لقد اهتم الدرس النقدي القديم كثيرا بمسألة تعريف ( الزجل) وهذا الاهتمام انصب بالدرجة الأولى على تعريف الزجل الأندلسي، ثم أسقطت مفاهيمه على جل الأنواع الإبداعية التي اتخذت اللغة العربية العامية وسيلة تواصل لها حمولتها وسيولتها الجمالية، ويمكن القول على أن التعريف الكلاسيكي الوحيد الذي حللناه في كتابنا النقدي: ( أنواع الزجل بالمغرب)
قد استنفذ مهمته ولم تعد له علاقة مع مكونات النص الزجلي الحديث، حيث ثم تحديد مفهوم الزجل فيما يخص ( تجنيسه) حيث أنه نص شعري يحتاج بالدرجة الأولى إلى تعريف يتناسب مع معطياته الجديدة، ويحتاج إلى إنتاج مواصفات أي البحث في مكامن (شعريته) المتأصلة في كينونته ، وهي من ضمن اختيارات مشروعنا النقدي المستقبلي
والتي هي من بين قضايا الزجل المغربي...
هذه الأفكار التي سأقدمها حول بعض قضايا الزجل المغربي ، تأتي في سياق تنويرا لرأي العام الإبداعي المهتم بهذا النوع من الشعرية المغربية، وإتاحة الفرصة خصوصا للشباب الذين يكتبون القصيدة الزجلية وتنقصهم المعلومات الكافية عنها، أي تاريخها، وقواعدها، ومصطلحاتها، وأغراضها، ومرجعياتها، وروادها ، وأقطابها. وكيف عاشت في حالتها الشفوية؟ وما هي بدايات ومراحل تدوينها؟ وماهي وسائل توثيقها وتدوينها الآن؟ ثم بعد ذلك مراحل تطور القصيدة الزجلية والوقوف عند محطات بعينها، وصولا إلى عصر القصيدة الحديثة وما يتبعها من أسئلة ملحة وكلها ترمي إلى حضور قوي لهذا الجنس الإبداعي المكتوب باللغة الدارجة العامية، مع التنبيه إلى عدم استسهال عملية الإبداع بالعامية، بل هي أصعب مما يتصوره المعتقد لذلك، فصحيح أنه يبدع بلغة أقرب إلى القوم بل هي ما يتداولونه يوميا، إن لم نقل أنهم يساهمون في تأسيس وتطويرهذه اللغة التي يكتب بها الزجالون،لكن بيت القصيد هو تحويل الكلام العادي إلى نص إبداعي يفرض حضوره على متلقيه بكل عشق واحترام.. وبطبيعة الحال ليست اللغة وحدها المساهمة في هذا الحدث الإبداعي الجميل، فهناك تمكن الزجال من معارف خاصة وعامة،ووشم أعماله بالخصوصية،وأن يكون قاموسه غني ويوظفه بلا تعسف وبدون إقحام،وأن تتشربه إيقاعات وموازين وموسيقى، وأن يترك صوره الشعرية تنساب على حافات قصائده والتي هي في الأول والأخير.." شعر" مكتوب باللغة العامية...
ولتوضيح هذا المعني فإني أستعيرمن الزجال المغربي أحمد لمسيح (1)هذا الكلام الجميل حيث يقول:"....هل تسعفنا مقاييس غير ذوقية بين زجل فيه كلمة تجْبد ختْها وزجل ينقب فيه الشاعر- مستعينا بفراسته-في منجم الكلام عن قطعة صغيرة من الكلام الذهب وسط جبل من الكلام التراب؟"...(2)
نماذج في التعريف والتسمية:
أ- يعرف الدكتور عباس الجراري(الزجل) (3) في معجم مصطلحات الملحون الفنية (4) "أنه يطلق في الأصل على الشعر العامي الذي نشأ مع الموشحات في الأندلس. "وعندنا أنه كل شعر يتوسل باللغات واللهجات العامية."
وفي هذا التعريف الواضح يرجع الدكتورعباس الجراري أصل التسمية إلى المرجعية الأندلسية كون الزجل نشأ مع الموشح وهما إبداعان محدثان مبهران على المألوف والشائع من الشعرالعربي بأوزانه وألوانه. كما أننا نفهم من هذا التعريف في شقه الثاني أن كل ما يكتب باللغات واللهجات العامية نطلق عليه زجل، أي أن تسمية الزجل هي شمولية وتحتضن كل الأنواع، فمثلا أن أشعار الملحون والعيطة والعروبيات وحمادة..... هي أزجال لكن كل منها يحتفظ بإسمه وله استقلاليته وخصوصياته..
وعندما تناول الدكتور الجراري مفهوم الزجل في كتابه القيم :الزجل في المغرب" القصيدة" (5) فقد قلـّب الأمر على أوجهه مستثمرا الحديث النبوي والقرآن الكريم، ولسان العرب وتاج العروس، وما جاء في كتابي" بلوغ الأمل في فن الزجل "،"والعاطل الحالي والمرخص الغالي" والذي سنأتي على ذكرهما ضمن أسطر هذا التعريف. ورغم أهمية ما طرحه الدكتور الجراري من أفكار حول مفهوم الزجل، فإني أخذت بخلاصته للموضوع وهو هام جدا ولذلك سأسوقه كاملا يقول الدكتور الجراري: ".... لهذا قد يلاحظ علينا في اتخاذ إسم " الزجل في المغرب" عنوانا لرسالة تبحث في لون من الشعر الشعبي المغربي، طالما أن المغاربة لا يطلقون "الزجل" على شعرهم الشعبي، وطالما أنهم لا يقصدون من هذه التسمية غير النوع الذي عرف في الأندلس، ولكنا نرد على مثل هذه الملاحظات بما يلي :
- على الرغم من أن لفظ الزجل شاع إسما للفن الشعري الذي سبق إليه الأندلسيون، مجردا من الإعراب متعدد القوافي متجدد الأوزان، فإننا لانشك في أنهم يطلقون هذه التسمية على كل ما كانوا ينظمونه باللغة العامية.......
بل نجد أن أحمد الرباط يذهب إلى أن " الشعر هو أصل كل فن معرب وأن الزجل هو أصل كل فن ملحون....
-أطلق بعض المغاربة لفظ الزجل للدلالة على ما ينظمونه من شعر بالعامية... -- - يقول ابن زيدان في ترجمة عبد القادر العلمي: " وما ينسب للمترجم من الأزجال هو له حقيقة".....
إلى أن يقول: " .. لذا واعتمادا على هذه التعليلات، فأنا أفضل إطلاق " الزجل" على كل أنواع الشعر الشعبي المغربي، وندعو إلى هذه التسمية بدلا من أية تسمية أخرى تطلق عليه مهما بلغت من الذيوع والانتشار....(6) وأنا من المؤيدين لهذا الطرح والدعوة، وخصوصا أنها جاءت من باحث هو حجة زمانه، في مايخص الدفاع عن أدبنا الشعبي بالعلم والمعرفة والعشق....
ب- لعل من أقدم الكتب التي عنيت بتقديم تعريف للزجل،كتابي: العاطل الحالي والمرخص الغالي لصفي الدين الحلي (7) وبلوغ الأمل في فن الزجل لتقي الدين أبوبكر بن حجة الحموي (8) وهما مؤلفان مشرقيان اهتما بإبداع الزجل بالأندلس والمغرب، فرغم أن مجموعة من القضايا التي طرحت فيهما، هي اليوم متجاوزة وبقيت للتاريخ فقط، إلا أن الكتابين يزخران بالنصوص الزجلية القديمة وبلائحة طويلة من الأعلام رواد الزجل بالأندلس والمغرب ، كما أن الكتابين قدما روايات تعززحضورالزجل المغربي منذ النشأة..منها مثلا رواية الزجال ابن غرلة مع الزجالة رميلة أخت عبد المومن الموحدي.. (9) .لكني سأعتمد على مرجع " بلوغ الأمل في فن الزجل" للحموي لأني بكل بساطة لا أتوفر على النسخة الأولى كاملة ثم أن مرجع الحموي قد نقل الكثير من " العاطل الحالي"، كما أن كتاب الحموي يهدينا عنوانا واضحا من أول وهلة يغريك بدخول عالم " الزجل" والذي قدمه على سائر الأنواع التي اختار أن يناقشها في نفس المؤلف وهي: الموشح،الكان وكان،والقوما.
تعريف الحموي للزجل: لقد وضع الحموي تعريفه في نهاية مناقشاته لقضايا الزجل، وكأنه أراد أن يجعل هذا التعريف قاعدة جامعة أوتلخيصا مركزا، وعلى أي: فإننا سنقدم أهم مافي هذا التقديم ، لأن المؤلف قد أضاف العديد من الشروحات والتعقيبات والحواشي لتعريفه.
يقول الحموي: ".. أن الزجل في اللغة هو الصوت، يقال سحاب زجل،إذا كان فيه الرعد، ويقال لصوت الأحجار والحديد والجماد أيضا صوت وزجل..وأنه سمي هذا الفن زجلا لأنه لايلتذ به وتفهم مقاطع أوزانه حتى يغنى به ويصوت.." (10) وهونفس التعريف الذي جاء في مرجع " العاطل الحالي والمرخص الغالي" لصفي الدين الحلي،ويقترب أيضا مما جاء في قاموس " تاج العروس" لمحمد مرتضي الزبيدي (11) حيث الزجل " محركة اللعب والحلبة" وخص به التطريب. ونفس الشيء نجده عند ابن منظورفي قاموسه " لسان العرب" حيث أن الزجل جاء بمعنى: " رفع الصوت الطرب، وقد زجل زجلا، فهو زجل وزاجل، وربما أوقع على الغناء، قال وهو يغنيها غناء زاجلا" (12).
هذ التعاريف والمفاهيم قد اعتمدها مجموعة من الباحثين والمهتمين وقدموا لها قراءات مختلفة ، وبذلك فإنهم ساهموا في مبادرة التحديد اللغوي والإصلاحي للفظ "زجل".
ج - وأنا بدوري خصصت حيزا لهذا الموضوع في كتابي:"بعض أنواع الزجل بالمغرب"- من الغنائية إلى التفاعلية- دراسة ونصوص(13) .ووجدت أن تعريف الحموي الذي اعتمدت عليه يحدد منظومة فنية تمكن من قرائته قراءة جمالية وفنية.. فجاء الزجل فنا، وربطه باللذة والفهم، واشترط لبلوغهما الغناء والصوت.
ويجب أن نسطر هنا على كلمة " صوت" التي أتت في التعريف والتسمية جامعة بين الشدة والليونة، لكنهافي الأخير هي لمسة شاعرية منبعثة من أداة كأنها تراجيع مزمار، أو تغاريد طيور شادية..
والصوت جاء في بعض التعريفات بمعنى "تموج الهواء.(14) ووجوده مستمر باستمرار تموج الهواء الخارج من الحلق والآلات الصناعية ومنقطعا بانقطاعه...
وسبب التموج قلع عنيف، أو تفريق شديد، أو قرع عنيف، أو إمساس شديد.."
ولعلنا في هذا التعريف نجد ما يبرر إضفاء نوع من الجلجلة على شعر ناعم في حجم الزجل، وربما كان المقصود هو التنبيه إلى ولادته العسيرة، وهي عسيرة طبعا وبكل التأكيد.
وقد بوأ الزجال المغربي الصوت مكانة لائقة، فهذا الشيخ إسماعيل المراكشي وهو من أكبر زجالي وقته (15) ولما كان يضن على الحفاظ الملازمين له، سأله تلميذه آنذاك ح محمد بن عمر الملحوني (16)عن سبب ذلك فأجابه إجابة دالة وتحتاج وحدها لأكثر من وقفة وشرح، حيث قال:" لكلام عسل والصوت شهدة".ويعلق الأستاذ عبد الرحمان الملحوني على ذلك قائلا: " أي إذا كان " الشعر" رائعا روعة العسل وجودته،فإن هذه الروعة لايحافظ عليها إلا الصوت الحسن، كما يحافظ الشهد على عسله.. (17)
وقد وجدت أيضا أن الصوت يفيد " الحركة" بمعنى الإيقاع عند الموسيقيين، بل نجد أن الصوتي دائم الحضور في الفترة الشفهية وكذا التدوينية، لأنه مكون من مكونات بناء القصيدة انطلاقا من العلاقة القائمة بين الشعر والغناء.
وعلى أي، ومهما تعددت تعريفات الزجل، فإن القصدية المستترة من ذلك هي إضفاء نوع من الخصوصية الإضافية إليه.. لأنه في الغالب يبقى شعرا يمتلك كل مقومات الكتابة الشعرية المتعارف عليها، وما بين تلك الخصوصية المتجدرة،ومجموعة من الامتياحات المنفتحة والمتفتحة، نربح مجالا واسعا لملامسة العديد من القضايا المتعلقة بقصيدتنا الزجلية....
الهوامش والمراجع:
(1) يعتبر الزجال أحمد لمسيح من أبرز رواد القصيدة الحديثة بالمغرب، كما يعتبرأول من أصدر ديوانا زجليا مطبوعا في تاريخ الكتابة الزجلية الحديثة بالمغرب منذ عام 1976 بعمله رياح... التي ستأتي.
(2) أحمد لمسيح مقدمة عتبة السالك: مجلة آفاق، محور الزجل الحديث بالمغرب، العدد:3/4- 1992 ص:9
(3) يعتبر الدكتور عباس الجراري من رواد البحث والدراسات في تاريخ الأدب الشعبي المغربي إلى جانب تخصصاته الأخرى في الفكر والشعر والسير....
ومن ضمن أهم كتبه في مجال الأدب الشعبي : فن الزجل بالمغرب " القصيدة"التي هي عبارة عن رسالة لنيل شهادة الدكتوراه، حصل عليها بمصرتحت إشراف الدكتورالبحاثة عبد العزيز الأهواني. وكذلك من أهم كتبه:<الأدب المغربي من خلال ظواهره وقضاياها> وغيره كثير....ولد الدكتور عباس الجراري يوم 15 فبراير1937م بالرباط، ونشأ في أسرة تتميز بالعلم والأدب..
(4) الدكتور عباس الجراري: معجم مصطلحات الملحون الفنية، " حرف الزاي" مجلة فنون- وزارة الدولة المكلفة بالشؤون الثقافية. أكتوبر1977 –ص:31
(5) لدكتورعباس الجراري: الزجل في المغرب "القصيدة"، مطبعة الأمنية بالرباط- سنة 1970.
(6) الدكتور الجراري: المرجع نفسه، ص:54
(7) هو أبو الفضل عبد العزيز بن سريا بن علي الحلي. من أكبر شعراء وزجالي المشرق، اهتم بالزجل الأندلسي والمغربي والمشرقي في مؤلفه الشهير: " العاطل الحالي والمرخص الغالي".
(8) هو أبو المحاسن تقي الدين أبوبكو الحموي القادري الحنفي الأرزاوي والمعروف بابن حجة الحموي. ولد وفي حمأة سنة 767هجرية شاعر وزجال وبحاثة من العيار الثقيل، اهتم بأزجال القوم بالمغرب والأندلس والمشرق في كتابه المعروف: بلوغ الأمل في فن الزجل.
(9) تذكر الرواية، أن ابن غرلة الزجال وقع في شرك غرام الزجالة ارميلة أخت عبد المومن الموحدي، وتبادلا العشق والقصائد،وكانت النهاية مأساوية إذ حكم مؤسس الدولة الموحدية على ابن غزلة بالإعدام، وقد ترك هذا الأخير زجلا وافرا منه آخر قصيدة تحرض للثأر من قاتليه..
(10) ابن حجة الحموي: بلوغ الأمل في فن الزجل، تحقيق د رضا محسن القريشي، تحقيق د عبد العزيز الأهواني- مطبعة وزارة الثقافة دمشق1974
(11) مرتضى الحسين الزبيدي: تاج العروس، تحقيق د عبد الفتاح الحلو.سلسلة التراث العربي الكويت- 1986- مادة زجل المجلد 12 ص :222
(12) ابن منظور: لسان العرب، دار صادر ص: 302
(13) بعض أنواع الزجل بالمغرب من الغنائية إلى التفاعلية –دراسة ونصوص-كتاب مخطوط لي ينتظر الطبع لجزئه الأول
(14) المرجع نفسه
(15) زجال مراكشي صوفي زهد الدنيا وكتب في المواعظ والجفريات والمديح توفي في رمضان 1355هجرية.
(16) باحث مغربي معروف ببرامجه الإذاعية مع شعر الملحون ومع كتبه العديدة التي نشرها في مجال زجل الملحون وأهل الصوفية وديوان والده شيخ أشياخ مراكش الحاج محمد بن عمر الملحوني.
(17) ذ عبد الرحمان الملحوني: سلسلة أبحاث ودراسات في القصيدة الزجلية، الكتاب الرابع، المحور الثاني، شركة بابل للطباعة والنشرالرباط- ص:85
محمد الراشق: زجال وأستاذ باحث بمركز اليونسكو
لملتقى الثقافات – الخميسات- المغرب
قد استنفذ مهمته ولم تعد له علاقة مع مكونات النص الزجلي الحديث، حيث ثم تحديد مفهوم الزجل فيما يخص ( تجنيسه) حيث أنه نص شعري يحتاج بالدرجة الأولى إلى تعريف يتناسب مع معطياته الجديدة، ويحتاج إلى إنتاج مواصفات أي البحث في مكامن (شعريته) المتأصلة في كينونته ، وهي من ضمن اختيارات مشروعنا النقدي المستقبلي
والتي هي من بين قضايا الزجل المغربي...
هذه الأفكار التي سأقدمها حول بعض قضايا الزجل المغربي ، تأتي في سياق تنويرا لرأي العام الإبداعي المهتم بهذا النوع من الشعرية المغربية، وإتاحة الفرصة خصوصا للشباب الذين يكتبون القصيدة الزجلية وتنقصهم المعلومات الكافية عنها، أي تاريخها، وقواعدها، ومصطلحاتها، وأغراضها، ومرجعياتها، وروادها ، وأقطابها. وكيف عاشت في حالتها الشفوية؟ وما هي بدايات ومراحل تدوينها؟ وماهي وسائل توثيقها وتدوينها الآن؟ ثم بعد ذلك مراحل تطور القصيدة الزجلية والوقوف عند محطات بعينها، وصولا إلى عصر القصيدة الحديثة وما يتبعها من أسئلة ملحة وكلها ترمي إلى حضور قوي لهذا الجنس الإبداعي المكتوب باللغة الدارجة العامية، مع التنبيه إلى عدم استسهال عملية الإبداع بالعامية، بل هي أصعب مما يتصوره المعتقد لذلك، فصحيح أنه يبدع بلغة أقرب إلى القوم بل هي ما يتداولونه يوميا، إن لم نقل أنهم يساهمون في تأسيس وتطويرهذه اللغة التي يكتب بها الزجالون،لكن بيت القصيد هو تحويل الكلام العادي إلى نص إبداعي يفرض حضوره على متلقيه بكل عشق واحترام.. وبطبيعة الحال ليست اللغة وحدها المساهمة في هذا الحدث الإبداعي الجميل، فهناك تمكن الزجال من معارف خاصة وعامة،ووشم أعماله بالخصوصية،وأن يكون قاموسه غني ويوظفه بلا تعسف وبدون إقحام،وأن تتشربه إيقاعات وموازين وموسيقى، وأن يترك صوره الشعرية تنساب على حافات قصائده والتي هي في الأول والأخير.." شعر" مكتوب باللغة العامية...
ولتوضيح هذا المعني فإني أستعيرمن الزجال المغربي أحمد لمسيح (1)هذا الكلام الجميل حيث يقول:"....هل تسعفنا مقاييس غير ذوقية بين زجل فيه كلمة تجْبد ختْها وزجل ينقب فيه الشاعر- مستعينا بفراسته-في منجم الكلام عن قطعة صغيرة من الكلام الذهب وسط جبل من الكلام التراب؟"...(2)
نماذج في التعريف والتسمية:
أ- يعرف الدكتور عباس الجراري(الزجل) (3) في معجم مصطلحات الملحون الفنية (4) "أنه يطلق في الأصل على الشعر العامي الذي نشأ مع الموشحات في الأندلس. "وعندنا أنه كل شعر يتوسل باللغات واللهجات العامية."
وفي هذا التعريف الواضح يرجع الدكتورعباس الجراري أصل التسمية إلى المرجعية الأندلسية كون الزجل نشأ مع الموشح وهما إبداعان محدثان مبهران على المألوف والشائع من الشعرالعربي بأوزانه وألوانه. كما أننا نفهم من هذا التعريف في شقه الثاني أن كل ما يكتب باللغات واللهجات العامية نطلق عليه زجل، أي أن تسمية الزجل هي شمولية وتحتضن كل الأنواع، فمثلا أن أشعار الملحون والعيطة والعروبيات وحمادة..... هي أزجال لكن كل منها يحتفظ بإسمه وله استقلاليته وخصوصياته..
وعندما تناول الدكتور الجراري مفهوم الزجل في كتابه القيم :الزجل في المغرب" القصيدة" (5) فقد قلـّب الأمر على أوجهه مستثمرا الحديث النبوي والقرآن الكريم، ولسان العرب وتاج العروس، وما جاء في كتابي" بلوغ الأمل في فن الزجل "،"والعاطل الحالي والمرخص الغالي" والذي سنأتي على ذكرهما ضمن أسطر هذا التعريف. ورغم أهمية ما طرحه الدكتور الجراري من أفكار حول مفهوم الزجل، فإني أخذت بخلاصته للموضوع وهو هام جدا ولذلك سأسوقه كاملا يقول الدكتور الجراري: ".... لهذا قد يلاحظ علينا في اتخاذ إسم " الزجل في المغرب" عنوانا لرسالة تبحث في لون من الشعر الشعبي المغربي، طالما أن المغاربة لا يطلقون "الزجل" على شعرهم الشعبي، وطالما أنهم لا يقصدون من هذه التسمية غير النوع الذي عرف في الأندلس، ولكنا نرد على مثل هذه الملاحظات بما يلي :
- على الرغم من أن لفظ الزجل شاع إسما للفن الشعري الذي سبق إليه الأندلسيون، مجردا من الإعراب متعدد القوافي متجدد الأوزان، فإننا لانشك في أنهم يطلقون هذه التسمية على كل ما كانوا ينظمونه باللغة العامية.......
بل نجد أن أحمد الرباط يذهب إلى أن " الشعر هو أصل كل فن معرب وأن الزجل هو أصل كل فن ملحون....
-أطلق بعض المغاربة لفظ الزجل للدلالة على ما ينظمونه من شعر بالعامية... -- - يقول ابن زيدان في ترجمة عبد القادر العلمي: " وما ينسب للمترجم من الأزجال هو له حقيقة".....
إلى أن يقول: " .. لذا واعتمادا على هذه التعليلات، فأنا أفضل إطلاق " الزجل" على كل أنواع الشعر الشعبي المغربي، وندعو إلى هذه التسمية بدلا من أية تسمية أخرى تطلق عليه مهما بلغت من الذيوع والانتشار....(6) وأنا من المؤيدين لهذا الطرح والدعوة، وخصوصا أنها جاءت من باحث هو حجة زمانه، في مايخص الدفاع عن أدبنا الشعبي بالعلم والمعرفة والعشق....
ب- لعل من أقدم الكتب التي عنيت بتقديم تعريف للزجل،كتابي: العاطل الحالي والمرخص الغالي لصفي الدين الحلي (7) وبلوغ الأمل في فن الزجل لتقي الدين أبوبكر بن حجة الحموي (8) وهما مؤلفان مشرقيان اهتما بإبداع الزجل بالأندلس والمغرب، فرغم أن مجموعة من القضايا التي طرحت فيهما، هي اليوم متجاوزة وبقيت للتاريخ فقط، إلا أن الكتابين يزخران بالنصوص الزجلية القديمة وبلائحة طويلة من الأعلام رواد الزجل بالأندلس والمغرب ، كما أن الكتابين قدما روايات تعززحضورالزجل المغربي منذ النشأة..منها مثلا رواية الزجال ابن غرلة مع الزجالة رميلة أخت عبد المومن الموحدي.. (9) .لكني سأعتمد على مرجع " بلوغ الأمل في فن الزجل" للحموي لأني بكل بساطة لا أتوفر على النسخة الأولى كاملة ثم أن مرجع الحموي قد نقل الكثير من " العاطل الحالي"، كما أن كتاب الحموي يهدينا عنوانا واضحا من أول وهلة يغريك بدخول عالم " الزجل" والذي قدمه على سائر الأنواع التي اختار أن يناقشها في نفس المؤلف وهي: الموشح،الكان وكان،والقوما.
تعريف الحموي للزجل: لقد وضع الحموي تعريفه في نهاية مناقشاته لقضايا الزجل، وكأنه أراد أن يجعل هذا التعريف قاعدة جامعة أوتلخيصا مركزا، وعلى أي: فإننا سنقدم أهم مافي هذا التقديم ، لأن المؤلف قد أضاف العديد من الشروحات والتعقيبات والحواشي لتعريفه.
يقول الحموي: ".. أن الزجل في اللغة هو الصوت، يقال سحاب زجل،إذا كان فيه الرعد، ويقال لصوت الأحجار والحديد والجماد أيضا صوت وزجل..وأنه سمي هذا الفن زجلا لأنه لايلتذ به وتفهم مقاطع أوزانه حتى يغنى به ويصوت.." (10) وهونفس التعريف الذي جاء في مرجع " العاطل الحالي والمرخص الغالي" لصفي الدين الحلي،ويقترب أيضا مما جاء في قاموس " تاج العروس" لمحمد مرتضي الزبيدي (11) حيث الزجل " محركة اللعب والحلبة" وخص به التطريب. ونفس الشيء نجده عند ابن منظورفي قاموسه " لسان العرب" حيث أن الزجل جاء بمعنى: " رفع الصوت الطرب، وقد زجل زجلا، فهو زجل وزاجل، وربما أوقع على الغناء، قال وهو يغنيها غناء زاجلا" (12).
هذ التعاريف والمفاهيم قد اعتمدها مجموعة من الباحثين والمهتمين وقدموا لها قراءات مختلفة ، وبذلك فإنهم ساهموا في مبادرة التحديد اللغوي والإصلاحي للفظ "زجل".
ج - وأنا بدوري خصصت حيزا لهذا الموضوع في كتابي:"بعض أنواع الزجل بالمغرب"- من الغنائية إلى التفاعلية- دراسة ونصوص(13) .ووجدت أن تعريف الحموي الذي اعتمدت عليه يحدد منظومة فنية تمكن من قرائته قراءة جمالية وفنية.. فجاء الزجل فنا، وربطه باللذة والفهم، واشترط لبلوغهما الغناء والصوت.
ويجب أن نسطر هنا على كلمة " صوت" التي أتت في التعريف والتسمية جامعة بين الشدة والليونة، لكنهافي الأخير هي لمسة شاعرية منبعثة من أداة كأنها تراجيع مزمار، أو تغاريد طيور شادية..
والصوت جاء في بعض التعريفات بمعنى "تموج الهواء.(14) ووجوده مستمر باستمرار تموج الهواء الخارج من الحلق والآلات الصناعية ومنقطعا بانقطاعه...
وسبب التموج قلع عنيف، أو تفريق شديد، أو قرع عنيف، أو إمساس شديد.."
ولعلنا في هذا التعريف نجد ما يبرر إضفاء نوع من الجلجلة على شعر ناعم في حجم الزجل، وربما كان المقصود هو التنبيه إلى ولادته العسيرة، وهي عسيرة طبعا وبكل التأكيد.
وقد بوأ الزجال المغربي الصوت مكانة لائقة، فهذا الشيخ إسماعيل المراكشي وهو من أكبر زجالي وقته (15) ولما كان يضن على الحفاظ الملازمين له، سأله تلميذه آنذاك ح محمد بن عمر الملحوني (16)عن سبب ذلك فأجابه إجابة دالة وتحتاج وحدها لأكثر من وقفة وشرح، حيث قال:" لكلام عسل والصوت شهدة".ويعلق الأستاذ عبد الرحمان الملحوني على ذلك قائلا: " أي إذا كان " الشعر" رائعا روعة العسل وجودته،فإن هذه الروعة لايحافظ عليها إلا الصوت الحسن، كما يحافظ الشهد على عسله.. (17)
وقد وجدت أيضا أن الصوت يفيد " الحركة" بمعنى الإيقاع عند الموسيقيين، بل نجد أن الصوتي دائم الحضور في الفترة الشفهية وكذا التدوينية، لأنه مكون من مكونات بناء القصيدة انطلاقا من العلاقة القائمة بين الشعر والغناء.
وعلى أي، ومهما تعددت تعريفات الزجل، فإن القصدية المستترة من ذلك هي إضفاء نوع من الخصوصية الإضافية إليه.. لأنه في الغالب يبقى شعرا يمتلك كل مقومات الكتابة الشعرية المتعارف عليها، وما بين تلك الخصوصية المتجدرة،ومجموعة من الامتياحات المنفتحة والمتفتحة، نربح مجالا واسعا لملامسة العديد من القضايا المتعلقة بقصيدتنا الزجلية....
الهوامش والمراجع:
(1) يعتبر الزجال أحمد لمسيح من أبرز رواد القصيدة الحديثة بالمغرب، كما يعتبرأول من أصدر ديوانا زجليا مطبوعا في تاريخ الكتابة الزجلية الحديثة بالمغرب منذ عام 1976 بعمله رياح... التي ستأتي.
(2) أحمد لمسيح مقدمة عتبة السالك: مجلة آفاق، محور الزجل الحديث بالمغرب، العدد:3/4- 1992 ص:9
(3) يعتبر الدكتور عباس الجراري من رواد البحث والدراسات في تاريخ الأدب الشعبي المغربي إلى جانب تخصصاته الأخرى في الفكر والشعر والسير....
ومن ضمن أهم كتبه في مجال الأدب الشعبي : فن الزجل بالمغرب " القصيدة"التي هي عبارة عن رسالة لنيل شهادة الدكتوراه، حصل عليها بمصرتحت إشراف الدكتورالبحاثة عبد العزيز الأهواني. وكذلك من أهم كتبه:<الأدب المغربي من خلال ظواهره وقضاياها> وغيره كثير....ولد الدكتور عباس الجراري يوم 15 فبراير1937م بالرباط، ونشأ في أسرة تتميز بالعلم والأدب..
(4) الدكتور عباس الجراري: معجم مصطلحات الملحون الفنية، " حرف الزاي" مجلة فنون- وزارة الدولة المكلفة بالشؤون الثقافية. أكتوبر1977 –ص:31
(5) لدكتورعباس الجراري: الزجل في المغرب "القصيدة"، مطبعة الأمنية بالرباط- سنة 1970.
(6) الدكتور الجراري: المرجع نفسه، ص:54
(7) هو أبو الفضل عبد العزيز بن سريا بن علي الحلي. من أكبر شعراء وزجالي المشرق، اهتم بالزجل الأندلسي والمغربي والمشرقي في مؤلفه الشهير: " العاطل الحالي والمرخص الغالي".
(8) هو أبو المحاسن تقي الدين أبوبكو الحموي القادري الحنفي الأرزاوي والمعروف بابن حجة الحموي. ولد وفي حمأة سنة 767هجرية شاعر وزجال وبحاثة من العيار الثقيل، اهتم بأزجال القوم بالمغرب والأندلس والمشرق في كتابه المعروف: بلوغ الأمل في فن الزجل.
(9) تذكر الرواية، أن ابن غرلة الزجال وقع في شرك غرام الزجالة ارميلة أخت عبد المومن الموحدي، وتبادلا العشق والقصائد،وكانت النهاية مأساوية إذ حكم مؤسس الدولة الموحدية على ابن غزلة بالإعدام، وقد ترك هذا الأخير زجلا وافرا منه آخر قصيدة تحرض للثأر من قاتليه..
(10) ابن حجة الحموي: بلوغ الأمل في فن الزجل، تحقيق د رضا محسن القريشي، تحقيق د عبد العزيز الأهواني- مطبعة وزارة الثقافة دمشق1974
(11) مرتضى الحسين الزبيدي: تاج العروس، تحقيق د عبد الفتاح الحلو.سلسلة التراث العربي الكويت- 1986- مادة زجل المجلد 12 ص :222
(12) ابن منظور: لسان العرب، دار صادر ص: 302
(13) بعض أنواع الزجل بالمغرب من الغنائية إلى التفاعلية –دراسة ونصوص-كتاب مخطوط لي ينتظر الطبع لجزئه الأول
(14) المرجع نفسه
(15) زجال مراكشي صوفي زهد الدنيا وكتب في المواعظ والجفريات والمديح توفي في رمضان 1355هجرية.
(16) باحث مغربي معروف ببرامجه الإذاعية مع شعر الملحون ومع كتبه العديدة التي نشرها في مجال زجل الملحون وأهل الصوفية وديوان والده شيخ أشياخ مراكش الحاج محمد بن عمر الملحوني.
(17) ذ عبد الرحمان الملحوني: سلسلة أبحاث ودراسات في القصيدة الزجلية، الكتاب الرابع، المحور الثاني، شركة بابل للطباعة والنشرالرباط- ص:85
محمد الراشق: زجال وأستاذ باحث بمركز اليونسكو
لملتقى الثقافات – الخميسات- المغرب