أحمد شحيمط - المكان الذي يسكننا..

المكان فضاء للعيش والسكن، للترحال والعبور والاستقرار والانتقال ، نسكن الأمكنة وتسكننا ، ونحمل صورا وذكريات عالقة من الأماكن التي مررنا بها، وتلك التي أقمنا فيها مدة معينة من الزمن ، المكان كما تتصوره الرواية عنصرا فنيا فاعلا تتحرك فيه الشخصيات، وتعبر عن عوالم ممكنة من الصراع والأنس ، فليس المقصود هنا بالمكان المجازي والمكان الهندسي أو المتخيل في رؤية الروائي بل المكان الواقعي كفضاء للعيش، والذي يترك آثارا نفسية في الإنسان حيث يتناول الروائي هذا المكان بالوصف والشرح لكل زاوية من زواياه، ويخلق بين الذات والمكان حوارا لا ينتهي ، وبناء على الوصف والتغني بالمكان ينقلنا الروائي أحيانا للشخصيات لإظهار التفاعل من منظور فني وجمالي، تتوحد الرؤية الواقعية بالمتخيل وتتحطم أحيانا العلاقة بين المرئي واللامرئي، وتنجلي العلاقات الإنسانية ومنطق الصراع والمغادرة، ثم العودة من جديد للمكان نفسه، روح خاصة تعج بالآثار والذكريات مهما كان الانفصال جذريا مع المكان في السرد المتخيل أو في المكان الواقعي. صورة المكان في ذهن الروائي تضيع في زخم اليومي والنسيان، وتبقى الانطباعات العامة وصور من الذكريات، يحاول الإنسان قدر الإمكان تصوير المكان كفضاء منفتح ومجالا للصراع، وإنتاج الحياة من رحم الطبيعة وغنى المجال، ومن كل مناحي الأمكنة، لذلك تحتوي البيوت على أرواح منتشرة ،خصوصا بيت الطفولة ، كما وصفه غاستون باشلار في كتاب”جماليات المكان” في الإحساس بالمتعة والراحة والعيش في كنف البيوت ودفئ العائلة ، يحمي البيت أحلام اليقظة ويخلق فينا نوع الألفة والسكون، ويمنحنا الاتصال المتين، وعندما توصف الأمكنة في الرواية يكون القصد من العمل ما هو فني وجمالي، وعندما نسكب على العمل دقة التصوير وقوة الوصف فنحن ننقل الأجواء الصغرى والدقيقة من مقاطع الحياة داخل البيوت التي نسكنها والتي سكنت فؤادنا وخيالنا، حتى صرنا بفعل البعد عن المكان نشتاق ونحن في العودة إليها من جديد. فالبيوت القديمة التي ظلت آيلة للسقوط بفعل الطقس والتقلبات المناخية هي تلك البيوت التي يستشعر فيها الإنسان الانتماء والحنين للعودة إليها من جديد، وجمالية الأمكنة ما يثير فينا الإعجاب والتناغم والكمال، وما يترك في ذاكرتنا تلك الصور الجميلة والحسنة أو الصور القاتمة من ذكريات أليمة. سكنا البيوت وسكنتنا كذلك، وتشكلت تلك الصورة غير القابلة للانمحاء من ذهننا ، هذا الفضاء الرحب من البيوت وخارجها، هذا المكان الفسيح الذي نشاهد منه السفح والأعلى، وننظر للقيم وتماسك الجماعة، وتسرح العين بعيدا في الأفق لرؤية المغادرين والعائدين من أمكنة أخرى ، الليل يرخي سدوله وتشتد أواصر العلاقة المتينة بين الناس في احتساء الشاي والإنصات للكلام في مرامي اليوم وكلمة الكبار، والعيش والتأمل في نجوم السماء، وترك العنان للكلام والحديث بدون تحليل ومقاطعة، فمن شيم أهل المكان عدم نسف الكلام حتى يتم إيصال الفكرة، ولا داعي لكثرة السؤال بل في الإنصات للحكايات من المكان يكمن الاحترام وتبنى الأفكار، وبعيدا عن المكان الواقعي في ذاكرة الأفراد والجماعات، تعيد الرواية العربية الحديثة والمعاصرة للمكان قيمة كفضاء متخيل وممزوج بالواقعية ، المكان الضائع في رؤية الروائي الليبي إبراهيم الكوني يعني المكان الذي تحولت في واقعه أشياء متعددة ، مكان للعيش والألفة والحرية المتنفس الأقوى للإنسان في الصحراء ، مكان للصفاء والتأمل في أسرار الوجود والطبيعة، وليس المكان كما يقال مرادفا لشظف العيش والمعاناة، بل في المكان سكون وهدوء وحديث لا ينتهي في أطراف الليل والنهار، فكل الأمكنة تصبح مسارا للترحال والانتقال، جمالية المكان ليست في ذات المكان لكن في كل ما يؤديه من وظائف وأهداف، ويرتبط المكان بالحرية جوهر الإنسان وقيم الجماعة ، حقيقة معاشة، عندما يؤثر المكان في البشر ويصبح مرآة تنعكس عليها الذات لما يحتوي عليه المكان من السكن والعيش في كنف الأسرة والجماعة ، المكان الضائع في سرديات إبراهيم الكوني، هو عالم الصحراء الغامض، والمجتمع الراحل، قانونه العرف وناموسه قوانين الصحراء، فلا يستقر الإنسان في مكان معين، بل كل الأمكنة في الصحراء مسار للرحيل والترحال، وعدم الاستقرار، الصحراء روح وتجربة، ناموس الصحراء تلك القيم النابعة من عمقها، الصحراء فضاء مفتوح، الصحراء لا تعني فقط المكان المفعم بالفراغ بل رمز وكنوز غنية بالدلالات والأسرار، وجدنا أنفسنا كما يقول الروائي الكوني لنعبر الصحراء لا لنسكنها، السكون هنا يكون بالأثر الدال على قيم الصحراء، ومنها عشق وتنفس الحرية، والعرب عندما تنصلوا لرسالة الصحراء من خلال الاستقرار وبناء المدن الإسمنتية ودخول الخرطوش وصيد الودان كانت العلامة الفارقة في تغير نمط عيشهم وسلوكهم في اختيار السكون والاستقرار، هذا الأمر يعالجه الروائي عبد الرحمان منيف في خماسية مدن الملح بأجزائها الخمسة عن معالم التغير التي طرأ على بنية المجتمع البدوي، وانتقال البدو للحضارة التي كانت بأدوات الغير، وليست نابعة من قيمنا، بناء المدن والتحالف مع الآخر، وانعكاس الثروة النفطية على مكونات المجتمعات العربية في الخليج، المكان الذي يضفي عليه عبد الرحمان منيف حيثيات الحكاية، مكان طبيعي وجغرافية مادية رغم اختلاف الأسماء وشخصيات الرواية، يبقى المكان تعبير عن الفضاء وسيميائيته بكل ما يحمله من دلالة ومعنى في القيم الاجتماعية، وفي عملية الانتقال من البداوة إلى الحضارة بفعل تدفق المال والزيادة في الثقافة الاستهلاكية ، معطيات جديدة في ميدان العمران والبناء. علاقات اجتماعية قسمت المجتمع إلى طبقات، واغتنى الناس بفعل عائدات النفط والريع الاقتصادي .
بقيت الصحراء كفضاء للعيش تسكن الروائي العربي ويسكنها، ويعتبر هذا الفضاء بكل دلالته مكان يسكن الإنسان ويثير خيال الروائي والمتلقي معا، في مضمون السرديات تذكير القارئ للتأمل في ما وراء معالم المكان، ليس كشكل محدود أو لا متناهي بل ما تحمله الأمكنة من تجارب حية للشعوب، وذاكرة من الصور والذكريات الفردية والجماعية ، فالعودة للبيت القديم والبيوت الآيلة للسقوط يعني العودة للطفولة والحياة التي ترسخت من زمن الاحتكاك المباشر بالمكان ، ولما تجلى الفراق عادت روح الإنسان تهفو للمكان، ويشعر بذلك الحنين والرغبة الملحة في زيارة الأمكنة ، فعندما يوجه السؤال لإبراهيم الكوني عن سبب الكتابة وعشق الصحراء، وأنه برح هذا المكان من مدة طويلة واختيار الاستقرار بسويسرا الباردة، يؤكد في أقواله أن المكان يسكننا ويحرك في أعماقنا أشياء في الطبيعة الإنسانية التي تتماهى مع الأمكنة، ولا يعني المغادرة أننا تخلصنا من صورة المكان المحفورة في نفوسنا. بل لا زالت صورة الصحراء تسكن وجدان الكوني، وسحرها لا يفوقه سحرا في كثبان رملها وصفاء البحث عن الحقيقة في عمقها. فالبحث عن المكان الضائع من ركام الأحداث وانتشال الصورة من الذهن والذاكرة والانهمام بالمكان يعني عشق الحرية وثقافة الجماعة، والتأمل في ليالي الأنس دون تحول المكان إلى نقطة للفرار سواء من الإنسان أو الحيوان، حتى دخول السلاح والرصاص والتنقيب عن سوائل الأرض ، هنا بدأت معالم التغيير تصيب الصحراء . وهي بداية للفرار من قبل الإنسان والحيوان .
الطيب صالح في السودان كتب عن المكان ونقل تراث البلد إلى لندن في غرفة مليئة بالتراث الثقافي الخاص بالسودان ، يقدم الثقافة للآخر بقيمة المنتوجات المحلية، ويقترب أكثر من الآخر في إطار التلاقح بين الثقافات والحضارات، فجاء المكان هنا فضاء يحتوي على ذخائر مهمة للحفاظ على الهوية والاعتراف بالذات أمام الآخر. هكذا يسكننا المكان وتغرس في أعماقنا تلك الصور العالقة والمحفوظة في نفوسنا، فلا يمكن التنصل من المكان والبيوت القديمة، والأمكنة التي ممرنا منها في السفر والترحال، لكن بيوت المولد لها ميزة أخرى في إيقاظ مشاعر دفينة وعميقة في العودة للسنوات الماضية واستحضار الماضي والتجارب الحية التي تركت بصمة في تكويننا النفسي والفكري والاجتماعي. المكان شبكة من العلاقات الإنسانية وفضاء للتفاعل والانسجام والصراع ، في البيوت القديمة أو تلك البيوت المفتوحة في ثقافتنا تسكن الأسرة الممتدة، ويكبر الأطفال في جو عائلي مفعم بالحيوية والحميمية وسط سلطة الكبار،حياة التنافس والتعاون في الأعمال الزراعية، نترقب كل الحفلات والمناسبات، ونركض في البراري والحقول الخضراء، ونصعد على الأشجار، ونجول في الغابة المجاورة، ونسير في الوديان، ونركض بحثا عن أعشاش الطيور، ونركب الدواب ونبحث عن الماء والكلأ، نمشي مع القطيع، نركض فوق التلال والسهول، تلك حياة البساطة، لا تنطوي على مظاهر البذخ، ولا تعني رفاهية الطبقات، حيث تتشابه البيوت ويتجلى التنظيم وطريقة البناء في فناء رحب منفتح على السماء، ونسمع أصوات العصافير، وصياح الديك، هناك غرف عالية وبيوت في الجبال والسفح تبعا للرغبة في الاستقرار، وبين جوانب البيوت أشجار الصنوبر والتين واللوز والصفصاف، والكلاب تنبح هنا وهناك، والناس في حركة مستمرة، بيوت تسكنها الألفة والبساطة في العيش، والحياة غير رتيبة أو مملة بل في إيقاعها دينامية في خلق التماسك بين الجماعة، قانون المكان العرف والتقاليد، من أجواء المرح البحث عن فسحة في الالتقاء من خلال الأعراس والحفلات. وعندما ننسى بعض الأحداث تعود الصور الذهنية لوحدها للأذهان، أو نلتقي بأصدقاء الطفولة، ولا نعثر على فاعلية الحياة في المدن لأنها بيوت من صناديق مغلقة، وحياة مشدودة بروتين اليومي وشقاء العمل. فالمكان الذي يسكننا مكان غير منفصل عن ذكريات الطفولة ، ذلك الفضاء الذي شكل هويتنا .



المكان الذي يسكننا أحمد شحيمط كاتب من المغرب - الناقد العراقي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى