مرة طبع أحد أساتذة النحو كتابا في النحو طفح بأخطاء شنيعة بسبب عدم الدقة في علامات الترقيم ومراعاة حركات الضم والكسر والفتح والسكون ، وحدثت في الجامعة ضجة بشأنه .
كنت اطلعت على مسودة الكتاب وطلبت من مؤلفه أن يمعن النظر فيه ، ففيه من الأخطاء ما يسيء إليه ، ووقع الكتاب بين يدي زميل متخصص في النحو فكتب فيه مراجعة موجعة .
لو كان طلاب مساق اللغة العربية على دراية بالأمر وكانوا جريئين لربما رفعوا على الجامعة قضية وطالبوها بإعادة رسوم المساق لهم ، ولربما طالبوا بما هو أكثر من ذلك .
اضطر مؤلف الكتاب أن يعدم نسخ الطبعة الأولى وأن يصدر طبعة ثانية منه أخف ضررا .
لا أذكر الحادثة السابقة من أجل الإساءة إلى مؤلف الكتاب ، فهو زميل لي ، وإنما أوردها لكي أضع الحقيقة هذه نصب أعين مدرسي المساق حتى يتلافوا أسئلة الأحاجي والألغاز ، وحتى تعيد الجامعة النظر في طرق تدريسه وتحول دون تعليمه في المدرجات ، فجل من لا يسهو وقد يكون ما وقع فيه الزميل المتخصص سهوا في سهو وما شابه ، وإن كان ملوما في الأمر .
حين عدت من ألمانيا بدأت الجهات المختلفة ، من فصائل وإدارات وعائلات تمتحن لغاتي الأربعة ؛ العربية والإنجليزية والألمانية والعبرية ، وتواصلت جهات من هؤلاء مع الألمان ليقرر آؤلئك (؟) إرسال الشهادة لي أو عدم إرسالها ، وقصة الاختبار بدأت في ألمانيا ولم تنته هناك ، فالألمان بشر وقد يتأثرون بالقال والقيل ولديهم نفس طويل من أجل معرفة الحقيقة .
صار كل من هب ودب يختبر لغاتي من خلال اللغة التي يعرفها .
طلب مني صديق درس في جامعة القدس المفتوحة أن أساعده في حل أسئلة الكتاب الذي يدرس فيه ، ونشد بعض أقاربي أن أعلمهم قواعد اللغة العربية ، وطلبت مني الشاعرة فدوى طوقان أن أقرأ لها ما كتب عنها بالألمانية وأحضرت لي نسخة من رسالة ماجستير أنجزت عن سيرتها الذاتية ، وأخذ آخرون يحضرون لي روشيتات دواء مكتوبة بالانجليزية أو العبرية ، ولم يقتصر الأمر على قراءة المكتوب ، فقد زارني بعض معارفي بصحبة نسوة ألمانيات حتى يختبرن لغتي محادثة ، ولو كنت دونت ما جرى معي كله لفرط القراء من الضحك .
مرة زرت ابن خالتي عارف يعيش فطلب مني أن أقرأ له كتالوج غسالة ألمانية ، وصار معتمدا في إثبات أنني أجيد اللغة قراءة وفهما ، وثانية كتبت للسفارة الألمانية بتل أبيب رسالة باللغة الألمانية ، بالأحمر السائل ، أطلب فيها من مسؤولي السفارة تصديق شهادتي ، فصارت الموظفة شاهدا موثوقا في أنني أتقن الكتابة بالألمانية ، وصار للون الأحمر مغازيه ، عدا أن أكثر كتاب بالألمانية أفدت منه كان لون غلافه أحمر .
كي لا أنسى لغتي الألمانية ، وكي أحافظ على معرفتي بالإنجليزية ، أخذت في العام 1992 أترجم بعض الدراسات التي قرأتها باللغتين ، واعتمدت عليها في رسالة الدكتوراه ، إلى اللغة العربية ، ونشرتها في حينه في مجلة " الكاتب " المقدسية ، ولاحقا في مجلة " كنعان " ومع ذلك مازال كثيرون يعتقدون أن هناك من ترجم لي .
في امتحان الثانوية العامة حصلت في اللغة الانجليزية على 271 من 300 ، وكنت أقرأ بالإنجليزية ، وحين توظفت في الجامعة عقدت لنا هذه في الفصل الصيفي دورة لتطوير لغتنا الإنجليزية . ولمعرفة مستوانا فقد أجرى القائمون على الدورة امتحانا كتابيا ، والطريف أنني حصلت فيه على علامة تساوي علامة خريج بكالوريوس من جامعة النجاح الوطنية وهو الأستاذ بلال سلامة - إن لم تخني الذاكرة .
مرة كنت جالسا في حديقة منزلي فزارني الدكتور عبد الستار قاسم أستاذ العلوم السياسية في الجامعة ، وكانت بصحبته امرأة ألمانية متزوجة من أحد أقاربه ، وصرنا أنا وهي نتحدث بلغتها ، وصدر يومها قرار محايد من طرفين ؛ فلسطيني وألماني ، بأنني أجيد التكلم بالألمانية .
الطريف في الأمر أنني قدمت امتحان الدكتوراه في التخصص الرئيس والتخصصين الفرعيين بالألمانية ، وكان يمكن حسم الأمر هناك ، فالامتحان مسجل على شريط تسجيل ، وقد حضرت العميدة بشخصها الامتحان وكانت شاهدا عليه ، وفي اليوم الثاني لعقده التقينا في ساحة الجامعة لحضور احتفال عام وشربت لمناسبة نجاحي .
غالبا ما كنت أندهش من ذكاء الفلسطينيين الخارق وأتساءل :
- إذا كنا أذكياء لهذه الدرجة فلماذا خسرنا فلسطين ؟
وثمة فرق كبير بين الذكاء والتذاكي ، ونحن متذاكون لا أذكياء ، والدليل أنه منذ ثلاثين عاما ما زلنا ندق " الماء في الهاون " .
أكثر أبناء العربية لا يتقنون ، للأسف ، لغتهم ، والذين أرادوا اختبار لغتي الألمانية لم يكتبوا بلغتهم ما يوازي كتابتي باللغة الألمانية .
مرة قرأت مخطوط رواية لنشيط سياسي أراد اختبار لغتي الألمانية فلاحظت أن روايته تحفل بأخطاء نحوية ، عدا ركاكة الأسلوب .
أقسى مما سبق هو أن يقترح مشرف على رسالة طالبة في الأدب العربي عرض رسالتها على مدقق لغوي حتى لا يحرج هو في المناقشة ، مع أنه يحمل رتبة أستاذ مشارك في الأدب العربي . وأساتذة اللغة الإنجليزية الذين كنت أنشد مساعدتهم بقراءة ما أكتبه بالإنجليزية ليصححوا الأسلوب ، جاؤوني بعد سنوات - حين أخذوا ينشطون بكتابة أبحاث - كي أصحح لهم الملخص الذي كتبوه بلغتهم الأم - أي العربية .
أفظع حادثة شهدتها جامعة النجاح الوطنية كانت يوم حضر القنصل الفرنسي للمشاركة في احتفال أقيم في مدرج الأمير تركي .
يومها ألقى القنصل الفرنسي كلمته بلغته - إن لم تخني الذاكرة - وترجمت من الفرنسية إلى العربية ، فيم ألقى رئيس الجامعة كلمته - من أجل عيون القنصل وعشرة فرنسيين -
بالإنجليزية وترجمها له إلى العربية أستاذ في قسم اللغة الانجليزية .
كان الجمهور غالبه عربا ، وكان يفترض أن تلقى الكلمة بالعربية وتترجم إلى الفرنسية .
يقولون إن المسؤولين الفرنسيين في فرنسا يجب أن يتكلموا بالفرنسية احتراما لها ، وإن تحدث المسؤول بلغة غير لغته فإنه يهاجم بقسوة .
وأنا أصغي إلى كلمة رئيس الجامعة بالإنجليزية وترجمتها لجمهور عربي إلى العربية تذكرت سطر محمود درويش :
" لغة تفتش عن بنيها ، تموت ككل ما فيها ، وترمى في المعاجم "
وتساءلت عن مصير صرخته :
" سجل أنا عربي " ولربما قلت :
" سجل أنا شكسبير "!.
الكتابة تطول وفي الأسبوع القادم أقارب موضوعات أخرى غير اللغة .
الخميس
27 شباط 2020 .
د. عادل الأسطة
كنت اطلعت على مسودة الكتاب وطلبت من مؤلفه أن يمعن النظر فيه ، ففيه من الأخطاء ما يسيء إليه ، ووقع الكتاب بين يدي زميل متخصص في النحو فكتب فيه مراجعة موجعة .
لو كان طلاب مساق اللغة العربية على دراية بالأمر وكانوا جريئين لربما رفعوا على الجامعة قضية وطالبوها بإعادة رسوم المساق لهم ، ولربما طالبوا بما هو أكثر من ذلك .
اضطر مؤلف الكتاب أن يعدم نسخ الطبعة الأولى وأن يصدر طبعة ثانية منه أخف ضررا .
لا أذكر الحادثة السابقة من أجل الإساءة إلى مؤلف الكتاب ، فهو زميل لي ، وإنما أوردها لكي أضع الحقيقة هذه نصب أعين مدرسي المساق حتى يتلافوا أسئلة الأحاجي والألغاز ، وحتى تعيد الجامعة النظر في طرق تدريسه وتحول دون تعليمه في المدرجات ، فجل من لا يسهو وقد يكون ما وقع فيه الزميل المتخصص سهوا في سهو وما شابه ، وإن كان ملوما في الأمر .
حين عدت من ألمانيا بدأت الجهات المختلفة ، من فصائل وإدارات وعائلات تمتحن لغاتي الأربعة ؛ العربية والإنجليزية والألمانية والعبرية ، وتواصلت جهات من هؤلاء مع الألمان ليقرر آؤلئك (؟) إرسال الشهادة لي أو عدم إرسالها ، وقصة الاختبار بدأت في ألمانيا ولم تنته هناك ، فالألمان بشر وقد يتأثرون بالقال والقيل ولديهم نفس طويل من أجل معرفة الحقيقة .
صار كل من هب ودب يختبر لغاتي من خلال اللغة التي يعرفها .
طلب مني صديق درس في جامعة القدس المفتوحة أن أساعده في حل أسئلة الكتاب الذي يدرس فيه ، ونشد بعض أقاربي أن أعلمهم قواعد اللغة العربية ، وطلبت مني الشاعرة فدوى طوقان أن أقرأ لها ما كتب عنها بالألمانية وأحضرت لي نسخة من رسالة ماجستير أنجزت عن سيرتها الذاتية ، وأخذ آخرون يحضرون لي روشيتات دواء مكتوبة بالانجليزية أو العبرية ، ولم يقتصر الأمر على قراءة المكتوب ، فقد زارني بعض معارفي بصحبة نسوة ألمانيات حتى يختبرن لغتي محادثة ، ولو كنت دونت ما جرى معي كله لفرط القراء من الضحك .
مرة زرت ابن خالتي عارف يعيش فطلب مني أن أقرأ له كتالوج غسالة ألمانية ، وصار معتمدا في إثبات أنني أجيد اللغة قراءة وفهما ، وثانية كتبت للسفارة الألمانية بتل أبيب رسالة باللغة الألمانية ، بالأحمر السائل ، أطلب فيها من مسؤولي السفارة تصديق شهادتي ، فصارت الموظفة شاهدا موثوقا في أنني أتقن الكتابة بالألمانية ، وصار للون الأحمر مغازيه ، عدا أن أكثر كتاب بالألمانية أفدت منه كان لون غلافه أحمر .
كي لا أنسى لغتي الألمانية ، وكي أحافظ على معرفتي بالإنجليزية ، أخذت في العام 1992 أترجم بعض الدراسات التي قرأتها باللغتين ، واعتمدت عليها في رسالة الدكتوراه ، إلى اللغة العربية ، ونشرتها في حينه في مجلة " الكاتب " المقدسية ، ولاحقا في مجلة " كنعان " ومع ذلك مازال كثيرون يعتقدون أن هناك من ترجم لي .
في امتحان الثانوية العامة حصلت في اللغة الانجليزية على 271 من 300 ، وكنت أقرأ بالإنجليزية ، وحين توظفت في الجامعة عقدت لنا هذه في الفصل الصيفي دورة لتطوير لغتنا الإنجليزية . ولمعرفة مستوانا فقد أجرى القائمون على الدورة امتحانا كتابيا ، والطريف أنني حصلت فيه على علامة تساوي علامة خريج بكالوريوس من جامعة النجاح الوطنية وهو الأستاذ بلال سلامة - إن لم تخني الذاكرة .
مرة كنت جالسا في حديقة منزلي فزارني الدكتور عبد الستار قاسم أستاذ العلوم السياسية في الجامعة ، وكانت بصحبته امرأة ألمانية متزوجة من أحد أقاربه ، وصرنا أنا وهي نتحدث بلغتها ، وصدر يومها قرار محايد من طرفين ؛ فلسطيني وألماني ، بأنني أجيد التكلم بالألمانية .
الطريف في الأمر أنني قدمت امتحان الدكتوراه في التخصص الرئيس والتخصصين الفرعيين بالألمانية ، وكان يمكن حسم الأمر هناك ، فالامتحان مسجل على شريط تسجيل ، وقد حضرت العميدة بشخصها الامتحان وكانت شاهدا عليه ، وفي اليوم الثاني لعقده التقينا في ساحة الجامعة لحضور احتفال عام وشربت لمناسبة نجاحي .
غالبا ما كنت أندهش من ذكاء الفلسطينيين الخارق وأتساءل :
- إذا كنا أذكياء لهذه الدرجة فلماذا خسرنا فلسطين ؟
وثمة فرق كبير بين الذكاء والتذاكي ، ونحن متذاكون لا أذكياء ، والدليل أنه منذ ثلاثين عاما ما زلنا ندق " الماء في الهاون " .
أكثر أبناء العربية لا يتقنون ، للأسف ، لغتهم ، والذين أرادوا اختبار لغتي الألمانية لم يكتبوا بلغتهم ما يوازي كتابتي باللغة الألمانية .
مرة قرأت مخطوط رواية لنشيط سياسي أراد اختبار لغتي الألمانية فلاحظت أن روايته تحفل بأخطاء نحوية ، عدا ركاكة الأسلوب .
أقسى مما سبق هو أن يقترح مشرف على رسالة طالبة في الأدب العربي عرض رسالتها على مدقق لغوي حتى لا يحرج هو في المناقشة ، مع أنه يحمل رتبة أستاذ مشارك في الأدب العربي . وأساتذة اللغة الإنجليزية الذين كنت أنشد مساعدتهم بقراءة ما أكتبه بالإنجليزية ليصححوا الأسلوب ، جاؤوني بعد سنوات - حين أخذوا ينشطون بكتابة أبحاث - كي أصحح لهم الملخص الذي كتبوه بلغتهم الأم - أي العربية .
أفظع حادثة شهدتها جامعة النجاح الوطنية كانت يوم حضر القنصل الفرنسي للمشاركة في احتفال أقيم في مدرج الأمير تركي .
يومها ألقى القنصل الفرنسي كلمته بلغته - إن لم تخني الذاكرة - وترجمت من الفرنسية إلى العربية ، فيم ألقى رئيس الجامعة كلمته - من أجل عيون القنصل وعشرة فرنسيين -
بالإنجليزية وترجمها له إلى العربية أستاذ في قسم اللغة الانجليزية .
كان الجمهور غالبه عربا ، وكان يفترض أن تلقى الكلمة بالعربية وتترجم إلى الفرنسية .
يقولون إن المسؤولين الفرنسيين في فرنسا يجب أن يتكلموا بالفرنسية احتراما لها ، وإن تحدث المسؤول بلغة غير لغته فإنه يهاجم بقسوة .
وأنا أصغي إلى كلمة رئيس الجامعة بالإنجليزية وترجمتها لجمهور عربي إلى العربية تذكرت سطر محمود درويش :
" لغة تفتش عن بنيها ، تموت ككل ما فيها ، وترمى في المعاجم "
وتساءلت عن مصير صرخته :
" سجل أنا عربي " ولربما قلت :
" سجل أنا شكسبير "!.
الكتابة تطول وفي الأسبوع القادم أقارب موضوعات أخرى غير اللغة .
الخميس
27 شباط 2020 .
د. عادل الأسطة