وقد نظهر ما بأنفسنا وقد نخفيه ، وقد نعبر عن أفكارنا وقد نتكتم عن بعضها ، ومن الأحلام ما يسكننا أبدا ومنها ما ينمحي ،ومن المشاعر ما يحيينا ومنها ما يقتل شيئا فينا، عالمنا الخفي هذا ، نحن من يشيده ، ومن نطلق له عنان السماء أو نشد عقاله ،ما الذي نعتقله داخلنا يا ترى ؟ أهي : شهواتنا ،نزواتنا ، انفعالاتنا مثل الفرح والحزن الغضب والحقد والإحساس بالظلم .ما العقل إذا ؟هل هو الملكة التي تجعلنا نكبح جماح شهواتنا، لتصبح رهن إشاراتنا ، فنكتسب السلطة التامة عليها ؟مهما تكن الإجابة، فعبارة العقل في معناها اللغوي، لا تحيلنا لا إلى الحقيقة ولا إلى الواقع ،بل إلى علاقتنا بأنفسنا.
العقل إذا ،هو نفي نسبي لما نشعر به وما يحركنا أي لجزء من كياننا، ربما لأننا لا نرى العالم إلا من خلال رغباتنا فلا نكتشف خفاياه وأسراره .
كيف للعقل أن يكون ملكة التي تمكن الإنسان من البحث والتساؤل لمعرفة العالم وهو في الأصل كبح لرغباته ولما يبتغي تحقيقه ؟
هل تكمن مهمة العقل في التحكم في نزواتنا وغرائزنا ؟ قد تكون الإجابة عن هذا السؤال متعددة بتعدد معاني عبارة العقل لاتصالها بالعصور وسياقاتها ومدى تأثر الكتاب والقراء بثقافات أخرى .
لذلك لا يكتسب العاقل بالضرورة صفات الباحث عن الحقيقة ،إذ لو تمعنّا فيها ،لتبينا أنها تفيد الامتناع أو الإمساك ، فالعاقل في الأصل هو من لا يأتي بعض الأفعال، إنه ذلك الشخص الذي لا يغضب ولا يتسرع ولا يتذمر ولا يتملق ولا يبالغ لا في الفرح ولا في الحزن وإذا أردنا أن نختزل صفاته تلك، سنقول أنه راض بما يملك ، لا تحركه الانفعالات ولا المشاعر الجياشة لقدرته على التحكم فيها والسيطرة عليها .
فهل يمكن القول ،أن العقل هو تلك الملكة المرتبطة بالإرادة، تلك التي تمنحنا القدرة على الإمساك عن إتيان بعض الأفعال ؟
إذا ما استندنا إلى فعل التعقل ،فإنه يؤكد معنى الإمساك ، أي الامتناع عن فعل شيء ، وقد يفيد أيضا معاني أخرى مثل الإدراك والتأمل وهي أفعال متصلة بعالمنا النفسي لا بالعالم الخارجي أي بالتقبل لا بالفعل .
أما السؤال الأهم فهو الآتي: إن كان التعقل مرادفا في معناه للفكر والتفكر والتفكير ؟ فكيف يكون التفكير نشاطا إيجابيا وهو المرادف اللغوي لفعل التعقل أي الإمساك والامتناع عن فعل ما ؟
التفكير هو أن نتمثل العالم في صورة .
لكن هل لهذا العالم من وجود خارج أنفسنا ؟ وهل تعنينا معرفته في حد ذاته ، دون التأثر بذاتيتنا ؟
كيف نراه كما هو وقد تنكرنا لجزء من كياننا،ألا يدفعنا ذلك إلى اختزاله في صورة ما باعتبارها حقيقته ؟ ما هي صفات وميزات تلك الصورة إذا كانت أداة نحتها لغة نجهل أصولها لأنها منزلة خارجة عن التاريخ لا ماض لها ولا حاضر، ألا نتوهم أنها مكتملة أي جاهزة ، ليست مركبة ولا مبتدعة ؟
أو لم نبتل بما أسميه " جاهزية العالم " بمعنى أن تصورنا لذلك العالم نابع من لغة مقدسة خارجة عن التاريخ لا بداية لها ولا نهاية .
والسؤال المطروح : كيف تصف لنا اللغة العربية العالم باعتباره موهوب ، مخلوق ، معطى ، مبعوث إلى الوجود ، منبثق من فعل الخلق ، من الأمر الصادر بأن كن فيكون؟
من هذا المنظور ليس للعالم أسرار يخفيها ،لأنه خلق من أجل الإنسان حتى يستجيب لكل رغباتنا ، على أساس مطابقته للغة التي تصفه والتي تمثل الميثاق أو الرسالة التي تربط الإنسان بالله .
جاهزية العالم جعلتنا نرى العلم مسلمات ، واللغة مسلمات ، والدين مسلمات ، ليست قابلة للتفكيك والبحث والمراجعة .
فنحن نستعمل اللغة العربية لننقل لا لنفكر ، لأننا نعتبر اللغة جزء لا يتجزأ من حقيقة العالم ، ونعتبر الحقيقة في جوهرها وحي أي كلام ينقل ،لا بحث وتجربة لاكتشافه .
متى وكيف نتخلص من جاهزية العالم وأوهامها ؟ متى نتجرأ على التفكير باللغة العربية ؟
تلك هي المعضلة .
كاهنة عباس .