مقدمة :
في مسيرتها الطويلة استفادت القصة القصيرة العربية , من العديد من تقنيات القص وآليات السرد الحديث . فمضت في مجرى نهر الحياة , منسابة بإيقاعاتها المتباينة في مختلف المراحل نحو أرخبيل الواقع العريض , لتصب فيه كصدى للوقائع والأحداث ..
هذه الأصداء المتلاشية , تسفر عن الجوهري والأصيل , بما انطوى عليه من أحزان الإنسان ومكابداته لأسئلة الوجود الكبرى ك : الحياة والموت والحب , الخ .. وصدى ذكرياته ولوعاته التي تكشف عنها تقنيات القص..
انعكاس المرايا .. انعكاس الذات :
ثمة تقنيات قليلة الاستخدام في القص العربي , مثل تقنية "انعكاس المرايا" التي تستخدم لبث التاريخ الذاتي للشخصية , والتي نجد هنا أن القاص عبد الله البقالي قد اعتمدها كتقنية أساسية تعالج وقائع وأحداث قصته " الأصوات الداخلية" , مستفيدا مما تتميز به القصة القصيرة "كشكل أدبي مراوغ وماكر , تنطوي بنيته الأساسية على اجتزاء شريحة متوهجة من الحياة , تعيد صياغة ما بداخلها من بؤر دلالية وتأويلية , تجسد الواقع أو توازيه . وقد تكون في بعض الأحيان ملتحمة بهذا الواقع : بمراراته وتأزما ته والمسكوت عنه فيه . بحيث تبدو بعض الأشكال منها غرائبية اللحظة , أو لا معقولية الأزمة المتاحة داخل نسيج النص .. وبحيث غدت القصة القصيرة , في أدبنا المعاصر وكأنها وثيقة اجتماعية أو سياسية ملتصقة بما يشتمل عليه وجودنا ,. من صراع وتمزق وحيرة وانهزام وتعدد في الرؤية (13) في "الأصوات الداخلية , نجد أن "الحكاية"هي حكاية شخص يعاني صرا عات داخلية بسبب المفارقة التي تسم حياته , فسلوكه العملي يتضارب مع التجريدات الذهنية التي تصورها لسلوكه المثالي . هذا البون بين ما يريد أن يكون عليه وما هو عليه فعليا هو ما يشكل بنية الحكاية دلاليا , إذ يشتغل القص في منطقة الصراع بين الأنا والأنا العليا .. بين الواقع والمثال "يقر أن الورطات التي كان دوما على موعد معها , هي نتيجة توجيهات مستشار تمظهر بمظهر الحاذق العارف . لكنه كان يختفي كليا ساعة دفعه لثمن الفواتير الضخمة المترتبة على فتاويه الخائبة , ورغم حقده الدفين عليه ورأيه المعروف فيه , فكل شيء كان يتغير فجأة , ولا يعرف من أين ينبعث في تلك اللحظات اللعينة (..) ولا يسمع ولا يستحسن إلا ما يشير به عليه (..) ذلك المستشار الخائب(..)ليس له من وجود خارج تفكيره (14)"فبطل القصة الذي يتوارى الراوي خلفه , لهو شخصية متشظية , تتناهبها عدة أصوات عبارة عن نثارات لهذه الذات التي هي الآخر في الآن نفسه . والتي تم تحديدها من قبل الراوي في عدة مستويات :
المستوى الأول : "صوته الآخر الذي يحمله كامل المسئولية في كل النكسات التي عصفت به (15)"..
المستوى ثاني : وهو صوت تساؤلات الذات "مؤاخذات الصوت الثاني جعلته في حيرة (..) الصوت الذي يجنح إلى إخفاء معالمه الخاصة , أم ذلك الذي يعشق التحليق فوق الفضاءات المحظورة (16)"..
المستوى الثالث : "صوته الوليد الذي كان يرى أن زواجه ليس سوى زواج بالنفس في عالم لن تعثر فيه إلا على حطامها (17) " ..
المستوى الرابع : " الصوت الثاني الذي كان ضعيفا . بل لم يكن مسموعا بالمرة (18)" ...
المستوى الخامس :"الصوت الذي يسميه رزينا من باب التميز (19)" ..
ولكل صوت من هذه الأصوات الداخلية سمات تميزه عن غيره ., حيث تشكل هذه الأصوات في مجموعها متناقضات الإنسان ونوازعه المختلفة بين مستويات الخير والشر .
إذن تمثل قصة الأصوات الداخلية إضاءة لصراع النفس البشرية بتوجهاتها المتناقضة وحاجاتها المتباينة..
انعكاس المرايا ورمزية المرايا :
إذا كانت تقنية انعكاس المرايا تعكس ما يعتلج من صراع يدور داخل الذات الإنسانية , فهي تقترح أيضا صورة الذات الخفية مقابل الذات المعلنة , أو مجابهتهما معا .. في سبيل خلق شخصية سيكولوجية معقدة متعددة الأبعاد ..
يتكون عنوان قصة البقالي من طرفين
- 1 - (الأصوات) –
- 2 - (الداخلية) في المحتوى الدلالي للطرف الأول تعبير عما نراه أو نحسه .. ويسفر الطرف الثاني عن تحديد أكثر لما هو داخلي أو باطني , أو ما ينطوي عليه شيء ما , سواء كان هذا الشيء ماديا أو معنويا .. وطرفي العنوان من ناحية استراتيجية يعبران عما ينعكس على مرايا الذات من وقائع وأحداث..
والمرايا في السرد سواء كانت رمزا معلنا أو منطويا هي أداة تعبير فني وتقنية . يقول حاتم الصكر "المرايا مقترح شعري ارتبط بأدونيس , الذي عرف عنه استخدام الرمز والقناع , وهما ممهدان ضروريان للمرايا (20) " ورغم أن المرايا ترينا ما تقتنصه أعماقنا فإنها – كما يلاحظ فوكو – إلى جانب كونها تضاعف لا ترينا ما لا يظهر على سطحها , فيظل ثمة فاصل بين ما نرى ونقول , فالمرايا لا تقترح علينا أخرا , بل ترينا هذا الأخر الذي نقترحه عليها , أننا لا نبحث في المرايا عن واحدية صورنا وأجسادنا , بل نسارع إلى البحث عن تفاصيل منسية أو مطمورة , كي نؤلف منها صورة القرين الذي يشاركنا خطانا وحياتنا وهو ذو وجود سردي لأنه يمثل الجانب الثاني في حوارية شخوصنا وقد استثمر القصاصون المزايا السردية كوجود قرين المرآة وطوروه ليغدو صوتا داخليا ثانيا لوجود الراوي أو الشخصية (21)" كما نلاحظ هنا على الأصوات العديدة في قصة الأصوات الداخلية ..
وأخيرا ,
قصة الأصوات الداخلية هي محاولة مجابهة الإنسان لذاته المتشظية في منعطفات الحياة ومنحدراتها , وهي محاولة لتوحيد الذات مع آخرها ..هذه الذات التي تنظر لروحها المتألمة , فلا ترى سوى الجروح :" صرخ : أخرجوني من زمن الغرائز . أعيدوني إلى عصور الأرواح (22
* مظاهر التجديد في القصة العربية القصيرة للناقد السوداني أحمد ضحية
قراءات نقدية في نصوص عربية ...
في مسيرتها الطويلة استفادت القصة القصيرة العربية , من العديد من تقنيات القص وآليات السرد الحديث . فمضت في مجرى نهر الحياة , منسابة بإيقاعاتها المتباينة في مختلف المراحل نحو أرخبيل الواقع العريض , لتصب فيه كصدى للوقائع والأحداث ..
هذه الأصداء المتلاشية , تسفر عن الجوهري والأصيل , بما انطوى عليه من أحزان الإنسان ومكابداته لأسئلة الوجود الكبرى ك : الحياة والموت والحب , الخ .. وصدى ذكرياته ولوعاته التي تكشف عنها تقنيات القص..
انعكاس المرايا .. انعكاس الذات :
ثمة تقنيات قليلة الاستخدام في القص العربي , مثل تقنية "انعكاس المرايا" التي تستخدم لبث التاريخ الذاتي للشخصية , والتي نجد هنا أن القاص عبد الله البقالي قد اعتمدها كتقنية أساسية تعالج وقائع وأحداث قصته " الأصوات الداخلية" , مستفيدا مما تتميز به القصة القصيرة "كشكل أدبي مراوغ وماكر , تنطوي بنيته الأساسية على اجتزاء شريحة متوهجة من الحياة , تعيد صياغة ما بداخلها من بؤر دلالية وتأويلية , تجسد الواقع أو توازيه . وقد تكون في بعض الأحيان ملتحمة بهذا الواقع : بمراراته وتأزما ته والمسكوت عنه فيه . بحيث تبدو بعض الأشكال منها غرائبية اللحظة , أو لا معقولية الأزمة المتاحة داخل نسيج النص .. وبحيث غدت القصة القصيرة , في أدبنا المعاصر وكأنها وثيقة اجتماعية أو سياسية ملتصقة بما يشتمل عليه وجودنا ,. من صراع وتمزق وحيرة وانهزام وتعدد في الرؤية (13) في "الأصوات الداخلية , نجد أن "الحكاية"هي حكاية شخص يعاني صرا عات داخلية بسبب المفارقة التي تسم حياته , فسلوكه العملي يتضارب مع التجريدات الذهنية التي تصورها لسلوكه المثالي . هذا البون بين ما يريد أن يكون عليه وما هو عليه فعليا هو ما يشكل بنية الحكاية دلاليا , إذ يشتغل القص في منطقة الصراع بين الأنا والأنا العليا .. بين الواقع والمثال "يقر أن الورطات التي كان دوما على موعد معها , هي نتيجة توجيهات مستشار تمظهر بمظهر الحاذق العارف . لكنه كان يختفي كليا ساعة دفعه لثمن الفواتير الضخمة المترتبة على فتاويه الخائبة , ورغم حقده الدفين عليه ورأيه المعروف فيه , فكل شيء كان يتغير فجأة , ولا يعرف من أين ينبعث في تلك اللحظات اللعينة (..) ولا يسمع ولا يستحسن إلا ما يشير به عليه (..) ذلك المستشار الخائب(..)ليس له من وجود خارج تفكيره (14)"فبطل القصة الذي يتوارى الراوي خلفه , لهو شخصية متشظية , تتناهبها عدة أصوات عبارة عن نثارات لهذه الذات التي هي الآخر في الآن نفسه . والتي تم تحديدها من قبل الراوي في عدة مستويات :
المستوى الأول : "صوته الآخر الذي يحمله كامل المسئولية في كل النكسات التي عصفت به (15)"..
المستوى ثاني : وهو صوت تساؤلات الذات "مؤاخذات الصوت الثاني جعلته في حيرة (..) الصوت الذي يجنح إلى إخفاء معالمه الخاصة , أم ذلك الذي يعشق التحليق فوق الفضاءات المحظورة (16)"..
المستوى الثالث : "صوته الوليد الذي كان يرى أن زواجه ليس سوى زواج بالنفس في عالم لن تعثر فيه إلا على حطامها (17) " ..
المستوى الرابع : " الصوت الثاني الذي كان ضعيفا . بل لم يكن مسموعا بالمرة (18)" ...
المستوى الخامس :"الصوت الذي يسميه رزينا من باب التميز (19)" ..
ولكل صوت من هذه الأصوات الداخلية سمات تميزه عن غيره ., حيث تشكل هذه الأصوات في مجموعها متناقضات الإنسان ونوازعه المختلفة بين مستويات الخير والشر .
إذن تمثل قصة الأصوات الداخلية إضاءة لصراع النفس البشرية بتوجهاتها المتناقضة وحاجاتها المتباينة..
انعكاس المرايا ورمزية المرايا :
إذا كانت تقنية انعكاس المرايا تعكس ما يعتلج من صراع يدور داخل الذات الإنسانية , فهي تقترح أيضا صورة الذات الخفية مقابل الذات المعلنة , أو مجابهتهما معا .. في سبيل خلق شخصية سيكولوجية معقدة متعددة الأبعاد ..
يتكون عنوان قصة البقالي من طرفين
- 1 - (الأصوات) –
- 2 - (الداخلية) في المحتوى الدلالي للطرف الأول تعبير عما نراه أو نحسه .. ويسفر الطرف الثاني عن تحديد أكثر لما هو داخلي أو باطني , أو ما ينطوي عليه شيء ما , سواء كان هذا الشيء ماديا أو معنويا .. وطرفي العنوان من ناحية استراتيجية يعبران عما ينعكس على مرايا الذات من وقائع وأحداث..
والمرايا في السرد سواء كانت رمزا معلنا أو منطويا هي أداة تعبير فني وتقنية . يقول حاتم الصكر "المرايا مقترح شعري ارتبط بأدونيس , الذي عرف عنه استخدام الرمز والقناع , وهما ممهدان ضروريان للمرايا (20) " ورغم أن المرايا ترينا ما تقتنصه أعماقنا فإنها – كما يلاحظ فوكو – إلى جانب كونها تضاعف لا ترينا ما لا يظهر على سطحها , فيظل ثمة فاصل بين ما نرى ونقول , فالمرايا لا تقترح علينا أخرا , بل ترينا هذا الأخر الذي نقترحه عليها , أننا لا نبحث في المرايا عن واحدية صورنا وأجسادنا , بل نسارع إلى البحث عن تفاصيل منسية أو مطمورة , كي نؤلف منها صورة القرين الذي يشاركنا خطانا وحياتنا وهو ذو وجود سردي لأنه يمثل الجانب الثاني في حوارية شخوصنا وقد استثمر القصاصون المزايا السردية كوجود قرين المرآة وطوروه ليغدو صوتا داخليا ثانيا لوجود الراوي أو الشخصية (21)" كما نلاحظ هنا على الأصوات العديدة في قصة الأصوات الداخلية ..
وأخيرا ,
قصة الأصوات الداخلية هي محاولة مجابهة الإنسان لذاته المتشظية في منعطفات الحياة ومنحدراتها , وهي محاولة لتوحيد الذات مع آخرها ..هذه الذات التي تنظر لروحها المتألمة , فلا ترى سوى الجروح :" صرخ : أخرجوني من زمن الغرائز . أعيدوني إلى عصور الأرواح (22
* مظاهر التجديد في القصة العربية القصيرة للناقد السوداني أحمد ضحية
قراءات نقدية في نصوص عربية ...