عبد الرحيم التدلاوي - "ميلانين" صرخة فنية ضد الإقصاء والتهميش. قراءة في الرواية من الجانبين، القضوي والفني.

صدرت رواية "ميلانين" للمبدعة التونسية، عن دار ديوان العرب للنشر والتوزيع بمصر في طبعتها الاولى سنة 2019. وتمتد على مساحة 164 صفحة، تنقسم قسمين، قسم خاص بأنيسة تحكي فيه يومياتها، ببارس، وقسم خصص لسرد رقية الشخصية المتخيلة.
العنوان:
استوردت فتحية دبش مصطلح "ميلانين" من المجال العلمي لتجعله عنوانا لروايتها؛ والميلانين مادة صبغية بروتينية تُفرز من قبل خلايا تدعى الخلايا الطلائية وتكون في جلد الإنسان وكذلك في بصيلات الشعر وغيرها. وتكون سببا في اسمرار الجلد بشكل واضح، ولتقوية هذا البعد كتب العنوان باللون الأسود. ولعل الهجنة من بين المواضوعات الأكثر بروزا في العمل، حيث إن سمرة أنيسة كانت مثار أسئلة ونقاشات مع الفرنسيين بعامة، ومع الأساتذة بخاصة.
فإذا كان الإنسان غير مسؤول عن لونه، وعن جنسه، وعن انتمائه، فإن المجتمع والبيئة والثقافة تحدد قيمة بهويته وبلونه وبجنسه، ويتخذ مواقفه من خلال ذلك .
من هنا، يمكن القول: إن ميلانين "رواية أسئلة حارقة بامتياز فيها خطاب نقدي موجه إلى الغرب حول مسألة الهجرة و معاناة المهاجرين من الميز العنصري و من شدة الاستغلال. و خطاب موجه إلى الأهل في الداخل تنديدا بضياع الحقوق و فقدان الهوية . وهي خطاب موجه إلى الله في احتجاج مهذب عن سبب خلق البشرة السوداء لتكون صنوا للعذاب و القهر و تصبح صرخة في وجه الإنسانية جمعاء.. ***
الغلاف:
جاء الغلاف بلون رمادي بنوعيه؛ الفاتح وقد شغل النصف السفلي، والغامق الذي شغل النص العلوي:
يعتبر اللون الرمادي لوناً محايداً كونه لا أبيضَ ولا أسود، بل إنه ناتج عن دمجهما معاً، ويرمز الغامق المائل إلى الأسود إلى الغموض والمأساة، بينما يرمز الرمادي الفاتح والمائل إلى الأبيض إلى الحيوية والنور، وكونه ساكناً وخالياً من المشاعر على حد سواء، ويعتبر اللون الرمادي متيناً ومستقراً، يخلق إحساساً بالهدوء ورباطة الجأش، ويعفي من فوضى العالم، كما يمكنه أن يعبر عن الكبت والهدوء والتحفظ، حيث إنه لا يحفز النشاط أو التجديد والإثارة. هكذا، نجد الغلاف وقد جمع بين النوعين، يضم الدلالتين معا، مما يشي بحضور نوع من التشظي في الرغبات والآمال والأحلام.
وبالعودة، مجددا، إلى الغلاف، سنلاحظ أن المساحة الكبري كانت للعربية. مع حضور ضئيل للفرنسية. هذا التداخل هو الآخر يؤكد فكرة التشظي. لكن الجميل فيه هو تلك النبتتان اللتان تتبرعمان لتعبرا عن الأمل؛ أمل في غد أفضل، يعيش الإنسان فيه بسلام وطمأنينة وسعادة.
البناء الفني:
واعتمادا على ما سبق، نجد الرواية قد خلخلت التسلسل الزمني باعتمادها ترتيبا مختلفا يتداخل فيه الواقعي والتخييلي، مؤكدة بذلك تشظي الواقع، وغياب وضوحه. فلم تعتمد الرواية السرد المستلسل حيث يرتبط السابق باللاحق وفق منطق واضح ومفهوم وقابل للاستيعاب، بل صار غير مفهوم، وصعب القبض على معناه ومنطقه وفق رؤية بينة وجلية مثله مثل الواقع الملتبس والغامض.
فأحداث البداية تجري في الحاضر باعتماد المضارع مع بعض الاسترجاعات القريبة منه. ثم ننتقل إلي الماضي القريب من خلال مذكرات رقية وإن كانت متخيلة. فما وجد في ذاكرة هاتفها يعود إلي ما قبل قدوم أنيسة إلي فرنسا. ثم في نهاية العمل نجد أنفسنا نعيش ماضي أنيسة البعيد؛ أي مرحلة طفولتها. علما أن بعض شذرات هذا الماضي موجودة في القسم الأول.
كما أن هناك تشظيا في الأزمنة و كذا في الأمكنة و الواقع و التخييل؛ حيث تنداخل عدة أجناس في العمل من قبيل اليوميات، والسيرة الذاتية، والمذكرات، فضلا عن المحكيات الصغرى، من مثل قصة لورانس التي تزور الكاتبة في شقتها ويتجاذبان أطراف الحديث ؛ تتعرف أنيسة من خلاله أن زائرتها أحبت سجينا حينما كانت تتابع دراستها في الشأن الاجتماعي اسمه محمد الذي كان نشَّالا. تابعت لورانس حالته إلى أن وقعت في حبه. كما أن هذا الحوار سيمكن أنيسة من معرفة أن لورانس أيضا ولدتها أمها في السجن لجرم كبير اقترفته في حق أبيها.
فقد اعتمدت الرواية أسلوب اليوميات والمذكرات، بوضعها لتواريخ وأمكنة دقيقين في ثنايا ومطالع بعض الفصول، إلى جانب تقنية سرد الذاكرة، منوعة بذلك أجناس الرواية، ومحدثة نوعا من حوارية الخطاب الروائي. ولكن هذه الجمالية تذوب في عالم الرواية وأحداثها الذي يأخذنا إلى عوالم خفية، فالكاتبة تقتحم واقعا سوداويا متوحشا؛ هو عالم الإقصاء والتهميش والعنصرية.
إن وضع الأحداث على نحو سردي اتسم بالفوضى والتداخل ،وضع لم يكن خاضعا سوى للمنطق الداخلي للساردة ، تشكل وفق العالم النفسي لهذه الساردة وأستدعاءاتها الزمنية غير المرتبة أو المتتالية ، وانتقالاتها المكانية المباغتة وتحليلاتها الخاصة للمواقف وللأشخاص من حولها ، كما تشكل وفق تعبيرها عن هذه الحياة التي باتت معقدة غير واضحة المعالم ، متداخلة المفردات والقضايا تجسيداً للانفصال بين العوالم الفردية والمجتمع من حولها.
أماني فؤاد - جماليات الفوضي في الرواية المعاصرة..-نبيذ أحمر- نموذجا
الملاحظ أن الثيمة الروائية تتشظّى لتناقش موضوعات كثيرة من بينها الحياة في الغربة والوطن، في المدينة والبادية، والدراسة في الخارج وما يتبعها من أحداث تغري بالسرد، والحُب بين الغربي والعربي، والزواج وكيفية تدبيره من طرف الأجنبي والعربي، وخيانة الوطن، والفروقات الطبقية، وعودة الوعي المُستلَب، والتشبّث بالأرض، والبحث عن الهوية والخوف عليها من الضياع والاستلاب، وتهديد القيم التي تربّى عليها المواطن العربي، مع نقدها...
ففي ظل صعود اليمين المتطرف وعودة القوميات بفعل الهجرة المكثفة من الجنوب إلى الشمال، ظهرت أسئلة كثيرة ومقلقة من قبيل الصفاء العرقي، والإدماج، وغيرهما. لكن ضوءا خفيا تظهر ملامحه في الصفحات الأخيرة من الرواية، ضوءا يمكن اعتباره علاجا لكل هذه الأدواء؛ إنه الحب الذي يمكن من صهر الإثنيات والأعراق، ويتجاوز ضيقها وما يشكله هذا الضيق من مخاطر.
الإيهام بالواقعية:
إن بنيت الرواية المعمارية تقوم على السيرة الذاتية بشكل كبير، مما يوحي بواقعيتها؛ والإيهام بالواقع هو أحد علامات التلاعب بأفق المتلقي الذي يجد نفسه مقذوفا في معمعان المتخيل لحظة انتقاله من سرد أنيسة الواقعي في يومياته الخمسة إلى سرد رقية الشخصية المتخيلة التي تتمرد على سطوة الساردة بتوليها دفة الحكي بنفسها.
شعرية اللغة:
"تتميز الرواية بمرونتها في التعامل مع اللغة بمختلف مستوياتها المعجمية والتركيبية والدلالية. لذلك لا غرابة أن تراهن الرواية العربية لخوض غمار التجريب على الإبداع والخروج عن السائد والمألوف شكلا ومضمونا بشكل فني تتقاطع فيه الرواية مع الشعر وغيره من الآداب والفنون، وتوظف إمكانات اللغة وأسرارها لبناء قوالب فنية قادرة على استيعاب العالم واختصاره. ومن ثمة لم تعد خاصية "الشعرية" تنحصر في النصوص الشعرية فحسب، لكنها طالت نصوصا أخرى كالرواية التي استفادت بشكل كبير من الانزياحات الدلالية التي تولدها التراكيب الشعرية وما تختزنه من تخييل وتوهيم يتمثل في انتقاء الكلمات الموحية والدلالات الغنية المنفتحة، والصور الفنية المجازية القائمة على التجسيد والتشخيص. وبذلك أصبحت الشعرية ملمحا من الملامح البارزة في الرواية العربية الحديثة، التي أصبحت لغتها تقترب من لغة الشعر وتستعير طرائقه وتقنياته وجمالياته الأسلوبية بهدف التأثير على القارئ المتلقي."1 اللغة الشعرية في رواية "الساحر والإكسير"، عبد الله قدوري، جريدة بيان اليوم يوم 03 - 12 – 2017
ويتبدى هذا الجانب من خلال توظيفها المجاز والاستعارة والانزياح التي تعتبر سمة من سمات الشعر الفنية، ولا غرابة في ذلك فالروائية شاعرة موهوبة.
لم تحاول الروائية هدم الرواية بقدر ما حاولت توظيف اللغة الشعرية بشكل يتناسب وطبيعة السرد الروائي، بمعنى أن الساردة في هذه الرواية تبحث في الآن ذاته عن شعرية الشعر وعن رواية الرواية، أي أن الروائية تعد من الروائيين العرب الذين جربوا نوعا من الكتابة التي تقدم في الآن ذاته متعة الشعر وجمالية السرد القائم على الحكي. ويفهم من هذا أنها تحاول تجاوز نمطية الرؤية الروائية السائدة والمألوفة إلى شعرية السرد والشخصية والزمان والمكان والأساليب اللغوية التي تسربت إليها جماليات الشعر.
إن القارئ لرواية "ميلانين" يجدها قد اعتمدت على اللغة الشعرية التي تتجلى في مجموعة من العناصر والمستويات التي تتوزع في بنيتها النسقية كالصور الفنية والصور البيانية التشبيهية والعبارات والتراكيب اللغوية، هذا فضلا عن اللغة ذات الحمولات الدلالية الرمزية. فمن أهم سمات اللغة الشعرية التي تجلت في السرد الروائي الصور الفنية المبنية على المجاز والاستعارات وعلى الدلالات الحسية، وقد برز ذلك من خلال مجموعة من الجمل والتراكيب التي نورد منها النماذج التالية:
منذ سرق من بيتنا زيت القنديل وضحكة أمي ولهو أطفال الجيران وأنا أشرع للريح قلبا غريبا لا يحتفل، أضاجع مرارات الخيبة في قفصي القيرواني الذي تعرفين، فننجب كل ليلة حلما جديدا، نسمه ثم تخنقه الخيبات والجيوب الفارغة والمقاهي المكتظة في الصباح وحتى الهزيع الأخير من الليل...ص 105.
ويقول سهيل بلغته الشاعرية:
وحين تلامس الكلمات فؤادي الذي هرم قبل الأوان، تسود ثانية شعيرات رأسي الذي بيضها الذل والتهميش.. ص102.
لغة الشعر في الرواية تستهدف التعبير عن حقيقة الذات، وحقيقة الوجود والعلاقة بينهما.
لقد توسلت الرواية باللغة الشعرية وآلياتها، للتعبير عن رؤى الكاتبة من جهة، ولتوليد العديد من الدلالات والإيحاءات التي تحيل على معاني وحالات نفسية محددة من جهة أخرى، لذلك يمكن القول إن اللغة الشعرية في هذه الرواية لا تعتبر لغة شعرية نمطية تضفي عليها طابعا رومانسيا، ولكنها تعد لغة متوازنة ووظيفية، لأنها وظفت بهدف تحقيق التكثيف السردي وبهدف خدمة الحبكة الروائية.2 المرجع نفسه.
تعدد الأصوات:
تتميز الرواية بطريقة بنائها، فنحن أمام قصتين تتخلقان في الوقت نفسه، واحدة للساردة في مهمة صحافية، والثانية لشخصية أخرى ستتمرد على الساردة الأصل، وتأخذ زمام المبادرة لتصير هي الساردة الأصل، وتفتح المجال لسارد ثالث هو زوجها. ويبدو أن القصتين عملة ذات وجهين، وقد تمكنت الكاتبة من الانتقال من سرد أنيسة إلى سرد رقية التي فقدت حياتها في حادثة سير مدبرة بحيلة فنية تتمثل في الاستيلاء على حقيبتها التي تحتوي على هاتف يحمل مذكراتها، رغم أن هذا الفعل مجرم لكونه يضلل البحث بإخفاء دليل مساعد في إضاءة ملابسات الحادثة.
رواية تتعدد أصواتها، وتتداخل، بتداخل الواقعي والخيالي، فلا تمسك بطرف واحد حتى ينفلت منك الخيط بفعل قوة حضور الثاني؛ فأنت تتابع توالي الأحداث لتجد نفسك أمام ساردة تريد صنع رواية ببناء شخصية نسائية تعيش ظروفا صعبة بفعل الثقافة الذكورية، فتصير هي نفسها شخصية تخييلية في مذكرات رقية الشخصية الرئيسة، والدليل هو إدراج اسم الساردة الأولى ضمن حديث سهيل زوج رقية ضحية المجتمع العربي والغربي في آن. هذا التداخل بين الواقعي وبين الخيالي يجد مبرره في التداخل بين الضفتين، ويعبر في الوقت نفسه عن انفلات الهوية من المهاجرين؛ فهم يحملون هويتين متعارضتين هنا وهناك. إنهم في المابين، أي من دون هوية ثابتة، لذلك يعيشون في أماكن محروسة بثقافة ذكورية حماية لهم من أي ذوبان.
لقد منحت فتحية دبش أبطالها مساحة كافية ليكتبوا قصصهم بأنفسهم، فنقرأ ما سجّلته "رقية" في هاتفها من مذكرات، وما كتبه "سهيل" من قصاصات. نجد خليطا من المذكرات الشخصية والملاحظات تنتظم بشكل فلسفي ولغة أدبية غاية في الشاعرية والجمال.
بقيت فتحية دبش حاضرة في كل مراحل السرد، بقي أسلوبها هو الأسلوب الرابط لكل مستويات الرواية، لم تتنازل عن أرستقراطيتها الأدبية لصالح أي من الشخصيات، رغم إعطائهم مساحة كافية للتعبير عن أنفسهم بأنفسهم. كل الشخصيات تنطلق منطلقاً فلسفياً وأدبياً راقيا، لا يرقى إلى مستوياتهم الافتراضية كما هم في الواقع. أي إن الراوية، وإن تخلّت عن دورها في السرد، فإنها ظلّت محتفظة بالأسلوب. فلا نلحظ أي فرق يذكر بين لغة الراوية ولغة رقية أو لغة سهيل، الأسلوب واحد واللغة واحدة، وذلك حافظ على المستوى الراقي للغة الرواية، لكنه يتعارض مع مبدأ الحوارية كما طرحه "ميخائيل باختين" الذي يشترط منح الشخصيات الحرية الكافية للتعبير عن أنفسهم بلغتهم الخاصة وأسلوبهم الخاص. 3 قراءة نقدية في رواية "ميلانين" للكاتبة "فتحية دبش
د. قائد غيلان | اليمن
الميتاسرد:
من بين التقنيات الأخرى الموظفة بذكاء، نجد الميتاسرد؛ أي حين تفكر الرواية في نفسها وهي تتخلق، حيث يطرح سؤال الكتابة في علاقته بالشخصيات والأحداث، وغيرهما، هذه الأحداث التي لم تبن بشكل خطي تصاعدي، بل تمت خلخلتها، فالساردة التي انتقلت إلى فرسنا في مهمة صحافية، لا نعرف عن ماضيها سوى النز اليسير، سنتعرف عليها في الفصل الأخير من الرواية، وبين نقطة الانطلاق، ونقطة النهاية الواقعيتين، تحضر رقية الشخصية المتخيلة والساردة في الوقت نفسه...
تتحول البطلة ساردة وتتحول الساردة قارئة ضمنية أو فعلية لما تكتبه البطلة، فتجد نفسك أمام " ميتاسرد" دون أن تفرط الرواية في التحليق عبر الميتاسرد بشكل كامل، ومن دون أن تصيره الخيار الأوحد، والتقنية الغالبة، لقد كان الميتاسرد مجرد تنويع على مستوى الأسلوب، إذ تم توظيّف تقنيات متعددة كالمذكرات والرسائل واليوميات والملاحظات.
فالرواية تعد من الخطابات الإبداعية الأكثر قدرة على الرصد والمتابعة بموجب إمكاناتها المتعددة في استيعاب المكونات السردية والتصورات الفكرية.
محاورة القارئ:
تدعو الرواية قارئها إلى تمزيق سجف الغياب وتكسير سلالسل “المقدس” فالكتَابَة التي أحيطت بهالة من الرّهبة والسريّة شأنها في ذلك شأن المكابدات الصوفية لم تعد مع ” ميلانين” تستحق/ تحتاج مثل هذا الطقس الصوفي المصطنع. فالقارئ شريك وخصم يحضر/ تستحضره الكاتبة /في الروية ليشاركها الكتابة بوصفه اسما للجنس ولا دلالة له على الأعيان.هذا القارئ الذي هو نسغ النصّ وبذرة فنائه في الوقت نفسه وهو بهجة الكتابة وقاتلها في الآن ذاته. لذلك توترت العلاقة بينه وبين السّاردة لتبلغ حد التخطيط لقتله. تقول:” لا أنكر أنّ متعة فريدة تجتاحني حين لقائي بالنصّ وقارئي” …”وقررت أخيرا قتل قارئي…” ص 24.
ويستدعي هذا التفاعل بين مستويات الكتابة والقراءة خروجا عن القصّ بمفهومه الفني إلى تعريف أكاديميّ للرواية. تقول:” الرواية جنس لم يكتمل بعد” ص 48
تحمل الساردة الريسة مشاعر متناقضة تجاه شخصياتنها، ففي الوقت الذي تقسو عليهم بقتلهم، وهو قتل رمزي حيث ينبعثون من حبر المبدعة إلى حبر ذواتهم، يعلنون عن حضورهم المباشر، وتفاعلهم الحي مع القارئ من دون وساطة، نجدها تحن عليهم وتخاف على حيواتهم: سرت في طمأنينة وقليل من اليقين، قلقي عليها هو قلق الكاتب، فهو كائن عصابي يسكنه الخوف على شخوصه وهو خالقها من وجود ومن عدم، يتعجن في القلق بالخوف الذي تمارسه وسائل الإعلام حين تعرض وقائع الأحياء المهمشة في كل دول العالم. صص 46 و47.
الميتاقصّ في رواية ميلانين لفتحية دبش بقلم توفيق بن حنيش من تونس.
الكتابة كالوضع:
تعبر الساردة أنيسة في غير مقطع أن الكتابة تشبه الوضع، وأن شخصياتها مثل أبنائها تماما تخاف عليهم من كل سوء، تحضنهم وتحميهم، وتشعر بهمومهم ومعاناتهم، تقول:
لم أنم جيدا لأكثر من ليلتين، بقي شبح رقية يطاردني حتى بعد أن وضعت مسودات الرواية القليلة في ملف أغلقته عنوة، يخيم علي شعور مربك، كما لو كنت أدور حول نفسي، يلفني الفراغ كالواضعة للتو طفلها بعد حمل مرهق وولادة عسيرة، تملكتني رغبة بالبكاء، اغرورقت عيناي بالدموع لرحيل رقية وصعود سهيل إلى الغيمة الخرافية... ص145.
جلي أن الكتابة كالوضع هما معا مرهقان ومتعبان، كما يشعر الوضع الحامل بالفراغ.
الوصف:
تتميز الرواية ببراعتها المدهشة في فن التصوير الملهم والخلاب. كأن الروائية تحمل كاميرا التصوير؛ تصف الأشياء والأشخاص والأمكنة بدقة مبهرة دون استنساخ. هذه القدرة الكبيرة في الوصف تجعل القارئ وكأنه وسط الأماكن الموصوفة، يتلمسها تلمس اليد، وتجعل ينشد إليها بتشوق مرهف وجذاب. فالوصف هنا تقنية متطور في أسلوب السرد وحيثياته. ومن الأمثلة الدالة على دقة الوصف قول الساردة في الصفحة 15 في وصف الرجل والغرفة:
كان بانتظاري رجل طويل، حنطي البشرة، كث الشعر، تشي قسماته بجذوره العربية. كان هو الآخر عجولا مثلي، طاف بي الشقة المكونة من قاعة متوسطة الحجم، عند مدخلها مرآة معلقة على باب بيت الاستحمام، وحاملة معاطف من اللوح الأبنوسي، يذهب البصر مباشرة إلى الشرفة العريضة المقابلة للمدخل، على اليمين أريكة تتحول إلى سرير، وأخرى صغيرة لفرد واحد، وعلى اليسار ركن للطبخ يسميه الرجل كيتشينات على الطريقة الأمريكية، بينما تنتصف المسافة بطاولة صغيرة وكرسيين اثنين، تطل الشرفة على شارع واسع، وساحة حمراء الأرضية، تصطف عمرات تجارية وإدارية شاهقة ذات واجهات زجاجية تراوح ألوانها بين بياض وزرقة رمادية. شقة صغيرة، حسنة الموقع والنظافة، على بعد دقائق من الشانزيليزيه وقلب العاصمة.
أما حين تنتقل إلة منطقة "بوبيني" واصفة، فيتأكد لنا أن هذا الوصف والتصوير لا يمكن أن يأتي بهذا الشكل الباهر، إلا ممن عايش وشاهد هذه الأماكن. ولا يمكن من كشف حالة الغربة واللجوء، وشحتهما القاسية، إلا من عايش معاناة الغربة واللجوء، لذلك جاء المتن الروائي بهذه الدقة في تسليط الضوء على قسوة معاناة الغربة، والصعوبة الشاقة والمرهقة في العيش ببلاد الغربة.
القضايا المعاالجة:
تعالج الرواية قضايا عدة؛ منها الهجرة الشرعية وغير الشرعية، ومنها قضية المرأة والثقافة الذكورية ومسألة الحب، وقضية العنصرية في تعامل الشرطة والقوميين مع الجالية العربية والمسلمة بالخصوص، وقضية الملونين، وغيرها من القضايا التي تؤرق الكاتبة وتعبر عنها في مجمل أعمالها القصيرة جدا والطويلة، وفي كتاباتها الصحافية...
الهامش والتهميش في الغرب والشرق معا:
يظل الهامش بوصفه لامفكرا فيه، أو مسكوتا عنه، أو محظورا التعبير عنه، و قد يكون اجتماعيا، يهم فئة اجتماعية ذات خصوصية ثقافية محرومة ومعوزة، تعاني التهميش والإقصاء المتعمدين، والمقصود هنا، كل ما يشكل امتدادا رمزيا لهاته الفئة سواء كان لغة أو نمط حياة أو طقوس معيشية، وقد يكون معرفيا، يخص أفكارا مرفوضة وممنوعة من التداول…
نَسجت الروائية نصا إبداعيا أدبيا يهتم بالهامش في الشرق والغرب معا، مع تركيز على الهامش في فرنسا بالتحديد ، لأنه لب المشاكل، إذ يتجلى فيه التهميش والإقصاء والعزلة وغيرها من الأمراض الوجودية الذاتية والموضوعية، وتكمن القيمة الأدبية للرواية في قدرة الروائية على أن تكتب بجمالية واضحة وبينة عن القبح والمسخ، عن الآفات الإجتماعية وعن الأمراض الأنطولوجية المتفشية في الهامش، لقد كتبت عن الهامش دون أن تسقط كتابتها في أسر الهامشية.
والهامش المركز عليه هنا، هو بوبيني هذا المكان الذي اقترن بالجريمة والعصيان والفقر . إنه فسيفساء بشرية يقل فيها العنصر الأبيض بسفور وإن وجد ففي أحياء مغلقة، يكثر العنصر الإفريقي والأسيوي والعربي، لكل نصيبه من البازل، لكل دكاكينه ومغازاته وحياته الاقتصادية والاجتماعية في تجاوز صامت مندس مريب... ص44.
بوبيني مركز المخدرات والجريمة، يعيش فيه شباب في مقتبل العمر يسامرون الليل ويشاكسون النهار. ينقطع الكثيرون منهم عن الدراسة مبكرا، تتلقفهم البطالة والعوز وعصابات الحشيش.
لدرجة صار به لكل حي من أحيائه مروج للمخدرات وعسس؛ ومستهلك. وفرنسا النور والحرية والحب أصبحت غولا كبيرا يبتلع أطفاله الذين يحملون ملامحه ولا يحملونها في آن. نسل غير مرغوب فيه... حمل ناتج عن علاقات فرنسا المشبوهة بالأوطان الأصل. ص 45 و46.
صارت الهوية نتيجة الإقصاء والتهميش فعل مقاومة ازداد حدة بعد الثورات العربية.
تتوغل أنيسة عزوز في عمق مدن فرنسا لتبين المعاناة التي يعيشها العرب المسلمون والأفارقة السود الذين يُطحنون يوميا من فرط الاستغلال الفاحش وسوء المعاملة، وهو ما عبرت عنه الكاتبة ب”الرقّ الجديد “.
ولاتكتفي الكاتبة بهذه النظرة النقدية الأحادية، مكتفية بالغرب كمسؤول وحيد عن المعاناة؛ وإنما تحمل السمؤولية لتونس أيضا، في إطار نقدها المزدوج، حيث تتطرق إلى ماهو مسكوت عنه، فتفتح ملف الاغتراب الذي يعيشه السود في وطنهم الأصلي فإن كانوا في فرنسا يعتبرون أقلية فإنهم في تونس “مجرد ظلال”. بهذه الأضواء الكاشفة تظهر المبدعة العزلة التي يعيشوها الملونون، رغم كونهم تونسيين أصلاء، مثل البدون في دول الخليج، ولكن المجتمع وسلة العادات والقوانين تراهم غرباء نتيجة هذا الاختلاف اللوني فيعيش التونسي الأسود شتى أنواع العنصرية في الدراسة، وفي العمل، والشارع أيضا.
تشير الرواية فيما تشير إليه إلى أن الغرب بعامة، وفرنسا بخاصة، هي المسؤولة عن مآسي المهاجرين، وبخاصة القادمين من المغرب العربي؛ فهي التي حملتهم في البداية إلى ديارها من أجل إعمارها بعد أن خربتها الحرب، وهي المسؤولة عن مآسي الكثير من الأسر لكونها جندت قسرا الكثير منهم ليحاربوا إلى جانبها في حرب لا علاقة لها بهم.
أزمة الهوية:
الهوية مجموعة من السمات و الخصائص التي توحد بين أفراد مجموعة معينة، فتغلب مؤشرات التماهي على مؤشرات الاختلاف و بذلك يتولد الشعور بالانتماء متعدد الأبعاد. وتطرح الجالية العربية في فرنسا بخاصة مشكلة الهوية بين الانتماء و الانبتات في علاقة اتصال و انفصال بين البلد الأصل و البلد البديل...
ويحمل الجيل الجديد انتماء والديه، يتكلم العربية؛ وهو واع بوضعه كمهاجر تابع للأبوين المهاجرين.
هذا الجيل الجديد سيكون بمثابة المحرك لمسألة الهوية اتصالا و انفصالا. و يُطلق عليه في البلدان الأصلية تعريف(الزميقري، عرب فرنسا، جماعة سافيريان ça fait rien)و لم يكتسب بعد كل مقومات الانتماء إلى الوطن البديل بخلاف اللغة و الإنتماء للجغرافيا و يطلقون عليه من العبارات العنصرية : البونيول، لاراكاي...
هذا الجيل أفرز وعيا جديدا و سمات جديدة و خلق هوية ثالثة بين الأصلي و المكتسب.
فهو يتكلم لغة هجينة بين العربية و الفرنسية و يعيش ازدواجية لافتة.
عوامل شتى فصلته عن الوطنين معا ، مما يشعره بالغربة فيهما و لا يحقق انتماءه إلا في أحيائه الشعبية حيث التشابه تاريخيا و جغرافيا و عرقيا.
بدأت بوادر الأزمة الهوياتية تتعمق وخاصة بعد أحداث شتنبر . فهذا الجيل لا ينتمي إلى بلد الآباء و الأجداد لغة و تاريخا و هو في نفس الوقت لا يشعر بالقبول و الانتماء إلى الوطن البديل.
هذا الجيل طرح قضية التحولات الجذرية على مستوى الهوية. فانقسم شقين : شق انطوى على نفسه و استبدل الهوية بهوية دينية يعبرعنها بلباس معين و سلوك معين، و شق آخر لا يواري تحيزه لانتمائه للبلد البديل..
وقد تم التعبير عن التمزق في الرواية بازدواج اللغة ويتجلى هذا الازدواج كمثال في الحوار الذي داربين رقية و شيماء، و كذلك في الحوار بين أنيسة عزوز و الشاب. وقد تم استخدام اللغة للدلالة على الهوية الثالثة و اللغة الثالثة لأبناء المهجر.
لنركز على اللغة في ص 116 :" Hamdella ma chérie w enti" هنا العبارات عربية و لكن النبرة فرنسية و كأنهم يتكلمون العربية بالفرنسية.
في ص 126: " ana nqollik lache tout"
و كذلك في صفحة 150: " ils sont là pour casser du renoi et arabe ici" هذه اللغة تسمى l'argot و تقوم على قلب اللفظة هنا: noir ينطقونها renoi و كذلك التعبير (كسر)هو تعبير غريب على الفرنسية و حرفي عن العربية ...
هذا التشظي هو سمة عدد كبير منهم و قد عبر عنه الشاب في ص 152 ب " immigrés là-bas racailles ici"
إنهم، بذلك، يخلقون هوية ثالثة ليست فرنسية إلا في نطاق الحي السكني و ليست عربية إلا في نطاق الجذور...
أظهرت الكاتبة من خلال متنها الروائي أنها متمكنة من آليات الكتابة الروائية، وبلاغتها، الأمر الذي أثمر هذه الرواية ذات القيمة الفنية والجمالية. عالجت فيها قضية الهجرة والإقصاء والتهميش والعنصرية بلغة سلسة ومتينة، انتقت مفرداتها بعناية ودقة بما يخدم بناء روايتها بشكل كبير، لغة تميزت بشاعريتها وبأسلوبها الأدبي الرفيع، وبسردها المتنوع والمشوق.

عبد الرحيم التدلاوي

** رواية “ميلانين” لفتحية دبش : “الهوية كفعل مقاومة” بقلم الكاتبة ابتسام القشّوري من تونس.
*** لا أتذكر المرجع.

ميلانين.jpg

https://www.facebook.com/photo.php?...PWzLvbVMuyaZFUIrL30sJoxpXc_sP2SzvRtaoMjSmZ7a9

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى