َمن جنة = أشجارها من حكم مثمرة


والشاعر ابي اسحاق الصابي يرى في الحبر دعوة للنور:

اذا رقشت بيض الصحائف خلتها = تطرز بالظلماء اردية الشمس


كذلك ابي الفتح كشاجم

وكأن الخطوط فيها رياض = شاكرات ضيعة الانوار


كل هذه المقاطع الشعرية توضح لنا وجود صور متخيلة خلف الخطوط .

وتنشط خيال المشاهد أيضا الاشكال الهندسية الكامنة خلف الكلمات، فانها توحي له بأشياء وألغاز غامضة مخفية خلف الحروف. اشكال تدفع خيال المشاهد لتحرير صوره الداخلية، ولاثراء روحه نحو ما تصبو اليه من غذاء فني يعينها على الحياة.

قبل الولوج في الكلام عن منابع الالهام للخط الحديث، لابد من التأكيد مرة اخرى بأن التجديد في الخط لا يعني قطع الجذور مع الماضي. بل على العكس سيكون من الضروري للخطاط المجدد النظر بأجلال واحترام للخطوط الراقية التي تركتها لنا اجيال الخطاطين القدماء. والتعرف على مناطق القوة فيها. وكما قال طاغور: احترم الماضي ولكن لاتعش فيه. و كذلك لا ننسى الاحترام لكل من يساهم لحد اليوم بالحفاظ على هذه التركة الثرية. من الخطاطين او ممن يقتني ويجمع هذه الخطوط، ومن يهتم بنشرها.

ان التحديث لا يعني اظهار تكوين جديد من لا شيء، بل ان التحديث هو عملية ذهنية وحسية وخيالية تهدف ايجاد اشكال جديدة لنفس الحروف. عملية ابداع تهضم كل جماليات الماضي، وتفكر بالمستقبل وبالمسؤولية الملقاة على عاتق الخطاط في تحمل مهامه داخل المجتمع كأي فنان. فالمستقبل ليس هو ما سياتي انما هو ما سوف نعمله نحن انفسنا. وتتطلب عملية التجديد التعرف العميق على تركة الخطاطين القدماء. كما عمل الشيخ حمد الله الاماسي في القرن السادس عشر، عندما جدد وطور خطوط ياقوت المستعصمي لثلاث قرون قبله. فأعطى الحروف روح القرن السادس عشر. ولحد اليوم ينظر كل الخطاطين باحترام لما قام به الشيخ حمد الله الاماسي. في خط الحروف بأناقة، وفي التعبير الذي ادخله حتى في أصغر حرف. وكذلك في المزج بين الاحساس العفوي وضرورة رقابة الفكر في تحديد اشكال الحروف. والتجديد الذي توصل اليه انما هو ضمن رؤى كل خطاط في زمننا الحالي.

التحديث في الخط ما هو الا تغيير لما هو معروف من الاشكال للحروف وتخيل مظاهر اخرى لها، بهدف زيادة جديدة لولادة غير منتظرة. أن ذاكرة الخطاط تحتفظ بكل ما رأى منذ بداية اهتمامه بالخط. ولا يمكن مسح هذه الذاكرة. فان معرفة الخطاط تتكون من كل ما رأى طيلة حياته. وهكذا ان ممارسة الخط تدفع الخطاط لتخيل الخطوط القديمة الغائبة. وبوعي منه او بلا وعي سوف تحدث عنده مقارنة بين خطوطه وخطوط الماضي. فكل خط جديد تكمن قيمته على قدرته في استحضار الاشكال الاخرى في الذهن. وان نتكلم عن الحروف فلبد من التفكير أيضا بالفراغ المحيط بها. ويمكن تصوره كشيء قوي كالحروف.

وان وجدت في تاريخ الخط فجوات لبعض القرون الخالية من الابتكار. وكانت الخطوط في تلك السنين تكرار ممل لخطوط الاجداد. فأن تلك السنوات العقيمة انما قطعت اجنحة الخيال، ولم يكن فيها القدرة على تصور المستقبل. فالتخيلات انما هي انفتاح على قدرة الانسان نفسه وتخيل رؤاه المستقبلية.
يلجأ الانسان الفنان للتجديد كلما عجزت الاجوبة العقلانية عن تفسير أحداث الحياة، يبحث عن دروب لانهاية لها حيث يلتقي الطريق والهدف. وهكذا ان الطريق العقلاني في الخط دون عمق الاحساس هو طريق محدود، بينما ان طريق الخيال لا حدود له.

ولكن ماهو الخيال؟ يقول ابن سينا: ( التخيل هو ادراك المحسوسات في غيابها، بينما الاحساس هو ادراك المحسوس في حضوره )، الخيال مصدره الشعور، فان كان الشعور عميقا فان الخيال سيكون فياضا، والخيال ما هو الا الطاقة التي تدفع الخطاط للإبتكار. وتجاوب الخطاط مع الخيال يسمح له باعطاء اشكال خطوط المستقبل. لان الخيال يتجاوز الاشكال المعروفة. الخيال هو قوة خلاقة في استقبال التشكيلات المحسوسة الجديدة والتأثر بها. وخطها حسب نظام وقواعد جديدة. وبهذا ندرك ضرورة الخيال للانسان فهو كحاجته للنور والهواء والماء والنار.
يجب الاشارة هنا ايضا الى ان الاحاسيس والانفعالات لا تعمل وحدها الفن، انما لابد من الالتزام بمباديء الفن عبر تاريخ الانسانية، والتعرف عليها منذ فنون العصور القديمة في الحضارات المصرية والسومرية والاغريقية، مرورا بالفن الغربي والفنون الاسلامية.
فهناك عوامل لابد منها في العمل الفني كقيمة الجمال في الحركات الخطية ونقائها، وبناء الشكل وهندسته، ونوعية الالوان والمواد التي تعمل منها اللوحة، وباختصار كل التقنيات ممزوجة بالأحاسيس المتعددة. وكذلك البحث عن سر العبارات المخطوطة. وعند العيش في حالة تعجب وتأهب قبل الخط، ستكون الخطوط حيوية، وستنمو الحياة في الحركات.
الحركات الحرة هي نتيجة سنوات من ممارسة الخط. رفع وحذف كل ما هو غير ضروري لبقاء الجوهر الاصيل. فكم كلمة تخط قبل الوصول الى البساطة والقوة التعبيرية؟ حتما انها كثيرة ولاتعد.
الاساليب الخطية القديمة تعكس زمن عالم قديم، ولكنها كانت في زمنها ابتكار جديد، لا يشابه ماخط قبلها. وقد كانت للخطوط في الماضي اماكن في المدينة لم تعد ممكنة للخطاط في العصر الحديث. او تقلصت كثيرا، كواجهات المباني الرسمية والمساجد والمكتبات والمقابر. وكمثال الخطوط الكوفية الرائعة في مسجد السلطان حسن في القاهرة، والخطوط المحفورة على الطابوق في مساجد افغانستان، وخطوط الحجر الاحمر في مسجد قطب في دلهي بالهند، وجدران مسجد الجمعة في اصفهان، وخطوط الطابوق المزجج في سمرقند، ولوحات المسجد الكبير في بورصة بتركيا، والخطوط المحفورة على الجبس في قصر الحمراء بالاندلس.

في القرون الماضية كان عمل الخطاط يتجاوز خط الكتب، ويتجه نحو تزيين جدران المعالم المعمارية، والعمل مع المهنيين لتزيين الحاجيات المستعملة يوميا. بينما تطبع اليوم الكتب بالمطابع، ولم تعد البنايات مزينة بالخط الا نادرا، وكل ما كان يعمله المهني من الحاجيات باليد اصبح اليوم يعمل بالمصانع البعيدة. لذلك تكون من الضرورة اليوم ايجاد اماكن جديدة كي تستقبل الخط العربي.

شكل كل حرف مخطوط يعكس الانتماء لزمن معين. فان كوفي المصاحف ينقلنا الى عالم ما قبل الف سنة. بينما ان افضل التشابكات الثلثية تنقلنا الى القرن التاسع عشر. وكل هذه الحروف تعكس لنا ازمنة بطيئة بالمقارنة مع زمننا الحالي وسرعته. والمقصود بالسرعة هنا ليس بالضرورة الخط بسرعة، انما كون مظهر الخط يوحي بطاقة كثيفة. فيمكن الخط ببطيء لكنما حيوية تكوين الخطوط توحي للمشاهد بمظاهر عصرنا الحالي. أي الخط ببطيء والتفكير بسرعة.
البطيء في الخط ليس مذموما، بل على العكس انه ضروري من اجل السرعة، فان السرعة تتطلب حفظ اشكال الحروف في الذهن قبل خطها، وهذا الحفظ لا يتم الا بالبطيء.

وبعد ان تـنقـش الاشكال في الذهن، سيكون من الممكن تجربة الخط السريع ايضا، والمقصود بالخط السريع انما هو كما يخط اليابانيون، والهدف من السرعة هو القدرة على الخط في كل الاحوال عند استعمال الخط في اماكن جديدة لم تكن معروفة من قبل، كالخط امام الجمهور داخل القاعات، او الخط تحت عدسة الكاميرا حيث يتقلص الوقت ولم يعد يشابه الوقت الواسع الذي يتوفر للخطاط في مرسمه.
انذاك سوف تساهم هذه الاشكال الخطية الحديثة في تنمية الذوق والاحساس للمشاهد، وتكون في حوار مستمر مع الانسان المعاصر ووجوده داخل المدينة الحديثة. وتتوافق مع كل الابتكارات الجديدة. بل انها ستكون الانعكاس للمسيرة البشرية المعاصرة وشاهدة على الحياة اليومية.
السرعة هنا يمكن ان تدهش الخطاط نفسه لانه سوف يرى في خطوطه ولادة مالم يكن يتصوره من التجديد الباهر. ولادة اشكال آتية من عالم الحدس والفطرة. الحركة السريعة هي تحدي لرتابة الوجود وتجاوز لها. وبنفس الوقت قد تكون السرعة مخاطرة لصعوبة القدرة في السيطرة عليها.
ولكن عندما تتم السيطرة على الحركات الهوجاء فان هذا التجديد في الخط العربي سوف يثري وينير الفنون الاخرى كالموسيقى والمعمار والمهن الاخرى المتعددة، في رغبتها للذهاب نحو التجديد ايضا. فيعيش المجتمع حركة انتعاش فنية روحية تعم جوانب متعددة من الحياة.

لابد من الايمان ان لكل عصر قيم جمالية تختلف عن قيم العصور التي سبقته والتي سوف تليه. لذلك لا يمكن الحكم على الخطوط الجديدة بنفس القيم القديمة، كمن يحكم على جمال بنايات الكونكريت العالية الحديثة بقيم جمال بيوت الطابوق القديمة.
من الضروري للخطاط ادراك لغة الفن بشكل عام، ومعرفة قيم الجمال العديدة في فنون الانسانية المتوالية منذ اقدم العصور وحتى عصرنا الحالي. فالرسوم في الكتب الاسلامية لا تشابه الرسوم في الكتب اليابانية، وهذه الكتب اليابانية لا تشابه الكتب الصينية. وكذلك يكون من الضروري التعرف على ما يميز الخط العربي عن بقية الخطوط في العالم.

ولابد للخطاط ايضا من تحسس الاحداث المعاشة وتأمل الطبيعة. وعندما تتوفر لديه الرغبة بشحن فنه بطاقات الحياة اليومية. انذاك تأتي الانطباعات على الورق بعفوية وتلقائية كما تتفتح الازهار وكما تغرد العصافير. وسوف نرى ان الخط هو ليس فقط حروف قوية الاخراج وعبارات مرصوصة في بناء متين، ولا هو مجرد تقنيات ومهارة وصناعة جامدة. انما لابد ان تخترق الحروف احاسيس وجدان الخطاط. فأن الخطاط سيضع روحه وتطلعاته في عمله الفني، وهذه الحالات الوجدانية لا يجب ان تخفى كما لا يجب ان يبالغ فيها فتطغي على القيم الفنية. انما تأخذ مكانها عند مجيئها بكل بساطة. ونقرا في تاريخ الخط عبارات وجدانية كهذه الامثلة:
قال ابن المقفع في القرن الثامن: القلم بريد القلب. وبنفس الزمن قال علي بن عبيدة: القلم اصم ولكنه يسمع النجوى، وابكم ولكنه يفصح عن الفحوى.
وفي القرن العاشر قال عبيد الله العنبري: مارأيت خطاً حسناً الا وامتلأت عيني قروراً.


ضرورة التحديث في الخط ليست سهلة، اذ انها تدفع الخطاط الى سلوك طريق غير معروف مسبقا. وككل جديد فأن هذا الطريق سوف يأتي بإشارات غير مدركة في اول الامر وغير معترف بها من قبل المجتمع. كرحلة الى جزيرة مجهولة، كحلم شاعري. ولكن المواصلة والاستمرار بمرور الزمن تمكن من الوصول الى وقت البلوغ، حيث يقترب ما هو متخيل مع ما هو حقيقي. فيشعر الخطاط بالتمتع الجمالي والامتلاء حين يرى تطابق روح عمله الفني مع احداث الحياة.
يشاركه بعد ذلك المشاهد بهذا التمتع، بل ان العمل الفني القدير لابد وان يعطي نوع من الاطمئنان للمشاهد. فتصبح التخيلات معرفة جديدة. وسنرى في الاخير ان عالم الحلم يمكنه ان يقود الى حقائق ممكنة. فان ما يولد من التخيلات بلوحات ناجحة انما سيكون خطوط تجلب الراحة والسعادة لكل متأمل لهذه الخطوط.

وان يكون الفشل محزنا في عدم الوصول لخط جديد مقنع، او في الاجهاض لتجربة جديدة، فان الحزن سيكون اكبر ان لا نحاول الاقدام على تجربة اخرى بهدف التجديد.

ان الابداع في الخط هو ككل ابداع، له شروطه القاسية، فأن كل مبدع يركض خلف رؤاه المتخيلة، على الرغم من عدم تأكده ذهنيا من قدرته على تحقيق هذه الرؤى على الورق. كما يقول جبران بان الابتكار هو كالطائر الذي من وقت لآخر ينزل على الأرض، وان نزوله يكون عندما يريد النزول هو نفسه.

ولكن عند وجود رؤى لابد من خط هذه الرؤى بتكرار مستمر، وتهيئة الاجواء التي تتطلبها ولادة الخط الجديد. ومع مرور السنين تتراكم المعرفة عبر كل هذه المحاولات. وخلال هذه التجارب ينقي الخطاط ويصفي كل اعماله. ليأخذ الخطوط الاكثر جمالا كإشارات لدروب المستقبل الجديدة. ولا يتم كل هذا دائما تحت اجواء مريحة. انما ان عمل الخطاط الفني يتم ضمن انسانيته الكاملة. وبما ان المعاناة والالم هي ايضا من قدر الانسان، فـتـشترك هذه الاحاسيس مع احاسيس الفرح في طريق التحديث.

وقد قال لنا ابن البواب قبل الف سنة:

... ان من تعاطى هذه الصناعة ـ يحتاج ـ الى فرط التوفر عليها، والانصراف بجملة العناية بها، والكلف الشديد بها، ولوع الدائم بمزاولتها، فانها شديدة النفار مطمعة الخداع، وشيكة النزاع، عزيزة الوفاء، سريعة الغدر والجفاء، نوار قيدها الاعمال، شموس قهرها الوصال، لا تسمح ببعضها الا لمن آثرها بجملته، وأقبل عليها بكليته، ووقف على تآلفها سائر زمنه، واعتاضها عن خله وسكنه، لايؤسيه حيادها، ولا يغمره انقيادها، يقارعها بالشهوة والنشاط، ويوادعها عند الكلال والملال، حتى يبلغ منها الغاية القصية، ويدرك المنزلة العلية، وتنقاد الانامل لتفتيح ازهارها، وجلاء انوارها، وتظهر الحروف موصولة ومفصولة، ومعماة ومفتحة في احسن صيغها وابهج خلقتها، منخرطة المحاسن في سلك نظامها، متساوية الاجزاء في تجاورها والتآمها، لينة المعاطف والارداف، متناسبة الاوساط والاطراف، ظاهرها وقور ساكن ومفتشها بهج فاتن، كأنما كاتبها ـ وقد ارسل يده وحث بها قلبه ـ رجـّع فيها فكره ورويته ...

قد يبدو أحيانا مظهر الخطوط الحديثة بسيطا، ولكن البساطة هنا لا تعني ان هذا العمل سهلا. بل على العكس تماما، فان التبسيط هنا يكون صعبا، لأنه سيكون نتيجة بحوث طويلة من اجل الابقاء على ما هو ضروري فقط، والغاء كل ما يمكن حذفه. ليبقى القليل المكثف، ولكي يعبر القليل عن الكثير.

لابد للخطاط من تعلم معرفة عالية بالأصباغ وصناعتها، وبأنواع الورق وطلائها. والاهتمام ايضا بتاريخ الفنون على الارض. ودورها في تنمية الوعي البشري. والتدرب لامتلاك القدرة في السيطرة على اختلاف اشكال الحروف وهذا ما يمكن ان نسميه بالتوازن داخل الكتلة لكل الحروف.
والعيش في لحظات متناغمة لتطبيق هذه الاحاسيس على الحروف والفراغ حولها. والتهيؤ المستمر لالتقاط الشكل المتخيل بسرعة.
لابد من تأمل صور الحياة المحيطة بنا كالغيوم الطائرة تحت ضغوط الرياح. وتأمل الطيور في تحليقها، والجبال في صعودها، والانهار في انسيابـيتها. وتأمل وجود الانسان ودوره في الطبيعة، ومعرفة هذه الطبيعة وتعابير اشكالها، كالأشجار وهيئاتها في تماوج الاغصان ورسوم الاوراد والاثمار. لا بتقليد شكل الاشجار انما تحسس هيآتها وبالعمل مثلها: الحبة عملت النبتة والنبتة عملت الشجرة والشجرة ابدعت الورود والورود اعطت الفاكهة. والمقصود هنا ليس صورة الشجرة انما فكرة الشجرة، اي اللامرئي عبر المرئي.

ولابد كذلك من تحسس الفنون الاخرى القريبة من الخط كجمال ورشاقة المعمار وهندسته، وصوت المغني، وتأمل جسم الراقص، وعزف الآلة الموسيقية، وتذوق العطاء الشعري. وقد قال اخوان الصفا في القرن العاشر هذه المقارنة ما بين الخط والغناء: ... والنغمات الحادات منها بمنزلة الحروف، والالحان بمنزلة الكلمات، والغناء بمنزلة الاقاويل، والهواء الحامل لها بمنزلة القراطيس، والمعاني المتضمنة في تلك النغمات والالحان بمنزلة الارواح المستودعة في الاجساد...

لا يمكن الاستمرار بهذه الدروب الوعرة. دون ثقة عالية بما نؤمن به في ضرورة الابتكار في الفن. دروب الفن هي دروب ضبابية وغير واضحة، ولكن هنالك دائما احساس قوي عند الخطاط بضرورة الاستمرار والصمود، وعدم التراجع، فأن الشك بنجاح تجاربه الحديثة ينتظره عند الانتهاء من كل خط جديد. اذ لا يمكن التنبؤ مسبقا عما سيكون عليه الخط الحديث، انما عند الانتهاء من عمل الخط يمكن اعطاء فكرة عن قيمة وأهمية الابتكار في الخط الجديد.
وهنا لابد من ذكر كلمات الخطاط ابراهيم بن العباس الصولي قبل الف سنة: وربما طغى القلم فوصل منفصلا، وفصل متصلا. وكأنما هنالك قوى لاحساس داخلي تدفع للابتكار والتغيير. فان هيمنة الاحساس على الفكر في بعض اللحظات يمكنها ان تتخطى مفاهيم الذهن المتعارف عليها.

يبدو الخط الجديد أحيانا وكأنه رفض وخرق لجمال الحروف القديمة. هذه الحروف التي يحترمها بأجلال كل خطاط. واذا به في عالم ضبابي كالسراب. مرة يرى خطوطه ذات قيم عالية كقيم الخطوط القديمة الراقية. ومرة اخرى يرى الخطوط القديمة وكأنها جامدة فيأخذ اتجاها معاكسا لها. ازاء لحظات القلق الصعبة لابد للخطاط من الصمود في الاستمرار في بحثه الفني الجديد. استمرار قد يكون لزمن طويل ولسنوات عديدة، بأيمان وثقة بأن اي نجاح في الخط الحديث سيكون مرحلة في طريق التقدم.

عندما يشعر الخطاط انه توصل الى اشكال جديدة مقنعة، انما سيشعر بالحرية والطيران في الفضاء مع حروفه الجديدة. وكلما اتسع خيال الخطاط كلما توحي خطوطه بالكبر داخل الفضاء الفسيح. ستبدو خطوطه وكأنها اكبر بكثير من الورقة نفسها، لأنها توحي للمشاهد بأشكال عالية كبيرة. كل حرف يروي مسيرته وحياته الخاصة، ولا مجال هنا للتردد بل ان كل كلمة ستكون كمعنى وكشكل في اتحاد تام.
عند نضوج الاشكال الجديدة، أنذاك سوف يؤمن الخطاط بأن انتاجه الفني يمكن ان يوازي ما هو راقي وعالي في الخطوط القديمة. وهذه الخطوط الجديدة لم يكن يعرفها مسبقا انما كان يريدها ويبحث عنها. وها هو يجدها بالمثابرة والاستمرار.

لابد من سنين طويلة من البحث في العمل الفني للخط، من اجل الوصول الى خط حديث يدخل ضمن الفنون العالمية لعصرنا الحالي. وان هذا الابتكار لا يعني الوصول الى هدف محدد، فأن طريق الفن لانهاية له، وأمام كل عبارة جديدة سوف تبرز عقبات جديدة. فالرؤية تكون دائما هاربة متبخرة تتطلب مسكها وخطها على الورق قبل ان تضمحل. الوقت يكون دائما ضيق جدا بين هذه الرؤى، وبين متطلبات الخط التـقنية في تحضير ادوات الخط والاحبار والورق.

المعرفة الواسعة لقواعد الخطوط القديمة، والتجارب الكثيرة بتقنيات الالوان وبقية مواد الخط، تعين الخطاط على ولادة ابتكاراته الجديدة، وتعطيه حرية واسعة في عمله الفني.
ولا يعني هذا اظهار كثرة المهارة دائما، فأن المهارة وحدها تقود الى خطوط جامدة، بينما ان الخطاط عندما يكون في قمة فنه يمكن ان ينسى القواعد القديمة ويتركها تتفاعل عميقا في قعر وعيه، فتأتي خطوطه كتعبير عفوي يعبر عن طبيعته وفطرته. وبذلك تكون مهارته في معرفة الخطوط القديمة القاعدة المتينة التي سوف يبني عليها خطوطه الجديدة.

داخل كل تكوين خطي هنالك حروف توحي بالثبات، كي تسمح لحروف اخرى بالحركة والطيران. ولابد من هذه الثنائية في كل تكوين خطي ناجح. اي هنالك حروف توحي بالتوقف وحروف اخرى في مكان آخر توحي بالحركة. تماما كالشجرة، فالأشجار هي ايضا يمكنها ان تلهم مخيلة الخطاط، ان نقطة الثبات هي الجذور ونقطة الهروب تكون في اعلى غصن. ثم ان كل شجرة لها هيئة خاصة، منها الجاثمة على الارض بكسل. ومنها الصاعدة عاليا بشكل منتصر، واخرى مائلة تقاوم ضغوط الجاذبية الارضية التي تريد لها السقوط. الجذع باستقامته كحرف الالف يلتوي حول نفسه من اجل تحمل الثقل الكبير للأغصان المتدافعة في الاعلى بحركاتها المتحررة. وامام هذه الصور يلتقي ما هو مرئي في عين الخطاط مع ما هو متخيل في ذهنه، فتمتص التخيلات هذا العالم المرئي.
ألم يقل فريد الدين عطار ـ القرن 12 ـ تعلم من الاعمى سر النظر، كتأكيد لأهمية عالم التصور والتخيل الداخلي للانسان. ومقولة اخرى لهشام بن سالم في القرن التاسع تؤكد اهمية الرؤى الداخلية للانسان: صورة المداد في الابصار سوداء، ولكنها في البصائر بيضاء.

لابد من حساب وتخمين وتقدير النسب في الحروف والكلمات وفي التكوين بأكمله. النسب هي من اهم الاشياء في العمل الفني وهي اساس الجمال الحقيقي. فأن الكلمات نفسها يمكن ان تخط مرة بشكل يوحي بالثقل ومرة اخرى بشكل يوحي بالخفة. وكل هذ يتم عبر علاقة تناسب ما بين الطول والعرض لكتلة الحروف.
ومن الضروري تخيل ثقل الكتلة لمجموع الحروف، اي تخيل الكلمات وكانها تمثال من حديد. ومعرفة اماكن الارتكاز فالعين يمكنها ان تزن ثقل الشبكة الخطية. ولابد من رؤية ما توحيه الفراغات ما بين الحروف، فان كانت مقاييس الحروف معروفة يبقى الفراغ حولها تجريديا غير معروف، وتعود اهميته الى قدرات الخطاط في اعطائه نفس قيمة وطاقة الحروف.

تشترك في العملية الابداعية عدة عوامل نفسية وجسمية وثقافية بهدف اعطاء الطاقة للحروف. والثقل او الرشاقة للتكوين. الطاقة هنا هي الحياة، حياة الحروف وهي آتية من حياة الخطاط نفسه، فأن جسم الخطاط والالهام عنده وقدرته على السيطرة على الحروف، انما تترآى عبر خطوطه. فالخطوط التي لا توحي بالحركة، ولا تعطي الصعود اهمية، تتراكم في حروف ثقيلة ضمن فسحات ضيقة انما تعكس الايحاء بالجمود والسقوط.
كل تكوين خطي يوحي بقوة تنبعث من الحروف، وتعود هذه القوة الى علاقة تآلف هذه الحروف ضمن التكوين. فان التكرار الموسيقي للحروف الانسيابية في اسلوب خط الديواني وطيرانها، تقابله ثبات الحروف الكوفية وقوة البناء فيها. وكل هذه الاشكال تحفز مخيلة المشاهد المتأمل والمشارك في العملية الابداعية للخطاط.

ولو نتسائل كيف تنمو هذه المعرفة التجريدية، وكيف يمكن تقدير اشكال لا تقاس بالمسطرة ولا بالحسابات العقلانية. انما بقياسات بصرية فطرية تعتمد التخمين والاحساس والحدس. ففي تجارب الخطاط يعتمد أشكال الخطوط التي يعرفها ممتزجة برؤى الخيال دون التأكد من النجاح في البداية، لذلك تستمر تجاربه لسنين طويلة. حتما ان كل المعلومات التي يتطلبها الخط انما تكون آتية من تراكم المعرفة عند الخطاط، منذ الصور الاولى التي تكون قد دخلت قلبه عند الطفولة، ومن المعرفة التي اكتسبها خلال كل السنين الطويلة لحياته. وكما قال ابن المعتز: لحظةُ القلب أسرعُ من لحظة العين، وأبعد مجالاً، وهي الغائصة في اعماق أودية الفكر.

وبتعبير آخر يقول جابر بن حيان:

انظر الى الحروف كيف وضعت على الطبائع، والى الطبائع كيف وضعت على الحروف، وكيف تنتفل الطبائع الى الحروف والحروف الى الطبائع.



لو ننظر الى الخط الكوفي الرشيق في قصر الحمراء، حيث ان الحروف الرهيفة والرفيعة تصعد عاليا، وتلتقي بحروف اخرى لتكون رسما هندسيا يشابه الشكل المعماري نفسه في الابواب والنوافذ. وهنا نرى ان تخيلات الخطاط تذهب باتجاه جمالي بحت بعيدا عن امكانية القراءة للزائر في هذا القصر. والهدف هنا هو النظر لما هو مكتوب وليس قراءة المكتوب.
ابتداء من القرن السادس عشر كثر صعود اسلوب خط الثلث على الجدران المعمارية. فتحولت الالف واللام والمدات الطويلة الى مجال للحلم والتأمل للخطاط. حيث ان كل خطاط يعطي التشابكات الخطية المظهر الذي يريده. حسب امكانيات المساحة المتوفرة للخط. وكما في تزيين حاجيات المهنيين من المعادن والخزف فان الخطاط ابدع سابقا الكثير من الابتكارات. ولا زالت هذه الحاجيات المخطوطة موجودة في الكثير من المتاحف العالمية.

في لوحات الخط هنالك تكوينات تتكرر كمظهر من حيث الشكل الهندسي ولكنها تختلف عند كل خطاط. وكمثال في العديد من التكوينات المسماة ـ المرآة ـ في الخطوط المتقابلة. خطوط متقابلة ولكنها دائما تحتوي على اضافة صغيرة من احدى الجهات لاعطاء حركية للتكوين والا سيبدو جامدا.
وكذلك في حوالي اربعين رسما لتكوين ـ الطغرة ـ لحوالي اربعين سلطان حكموا الامبراطورية العثمانية، والتي خطت بالالوان او بالحروف السوداء. مرة بالخط وحده ومرة اخرى محاطة بالزخارف. نرى في خط الطغرة حروف سحبت للأعلى واخرى دفعت نحو اليسار، ثم تعود من جديد الى وسط التكوين، حروف تدخل واخرى تريد الخروج، شبكة من الخطوط المستقيمة اليابسة، والخطوط المنحنية اللينة، تتعلق الحروف الواحد على ظهر الآخر، او تتماسك بثبات. هنا حرف يتسلق وهناك حرف ينحني. حرف يلجأ الى بطن حرف آخر، وحرف يترك المركز ليساهم بالانفجار في اعالي التكوين. مما تعطي هذه الحركات المسرحية زخما تعبيريا تجريديا للكلمات. تبدوا وكأنها تنطق. وعلى الرغم من ان الطغرة هي توقيع السلطان فأنها خطت دائما من قبل خطاط القصر.

وقد اخذت الطغرة اناقة وقوة مما الهمت الكثير من الخطاطين. كما نرى في المسجد الكبير في مدينة بورصة بتركيا، حيث خطت على الجدار نصوص دينية في القرن التاسع عشر على شكل طغرة بقياس عدة امتار. وعند تأمل هذا التكوين، وتخيل الخط الوهمي الشاقولي في الوسط نشعر بحركية ورقص بقية الحروف عبر الدفع والسحب والالتواءات والتعرجات والصعود والهبوط لسيمفونية الحروف الموسيقية.

الايقاع المرئي يبدو هنا ايضا بتكرار ايقاع السميك والنحيف داخل كل حرف، والحرف المتقلص والآخر المتمدد، والانحناءات الرشيقة والمدات الهادئة. كذلك عندما تكون الالفات واللامات متوازية المظهر. هنا حرف يرتفع الى الاعلى عدة مرات اكبر من طوله المتعارف عليه. وهناك مدة ما بين حرفين تأخذ طولا يوازي طول حلم الخطاط وتأملاته. ولا يهم هنا ان كانت الكتابة مقرؤة ام لا، فان هدف الخطاط هو تحقيق عمل فني يخضع الى لغة الجمال، والتي هي ايضا حاجة بشرية.
خطوط كأنها معلقة في الهواء، واخرى ثابتة على الارض. خطوط لولبية الحركة تدور حول محورها، تذهب باتجاه عين المشاهد المتأمل لهذه الخطوط. عند مسك الرؤى وتحقيقها على الورق، انما يعيش الخطاط ولادة حركاتها الجديدة. ويتجاوب مع مسيرة القصبة وتموجاتها الراقصة في رسم الحروف.
يتخيل السرعة هنا والبطيء هناك. يغير باستمرار زاوية الارتكاز للقلم على الورقة. يعيش هذه الحركات مرة في مدة جريئة، او معاناة في صعود عال، وفي الاخير يشعر بالسعادة عندما يرى ان حركاته الخطية تتجاوز قوانين الجاذبية، وانها رغم سرعتها الفائقة اخذت مكانها المضبوط على سطح الورقة.



حسن المسعود
www.massoudy.net

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى