كلمة المثقف من أكثر الكلمات والمصطلحات تداولاً بين الناس، على مر التاريخ، شرقاً وغرباً، وفي كل العلوم والفنون والآداب، ونحن نعرف إن التعريف الشائع، الجامع المانع للمثقف هو الشخص الذي يعرف ( شيء عن كل شيء)، بخلاف الشخص المختص الذي يعرف ( كل شيء عن شيء)، وبذلك يكون المثقف عند البعض هو أهم من المختص، بينما يفضل البعض الآخر المختص على المثقف، للتخصص الدقيق الذي يلم به ويكون على دراية دقيقة ومفصلة بعلمه وتخصصه، بينما المثقف يلم بشيء بسيط ومتواضع عن هذه العلوم والفنون المتعددة، ولكننا نجد بعيداً عن ضجة تعريف المصطلحات ووفرة المعاني والمفاهيم لكلمة المثقف أن المفكر العراقي علي الوردي يميز المثقف عن غير المثقف، من خلال المنهج والأسلوب الفكري الذي يتبعه، إضافة إلى كثرة الاطلاع والمعرفة والتواصل التي تكون وسيلة لتهذيب المثقف وتحسين نظرته للحياة والعالم وجميع ما يتصل به ويتواصل معه، كما أن الوردي يميز بين المتعلم والمثقف بقوله : ( فالمتعلم هو من تعلم أموراً لم تخرج عن نطاق الإطار الفكري الذي اعتاد عليه منذ صغره. فهو لم يزدد من العلم إلا ما زاد في تعصبه وضيق من مجال نظره، هو قد آمن برأي من الآراء أو مذهب من المذاهب فاخذ يسعى وراء المعلومات التي تؤيده في رأيه وتحرضه عل الكفاح في سبيله. أما المثقف فهو يمتاز بمرونة رأيه وباستعداده لتلقي كل فكرة جديدة وللتأمل فيها ولتملي وجه الصواب منها.) (1)
ونستطيع القول انه ليس كل متعلم أو ذو شهادة جامعية أو علمية يحمل صفة المثقف، لأن الوردي يجعل شرط أساسي يقيد المثقف به، وهو القدرة على نقد أفكاره وتمحيصها، والقابلية على تقبل الأفكار المخالفة له، وإمكانية الخروج عن إطاره الفكري المحدد له أو محاولة تهذيبه وتنظيمه، بما يمتلك من معرفة وثقافة تمكنه من ذلك. فـ ( المقياس الذي نقيس به ثقافة شخص ما هو مبلغ ما يتحمل هذا الشخص من آراء غيره المخالفة لرأيه، فالمثقف الحقيقي يكاد لا يطمئن إلى صحة رأيه، ذلك لأن المعيار الذي يزن به صحة الآراء غير ثابت لديه، فهو يتغير من وقت لآخر.)(2)
فكل إنسان بنظر الوردي محاط بإطار فكري محدد، ولديه قوقعة بشرية يصغي لها بوعي منه أو لا وعي، تحدد مسارات حياته وفكره ومسيرته، فـ ( هنالك ثلاثة أنواع من القيود موضوعة على عقل الإنسان عند تفكيره أو عند نظره في الأمور، وهذه الأنواع الثلاثة هي :1ـ القيود النفسية. 2ـ القيود الاجتماعية. 3ـ القيود الحضارية.) (3)
وكل إنسان، مهما صغر أو كبر، تعلم أو لم يتعلم، محاط بهذه القيود والإُطر الفكرية، ولكن هناك فرق في الدرجة لا في الطبيعة البشرية، فالعالم والمثقف يستطيع تذويب هذه الاُطر الفكرية وتصحيحها وتصويب مساراتها، بما يملك من سعة فكر ومنهج علمي وأفق حضاري وميزان معرفي قادر على إدراك الأمور ومناقشتها بعلمية وواقعية موضوعية بعيداً عن تعصب الذات ومنطق الانحياز.
ويرى الوردي إن الثقافة والمثقف ليس مجرد كلام وممارسات شكلية ومصطلحات ومفاهيم رنانة نتفوه بها، بل هي طريقة وأسلوب ومنهج حياة، فالوردي كثيراً ما ينتقد الأفكار والمصطلحات الجديدة التي يتلقفها الكثير من المثقفين، دون معرفة مغزاها وإدراك معناها وقيمتها، فكثير من الدارسين العرب، ممن درسوا في الغرب، عادوا إلى مجتمعاتهم بالمصطلحات والأقوال الكبيرة، ولم يأتوا بالأفعال والممارسة الفعلية والفاعلة لتغيير مجتمعاتهم وتحسين واقعهم، وينبهر الكثير منا بالمنجز الحضاري والعلمي الغربي ويدعو إلى تقليده، ولكن الأمر يبقى حبر على ورق، ولم نتقدم درجة واحدة نحو الأفضل، لان حملة الشعارات والهتافات أكثر ممن يسعى لتطبيقها على ارض الواقع.
ويشير الوردي إلى أن هناك صراعاً فكرياً على طول التاريخ، وفي كل المجتمعات البشرية، يجري بين المجددين والمحافظين، بين من يدعو لتبني ثقافة جديدة وينفتح على الآخر، وبين من يدعو للتمسك بثقافته وتراثه وينغلق على ذاته، وهذا الصراع الفكري والثقافي لا ينتهي أبداً، ولعل البعض يعتقد إن الوردي ينتصر لثقافة فريق المجددين على المحافظين، ولكن الأمر مختلف تماماً، لأنه ينتقد منهج المحافظين والمجددين على حد سواء، بقوله : ( والمجتمع الذي تسوده قوى المحافظين يتعفن كالماء الراكد. أما المجتمع الذي تسوده قوى المجددين فيتمرد كالطوفان حيث يجتاز الحدود والسدود ويهلك الحرث والنسل. والمجتمع الصالح ذلك الذي يتحرك بهدوء فلا يتعفن ولا يطغى، إذ تتوازن فيه قوى المحافظة والتجديد فلا تطغى أحداهما على الأخرى).(4)
وبذلك نرى إن مقياس المثقف عند الوردي ليس بمقدار ما يمتلكه من كمية معلومات وتعليم وشهادات، بل بقدر ما يمتلك من طريقة وأسلوب ومنهج علمي يمكنه من نقد ذاته أولاً، وتقبل الآخر ثانياً، ومرناً في تقبل الآراء والحوار ثالثاً، لان الحقيقة نسبية ومتغيرة ومتعددة بتعدد البشر وألوانهم واختلاف مشاربهم، وكثيراً ما ينتقد ويذم الوردي الذين يسيرون خلف المنطق الأرسطي الذي يحصر جميع القضايا بين أمرين: إما حق وإما باطل، وإما ابيض أو اسود، ولا ثالث لهما، وهذا منطق قديم درج عليه الناس لمدة طويلة من الزمن ولا يزالون، ولكن منطق العلم قد قضى عليه،
وانتصر لتعدد الحقائق والقضايا، ويؤمن بنسبية الحقيقة لا إطلاقها، وبتغيرها لا ثباتها، لأنه منطق يبنى على الدليل العلمي، لا على الدليل المنطقي والحجاجي والكلامي، وقد انتقد الوردي، المنطق الأرسطي في العديد من مؤلفاته وانتصر للمنطق العلمي، حيث يقول : ( وقد ساعد هذا المنطق الناس، ولا يزال يساعدهم، في حروبهم الدينية والسياسية التي امتلأت بها صفحات التاريخ. فهو منطق يصلح للدفاع والهجوم، ولا يصلح لاكتشاف الحقائق الجديدة أو التثبت من صحة الآراء القديمة.)(5)
ويرى الوردي إن رجوع الكثيرين لمنطق أرسطو والعمل به إنما هو انتصار لعقيدة الشخص وأيدلوجيته لا انتصار للحق والحقيقة، لأنه منطق ذاتي لا موضوعي، منطق صوري لا مادي، فـ ( منطق أرسطو عزل المفكرين عن واقع الحياة وصعد بهم نحو السحاب. يتضح لنا ذلك حين ندرس قوانين الفكر التي يستند عليها هذا المنطق في أقيسته. فهي قوانين تناقض قوانين الواقع تناقضاً كبيراً.).(6)
وعرفنا من خلال طروحات وكتابات الوردي، نقده للفقهاء والمتكلمين والفلاسفة والنحاة والساسة والمثقفين، لرجوعهم لمنطق أرسطو الصوري المتعالي، الذي ينتصر لطرف على طرف آخر، ويحتكم لقضايا العقل والتحيز الفكري، لا إلى منطق العلم والحياد والواقع.
إذاً الوردي ينقد الآلة القانونية التي يعتمد عليها الناس في بناء وتشييد أفكارهم، وبذلك تكون صورة المثقف ايجابية أو سلبية بقدر منطقه ومنهجه الذي يسير عليه، إن كان يحتكم بمنطق أرسطو فهو يدعو للانتصار لذاته ويرى الحق معه والباطل مع خصمه، وان كان يحتكم لمنطق العلم، فسيؤمن بأن الحق والحقيقة مختلفة ومتعددة بين الناس، وقد يكون مصيباً أو خاطئاً بحسب الحوار والمناقشة العلمية والأدلة المقدمة من قبل الجميع، وقد يكون الشخص اليوم على حق وغداً على باطل، بخلاف المنطق الأول المنغلق على ذاته ويرى الحق معه اليوم وغداً على حدٍ سواء.
كما يؤكد الوردي على أهمية الواقع والمجتمع والمحيط في بناء الإنسان، نفسياً واجتماعياً وفكرياً، وبذلك على الإنسان أن يؤمن بقيمة المجتمع وأثره على حياته وصياغة أفكاره، لأن ( الإنسان لا يفكر بعقله المجرد، بل هو يفكر بعقل مجتمعه. فهو ينظر في الأمور، ويميز بين الحسن والقبيح منها، حسب ما يوحي به المجتمع إليه. إن تفكيره يجري في نطاق القوالب والخطوط التي صنعها المجتمع له…لا ننكر وجود إفراد خرجوا على قيم مجتمعهم وإطاره الفكري. وهذا أمر يكثر حدوثه في المجتمعات “المفتوحة” التي تتصارع فيها الأفكار وتلتقي فيها الاتجاهات المختلفة. أما في المجتمعات “المغلقة” التي تعيش في عزلة نسبية، وتسيطر
عليها ثقافة اجتماعية موحدة، فمن الصعب على الإنسان أن يفكر أو يسلك خلاف ما اعتاد عليه ونشأ فيه.). (7)
لا شك أن صورة المثقف التي يرسمها الوردي ويدعو لها تمتاز بالعلمية والتنوير والواقعية، ومتى ما قدرنا على نقد وتقويم ذواتنا سنصل إلى الغاية العظمى إلا وهي بناء مجتمعاتنا بناءاً علمياً وواقعياً سليماً، يؤمن بالحوار والاختلاف والتنافس الحر الشريف، دون نزاع أو صراع عقائدي أو سياسي أو فكري متطرف، يؤدي إلى دمار وإبادة الشعوب والمجتمعات على وجه الأرض، وأن نؤمن بأهمية وقيمة التعددية والاختلاف وتنوع الحقيقة بين الناس، وبهذا المنطق نميز بين المثقف السليم والمثقف السقيم، الذي ليس له من الثقافة إلا الهتافات والشعارات والعبارات الفارغة التي لا تسمن ولا تغني من جوع، فالمثقف الحقيقي ناقد وثائر ومصلح، يقتدي به جمع من الناس نحو الإصلاح والبناء والتغيير. وهي صورة لشد ما نحتاجها اليوم في مجتمعاتنا، للتخلص من العقد الفكرية، والانغلاق الثقافي، والتطرف والكراهية، التي انتشرت بيننا، بسبب التعصب، والأنانية، والحزبية، والفئوية، وعدم الإيمان بالآخر وحقوقه، وحريته، في الفكر والاختيار والحياة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش :
(*) كاتب وباحث أكاديمي عراقي. أستاذ الفلسفة المساعد والفكر العربي المعاصر في الجامعة المستنصرية. [email protected]
(1) د.علي الوردي. خوارق اللاشعور. ط2. دار ومكتبة دجلة والفرات. بيروت ـ لبنان. 2010. ص 46.
(2) د.علي الوردي. خوارق اللاشعور. ص 46ـ 47.
(3) د.علي الوردي. خوارق اللاشعور. ص 58.
(4) د.علي الوردي. مهزلة العقل البشري. ط2. دار ومكتبة دجلة والفرات. بيروت ـ لبنان. ص 149.
(5) د.علي الوردي. مهزلة العقل البشري. ص 53.
(6) د.علي الوردي. خوارق اللاشعور. ص 85.
(7) د. علي الوردي. دراسة في طبيعة المجتمع العراقي. ط1. دار ومكتبة دجلة والفرات. بيروت ـ لبنان. 2011. ص 139.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* إشارة :
احتفاءً ومراجعة ونقدا للأفكار الجريئة والريادية للمفكر العراقي الدكتور (علي الوردي) الذي وصفه (جاك بيرك) في كتابه (العرب: تاريخ ومستقبل): (الوردي كاتب يحلّق إلى العالمية بأسلوبه الذي يضرب على الأوتار الحساسة في المجتمع، مثل فولتير)، تبدأ أسرة موقع الناقد العراقي بنشر حلقات ملفها عنه. لقد سبق الوردي بأطروحاته الكثير من المفكرين العرب، وتناول موضوعات صارت تُطرح الآن كأنها معطيات حديثة، علما أنه طرح أغلبها في مرحلة الخمسينات، وقد تجاهل الباحثون العرب أطروحاته بعد أن غرفوا منها ولم يعودوا بحاجة إلى ذكره. وهذا كتاب الباحث المعروف (هشام شرابي) الأخير (نقد الثقافة الأكاديمية) يذكر فيه أسماء وجهود باحثين في علم الإجتماع في الوطن العربي- بعضهم مغمور لم نسمع به أبداً- من المحيط إلى الخليج عدا الدكتور (علي الوردي). تحية إلى روح المفكر الثائر علي الوردي.
ونستطيع القول انه ليس كل متعلم أو ذو شهادة جامعية أو علمية يحمل صفة المثقف، لأن الوردي يجعل شرط أساسي يقيد المثقف به، وهو القدرة على نقد أفكاره وتمحيصها، والقابلية على تقبل الأفكار المخالفة له، وإمكانية الخروج عن إطاره الفكري المحدد له أو محاولة تهذيبه وتنظيمه، بما يمتلك من معرفة وثقافة تمكنه من ذلك. فـ ( المقياس الذي نقيس به ثقافة شخص ما هو مبلغ ما يتحمل هذا الشخص من آراء غيره المخالفة لرأيه، فالمثقف الحقيقي يكاد لا يطمئن إلى صحة رأيه، ذلك لأن المعيار الذي يزن به صحة الآراء غير ثابت لديه، فهو يتغير من وقت لآخر.)(2)
فكل إنسان بنظر الوردي محاط بإطار فكري محدد، ولديه قوقعة بشرية يصغي لها بوعي منه أو لا وعي، تحدد مسارات حياته وفكره ومسيرته، فـ ( هنالك ثلاثة أنواع من القيود موضوعة على عقل الإنسان عند تفكيره أو عند نظره في الأمور، وهذه الأنواع الثلاثة هي :1ـ القيود النفسية. 2ـ القيود الاجتماعية. 3ـ القيود الحضارية.) (3)
وكل إنسان، مهما صغر أو كبر، تعلم أو لم يتعلم، محاط بهذه القيود والإُطر الفكرية، ولكن هناك فرق في الدرجة لا في الطبيعة البشرية، فالعالم والمثقف يستطيع تذويب هذه الاُطر الفكرية وتصحيحها وتصويب مساراتها، بما يملك من سعة فكر ومنهج علمي وأفق حضاري وميزان معرفي قادر على إدراك الأمور ومناقشتها بعلمية وواقعية موضوعية بعيداً عن تعصب الذات ومنطق الانحياز.
ويرى الوردي إن الثقافة والمثقف ليس مجرد كلام وممارسات شكلية ومصطلحات ومفاهيم رنانة نتفوه بها، بل هي طريقة وأسلوب ومنهج حياة، فالوردي كثيراً ما ينتقد الأفكار والمصطلحات الجديدة التي يتلقفها الكثير من المثقفين، دون معرفة مغزاها وإدراك معناها وقيمتها، فكثير من الدارسين العرب، ممن درسوا في الغرب، عادوا إلى مجتمعاتهم بالمصطلحات والأقوال الكبيرة، ولم يأتوا بالأفعال والممارسة الفعلية والفاعلة لتغيير مجتمعاتهم وتحسين واقعهم، وينبهر الكثير منا بالمنجز الحضاري والعلمي الغربي ويدعو إلى تقليده، ولكن الأمر يبقى حبر على ورق، ولم نتقدم درجة واحدة نحو الأفضل، لان حملة الشعارات والهتافات أكثر ممن يسعى لتطبيقها على ارض الواقع.
ويشير الوردي إلى أن هناك صراعاً فكرياً على طول التاريخ، وفي كل المجتمعات البشرية، يجري بين المجددين والمحافظين، بين من يدعو لتبني ثقافة جديدة وينفتح على الآخر، وبين من يدعو للتمسك بثقافته وتراثه وينغلق على ذاته، وهذا الصراع الفكري والثقافي لا ينتهي أبداً، ولعل البعض يعتقد إن الوردي ينتصر لثقافة فريق المجددين على المحافظين، ولكن الأمر مختلف تماماً، لأنه ينتقد منهج المحافظين والمجددين على حد سواء، بقوله : ( والمجتمع الذي تسوده قوى المحافظين يتعفن كالماء الراكد. أما المجتمع الذي تسوده قوى المجددين فيتمرد كالطوفان حيث يجتاز الحدود والسدود ويهلك الحرث والنسل. والمجتمع الصالح ذلك الذي يتحرك بهدوء فلا يتعفن ولا يطغى، إذ تتوازن فيه قوى المحافظة والتجديد فلا تطغى أحداهما على الأخرى).(4)
وبذلك نرى إن مقياس المثقف عند الوردي ليس بمقدار ما يمتلكه من كمية معلومات وتعليم وشهادات، بل بقدر ما يمتلك من طريقة وأسلوب ومنهج علمي يمكنه من نقد ذاته أولاً، وتقبل الآخر ثانياً، ومرناً في تقبل الآراء والحوار ثالثاً، لان الحقيقة نسبية ومتغيرة ومتعددة بتعدد البشر وألوانهم واختلاف مشاربهم، وكثيراً ما ينتقد ويذم الوردي الذين يسيرون خلف المنطق الأرسطي الذي يحصر جميع القضايا بين أمرين: إما حق وإما باطل، وإما ابيض أو اسود، ولا ثالث لهما، وهذا منطق قديم درج عليه الناس لمدة طويلة من الزمن ولا يزالون، ولكن منطق العلم قد قضى عليه،
وانتصر لتعدد الحقائق والقضايا، ويؤمن بنسبية الحقيقة لا إطلاقها، وبتغيرها لا ثباتها، لأنه منطق يبنى على الدليل العلمي، لا على الدليل المنطقي والحجاجي والكلامي، وقد انتقد الوردي، المنطق الأرسطي في العديد من مؤلفاته وانتصر للمنطق العلمي، حيث يقول : ( وقد ساعد هذا المنطق الناس، ولا يزال يساعدهم، في حروبهم الدينية والسياسية التي امتلأت بها صفحات التاريخ. فهو منطق يصلح للدفاع والهجوم، ولا يصلح لاكتشاف الحقائق الجديدة أو التثبت من صحة الآراء القديمة.)(5)
ويرى الوردي إن رجوع الكثيرين لمنطق أرسطو والعمل به إنما هو انتصار لعقيدة الشخص وأيدلوجيته لا انتصار للحق والحقيقة، لأنه منطق ذاتي لا موضوعي، منطق صوري لا مادي، فـ ( منطق أرسطو عزل المفكرين عن واقع الحياة وصعد بهم نحو السحاب. يتضح لنا ذلك حين ندرس قوانين الفكر التي يستند عليها هذا المنطق في أقيسته. فهي قوانين تناقض قوانين الواقع تناقضاً كبيراً.).(6)
وعرفنا من خلال طروحات وكتابات الوردي، نقده للفقهاء والمتكلمين والفلاسفة والنحاة والساسة والمثقفين، لرجوعهم لمنطق أرسطو الصوري المتعالي، الذي ينتصر لطرف على طرف آخر، ويحتكم لقضايا العقل والتحيز الفكري، لا إلى منطق العلم والحياد والواقع.
إذاً الوردي ينقد الآلة القانونية التي يعتمد عليها الناس في بناء وتشييد أفكارهم، وبذلك تكون صورة المثقف ايجابية أو سلبية بقدر منطقه ومنهجه الذي يسير عليه، إن كان يحتكم بمنطق أرسطو فهو يدعو للانتصار لذاته ويرى الحق معه والباطل مع خصمه، وان كان يحتكم لمنطق العلم، فسيؤمن بأن الحق والحقيقة مختلفة ومتعددة بين الناس، وقد يكون مصيباً أو خاطئاً بحسب الحوار والمناقشة العلمية والأدلة المقدمة من قبل الجميع، وقد يكون الشخص اليوم على حق وغداً على باطل، بخلاف المنطق الأول المنغلق على ذاته ويرى الحق معه اليوم وغداً على حدٍ سواء.
كما يؤكد الوردي على أهمية الواقع والمجتمع والمحيط في بناء الإنسان، نفسياً واجتماعياً وفكرياً، وبذلك على الإنسان أن يؤمن بقيمة المجتمع وأثره على حياته وصياغة أفكاره، لأن ( الإنسان لا يفكر بعقله المجرد، بل هو يفكر بعقل مجتمعه. فهو ينظر في الأمور، ويميز بين الحسن والقبيح منها، حسب ما يوحي به المجتمع إليه. إن تفكيره يجري في نطاق القوالب والخطوط التي صنعها المجتمع له…لا ننكر وجود إفراد خرجوا على قيم مجتمعهم وإطاره الفكري. وهذا أمر يكثر حدوثه في المجتمعات “المفتوحة” التي تتصارع فيها الأفكار وتلتقي فيها الاتجاهات المختلفة. أما في المجتمعات “المغلقة” التي تعيش في عزلة نسبية، وتسيطر
عليها ثقافة اجتماعية موحدة، فمن الصعب على الإنسان أن يفكر أو يسلك خلاف ما اعتاد عليه ونشأ فيه.). (7)
لا شك أن صورة المثقف التي يرسمها الوردي ويدعو لها تمتاز بالعلمية والتنوير والواقعية، ومتى ما قدرنا على نقد وتقويم ذواتنا سنصل إلى الغاية العظمى إلا وهي بناء مجتمعاتنا بناءاً علمياً وواقعياً سليماً، يؤمن بالحوار والاختلاف والتنافس الحر الشريف، دون نزاع أو صراع عقائدي أو سياسي أو فكري متطرف، يؤدي إلى دمار وإبادة الشعوب والمجتمعات على وجه الأرض، وأن نؤمن بأهمية وقيمة التعددية والاختلاف وتنوع الحقيقة بين الناس، وبهذا المنطق نميز بين المثقف السليم والمثقف السقيم، الذي ليس له من الثقافة إلا الهتافات والشعارات والعبارات الفارغة التي لا تسمن ولا تغني من جوع، فالمثقف الحقيقي ناقد وثائر ومصلح، يقتدي به جمع من الناس نحو الإصلاح والبناء والتغيير. وهي صورة لشد ما نحتاجها اليوم في مجتمعاتنا، للتخلص من العقد الفكرية، والانغلاق الثقافي، والتطرف والكراهية، التي انتشرت بيننا، بسبب التعصب، والأنانية، والحزبية، والفئوية، وعدم الإيمان بالآخر وحقوقه، وحريته، في الفكر والاختيار والحياة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش :
(*) كاتب وباحث أكاديمي عراقي. أستاذ الفلسفة المساعد والفكر العربي المعاصر في الجامعة المستنصرية. [email protected]
(1) د.علي الوردي. خوارق اللاشعور. ط2. دار ومكتبة دجلة والفرات. بيروت ـ لبنان. 2010. ص 46.
(2) د.علي الوردي. خوارق اللاشعور. ص 46ـ 47.
(3) د.علي الوردي. خوارق اللاشعور. ص 58.
(4) د.علي الوردي. مهزلة العقل البشري. ط2. دار ومكتبة دجلة والفرات. بيروت ـ لبنان. ص 149.
(5) د.علي الوردي. مهزلة العقل البشري. ص 53.
(6) د.علي الوردي. خوارق اللاشعور. ص 85.
(7) د. علي الوردي. دراسة في طبيعة المجتمع العراقي. ط1. دار ومكتبة دجلة والفرات. بيروت ـ لبنان. 2011. ص 139.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* إشارة :
احتفاءً ومراجعة ونقدا للأفكار الجريئة والريادية للمفكر العراقي الدكتور (علي الوردي) الذي وصفه (جاك بيرك) في كتابه (العرب: تاريخ ومستقبل): (الوردي كاتب يحلّق إلى العالمية بأسلوبه الذي يضرب على الأوتار الحساسة في المجتمع، مثل فولتير)، تبدأ أسرة موقع الناقد العراقي بنشر حلقات ملفها عنه. لقد سبق الوردي بأطروحاته الكثير من المفكرين العرب، وتناول موضوعات صارت تُطرح الآن كأنها معطيات حديثة، علما أنه طرح أغلبها في مرحلة الخمسينات، وقد تجاهل الباحثون العرب أطروحاته بعد أن غرفوا منها ولم يعودوا بحاجة إلى ذكره. وهذا كتاب الباحث المعروف (هشام شرابي) الأخير (نقد الثقافة الأكاديمية) يذكر فيه أسماء وجهود باحثين في علم الإجتماع في الوطن العربي- بعضهم مغمور لم نسمع به أبداً- من المحيط إلى الخليج عدا الدكتور (علي الوردي). تحية إلى روح المفكر الثائر علي الوردي.
رائد جبار كاظم : صورة المثقف عند علي الوردي (ملف/18) - الناقد العراقي
إشارة : احتفاءً ومراجعة ونقدا للأفكار الجريئة والريادية للمفكر العراقي الدكتور (علي الوردي) الذي وصفه (جاك بيرك) في كتابه (العرب: تاريخ ومستقبل): (الوردي كاتب يحلّق إلى العالمية بأسلوبه الذي يضرب على الأوتار الحساسة في المجتمع، مثل فولتير)، تبدأ أسرة موقع الناقد العراقي بنشر حلقات ملفها عنه. لقد...
www.alnaked-aliraqi.net