عبد الغفار مكاوي - السؤال عن الوجود في أفق الزمان

من الصعب أن نتناول كتاب هيدجر المعروف «الوجود والزمان» (١٩٢٧م) من كل جوانبه أو نحلِّل موضوعَه وأقسامه بالتفصيل، فهذا الكتاب الذي بدأ عصرًا جديدًا في التفلسف وكان له أكبر الأثر على معظم التيارات الفلسفية في هذا القرن يحتاج بغير شك إلى دراسة منفردة، ولهذا فسوف نكتفي بمقدمة قصيرة عنه، نتطرق منها للحديث عن الموجود الإنساني (وهو الذي آثرنا أن نترجم به كلمة هيدجر «الدازاين»٢ أو الموجود الإنساني الذي يكون دائمًا على علاقة بالوجود العام ويتميز دون سائر المخلوقات بفهم هذا الوجود والسؤال عنه) باعتباره وجودًا في العالم، ثم نتناول الوجودات٣ (أو المقومات الأساسية للموجود الإنساني) والزمانية، لكي نختم حديثنا بالسؤال عن الحقيقة كما عبَّر عنها هيدجر في هذا الكتاب.

ربما كان من قبيل الكلام المكرر أن نتحدث عن الأثر الضخم الذي أحدثه ظهور هذا الكتاب أو عن صعوبته وتعقيد لغته وغرابة مصطلحاته التي أذهلت قراء هذا الجيل (وما زالت تزعج الكثيرين منهم وتتخذ من بعضهم مناسبةً للتندُّر والدعاية والتشهير!)٤ فتح الناس عيونهم فوجدوا أن عددًا لا يُستهان به من المشكلات «الكلاسيكية» في نظرية المعرفة قد قُضيَ عليها بضربة واحدة، وأن القضايا التي كانت تتناولها الكانطية الجديدة قد أصبحت ضحلة، وأن تاريخ الميتافيزيقا من أفلاطون إلى نيتشه قد سلط عليه ضوء جديد، وأن فلسفة الظاهريات التي احتلت ميدان السباق وشغلت الأذهان منذ ربع قرن اكتست ثوبًا جديدًا وتجلت في صورة أخرى، بحيث تعذَّر على رائدها هسرل أن يتعرف عليها وأعلن رفضه الصريح لها وخيبة أمله في هذا الزي «الأنثروبولوجي» الذي خلعه عليها أخلص تلاميذه وألمعهم موهبة! ولعل «المعلم» لم يكن قد تعلم بعدُ أن التلميذ ليس بالضرورة نسخة من الأستاذ، ولا هو تابع يمتثل لتعاليم السيد، وأن الوفاء الحقيقي من المريد يقتضي منه التفرد والاختلاف فيما يتصل بأمور الفكر (لا بأمور الأخلاق بطبيعة الحال كما يتصور بعض الناس في بلادنا!) ولهذا كان الوجود والزمان بداية انقلاب جديد في التفكير الفلسفي، ومفرق طريق سرعان ما تشعبت عنه مسالك ودروب جديدة، صحيح أنه وُوجه بسوء الفهم المنتظر من كل عمل جاد، ولكن لم يلبث أن ظهر تأثيره على ذلك الجيل، وتجاوز دائرةَ المشتغلين بالفلسفة في قاعات الدرس إلى دوائر العلماء الطبيعيين والأطباء والأدباء والشعراء حتى بلغ صداه أو كاد إلى آذان رجل الشارع!

والواقع أن تهمة التعقيد والصعوبة التي لحقَت بالكتاب من قبيل السمعة السيئة التي تُلصق بإنسان لم نعرفه حق المعرفة! صحيح أن مصطلحاته جديدةٌ لا يخفى عليها أثر النحت والصنعة والعناء، وأن أسلوبه مرهق، وبناءه لا يخلو من التصميم والمنهجية التي تقترب من المذهبية البعيدة عن الطلاقة والانطلاق، ولكن أين العمل الفلسفي الذي يخلو من التنسيق والبناء؟ وأين الفيلسوف الذي يسمح لنا بالدخول إلى حلبته قبل أن نتزود من مخزن أسلحته بالدرع القوي والحراب والسهام التي تجعلنا أكفاء لمنازلته؟ ليس الكتاب صعبًا إذا أخذناه من ناحية لغته؛ فهي لغة واضحة لكل من يملك الصبر والاستعداد لسماع صوتها، وليس الكتاب عسيرًا إذا فهمنا مقصده الأساسي وهو السؤال عن الوجود، ولكن الكتاب يصبح مُضنيًا شاقًّا إذا أغفلنا الارتباط الجوهري بين الوجود والزمان أو نسينا أن الزمان هو الأفق الذي نطل منه على مسألة الوجود، صحيح أن الفلسفة القديمة والحديثة لم تخلُ من البحث في مشكلة الزمان (ويكفي أن نُشيرَ إلى مفهوم الزمان منذ أرسطو٥ حتى «معطيات» برجسون و«الوعي الباطن بالزمان» لهسرل)، ولكن مشكلة الوجود نفسها لم تكن — على الرغم من كل الأنطولوجيات — قد وضعت في موضعها الصحيح الذي ذكرناه ولا تم فحصها بمثل هذه الرؤية التاريخية العميقة.

•••

أعلن هيدجر منذ بداية الكتاب أن تناول مسألة الوجود يقتضي مهمتين يقابلهما تقسيم الكتاب إلى قسمين؛ فأما القسم الأوَّل فيتناول تفسيرَ «الموجود الإنساني» (الدازاين) من جهة تفسير الزمانية بوصفها الأفق «الترنسندنتالي» الذي ينظر منه إلى السؤال عن الوجود، وأمَّا القسم الثاني فيشرح المعالم الرئيسية لما يسميه «التحطيم الفينومينولوجي» لتاريخ الأنطولوجيا على هدى من مشكلة الزمانية (والكلمة الأصلية للتحطيم توحي بالكلمة الحديثة عن التفكيك وتستبقها)، ثُمَّ أعلن بعد ذلك أن القسم الأوَّل سيتفرع إلى ثلاثة فصول: التحليل الأساسي للموجود الإنساني، الموجود الإنساني والزمانية، والزمان والوجود،٦ وجدير بالذكر أن هيدجر لم يكتب هذا الفصل الثالث والأخير، وبقي كتابه أشبه بتمثال ناقص أو شذرة لم تتم، ولعل هذا الجزء المفتقد كان سيكون من أهم أجزاء الكتاب، بل لعله أهمها جميعًا، مهما يكن من شيء، فإن الفيلسوف لم يتم كتابه واستعاض عن هذه المهمة بما قدمه بعد ذلك من بحوث ودراسات ومحاضرات، لعل من أبرزها كتابه عن كانط ومشكلة الميتافيزيقا (الذي يمثل الفصل الأوَّل من الجزء الثاني الذي لم يضعه حتى اليوم!) ومحاضرته المعروفة «ما الميتافيزيقا؟»٧ وكتابه «المدخل إلى الميتافيزيقا».

•••

يبدأ هيدجر أول صفحات كتابه بالسؤال عن معنى الوجود، وكان حتمًا أن يكون هذا السؤال مثار الدهشة، ففيمَ السؤال اليوم عن الوجود والفلاسفة منذ القدم لا يسألون إلا عنه؟! وعلامَ قامت الأنطولوجيا إلا على أساس فكرة الوجود، وعمَّ بحثت الميتافيزيقا في تاريخها الطويل إلا عن معنى الوجود؟

إن السؤال ليس جديدًا بالطبع، وهيدجر نفسه يعترف بهذا ويقدِّم لكتابه بنص من أفلاطون من محاورة السفسطائي، ولا بد أن نقرأ معًا هذا النص ونقف عند تعليقه عليه؛ لأنه سيكون نورًا يكشف لنا ظلمات الكتاب ويهدينا في متاهاته: «لأن من الواضح أنكم تعرفون منذ عهد طويل المعنى الذي تقصدونه عندما تستخدمون تعبير «الموجود»، أمَّا نحن فقد اعتقدنا حقًّا فيما مضى أننا نفهمه، ولكننا الآن حائرون في شأنه».٨
ويريد هيدجر بهذا النص أن يُذكِّرَنا بأن السؤال القديم قدم الميتافيزيقا نفسها، وهو لا يبغي منه أن يصلنا بالتراث، بل يريد أن يتحدى هذا التراث ويحملنا على التفكير فيه أو بالأحرى على «تحطيمه» وخلخلته وتصفيته مما تراكم عليه من رواسبَ شوَّهَت مقصده الأصلي أو حجبته وألقت به في زوايا النسيان، وهو يعلِّق على النص فيسأل: أعندنا اليوم جوابٌ على السؤال عما نقصده حقًّا حين نستخدم كلمة «موجود»؟ كلا؛ ولهذا ينبغي أن نطرح السؤال عن معنى الوجود من جديد، أنحس اليوم الحيرةَ والارتباكَ لأننا لا نفهم تعبير «الوجود»؟ كلا؛ ولهذا يتعين علينا قبل كل شيء أن نوقظ الفهم لهذا السؤال. إن تناول السؤال عن معنى الوجود هو الغرض من هذا الكتاب، وتفسير الزمان، باعتباره الأفق الممكن لكل فهمٍ للوجود بوجهٍ عام، هو الهدف المؤقت منه.

ولكن هل يمكننا أن نسأل عن الوجود ومعناه إن لم نسال قبل ذلك عمن يطرح السؤال ونحلل مقومات وجوده؟ إن الفيلسوف يضعنا منذ البداية في الموقف الذي ينبغي أن نضع أنفسنا فيه، فإذا كان لنا أن نطرح السؤال بصورة واضحة ونحققه عن بصيرة، فإن هذا يقتضي مِنَّا أن نفسر طريقة النظر إلى الوجود، ونشرح أسلوب إدراكه وفهم معناه، ونمهد لاختيار الموجود النموذجي الذي يقوم بهذا ونبين المدخل الأصيل إليه، والنظر والفهم والتصور والاختيار كلها من أساليب السؤال؛ ومِنْ ثَمَّ فهي نفسها أحوال موجود محدد، هذا الموجود الذي هو نحن أنفسنا الذين نطرح السؤال، معنى هذا أن تناول السؤال عن الوجود ينصرف إلى الكشف عن الموجود الذي يسأل عنه من جهة معناه، هذا الموجود الذي هو نحن أنفسنا والذي يملك إمكانيةَ السؤالِ هو الذي سنصطلح على تسميته ﺑ «الموجود الإنساني»، وهكذا يتطلَّب السؤال الصريح الواضح عن معنى الوجود أن يسبقه تفسير مناسب لهذا الموجود الذي نصفه بالدازاين أو الموجود الإنساني من جهة وجوده.٩

لا سبيل إذن لشرح السؤال عن الوجود إن لم نبدأ بتحليل السائل، ولن نستطيع تناول السؤال كله تناوُلًا موضوعيًّا حتى نمهد له بالبحث عن نوع وجود هذا الذي يضعه، على أنه ينبغي علينا منذ البداية ألا ننسى لحظة واحدة أن الأصل هو السؤال عن معنى الوجود، وأن تحليل «الوجودات» أو مقومات الموجود الإنساني — وهو كما عرفنا الموجود البشري الذي ينفرد بطرح هذا السؤال — هو الطريق الأساسي والمعبر الوحيد إليه، ولا يصحُّ أن يُفهَم من كلامنا عن الطريق والمعبر أن هذا التحليل مجرد تمهيد لموضوع الوجود أو أنه شيء إضافي يقع على هامشه؛ إذ إن السؤال الأساسي يتطلب هذا التحليل لنوع وجود الموجود الذي اتفقنا على تسميتِه بالموجود الإنساني تمييزًا له عن غيره من الموجودات التي سيأتي الحديث عنها كالموجودات الحاضرة أمامنا أو التي تقع في متناول أيدينا، إن السائل ينفرد عن غيره من الكائنات، فلا يكفي أن نقول عنه إنه يكون وحسب، بل ينبغي أن ننتبه دائمًا إلى أنه هو الموجود الذي يهتمُّ بوجوده،١٠ ولا ينبغي أيضًا أن يقع في وهمنا أن تحليل الموجود الإنساني يتصل من قريب أو من بعيد بما نعرفه من تأملات وتحليلات أنثروبولوجية ونفسية واجتماعية، فالهدف الوحيد من هذا التحليل هو التعرف على ماهية ذلك الكائن القادر على السؤال عن الوجود، بل المتميز دون سائر الكائنات بفهم محدد للوجود.

يصف هيدجر السؤال عن معنى الوجود بأنه «أنطولوجيا أساسية»، ولا تريد هذه الأنطولوجيا الأساسية أن تقدم لنا تصوُّرًا شاملًا عن الوجود بقدر ما تريد أن تحلِّل أسلوب وجود من يقوم بالسؤال عنه وتبين «البناءات» الرئيسية التي تكون مقومات وجوده أو بالأحرى «وجوداته»، ووجود هذا السائل يفترق عن سائر الموجودات في كونه على علاقة دائمة مع نفسه، هذه القدرة على التعلق بذاته، وفهم إمكانيات وجوده — بل الإمساك بها! — تعبر عن خاصية أساسية في تكوين هذا الموجود الذي يتميز «بالتواجد»،١١ والتواجد مصطلح ينطبق على الإنسان وحده، وتحديداته البنائية، أو وجوداته، تتميز تميُّزًا واضحًا عن تحديدات سائر الموجودات غير الإنسانية؛ إذ سنصف هذه التحديدات الأخيرة بأنها تحديدات مقولاتية، وينبغي أن نتنبه إلى هذه التفرقة التي لم تفطن إليها الأنطولوجيا التقليدية، صحيح أن الموجودات غير الإنسانية توجد أيضًا أو تكون ولكنها لا تتواجد، ولا تقدر على الدخول في علاقة مع نفسها.

ما هي إذن المهمة المزدوجة في تناول السؤال عن الوجود؟ إنها تقوم من ناحية على تحليل الموجود الإنساني، ومن ناحية أخرى على ما يسميه هيدجر «تحطيم تاريخ الأنطولوجيا».

لنبدأ بالمهمة الأولى، نحن الذين نتواجد، ولهذا يؤثر الفيلسوف — كما قدمنا — أن ينحت لنا مصطلحًا يميزنا عن سائر الموجودات، وهو مصطلح الدازاين أو الموجود الإنساني كما تقدم، وأخص خصائص وجودنا هي أننا نعيش ونتحرك دائمًا من خلال فهم محدد للوجود، يبدو إذن أن من السهل علينا أن نقول شيئًا عن هذا الموجود الإنساني، غير أننا نتوهم هذا، فنحن في العادة لا نملك مقاومة الإغراء الذي يحملنا على أن نفهم أنفسنا من خلال الموجود الذي «لا نكونه»، هذا الموجود الذي نتخذ منه على الدوام مسلكًا مُعيَّنًا ونصفه بأنه «العالم»، هذا الموجود المختلف تمام الاختلاف عن «موجوديتنا» يغرينا بأن نتخذ منه نموذجًا للفهم، أن نتصور أنفسنا على غراره، هكذا يعرف الإنسان ما يتعامل معه بأفضل مما يعرف نفسه! وهذا يفرض علينا أن ننظر إلى الموجود الإنساني في أقرب أحواله وأكثرها حظًّا من الألفة والتكرار، أي في حياته اليومية، كما يحقق المطلب الفينومينولوجي الذي يحرم علينا أن نبدأ من مشروع مثالي، لكي نتمكن من رؤية الإنسان في أسلوب حياته ووجوده المعتاد، ولكن ليس الهدف من هذه الرؤية أن يستغرقنا وصف هذا الأسلوب في الحياة والوجود، وإنما الهدف منه أن نوضح الأسس التي يقوم عليها، أي «البناءات الماهوية» أو مقومات الوجود أو «الوجودات».

يبدو أن هيدجر يترسم هنا طريقًا دائريًّا يشبه أن يكون عودًا على بدء؛ فهو يقرِّر أن تحليل الموجود الإنساني مسألةٌ مؤقتة، الهدف منها أن تُعيننا على تحديد السؤال الأساسي عن الوجود، فإذا تمَّ هذا التحديد كان علينا عندئذٍ أن نرجع إلى تحليل الموجود الإنساني فنعيده مرة أخرى، وهذا هو الذي سنراه بالفعل في القسم الثاني من الكتاب الذي يتناول الارتباط بين الإنسان والزمانية تناولًا جديدًا، وليس هذا من قبيل الصدفة؛ لأن الأفق الذي نستطيع أن نفهم من خلاله وجود الإنسان هو في رأيه أفق الزمانية؛ ولهذا كان من الطبيعي أن يعيدَ التفكيرَ في مشكلة الزمان، وقد كان المأمول من هذا التفكير أن يمكننا من أن نفهم كذلك زمانية الوجود نفسه، غير أن هذا الجزء المهم هو الذي افتقده الناس، ولم يستطع هيدجر أن يكتبه حتى اليوم!

ونصل الآن إلى المهمة الثانية التي يتطلبها تناولنا للسؤال عن الوجود، ما الذي يقصده هيدجر من «تحطيم تاريخ الأنطولوجيا»؟ ها هو ذا يؤكد لنا أن الموجود الإنساني نفسه تاريخي، وأن هذا وحده هو الذي يجعله يتصوَّر شيئًا كتاريخ العالم، لنستمع إلى ما يقول الفيلسوف في هذا الصدد: إن الموجود الإنساني بأسلوبه الذي يتخذه في الوجود وتبعًا لذلك أيضًا بفهمه الخاص للوجود، قد نشأ في أحضان تفسير موروث للموجود الإنساني، إنه يفهم نفسه دائمًا من خلال هذا التفسير وفي ظل محيط معين، هذا الفهم هو الذي يفض إمكانية وجوده وينظمها، إن ماضيه الخاص، وهذا يعني دائمًا ماضي جيله، لا يسير وراءه ولا يتبعه، وإنما يسبقه في كل حين.١٢

قد يبدو هذا مناقضًا للموضوع الأصلي الذي فرغنا من صياغته؛ فتاريخية الوجود الإنساني — والإنسان العادي بوجه خاص — تغري بالسقوط في شباك التراث والامحاء فيه، وكما رأينا الموجود الإنساني يميل إلى أن يفهم ذاته على مثال الموجودات المختلفة عنه،١٣ كذلك نراه يميل في فهمه للتاريخ إلى السقوط تحت رحمة التراث، فيترك له زمامه، ويدع له أمر اختيار قراراته الحاسمة، دون أن يكلِّف نفسَه مشقة استشراف هذا التراث واستشفاف وجوده التاريخي الخاص.

لا بد إذًا من إزالة الحُجُب التي تراكمَت على التراث، فغطَّتْه أو شوهتْه أو ألقتْه في مهاوي النسيان، ولا بد من الرجوع إلى منابعه الأصلية التي استمدَّت منها المفاهيم والمقولات المأثورة التي ظلَّت المذاهب المتوالية تتناقلها وتنحرف بها عن أصولها، وعلينا أن نضع المفاهيم في سياقها التاريخي بدلًا من أن نأخذها مأخذ الحقائق الأبدية الثابتة التي نكتفي بتلقيها وتسليمها للأجيال اللاحقة.

التحطيم (أو التكسير) للتراث الأنطولوجي لا يعني أن ننفي الماضي أو نقف منه موقفًا سلبيًّا، وإنما الهدف منه هو اكتشاف إمكانياته الإيجابية، وإزالة الرواسب التي تراكمت عليه بغية الوصول إلى التجارب الأساسية التي حددت مفاهيمه الأولية، ومعرفة إن كان هذا التراث قد نظر حقًّا إلى مسألة الوجود من أفق الزمان.١٤

إن تحطيم تاريخ الأنطولوجيا معناه في المقام الأوَّل «كشف الغطاء» عن تاريخية تصوراته الأساسية، لا بل بعث الإحساس بمعنى التاريخية نفسها، على الرغم مما قد يكون في هذا التعبير من مفارقة، ومعناه أيضًا أن نكشف عما وقع في هذا التراث المستقر من إهمال للسؤال الأساسي عن الوجود، بحيث نُصبح على وعي بتاريخ الأنطولوجيا ونتبين حدودها ونفهمها.

والحق أن هيدجر لم يتوقَّف طوال حياته عن القيام بهذه المهمة، وتفسيراته التي قدمها عن أفلاطون وأرسطو وديكارت وليبنتز وكانط وفيشته وشيلنج ونيتشه والفلاسفة قبل سقراط بوجه خاص هي خير شاهد على هذا، وكلها تفسيرات محكمة جديرة بالإعجاب، بغض النظر عن مواقفنا المختلفة منها، ويؤكد هيدجر منذ البداية أن منهجه هو المنهج الفينومينولوجي (الظاهرياتي)، لكننا نخطئ لو تصورنا أنه يأخذ ببساطة مفهوم هسرل للظاهريات كفلسفة «ترنسندنتاليه» تصل في مراحلها التكوينية الأخيرة إلى رد كل شيء إلى الأنا (الذات أو الوعي) الخالص (الذي يبقى ولو فني العالم كله)! فالواقع أن هيدجر يحلل كلمتي الظاهرة والعلم اللتين يتألف منهما المصطلح اليوناني الأصلي تحليلًا عميقًا،١٥ ويبرر — مع عرفانه بفضل هسرل عليه — تنصله من الظاهريات فلسفةً واتجاهًا، واستفادته منها نهجًا وطريقًا للكشف عن أشكال الوجود، إنه، إذا صح تفسيره لها، يجردها من طابعها المطلق من الزمان ويرجعها إلى السياق التاريخي، بل إنه ليجعل منها أنطولوجيا١٦ تتجه في صميمها إلى ما يظهر الظاهرة نفسها، أي إلى حقيقة الوجود؛ ولهذا فإن مفهوم الظاهريات على حد قوله لن ينصب على «مائية»١٧ (أو موضوعية) موضوعات البحث الفلسفي بل على كيفيتها، وبهذا لن تكون الأنطولوجيا ممكنة إلا إذا أصبحت فينومينولوجيا،١٨ أمَّا من ناحية «الموجود الإنساني» فتسصبح الظاهريات تفسيرًا١٩ أو تأويلًا يبين خصائصها وبنيتها: «إنَّ الفلسفة هي أنطولوجيا ظاهرياتية كلية تبدأ نقطة انطلاقها من تفسير الموجود الإنساني الذي ثبت، بوصفه تحليلًا لهذا الموجود الإنساني، نهاية مسار كل سؤال فلسفي عند الأصل الذي صدر عنه وسوف يرتد إليه.»

----------

2-Dasein ومعناها الحرفي هو الوجود أو الموجود-هناك.
3- die Existentiale أي المقومات الأساسية في بناء الموجود الإنساني التي يكشف عنها التحليل الوجودي مهتديًا بالسؤال الأساسي عن معنى الوجود.
4- وهيدجر نفسه يعترف بهذا التعقيد وينسبه إلى صعوبة إدراك معنى الوجود أو التعبير عنه، لا لنقص الكلمات فحسب، بل لنقص النحو نفسه، ولهذا لا يصح أن نتوقع منه أقاصيص تروي عن الوجود، ولهذا أيضًا ينصح القارئ بمقارنة قسم من أقسام محاورة بارمنيدز لأفلاطون أو من الفصل الرابع من الكتاب السابع من ميتافيزيقا أرسطو بفصل من فصول المؤرخ توكيد يديس ليرى كم احتمل الإغريق من فلاسفتهم!
5- وبخاصة في بحثه عن الزمان، الطبيعة، كتاب دلتا (∆) ١٠–٢١٧، ب ٢٩، ١٤–٢١٤، ١٧أ.
6- الوجود والزمان، ص٢٩، هذا وقد سمعت محاضرةً لهيدجر ألقاها في الفصل الدراسي الصيفي لسنة ١٩٦٢م عن «الزمان والوجود»، ولم يبلغ إلى علمي حتى الآن أنها نُشرت في كتاب.
7- ترجمها الأستاذ فؤاد كامل وظهرت في طبعة حديثة عن دار الثقافة للطباعة والنشر، القاهرة، ١٩٧٤م.
8- أفلاطون، السفسطائي، ١٢٤٤م.
9- الوجود والزمان، ص٧.
10- الوجود والزمان، ص١٢.
11- التواجد هي الكلمة التي اخترتها للتعبير عن مصطلح اﻟ Existenz الذي يستخدمه هيدجر في هذا السياق، وسوف نرى أنه سيكتبه بطريقته الاشتقاقية على هذه الصورة Ek-sistenz ليؤكد صفته الأساسية وهي تخارجه أو تخطيه لذاته وعلوه عليها نحو الوجود.
12- الوجود والزمان، ص٢٠.
13- أي الموجودات التي ليست هو، كما سبق القول.
14- يبرهن هيدجر على ضرورة تحطيم Destruktion التراث بأن السؤال عن الوجود لم يَسُؤ وضعه فحسب، وإنما غاب في ظلام النسيان، على الرغم من كل اهتمام بالميتافيزيقا، وتاريخ الأنطولوجيا عند الإغريق هو أوضح دليل على هذا، فقد عمدت عبر تاريخها الطويل وفي صورها وأشكالها المختلفة التي امتدت حتى العصر الحديث إلى فهم الموجود الإنساني والموجود بوجه عامٍّ من جهة «العالم» وسقطت تحت رحمة التراث الذي أحالته إلى صفات لا موضع للجدال فيها أو إلى مجرد مادة يُعاد تنظيمها (كما حدث على يد هيجل) وأصبحت هذه الأنطولوجيا المجتثة من جذورها مناهج تعليمية ثابتة في العصر الوسيط، واستحالت نسقًا مؤلفًا من قطع متوارثة. وسارت هذه الأنطولوجية اليونانية في ثوبها المتزمت في العصر الوسيط من «المجادلات الميتافيزيقية» «لسواريز» حتى وصلت إلى الميتافيزيقا والفلسفة الكانطية الترانسندنتالية في العصر الحديث كي تحدد الأسس التي قام عليها منطق هيجل، ومهما تكن الأشكال المختلفة التي تحوَّلت إلى المفاهيم الأنطولوجية الأساسية على أيدي المحدثين (ابتداءً من الأنا أفكر لديكارت إلى الذات والأنا المطلقة والعقل والروح والشخص) فإن هذه المفاهيم التي تعبر عن مناطق متميزة من الوجود قد أغفلت السؤال عن الوجود ووقعت بذلك في نفس الخطأ الذي وقع فيه تاريخ الأنطولوجيا بسقوطه تحت رحمة التراث والاستسلام له.
15- أي Logos & Phänomen بمفهومهما اليوناني؛ فالأولى تدل على ما يظهر نفسه بنفسه، والثانية تدل على ما يسمح بالرؤية، أي ما يعلن المحتجب من خلال القول، أي أن الظاهريات ستصبح طريقًا يمهد للبحث في وجود الموجود.
16- وهذا هو التفسير الذي أخذ به الدكتور محمود رجب في رسالته القيمة عن المنهج الظاهرياتي عند هسرل (لم تنشر بعد).
17- من «ما».
18- الوجود والزمان، ص٢٧، ٣٥.
19- أو هيرمينويتيك Hermeneutik.

المصدر: نداء الحقيقة: مع ثلاثة نصوص عن الحقيقة لهيدجر
دراسة و ترجمة عبد الغفار مكاوي .

أعلى