فاضل عبود التميمي - التونسية بسمة الشوّالي في «ترنيمة وجع»… شعريّة متعدّدة الوجوه

تريد هذه المقالة أن تقف عند قصّة: «ترنيمة وجع» التي ضمّتها المجموعة القصصيّة: «قناديل المطر» التي أصدرتها الكاتبة التونسيّة بسمة الشوّالي عن الدار التونسيّة للكتاب 2013 ، والتي يشي عنوان قصّتها بدلالة تحيل إلى وجع ظاهر، فالترنيمة في اللغة: من الرَّنيم والترنيم: تطريب الصوت، والترنّم التطريب، والتغني وتحسين الصوت، والحمامة تترنّم… ويبدو أنّ القاصّة أفردت اللفظة وأنّثتها وأضافتها إلى «الوجع» وأرادت بها: «أغنية الوجع» على سبيل الاستعارة المكنيّة التي جعلت للوجع ترنيمة، وهي من أخصب الاستعارات تخيّلا وتخييلا.
والسؤال الذي تريد «القراءة» إعلانه: كيف استطاعت القاصّة بسمة أن تدخل إلى جوهر الحكاية: حكاية «قاسم»، و»نهاية» لتشكّل منها قصّة ناجحة عنوانها: «ترنيمة وجع»؟… لا شكّ أنّ كتابة القصّة أي قصّة تقتضي من كاتبها أن يبدع سردا يقترب من الواقع الماثل أمام عينيه، أو يبتعد، وليس القاصّ معنيّا بدرجة القرب، أو البعد؛ لأنّ السرد في نهاية الأمر موقفٌ إبداعيٌّ يُعالجُ بمزيد من التخيّل، الذي يضفي على التشكيل اللغوي جمالا تقتضيه طبيعة اللعبة القصصيّة التي تميل عند كتّاب القصّة اليوم إلى شعريّة متعدّدة الوجوه، بعد أن صارت الشعريّة نفسها سمة تغلّفُ أغلب الخطابات الأدبيّة والفنيّة، وهذا ما مارسته القاصّة بسمة وهي تكتب قصّتها بثلاثة مستويات لغويّة يمكن الاستدلال عليها من التدقيق في نسيج القصّة ورؤاها:
الأول: إبلاغي يرى كلّ نصّ أدبيّ يؤدّي وظيفة إخباريّة تنطوي على قدر واضح من الدلالة الحجاجيّة التي تتضمّن محمولا ايديولوجيّا يتّسع، ويضيق تبعا لشكل النصّ، وطريقة إنتاجه، وإبلاغيّة الدلالة في القصّة أسهمت في الاعلان عن معنى سرديّ اتّصاليّ يتعلّق بأحداث دارت حول شخصيّتي «نهاية» و»قاسم» وقد رغبا في الهجرة غير الشرعيّة من تونس عبر البحر بحثا عن حياة أفضل في أوروبا، وصلا المكان المتّفق عليه، وجدا باخرة صعدا إليها ظنّا منهما أنّها التي ستتولى نقلهما، كانت باخرة تحترف استثمار الأعضاء البشريّة لتعيد تصديرها إلى دول بعينها، أُخذ «قاسم» من حيث لا يدري، أمّا نهاية فقد هربت بمساعدة أحدهم لتكتمل القصة برجوعها من حيث أتت.
وفي القصّة تحوّل الإبلاغي المحض إلى تحريضي اجتماعي مارسته القاصّة وهي تقدّم للمتلقي الحكاية التي تلوّنت بألوان الظلم والبؤس والحرمان وفساد الأنظمة، من خلال اختيارها الاسم الذي عُرفت به شخصيّة القصّة «نهاية» الذي يحيل إلى الانتهاء، ومن خلال تفوّهات الآخرين في النصّ، فنهاية في رأيهم: امرأة سوء ركبت البحر مع السوقة لتهاجر خلسة ص15، ثمّ من خلال تفوّهات «نهاية» نفسها التي يمكن الاحتكام اليها في القصّة: «لا كفاءة لي في وطني ما لم أمتلك المهارات العصريّة للتوظيف…» ص21، فضلا عن تفوهات «قاسم» التي تحيل إلى النقد والتحريض: «اُنظري حولك، كلّ الجيّد الوطنيّ صُدّر خارجا فلنلحق به، ونغنمه هناك يسيرا…» ص19، وتفوّهات الساردة التي لم تترك «نهاية» بلا توصيف فقد صارت نهاية بعد موت قاسم «ثكلى ولم تنجب من قبل، أرملة ولم تتزوج قط، تجلس عند قدم البحر وتغني كسنونوة انكسر بها قالب الريح» ص29.
الثاني: شعريّ يتشكّل نتيجة تضافر أسلوبيّ يحوّل لغة القصّة إلى نصّ موّار بجمال التعبير الذي مصدره قدرة المظاهر البلاغيّة على الانزياح بالدلالة نحو مفارقة أسلوبيّة واضحة، ففي نصّ القصّة تنهض سياقات تأخذ من لغة الشعر وأنساقه جلّ أبنيتها لتعطي للقصّة وجها آخر من وجوه السرد الحديث القائم على لغة التعبير المجازي ذي النبرة الجماليّة التي لا تتواءم وأجواء السرد الذي يقترب من حافات الواقع الاجتماعي، كما يُظَنُّ أوّل وهلة، إلا أنّها في حقيقة الأمر تتواءم كليّا ونزوع الإبداع الأدبي الجديد الذي يلجأ دائما إلى التعبير الجميل.
تستهل القاصّة نصّها القصصي بالقول: «تآكل حبل الهواء على حرف الاختناق، وآل نسيجه إلى تمزّق فتداركت نفْسَها من سوْرة الجري إلى الوقوف قسرًا. بيد أنّ الرّوح الفارّة من روحها لم تستكن. حرنت كفرس، وظلّت في معتقل الصّدر تحمحم وتضرب حوافرُها على طبلة الحجاب الحاجز فتُرَجّع القضبان صهيل النّبض، ويصدى البطن بخُوار النَّفس.»ص7.
لا يشكّ متلقي القصّة من شعريّة هذا النصّ الذي انفتح على نمط من المجاز عالي الطبقة أعني: الاستعارة التي تشكّل لوحدها نسجا شعريّا قائما على مجازيّة الإدعاء، وهذا ما يبدو واضحا في سلسلة التوصيفات التي جعلت للهواء حبلا يتآكل، وللاختناقات حرفا له نسيج يتمزّق، وللجري سورة، والروح مذعورة تحرن مثل الفرس الحرون: تحمحم ثمّ تضرب حوافرها الأرض …
فاللغة السرديّة في النصّ السابق ونصوص أخرى أخذت نصيبها من التنوع الجمالي الذي تقافزت منه: الاستعارات والتشبيهات التي تحيل إلى انفتاح أسلوبي منح القصّة حيّزا أرحب مرّرت الكاتبة من خلاله أفكارها ورؤاها التي كانت حريصة على أن تعرضها بأسلوب أخّاذ له ما يسوّغ وجوده في القصّة.
الثالث: تناصّي يغرف من لغة القرآن الكريم ما شاء له من عبارات تدخل سياق القصّة لتشكّل تناصّاً مستترا تعمدت فيه القاصّة إذابة اللغة القرآنيّة الكريمة في سياقات القصّة بعد أن أضافت إليها شيئاً من لغتها لتبدو الصورة السرديّة مزيجاً من لغتين مختلفتين اشتركتا في إقامة نمط من التشكيل النثري نحو: «وجنحت للسلم، كلّ شيء يجري إلى مستقر له» ص9 الذي يتناص مع قوله تعإلى في سورة «الأنفال»، الآية «8»، وسورة «يس» الآية «36»، وقولها: «صارت قاب حضن منه وأقرب» ص 11 الذي يقترب ممّا هو كائن في سورة «النجم»، الآية «53»، ونصّها: «يحط على الرؤوس الخواشع ،وتأكل منه الطير» ص13 الذي يأخذ من اللغة القرآنيّة في سورة «يوسف»، الآية «12»، وكذلك في قولها: «في قوارير من زجاج ترصفت ترصيفا» ص17 الذي يأخذ من اللغة القرآنيّة في سورة «الإنسان»، الآية «76».
التناصات السابقة، وغيرها ممّا لم يسمح المقام بالإتيان بها جميعا تشير بوضوح إلى سلطة «التناص» الذي همّه الارتقاء بالأسلوب السردي، والإحالة إلى مرجعيّة النصّ الخارجيّة التي تتعلق بلغة القرآن الكريم التي مارست تأثيراً في مساحة الشكل التعبيري للقصّة.
وهكذا تمضي القصّة في تنوّع شكليّ يحيل إلى لغة «القاصّة» نفسها، وهي تُظهر السرد متناوبا من خلال ضميرين: الغائب والمتكلم، فضلا عن لغة «القصّة» التي استجابت لأساليب ما بعد الحداثة حين سمحت باستدارة الحكاية على خاتم الحقيقة المرّة التي بانت للقارئ، تلك التي تتطاحن فيها الأفعال والأسماء، وتتراكب فيها الجمل والنصوص في حين تهيم «نهاية» خارج النص على عوج المعاني، وقد أُسند موت «قاسم» إلى فعل مبني للمجهول.



فاضل عبود التميمي
ناقد وأكاديمي من العراق


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى