أحمد القطيب - قراءة تحليلية / تأويلية لومضة سردية من تأليف الكاتبة (نرجس ريشة)

(النص)

رفرف بين تلك و تلك و تلك ،
وحدها شجرةُ الدّفلى أزهرتْ لأجله ذات مساء .
أخذ جرعة مفرطة من المرارة ، و خرج من العريش مصابا بداء فقدان الكرامة .
(نهاية النص) ..ذ: نرجس ريشة

--------------------------------------

القراءة التحليلية /التأويلية:
*************************************
اسمحوا لي أن أضم ملاحظاتي حول هذه الأسرودة دون التقيد بمنهج معيّن لخلق مجالٍ لتداعي الاستنتاجات والأفكار بشكل حر؛ لعل هذا ينتج إضمامة من الملاحظات تقربنا من هذا النص، أو تحاول تسليط الضوء عليه.
ولنبدأ من تجنيس النص، ولنقل هو ومضة سردية قصيرة ،تلملم عناصر البنية السردية ،ضمن برنامج سردي يتمحور حول ذات برزت بضمير وفعل سردي يدل عليها وهي الطائر استنادا إلى فعل /رفرف/ وهذه الذات تسعى إلى موضوع رغبة ،هو امتلاك موضوع قيمي تَحدَّد من خلال الفعل السردي رفرف الذي تلون بثلاثة برامج صغرى أو ثانوية، سعيا إلى تحقيق البرنامج الرئيس، بحيث تعدد السعي ،بمبادلة الرفرفة بين -تلك وتلك وتلك-.وتلك اسم إشارة للمفردة المؤنثة البعيدة ؛مادامت اللام فيه للبعد ،والكاف هنا للمخاطب إذا فتحت(تِلْكَ) وللمخاطبة إذا كسرت(تِلْكِ)، كما يمكن أن نقول –مع بقية الضمائر- تلكما وتلكم وتلكنّ...فاسم الإشارة هنا يحدد المخاطب أيضا ،وقد ترك في النص بدون شكل فهو إذن تلكَ بفتح الكاف أو تلكِ بكسرها، وفي محو حركة البناء، أو عدم تحديدها من الكاتبة ،ينفتح السارد على مخاطب أو مخاطبة بحسب القراءة ،وفيهما مختصر الجنسين معا ،ليذوب فيهما المتلقون جملة وتفصيلا ..
والملاحظ أن برامج التنويع هنا في مسعى القوة الفاعلة المرفرفة وعبر هذه المبادلة الثلاثية تدل على فشل الوسائط وإخفاق المسعى، وليس العدد ثلاثة إلا كناية عن الجمع بشكل عام ،إذ سرعان ما ندخل في تقاطب الجمع/المفرد من خلال الكلمة/ وحدها/ ،فكأننا نستثني الواحد هنا دون عموم الجمع ،دون استعمال أداة استثناء حصرية وكأننا نقول/:
رفرف بين الأشجار كلها(تلك وتلك وتلك )...وحدَها شجرة الدفلى أزهرت لأجله، ولاحظ تقديم الحال/وحدها/ على الفعل /أزهرت/لتحقيق الحصر أو القصر ،لأن طرق القصر في العربية أربع منها تقديم ماحقه التأخير.
لكن المرسِل في هذه الأسرودة غير واضح أو غير محدد ،وأعني المحفز الذي يثير المرسل إليه بإبلاغه ، ويكون محركا للسعي نحو الموضوع، أليس المرسل إليه هنا هو الذات التي تبنت غايتها وسعت بفعل إنجازي مفعم بالحركة إلى بنائه وامتلاكه.....//التحليق برفرفة//؟؟
ولنترك المرسِل إلى حين فقد يبزغ لنا أو نتأوله إذا نجح القنص
فماهي القوى الفاعلة المساعدة على امتلاك الموضوع الذي لم ندرك كنهه بعد؟ وسنرجئه أيضا إلى حين.
عبر الثنائية الصراعية تبدّت الشجرات الثلاث- تلك وتلك وتلك-معيقةً لمسعى الطائر ، لأنها نوعت خيبته وفشله في العثور على البغية ..فهل الدفلى هي المساعد؟؟الجواب هو :نعم.. ولا ،ولم أخطئ هنا في الرقانة ، وإنما تحريت الجمع بين نعم /ولا
فنعَمْ:...... تعني أن زهرة الدفلى أنجحت موضوع الرغبة وهو الإزهار للطائر ذات مساء ، واقرأ معي الدلالة الرمزية للخيار الزمني /مساء/بحمولة الوعد بنهاية ومأساة.
ولا:......... تعني أن البرنامج السردي الذي بدا ناجحا سطحا انعكس إلى فشل ذريع معنى ومغزى.
لأن أزاهر الدفلى فخ للإيقاع بالطائر ، وهنا نحتاج إلى إدخال المعرفة بالأشياء لتوجيه التأويل ،فزهور شجر الدفلى جميلة الشكل والرائحة لكنها مرّة وسامّة تودي بالإنسان والحيوان، فهي بهرج للزينة لكنها تثمر موتا بأوراقها وأغصانها وزهورها، بل إن البدو لايستعملون أعوادها اليابسة للطهي لأن دخانها أيضا يسمم الطعام.
ألا ترى معي أن الشجرات الثلاث المعيقة في ظاهر الأمر، بعدم الاستجابة لانتظارات الفاعل المرفرف، صارت هي المساعدة عمقا .وأن شجرة الدفلى المساعدة سطحا، هي المعادية والمعيقة فعلا...أهي إذن دعوة لإعادة النظر في القيم من حولنا؟؟
ولنا أن نتساءل أيضا عن رمزية الطائر ، كرمز طبيعي حي يدل على القيم الإيجابية والمرغوبة /الحرية/البراءة/ الرقة /الضعف/الوداعة، فالقوة الفاعلة هنا غير مجلوبة بمدلولها الجسمي والمعجمي القار ، بل هي مجلوبة لما تثيره من تداعيات تغني القراءة والتأويل.
...
تنمو الحكاية كما ترى بالأفعال التالية: "-رفرف-أزهرت-أخذ جرعة-خرج-" والفعل السردي تبرره حالات منها الحالة البدئية ،التي لم تذكر صراحة لكنها تستنبط من فعل/ الرفرفة/ بما يحمله من شوق ورغبة وسعي حثيث ،خلاف فعل / خرج /التي تفسر حالة معاكسة حرمانية ،أو حالة انفصال بين الذات وموضوعها بإيحاءات الخيبة والمرارة والضياع ،والحالة تفرز وضعية /فقدان الكرامة/ ،وهذا مؤشر ثان على علاقة صراعية خفية مدْرَكة ؛طرفاها فاقد للكرامة، ومُفقد لها، أو ذات مستفلة ،وذات مستعلية،رمز إليها بشجرة الدفلى ،وزهورها الخادعة، وللقارئ أن يصرف الرمز الطبيعي/الدفلى/ إلى حيث شاء من سبل التأويل ، فهل هي الأنثى؟؟ أو خضراء الدمن التي حذرنا منها الرسول صلى الله عليه وسلم ، أي المرأة الجميلة في منابت السوء؟؟أم هي وهم السعادة الخادع ؟؟أم هي الحضارة المادية؟؟ أم هي الحياة بشكل عام؟؟
كل ذلك مباح في حلبة التأويل.
وهنا لافتة مكانية أخرى وهي العريش، فهل تعني الكاتبة العريش بمدلوله المعجمي أي مايعرش ليخلق الظل من سقائف الأعواد، لتنتهي الكلمة عند حدود التأثيث الطبيعي للأفعال السردية المذكورة بفضاء ملائم ؛فالخروج من العريش خروج من الظلال إلى الوهج، ومن البرد إلى الشمس...
ولا أخفي القارئ أن الكلمة /عريش/تنبّر في إحساسي الدلالة التاريخية والجغرافية للكلمة أيضا، فكلنا يعرف العريش،كمنطقة استراتيجية في سيناء، وقد تميزت ببعدها الجيوسياسي منذ العصور القديمة فهي معبر إلى مصر ومعبر إلى الشام،أو مفتاح استقرار مصر والشام ، وكانت عبر التاريخ حصنا يمكّن المتحكمَ فيه من إدارة لعبة النفوذ والتموقع الاستراتيجي القوي ،منذ- حورس-قديما، مرورا بالفتوح الإسلامية إلى الحملة الفرنسية على مصر.
فهل خرج الطائر من العريش فعلا وهو يختلج المرارة؟؟ أم لعله أحرق مع الشجر والحجر ؟؟..
ثم ماهو حافز السردية وبرامج التحويل ،وهوما أسميناه /المرسِل/؟؟
لعل المرسِل في بنية السرد السطحية ،هو الجوع والسّغَب ؛لأن الطائر سعى سعيه كله ،ليأكل الثمار ويرتوي بمائها ويتمتع بجمالها ،فتجرع السم والداء العضال ، وانتهى في رحلة البحث عن الغذاء إلى فقدان الكرامة،فهل تعني الكاتبة أن ضمان القوت اليومي وإشباع البطون، يفرغ رصيدنا من الكرامة في طوابير البحث عن الفتات؟؟...
تلك لمعة أخرى تسطع من النص..
أليس الجوع والعطش بوّابتين مشرعتين لدلالات أخرى؛ كالجوع إلى التغيير ..والإصلاح.. والتنمية.. وإحقاق الحرية ..أليست الحرية شجرة تظللنا؟؟،فهل ارتوينا منها ،أم شربنا دون نيلها الحنظل؟
...فهل هي فكرة النص ومغزاه ..أم مازالت في جراب هذا النص القصير مغازٍ أخرى ؟؟

ذ : أحمد القطيب

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى