انطلقت رحلة وجود ما يسمى حديثًا الهوية العربية الأمريكية في الأدب منذ بدأ أدباء المهجر في أوائل القرن العشرين، أمثال: جبران خليل جبران، أمين الريحاني، ميخائيل نعيمة، إيليا ابو ماضي، عبد المسيح حداد.. في الكتابة عن المنفى وأهواله، وما يترتّب عنه من اضطراب فكري ونفسي بالأساس يتمثل في عدم فهم واقع أجبرهم وأجبر المهاجرين العرب، من أصول سورية ولبنانية بشكل خاص، على الاستغناء عن أوطانهم بحثًا عن الأمان ولقمة العيش.
في الحقيقة، لم يكن الأدب العربي الأمريكي إلا نتاج تجربة هجرة من الشرق الأوسط إلى أمريكا لعائلات حرمت من طيب العيش ومن السلام، خلال حقبة تاريخية أنهكت المنطقة العربية تحت الحكم العثماني، ومن ثم الحرب العالمية الأولى التي تبعتها اتفاقية سايكس - بيكو.
بسبب التمزق بين الهويتين اللبنانية والأمريكية، أصرت الرابطة القلمية على الإقدام على خلق إبداعي أدبي يفسر قيمة تواجد هويتين في نفس الشخص، وهذا التناقض يجب عليه أن يكون مثالًا للتعايش الإنساني رغم الحضور اللافت للاختلاف من وجهة نظر ثقافية وسياسية.
تواجه الهوية العربية الأمريكية اليوم تحديات وانتقادات لم تسمح لها سابقًا بأن تتكون كما يراها الأمريكيون من أصول عربية. هناك نظرة دونية متفشية على مستوى كل من المجتمع العربي من جهة، والمجتمع الأمريكي من جهة أخرى، تنظر إلى العرب الأمريكيين على أساس أنهم مكونات دخيلة لا تنتمي لأي من الثقافتين.
الذاكرة وتكوين الهوية العربية الأمريكية
التمعن في فكرة الذاكرة يسمح لنا بأن نتطلع إليها من وجهة نظر أدبية في البداية، عندما يقع تحليل الشخصيات في الأدب العربي الأمريكي. قبل ذلك، مصطلح الذاكرة يرجع بنا إلى مجال التحليل النفسي، بالأخص نظريات سيغموند فرويد، عندما عرّفها بأنها نتاج للتجربة الشخصية للإنسان وجزء من المكون الهوياتي، بالإضافة إلى أنها تتدخل في بناء اللاوعي عن طريق تراكم غير مباشر لأحداث عشوائية أو مقصودة في حياة الإنسان.
الذاكرة عبارة عن المخيال الفردي والجماعي، وهي التي يستطيع الإنسان من خلالها التفريق بين الماضي والمستقبل وما بينهما. يرتبط عنصر الهوية بالذاكرة ارتباطًا قويًا بما أن الأخيرة تتمثل في مجموعة أحداث وتجارب ومعارف خبرها الإنسان في فترات من حياته، وأصبحت بذلك تشكل قيمته الفكرية والاجتماعية وتنظم علاقاته بمن حوله. بالتحديد، تتداخل فكرة تكوين الهوية العربية الأمريكية بفكرة الذاكرة وتترابط معها، بما أن الذاكرة الجماعية التي توحد المهاجرين العرب ترتكز على عامل الهجرة أولًا، وما هو إلا نتاج كوارث كالمجاعة والحروب وتفتيت الشعوب على المستوى الاقتصادي والاجتماعي. يندرج عامل الهجرة ضمن أدب الصدمة، والذي من بسببه صار المجتمع العربي الأمريكي يتميز بلمحة خاصة تذكّرنا بتاريخه المشبع بالتحديات.
تسبّبت الهجرة أساسًا في بلورة أعمدة وبدايات تأسيس الأدب العربي الأمريكي، وهو مكوّن ثقافي جديد يلخص فيه مؤسسوه مأساة المنفى وآثارها النفسية من خلال أعمال شعرية ونثرية.
في رواية "كتاب خالد"، وهو أول عمل أدبي كتبه الأديب اللبناني الأمريكي أمين الريحاني باللغتين الإنجليزية والعربية، يسرد الراوي المجهول، من خلال استعمال لغوي هجين واستثنائي، تجربة انتقال خالد ما بين وطنين وزمنين مختلفين، ويصف فيها التمزق السيكولوجي والجسدي للشخصية الرئيسية ما بين مشرق روحاني ترعرع فيه ونهل منه وجوده الأول، وما بين أمريكا الأمبريالية التي ترتكز فيها العقلية على تفوق المادة والفكر الرأسمالي المناقض لمجتمعات الشرق الخارجة حديثًا من براثن الاستعمار.
في هذا الكتاب، تتوصف الذاكرة في حدث هجرة خالد الأولى إلى أليس ايلند في نيويورك حيث ترحب شعلة تمثال الحرية بطالبي الاستقرار داخل أرض الأحلام، ويكتمل تكوينها عندما يختلط خالد بالمجتمع الأمريكي الذي يرفضه بسبب أصوله العربية تارة، ويستقبله عندما يتوجه لخوض معركة سياسية داخل تنظيم تاماني هول تارة أخرى، وهو التنظيم السياسي الديموقراطي التوجه الذي حاول فيه خالد تمثيل مجتمع نيويورك السوري في مدينة مانهاتن.
في كتاب الريحاني، سرد مشحون بوصف دقيق لوضع خالد الاستثنائي. فهو لبناني وأمريكي في الوقت ذاته. تصمد ذاكرة خالد المشرقية أمام تراكم تجاربه الأمريكية التي أصبحت جزءًا لا يمكن التخلي عنه عند تحليل الشخصية وتفكيك توجهها الأيديولوجي والهوياتي، المتسم بالتعددية والمنافي في مقابل وجهة النظر الأحادية.
ذاكرة خالد مثال مصغر عن ماضي وحاضر المجتمع الأمريكي اللبناني الذي سعى لبناء هذه الهوية المتسمة بالتناقض، وذلك عن طريق الانفتاح على حدث صادم محفورة في الذاكرة كالهجرة، وتحويله من سبب للانعزال الثقافي إلى مكوّن للهوية المزدوجة.
الازدواجية
أن تكون "مزدوجًا" أو "هجينًا"، حسب لغة الأدب العربي الأمريكي وحسب بعض نظريات ما بعد الحداثة، لا يعني أنك إنسان تفتقر إلى هوية، أو أنك ضائع ما بين انتماءات أو لغات، بل هذا يؤدي في الحقيقة إلى تعريف جوهر الإنسانية نفسها عند أدباء المهجر والرابطة القلمية.
مفهوم التعدد الهوياتي اليوم في عالم مبنيّ على أسس العولمة يوضح أكثر قيمة وصِفَة الإنسانية في الإنسان، ونخص بالذكر مثال الشخصية المهيمنة في الأعمال الأدبية العربية الأمريكية، فهو بذلك يجمع داخل عقله ونفسه موطنًا يتجاوز حدود المادة والجغرافيا والانتماء الضيق لطائفة أو مكان معين، ويترفع إلى تصوّر ميتافزيقي قائم على توحيد الاختلافات، حيث تتعايش في هذا التصور الجديد الثقافات في ظل احترام متبادل، لطالما بحث عنه هؤلاء الكتّاب في اعتراف لهم بأهمية ما يسمى كذلك "بالكونية".
وفي هذا الصدد لا بد من التركيز على الكونية فكرة مؤسِّسة في الأدب العربي الأمريكي، ذلك أن عامل الاختلاف لم يعتبر أبدًا سببًا للتفريق كما نظر اليه المستعمر واستغله لنشر الفتن وتدمير أعمدة الأوطان في المشرق العربي، خصوصًا على المستوى الديني. بل هو، حسب جبران والريحاني ونعيمة، واسطة وعامل للتقدم والثراء الاجتماعي من شأنه الخروج بهذه البلدان "المشؤومة" من وضعها المزري، الذي تتحكم فيه الطبقية والطائفية ونبذ الآخر المختلف.
ينبغي لنا التذكير بأن معظم أدباء المهجر ينتمي إلى المسيحية المشرقية (المارونية بالأساس)، وهم بفضل تركيبتهم الهوياتية العربية/المسيحية كانوا من السباقين الذين نظروا إلى كونية الإنسان العربي أولًا، ومن ثم المواطن "العالمي" ثانيًا، مما أتاح لهم في كتاباتهم، بشكل غير مباشر، تفكيك الخطاب الاستعماري الذي اعتمد على التقسيم ليبسط قواه دون اعتراض.
ينظّر مفكر ما بعد الكولونيالية هومي بابا لفكرة الازدواجية الهوياتية والثقافية، ويرى أن تتداخل وتلاقح الثقافات الناتجة عن دخول المستعمر أو الهجرة أو غيرها يمهد لوجود فضاء ثالث يوحّد هذا التصادم، ويمهّد للكونية القائمة على المساواة بين جميع الثقافات والرافضة للطبقية الاستعمارية، التي تعتبر ثقافة المستعمر أرقى وأنقى من هوية الشعوب المضطهدة.
ذلك أيضًا ما تطرّق إليه إدوارد سعيد في كتابه "الاستشراق"، عندما فسّر أن "الغرب" المستعمر هو من صنع فكرة الشرق، وأن فكرة "عبء الإنسان الأبيض" هي التي حتمت على الغرب اكتشاف "المشرق" ونشر "الحضارة" فيه.
تنبني الهوية العربية الأمريكية على فكرة "الفضاء الوسطي" التي يعثر فيها الإنسان العربي الأمريكي على مساحة لتوافق الثقافة الأمريكية والعربية رغم التصادم القائم بينهما. فعلى سبيل المثال، في كتابه المعنون "كتاب مرداد" يتطرق ميخائيل نعيمة إلى حكاية مرداد النبي الجديد، المبعوث من نص الكاتب، والذي يتردّد دائمًا على أتباعه لينشر بينهم فلسفة ليست دغمائية أو دينية ضيقة الأفق، بل فلسفة تعنى بتعريف بديل لمعنى الإنسانية قائم على التجرد من "الأنانية الثقافية" والشوفينية، ومن ثم التذكير بفكرة الوطن والانتماء للأرض.
تندرج الازدواجية في هذا العمل الذي أكمل ونشر في بيروت سنة 1948 باللغة العربية، ومن ثم الإنجليزية، في النظرة البديلة للأنا ككيان حاضن للتعدد ضمن الوحدة، ومن هذه الفكرة بالذات تتأسس الهوية العربية الأمريكية، التي تبقى موضع نزاع وجدل بما أنها تسعى لجمع قطبين ثقافيين متفاوتين سياسيًا وأيديولوجيًا.
بناء الهوية العربية الامريكية والرأي العام والأيديولوجية
كتب في موسوعة الأبحاث الفلسفية أن "تجربة إدوارد سعيد ترسم نموذجًا لهذا المثقف الكوني الذي عاش قلق اللامكان، وقاوم بنفس الوقت مشاعر الوطنية الضيقة، ووجد في الكتابة وفي اللغة موطنه الذي يستوعب كل الأحاسيس الانسانية".
هكذا صارع الكتّاب العرب الأمريكيون منفاهم الحقيقي والمجازي، والذي لأجل تدميره انتصروا لازدواجية الفكر وإنسانية الأدب، ومن أجل تحقيق بناء أدبي واجتماعي حقيقي للهوية العربية الامريكية، كان من الضروري تحويل أوجه المنفى القاسية، القائمة على الكليشيهات، إلى وسيلة للاندماج وخلق تعريف بديل للأنا العربية من خلال العمل الأدبي في أمريكا.
في هذا السياق، حرص الكتاب العرب الأمريكيون، خصوصًا بعد أحداث 11 أيلول/سبتمبر على رفض الأيديولوجيات الدينية والسياسية، باعتبارها منابر تطرف وتضليل أضرت بفكرة الكونية، وشوّهت صورة المجتمع العربي الأمريكي لدى الرأي العام.
في تحليلنا لكتاب خالد، نلاحظ أن الشخصية الرئيسية ضحّت بمعرفتها الكونية التي تقوم على مبدأ تجانس الشرق والغرب وتوحيد العقيدة بالاعتماد على الروحانية لنشرها، وتعبّر عن رفضها للدين الذي أصبح أداة سياسية هدفها الترويج للفتن.
دأب الروائيون والشعراء العرب الأمريكيون على شحن عملهم الإبداعي بروح التناغم الإنساني، بما يُفسح مجالًا للتقارب الفكري بين ثقافتين اعتبرتا عدوتين على عدة مستويات.
هذه الهوية الهجينة استثناء سعت لتوطيده وتثبيته جماعة الرابطة القلمية منذ بداية القرن السابق، حتى تثبت أن الإنسان قادر على العيش في ظل التجانس والكونية والاختلاف الثقافي، دون تحويله إلى صدام تكون عواقبه وخيمة، تنتج عنه حروب تؤدي بالعالم إلى هاويته.
في الحقيقة، لم يكن الأدب العربي الأمريكي إلا نتاج تجربة هجرة من الشرق الأوسط إلى أمريكا لعائلات حرمت من طيب العيش ومن السلام، خلال حقبة تاريخية أنهكت المنطقة العربية تحت الحكم العثماني، ومن ثم الحرب العالمية الأولى التي تبعتها اتفاقية سايكس - بيكو.
بسبب التمزق بين الهويتين اللبنانية والأمريكية، أصرت الرابطة القلمية على الإقدام على خلق إبداعي أدبي يفسر قيمة تواجد هويتين في نفس الشخص، وهذا التناقض يجب عليه أن يكون مثالًا للتعايش الإنساني رغم الحضور اللافت للاختلاف من وجهة نظر ثقافية وسياسية.
تواجه الهوية العربية الأمريكية اليوم تحديات وانتقادات لم تسمح لها سابقًا بأن تتكون كما يراها الأمريكيون من أصول عربية. هناك نظرة دونية متفشية على مستوى كل من المجتمع العربي من جهة، والمجتمع الأمريكي من جهة أخرى، تنظر إلى العرب الأمريكيين على أساس أنهم مكونات دخيلة لا تنتمي لأي من الثقافتين.
الذاكرة وتكوين الهوية العربية الأمريكية
التمعن في فكرة الذاكرة يسمح لنا بأن نتطلع إليها من وجهة نظر أدبية في البداية، عندما يقع تحليل الشخصيات في الأدب العربي الأمريكي. قبل ذلك، مصطلح الذاكرة يرجع بنا إلى مجال التحليل النفسي، بالأخص نظريات سيغموند فرويد، عندما عرّفها بأنها نتاج للتجربة الشخصية للإنسان وجزء من المكون الهوياتي، بالإضافة إلى أنها تتدخل في بناء اللاوعي عن طريق تراكم غير مباشر لأحداث عشوائية أو مقصودة في حياة الإنسان.
الذاكرة عبارة عن المخيال الفردي والجماعي، وهي التي يستطيع الإنسان من خلالها التفريق بين الماضي والمستقبل وما بينهما. يرتبط عنصر الهوية بالذاكرة ارتباطًا قويًا بما أن الأخيرة تتمثل في مجموعة أحداث وتجارب ومعارف خبرها الإنسان في فترات من حياته، وأصبحت بذلك تشكل قيمته الفكرية والاجتماعية وتنظم علاقاته بمن حوله. بالتحديد، تتداخل فكرة تكوين الهوية العربية الأمريكية بفكرة الذاكرة وتترابط معها، بما أن الذاكرة الجماعية التي توحد المهاجرين العرب ترتكز على عامل الهجرة أولًا، وما هو إلا نتاج كوارث كالمجاعة والحروب وتفتيت الشعوب على المستوى الاقتصادي والاجتماعي. يندرج عامل الهجرة ضمن أدب الصدمة، والذي من بسببه صار المجتمع العربي الأمريكي يتميز بلمحة خاصة تذكّرنا بتاريخه المشبع بالتحديات.
تسبّبت الهجرة أساسًا في بلورة أعمدة وبدايات تأسيس الأدب العربي الأمريكي، وهو مكوّن ثقافي جديد يلخص فيه مؤسسوه مأساة المنفى وآثارها النفسية من خلال أعمال شعرية ونثرية.
في رواية "كتاب خالد"، وهو أول عمل أدبي كتبه الأديب اللبناني الأمريكي أمين الريحاني باللغتين الإنجليزية والعربية، يسرد الراوي المجهول، من خلال استعمال لغوي هجين واستثنائي، تجربة انتقال خالد ما بين وطنين وزمنين مختلفين، ويصف فيها التمزق السيكولوجي والجسدي للشخصية الرئيسية ما بين مشرق روحاني ترعرع فيه ونهل منه وجوده الأول، وما بين أمريكا الأمبريالية التي ترتكز فيها العقلية على تفوق المادة والفكر الرأسمالي المناقض لمجتمعات الشرق الخارجة حديثًا من براثن الاستعمار.
في هذا الكتاب، تتوصف الذاكرة في حدث هجرة خالد الأولى إلى أليس ايلند في نيويورك حيث ترحب شعلة تمثال الحرية بطالبي الاستقرار داخل أرض الأحلام، ويكتمل تكوينها عندما يختلط خالد بالمجتمع الأمريكي الذي يرفضه بسبب أصوله العربية تارة، ويستقبله عندما يتوجه لخوض معركة سياسية داخل تنظيم تاماني هول تارة أخرى، وهو التنظيم السياسي الديموقراطي التوجه الذي حاول فيه خالد تمثيل مجتمع نيويورك السوري في مدينة مانهاتن.
في كتاب الريحاني، سرد مشحون بوصف دقيق لوضع خالد الاستثنائي. فهو لبناني وأمريكي في الوقت ذاته. تصمد ذاكرة خالد المشرقية أمام تراكم تجاربه الأمريكية التي أصبحت جزءًا لا يمكن التخلي عنه عند تحليل الشخصية وتفكيك توجهها الأيديولوجي والهوياتي، المتسم بالتعددية والمنافي في مقابل وجهة النظر الأحادية.
ذاكرة خالد مثال مصغر عن ماضي وحاضر المجتمع الأمريكي اللبناني الذي سعى لبناء هذه الهوية المتسمة بالتناقض، وذلك عن طريق الانفتاح على حدث صادم محفورة في الذاكرة كالهجرة، وتحويله من سبب للانعزال الثقافي إلى مكوّن للهوية المزدوجة.
الازدواجية
أن تكون "مزدوجًا" أو "هجينًا"، حسب لغة الأدب العربي الأمريكي وحسب بعض نظريات ما بعد الحداثة، لا يعني أنك إنسان تفتقر إلى هوية، أو أنك ضائع ما بين انتماءات أو لغات، بل هذا يؤدي في الحقيقة إلى تعريف جوهر الإنسانية نفسها عند أدباء المهجر والرابطة القلمية.
مفهوم التعدد الهوياتي اليوم في عالم مبنيّ على أسس العولمة يوضح أكثر قيمة وصِفَة الإنسانية في الإنسان، ونخص بالذكر مثال الشخصية المهيمنة في الأعمال الأدبية العربية الأمريكية، فهو بذلك يجمع داخل عقله ونفسه موطنًا يتجاوز حدود المادة والجغرافيا والانتماء الضيق لطائفة أو مكان معين، ويترفع إلى تصوّر ميتافزيقي قائم على توحيد الاختلافات، حيث تتعايش في هذا التصور الجديد الثقافات في ظل احترام متبادل، لطالما بحث عنه هؤلاء الكتّاب في اعتراف لهم بأهمية ما يسمى كذلك "بالكونية".
وفي هذا الصدد لا بد من التركيز على الكونية فكرة مؤسِّسة في الأدب العربي الأمريكي، ذلك أن عامل الاختلاف لم يعتبر أبدًا سببًا للتفريق كما نظر اليه المستعمر واستغله لنشر الفتن وتدمير أعمدة الأوطان في المشرق العربي، خصوصًا على المستوى الديني. بل هو، حسب جبران والريحاني ونعيمة، واسطة وعامل للتقدم والثراء الاجتماعي من شأنه الخروج بهذه البلدان "المشؤومة" من وضعها المزري، الذي تتحكم فيه الطبقية والطائفية ونبذ الآخر المختلف.
ينبغي لنا التذكير بأن معظم أدباء المهجر ينتمي إلى المسيحية المشرقية (المارونية بالأساس)، وهم بفضل تركيبتهم الهوياتية العربية/المسيحية كانوا من السباقين الذين نظروا إلى كونية الإنسان العربي أولًا، ومن ثم المواطن "العالمي" ثانيًا، مما أتاح لهم في كتاباتهم، بشكل غير مباشر، تفكيك الخطاب الاستعماري الذي اعتمد على التقسيم ليبسط قواه دون اعتراض.
ينظّر مفكر ما بعد الكولونيالية هومي بابا لفكرة الازدواجية الهوياتية والثقافية، ويرى أن تتداخل وتلاقح الثقافات الناتجة عن دخول المستعمر أو الهجرة أو غيرها يمهد لوجود فضاء ثالث يوحّد هذا التصادم، ويمهّد للكونية القائمة على المساواة بين جميع الثقافات والرافضة للطبقية الاستعمارية، التي تعتبر ثقافة المستعمر أرقى وأنقى من هوية الشعوب المضطهدة.
ذلك أيضًا ما تطرّق إليه إدوارد سعيد في كتابه "الاستشراق"، عندما فسّر أن "الغرب" المستعمر هو من صنع فكرة الشرق، وأن فكرة "عبء الإنسان الأبيض" هي التي حتمت على الغرب اكتشاف "المشرق" ونشر "الحضارة" فيه.
تنبني الهوية العربية الأمريكية على فكرة "الفضاء الوسطي" التي يعثر فيها الإنسان العربي الأمريكي على مساحة لتوافق الثقافة الأمريكية والعربية رغم التصادم القائم بينهما. فعلى سبيل المثال، في كتابه المعنون "كتاب مرداد" يتطرق ميخائيل نعيمة إلى حكاية مرداد النبي الجديد، المبعوث من نص الكاتب، والذي يتردّد دائمًا على أتباعه لينشر بينهم فلسفة ليست دغمائية أو دينية ضيقة الأفق، بل فلسفة تعنى بتعريف بديل لمعنى الإنسانية قائم على التجرد من "الأنانية الثقافية" والشوفينية، ومن ثم التذكير بفكرة الوطن والانتماء للأرض.
تندرج الازدواجية في هذا العمل الذي أكمل ونشر في بيروت سنة 1948 باللغة العربية، ومن ثم الإنجليزية، في النظرة البديلة للأنا ككيان حاضن للتعدد ضمن الوحدة، ومن هذه الفكرة بالذات تتأسس الهوية العربية الأمريكية، التي تبقى موضع نزاع وجدل بما أنها تسعى لجمع قطبين ثقافيين متفاوتين سياسيًا وأيديولوجيًا.
بناء الهوية العربية الامريكية والرأي العام والأيديولوجية
كتب في موسوعة الأبحاث الفلسفية أن "تجربة إدوارد سعيد ترسم نموذجًا لهذا المثقف الكوني الذي عاش قلق اللامكان، وقاوم بنفس الوقت مشاعر الوطنية الضيقة، ووجد في الكتابة وفي اللغة موطنه الذي يستوعب كل الأحاسيس الانسانية".
هكذا صارع الكتّاب العرب الأمريكيون منفاهم الحقيقي والمجازي، والذي لأجل تدميره انتصروا لازدواجية الفكر وإنسانية الأدب، ومن أجل تحقيق بناء أدبي واجتماعي حقيقي للهوية العربية الامريكية، كان من الضروري تحويل أوجه المنفى القاسية، القائمة على الكليشيهات، إلى وسيلة للاندماج وخلق تعريف بديل للأنا العربية من خلال العمل الأدبي في أمريكا.
في هذا السياق، حرص الكتاب العرب الأمريكيون، خصوصًا بعد أحداث 11 أيلول/سبتمبر على رفض الأيديولوجيات الدينية والسياسية، باعتبارها منابر تطرف وتضليل أضرت بفكرة الكونية، وشوّهت صورة المجتمع العربي الأمريكي لدى الرأي العام.
في تحليلنا لكتاب خالد، نلاحظ أن الشخصية الرئيسية ضحّت بمعرفتها الكونية التي تقوم على مبدأ تجانس الشرق والغرب وتوحيد العقيدة بالاعتماد على الروحانية لنشرها، وتعبّر عن رفضها للدين الذي أصبح أداة سياسية هدفها الترويج للفتن.
دأب الروائيون والشعراء العرب الأمريكيون على شحن عملهم الإبداعي بروح التناغم الإنساني، بما يُفسح مجالًا للتقارب الفكري بين ثقافتين اعتبرتا عدوتين على عدة مستويات.
هذه الهوية الهجينة استثناء سعت لتوطيده وتثبيته جماعة الرابطة القلمية منذ بداية القرن السابق، حتى تثبت أن الإنسان قادر على العيش في ظل التجانس والكونية والاختلاف الثقافي، دون تحويله إلى صدام تكون عواقبه وخيمة، تنتج عنه حروب تؤدي بالعالم إلى هاويته.