الحديث حول علاقة الأدباء والمفكرين والكتّاب، فضلًا عن الشّعراء، بالقهوة يشبه، إلى حد بعيد، حديثاً عن علاقة الطّريق بالاتجاه أو السطور بالكلمات، فهي علاقة ذوبان وتماهٍ وعناق، عاشق بمعشوقة، لحن بإيقاع، لسانٍ بشفتين.
القهوة، بين الأخذ والرّد التاريخي
تاريخ القهوة جدير بأنْ تفرد له مساحاته في الحفر والتنقيب والكشف، فهذه السّاحرة كانت وما زالتْ محطّ أخذ وردّ ووصل وهجر لدى الكثير من البلدان والشعوب حول العالم، فهناك من قدّسها إلى درجةٍ جعلت منها جزءاً من الاحتفالات العقائدية الدينية، كما حدث قديمًا في بعض من البلدان الغربية، وفي المقابل، وجدت القهوة من يتخذ منها مواقف التحريمِ كما حدث مع الكنيسة الأثيوبية قبل نهاية القرن التاسع عشر، ومواقف الرفض والمنع لأسباب سياسية كما حدث في تركيا قبل نهاية القرن السابع عشر، وأسباب اقتصادية كما حدث في ألمانيا عام 1777، فضلًا عن حركات المعارضة والمناهضة التي قامت بها بعض الشّعوب ضد انتشار المقاهي في بعض البلدان الغربية، مثل إنجلترا، لأسباب مختلفة، سياسية وأخلاقية وثقافية.
في عام 1963، وبالتحديد في لندن، تم تأسيس المنظمة العالمية للقهوة ( International Coffee Organization) من قبل أكثر من 40 دولة منتجة ومصدّرة لها، بالإضافة إلى الدول المستوردة الرئيسية، وجميع بلدان الاتحاد الأوروبي، وفي مارس من عام 2014 اتخذت المنظمة قراراً بإفراد يوم عالمي للقهوة، وحددته باليوم الأول من أكتوبر من كل عام.
كانت القهوة ولا تزال على الدّوام محطّ اهتمام الملايين، قبولاً أو رفضاً، لكنّ حالةً ما تخلّقتْ بين هذا كلّه، جعلت للقهوة كينونة وشخصية وحضوراً طاغياً في بطون الكتب وأحشاء الأفكار والأشعار، فلا تكاد تخلو مجموعة شعرية أو سردية من المرور على ذكر القهوة هنا أو هناك.
القهوة في الشّعر العربي
علينا أن نكون حذرين إذا ما رغبنا في البحث عن أدبيات القهوة في الشّعر العربي القديم، فكما هو معروف لدى المهتمّين، فالقهوة كانت مصطلحاً يشير في ذلك الوقت إلى الخمر والطّلا، ولعلّ أكثر من أتى على ذكر القهوة ربما بوصفها خمراً هو الشاعر الحسن بن هانئ الدمشقيّ "أبو نواس" أشهر شعراء الدولة العباسية (762 – 813 م) ومن أكثرهم جزالةً وتمرّداً، حيث أتى على ذكرها وتغزّل فيها في أكثر من موضع وفي غير قصيدة، حيث قال في إحدى قصائده:
"اسقِني سَبْعًا تِباعا / وأدِرْهُنَّ سِراعا
قهوةٌ يحسَبُها الناظِرُ /إنّ صُبَّتْ شُعاعا"
في الأدب العربي الحديث، والشّعر خاصّة، استطاع الشاعر محمود درويش (1941 – 2008) أحد أهم الشّعراء الفلسطينيين والعرب والعالميين، أن يفرد مساحات لا بأس بها من نتاجاته الأدبية والشّعرية للقهوة، وتعمّق في شرح علاقته القدسيّة بها حتى أتى على ذكر أدقّ التفاصيل التي تربطه بمعشوقته، التي لا ينافسها في عشقها أحد كما كان يقول، ومن أهم أعماله التي كانت القهوة عمود بنائها ومحورها هو كتاب "ذاكرة للنسيان" الذي ضمّ أشهر ما قاله محمود درويش عن القهوة، وأكثرها رواجاً وتداولاً بين النّاس، ويقول فيه، مثلاً، واصفاً "شخصية القهوة" وحالاتها وارتباطها المرن بمحيطها:
"لا قهوة تشبه قهوة أخرى، لكل بيت قهوته ولكل يد قهوتها، لأنه لا نفس تشبه نفساً أخرى، وأنا أعرف القهوة من بعيد، تسير في خط مستقيم في البداية ثم تتعرج وتتلوى وتتأود وتتلوى وتتأوه وتلتفّ على سفوحٍ ومنحدرات، تتشبث بسنديانة أو بلوطة، وتتغلب لتهبط الوادي وتلتفت إلى ما وراء، وتتفتت حنينًا إلى صعود الجبل، وتصعد حين تتشتت في خيوط الناي الرّاحل إلى بيتها الأول"
ويضيف في ذات السّياق:
"هناك مذاق اسمه مذاق القهوة، فالقهوة ليست مفهوماً وليست مادة واحدة وليست مطلقاً. لكل شخص قهوته الخاصة إلى حد أقيس معه درجة ذوق الشخص وأناقته النفسية بمذاق قهوته، ثمة قهوة لها مذاق الكزبرة وذلك يعني أنّ مطبخ السيدة ليس مرتباً، وثمة قهوة لها مذاق الخرّوب وذلك يعني أنّ صاحب البيت بخيل، وثمة قهوة لها رائحة العطر وذلك يعني أنّ السّيدة شديدةُ الاهتمام بمظاهر الأشياء، وثمة قهوة لها ملمس الطحلب في الفم وذلك يعني أنّ صاحبها يساري طفولي، وثمة قهوة لها مذاق القدم من فرط ما تألّب البنّ في الماء السّاخن وذلك يعني أنّ صاحبها يمينيّ متطرف، وثمة قهوة لها مذاق الهال الطاغي وذلك يعني أنّ السيدة محدثة النعمة"
ويقول في موضع آخر، وبنبرة صوفيّة :
"رائحة القهوة عودةٌ وإعادة إلى الشيء الأول لأنها تتحدّر من سلالة المكان الأول، هي رحلة بدأتْ من آلاف السنين وما زالت تعود، القهوة مكان .
القهوة مسامُ تسرّبِ الداخل إلى الخارج، وانفصال يوحد ما لا يتوحد إلا فيها، هي رائحة القهوة، هي ضد الفطام، ثدي يرضع الرجال بعيداً، صباح مولود من مذاق مرّ.
حليب الرّجولة.
والقهوة جغرافيا".
إذاً، فالقهوة تعدّت كونها ذلك المشروب الذي يُعدّ ويحتسى، القهوة رفيقة وملهمة. كينونة لها اسمها وشخصيتها وتاريخها وعلاقاتها التي تربطها بأهل الفكر والأدب والشّعر، وتدخلها آمنةً في بيوت الجمال.
لماذا تشبه القهوة القصيدة؟
ربّما هنا يكمن السّر المُعلن، فلو مدّدنا القصيدة والقهوة أمامنا على سرير الفحص، وجسسنا قلبيهما، لسمعنا الجواب، والجواب هنا ليس للإجابة، بقدر ما هو للتأمّل أكثر، ولمَ لا يكون التّأمل، في ذاته، غايةً؟
تعددتْ أشكال القهوة، لكنّها ليست واحدة، ليست كالموت، فالموت في المحصلة ينفّذّ نفسه لا محالة، بغض النظر عن شكله، يتمّ تماماً ولا ينقِصُ شكلُه من تمامِه، أمّا القهوة فلا تكون قهوةً إذا لم يكن شكلها مبنيّاً على جماليات صاغها الشّارب، من قبل في وجدانه، ونذكر ها هنا مثالاً دارجاً على لسان المُحتسين لقهوة ليست قهوةً: "إنّها شّاي!"، "قهوتك: شوربة عدس!"، تعليقاتٌ نقديّةٌ من قبل المحتسين الناقدين للطبخة، ولسان الحال يقول: غايتنا ليست الشّرب، غايتنا القهوة، القهوة التي تخصّنا.
تماماً، كالقصيدة، غايتنا ليست القراءة، غايتنا القصيدة التي تهزّنا كما نحبّ أنْ نهزّ.
ماذا تعني القصيدة؟
ماذا تعني القصيدة للشّاعر؟
ماذا لو استبدلنا "القصيدة" في السؤالين بـ" القهوة"؟
سيميلُ البصر في الحالين إلى جهة ما، مجهولة، للبحث عن جواب يُحسّ ولا يُمسّ، وأقول بينما أحسّ ولا أمسّ :
منْ يكتبُ الشّعرَ؟
- مَنْ لا يفرّقُ بين القهوة في يدهِ، والقصيدة.
مَنْ يفهم الشّعرَ؟
- مَنْ يُدركُ الفرقَ (حينَما لا يدرك الفرق)
مَنْ يكره الشّعرَ؟
- مَنْ ليس منّا.
مَنْ؟
- مَنْ يُفرّقُ بين القهوة في يدهِ، والقصيدة.
مروان البطوش
القهوة، بين الأخذ والرّد التاريخي
تاريخ القهوة جدير بأنْ تفرد له مساحاته في الحفر والتنقيب والكشف، فهذه السّاحرة كانت وما زالتْ محطّ أخذ وردّ ووصل وهجر لدى الكثير من البلدان والشعوب حول العالم، فهناك من قدّسها إلى درجةٍ جعلت منها جزءاً من الاحتفالات العقائدية الدينية، كما حدث قديمًا في بعض من البلدان الغربية، وفي المقابل، وجدت القهوة من يتخذ منها مواقف التحريمِ كما حدث مع الكنيسة الأثيوبية قبل نهاية القرن التاسع عشر، ومواقف الرفض والمنع لأسباب سياسية كما حدث في تركيا قبل نهاية القرن السابع عشر، وأسباب اقتصادية كما حدث في ألمانيا عام 1777، فضلًا عن حركات المعارضة والمناهضة التي قامت بها بعض الشّعوب ضد انتشار المقاهي في بعض البلدان الغربية، مثل إنجلترا، لأسباب مختلفة، سياسية وأخلاقية وثقافية.
في عام 1963، وبالتحديد في لندن، تم تأسيس المنظمة العالمية للقهوة ( International Coffee Organization) من قبل أكثر من 40 دولة منتجة ومصدّرة لها، بالإضافة إلى الدول المستوردة الرئيسية، وجميع بلدان الاتحاد الأوروبي، وفي مارس من عام 2014 اتخذت المنظمة قراراً بإفراد يوم عالمي للقهوة، وحددته باليوم الأول من أكتوبر من كل عام.
كانت القهوة ولا تزال على الدّوام محطّ اهتمام الملايين، قبولاً أو رفضاً، لكنّ حالةً ما تخلّقتْ بين هذا كلّه، جعلت للقهوة كينونة وشخصية وحضوراً طاغياً في بطون الكتب وأحشاء الأفكار والأشعار، فلا تكاد تخلو مجموعة شعرية أو سردية من المرور على ذكر القهوة هنا أو هناك.
القهوة في الشّعر العربي
علينا أن نكون حذرين إذا ما رغبنا في البحث عن أدبيات القهوة في الشّعر العربي القديم، فكما هو معروف لدى المهتمّين، فالقهوة كانت مصطلحاً يشير في ذلك الوقت إلى الخمر والطّلا، ولعلّ أكثر من أتى على ذكر القهوة ربما بوصفها خمراً هو الشاعر الحسن بن هانئ الدمشقيّ "أبو نواس" أشهر شعراء الدولة العباسية (762 – 813 م) ومن أكثرهم جزالةً وتمرّداً، حيث أتى على ذكرها وتغزّل فيها في أكثر من موضع وفي غير قصيدة، حيث قال في إحدى قصائده:
"اسقِني سَبْعًا تِباعا / وأدِرْهُنَّ سِراعا
قهوةٌ يحسَبُها الناظِرُ /إنّ صُبَّتْ شُعاعا"
في الأدب العربي الحديث، والشّعر خاصّة، استطاع الشاعر محمود درويش (1941 – 2008) أحد أهم الشّعراء الفلسطينيين والعرب والعالميين، أن يفرد مساحات لا بأس بها من نتاجاته الأدبية والشّعرية للقهوة، وتعمّق في شرح علاقته القدسيّة بها حتى أتى على ذكر أدقّ التفاصيل التي تربطه بمعشوقته، التي لا ينافسها في عشقها أحد كما كان يقول، ومن أهم أعماله التي كانت القهوة عمود بنائها ومحورها هو كتاب "ذاكرة للنسيان" الذي ضمّ أشهر ما قاله محمود درويش عن القهوة، وأكثرها رواجاً وتداولاً بين النّاس، ويقول فيه، مثلاً، واصفاً "شخصية القهوة" وحالاتها وارتباطها المرن بمحيطها:
"لا قهوة تشبه قهوة أخرى، لكل بيت قهوته ولكل يد قهوتها، لأنه لا نفس تشبه نفساً أخرى، وأنا أعرف القهوة من بعيد، تسير في خط مستقيم في البداية ثم تتعرج وتتلوى وتتأود وتتلوى وتتأوه وتلتفّ على سفوحٍ ومنحدرات، تتشبث بسنديانة أو بلوطة، وتتغلب لتهبط الوادي وتلتفت إلى ما وراء، وتتفتت حنينًا إلى صعود الجبل، وتصعد حين تتشتت في خيوط الناي الرّاحل إلى بيتها الأول"
ويضيف في ذات السّياق:
"هناك مذاق اسمه مذاق القهوة، فالقهوة ليست مفهوماً وليست مادة واحدة وليست مطلقاً. لكل شخص قهوته الخاصة إلى حد أقيس معه درجة ذوق الشخص وأناقته النفسية بمذاق قهوته، ثمة قهوة لها مذاق الكزبرة وذلك يعني أنّ مطبخ السيدة ليس مرتباً، وثمة قهوة لها مذاق الخرّوب وذلك يعني أنّ صاحب البيت بخيل، وثمة قهوة لها رائحة العطر وذلك يعني أنّ السّيدة شديدةُ الاهتمام بمظاهر الأشياء، وثمة قهوة لها ملمس الطحلب في الفم وذلك يعني أنّ صاحبها يساري طفولي، وثمة قهوة لها مذاق القدم من فرط ما تألّب البنّ في الماء السّاخن وذلك يعني أنّ صاحبها يمينيّ متطرف، وثمة قهوة لها مذاق الهال الطاغي وذلك يعني أنّ السيدة محدثة النعمة"
ويقول في موضع آخر، وبنبرة صوفيّة :
"رائحة القهوة عودةٌ وإعادة إلى الشيء الأول لأنها تتحدّر من سلالة المكان الأول، هي رحلة بدأتْ من آلاف السنين وما زالت تعود، القهوة مكان .
القهوة مسامُ تسرّبِ الداخل إلى الخارج، وانفصال يوحد ما لا يتوحد إلا فيها، هي رائحة القهوة، هي ضد الفطام، ثدي يرضع الرجال بعيداً، صباح مولود من مذاق مرّ.
حليب الرّجولة.
والقهوة جغرافيا".
إذاً، فالقهوة تعدّت كونها ذلك المشروب الذي يُعدّ ويحتسى، القهوة رفيقة وملهمة. كينونة لها اسمها وشخصيتها وتاريخها وعلاقاتها التي تربطها بأهل الفكر والأدب والشّعر، وتدخلها آمنةً في بيوت الجمال.
لماذا تشبه القهوة القصيدة؟
ربّما هنا يكمن السّر المُعلن، فلو مدّدنا القصيدة والقهوة أمامنا على سرير الفحص، وجسسنا قلبيهما، لسمعنا الجواب، والجواب هنا ليس للإجابة، بقدر ما هو للتأمّل أكثر، ولمَ لا يكون التّأمل، في ذاته، غايةً؟
تعددتْ أشكال القهوة، لكنّها ليست واحدة، ليست كالموت، فالموت في المحصلة ينفّذّ نفسه لا محالة، بغض النظر عن شكله، يتمّ تماماً ولا ينقِصُ شكلُه من تمامِه، أمّا القهوة فلا تكون قهوةً إذا لم يكن شكلها مبنيّاً على جماليات صاغها الشّارب، من قبل في وجدانه، ونذكر ها هنا مثالاً دارجاً على لسان المُحتسين لقهوة ليست قهوةً: "إنّها شّاي!"، "قهوتك: شوربة عدس!"، تعليقاتٌ نقديّةٌ من قبل المحتسين الناقدين للطبخة، ولسان الحال يقول: غايتنا ليست الشّرب، غايتنا القهوة، القهوة التي تخصّنا.
تماماً، كالقصيدة، غايتنا ليست القراءة، غايتنا القصيدة التي تهزّنا كما نحبّ أنْ نهزّ.
ماذا تعني القصيدة؟
ماذا تعني القصيدة للشّاعر؟
ماذا لو استبدلنا "القصيدة" في السؤالين بـ" القهوة"؟
سيميلُ البصر في الحالين إلى جهة ما، مجهولة، للبحث عن جواب يُحسّ ولا يُمسّ، وأقول بينما أحسّ ولا أمسّ :
منْ يكتبُ الشّعرَ؟
- مَنْ لا يفرّقُ بين القهوة في يدهِ، والقصيدة.
مَنْ يفهم الشّعرَ؟
- مَنْ يُدركُ الفرقَ (حينَما لا يدرك الفرق)
مَنْ يكره الشّعرَ؟
- مَنْ ليس منّا.
مَنْ؟
- مَنْ يُفرّقُ بين القهوة في يدهِ، والقصيدة.
مروان البطوش
فيلم "طفيلي": هل تهدّد الفوارق الاجتماعية مصير العالم؟
يستمر الفيلم الكوري "طفيلي" في صنع تاريخ جديد للسينما الكورية؛ بترشيحه لـ 6 جوائز أوسكار، أعلنتها أكاديمية فنون وعلوم الصور المتحركة، يوم 13 كانون الثاني (يناير) الجاري، مسجلاً نفسه كأول فيلم كوري يتمّ ترشيحه لأفضل فيلم وأفضل مخرج. اقرأ أيضاً: 20 فيلماً ينبغي أن تكون على قائمة مشاهداتكم عام 2020...
www.hafryat.com