د. عادل الأسطة - أنا والجامعة 22: " لغة تفتش عن بنيها، تموت ككل ما فيها"

مرة طبع أحد أساتذة النحو كتابا في النحو طفح بأخطاء شنيعة بسبب عدم الدقة في علامات الترقيم ومراعاة حركات الضم والكسر والفتح والسكون ، وحدثت في الجامعة ضجة بشأنه .
كنت اطلعت على مسودة الكتاب وطلبت من مؤلفه أن يمعن النظر فيه ، ففيه من الأخطاء ما يسيء إليه ، ووقع الكتاب بين يدي زميل متخصص في النحو فكتب فيه مراجعة موجعة .
لو كان طلاب مساق اللغة العربية على دراية بالأمر وكانوا جريئين لربما رفعوا على الجامعة قضية وطالبوها بإعادة رسوم المساق لهم ، ولربما طالبوا بما هو أكثر من ذلك .
اضطر مؤلف الكتاب أن يعدم نسخ الطبعة الأولى وأن يصدر طبعة ثانية منه أخف ضررا .
لا أذكر الحادثة السابقة من أجل الإساءة إلى مؤلف الكتاب ، فهو زميل لي ، وإنما أوردها لكي أضع الحقيقة هذه نصب أعين مدرسي المساق حتى يتلافوا أسئلة الأحاجي والألغاز ، وحتى تعيد الجامعة النظر في طرق تدريسه وتحول دون تعليمه في المدرجات ، فجل من لا يسهو وقد يكون ما وقع فيه الزميل المتخصص سهوا في سهو وما شابه ، وإن كان ملوما في الأمر .
حين عدت من ألمانيا بدأت الجهات المختلفة ، من فصائل وإدارات وعائلات تمتحن لغاتي الأربعة ؛ العربية والإنجليزية والألمانية والعبرية ، وتواصلت جهات من هؤلاء مع الألمان ليقرر آؤلئك (؟) إرسال الشهادة لي أو عدم إرسالها ، وقصة الاختبار بدأت في ألمانيا ولم تنته هناك ، فالألمان بشر وقد يتأثرون بالقال والقيل ولديهم نفس طويل من أجل معرفة الحقيقة .
صار كل من هب ودب يختبر لغاتي من خلال اللغة التي يعرفها .
طلب مني صديق درس في جامعة القدس المفتوحة أن أساعده في حل أسئلة الكتاب الذي يدرس فيه ، ونشد بعض أقاربي أن أعلمهم قواعد اللغة العربية ، وطلبت مني الشاعرة فدوى طوقان أن أقرأ لها ما كتب عنها بالألمانية وأحضرت لي نسخة من رسالة ماجستير أنجزت عن سيرتها الذاتية ، وأخذ آخرون يحضرون لي روشيتات دواء مكتوبة بالانجليزية أو العبرية ، ولم يقتصر الأمر على قراءة المكتوب ، فقد زارني بعض معارفي بصحبة نسوة ألمانيات حتى يختبرن لغتي محادثة ، ولو كنت دونت ما جرى معي كله لفرط القراء من الضحك .
مرة زرت ابن خالتي عارف يعيش فطلب مني أن أقرأ له كتالوج غسالة ألمانية ، وصار معتمدا في إثبات أنني أجيد اللغة قراءة وفهما ، وثانية كتبت للسفارة الألمانية بتل أبيب رسالة باللغة الألمانية ، بالأحمر السائل ، أطلب فيها من مسؤولي السفارة تصديق شهادتي ، فصارت الموظفة شاهدا موثوقا في أنني أتقن الكتابة بالألمانية ، وصار للون الأحمر مغازيه ، عدا أن أكثر كتاب بالألمانية أفدت منه كان لون غلافه أحمر .
كي لا أنسى لغتي الألمانية ، وكي أحافظ على معرفتي بالإنجليزية ، أخذت في العام 1992 أترجم بعض الدراسات التي قرأتها باللغتين ، واعتمدت عليها في رسالة الدكتوراه ، إلى اللغة العربية ، ونشرتها في حينه في مجلة " الكاتب " المقدسية ، ولاحقا في مجلة " كنعان " ومع ذلك مازال كثيرون يعتقدون أن هناك من ترجم لي .
في امتحان الثانوية العامة حصلت في اللغة الانجليزية على 271 من 300 ، وكنت أقرأ بالإنجليزية ، وحين توظفت في الجامعة عقدت لنا هذه في الفصل الصيفي دورة لتطوير لغتنا الإنجليزية . ولمعرفة مستوانا فقد أجرى القائمون على الدورة امتحانا كتابيا ، والطريف أنني حصلت فيه على علامة تساوي علامة خريج بكالوريوس من جامعة النجاح الوطنية وهو الأستاذ بلال سلامة - إن لم تخني الذاكرة .
مرة كنت جالسا في حديقة منزلي فزارني الدكتور عبد الستار قاسم أستاذ العلوم السياسية في الجامعة ، وكانت بصحبته امرأة ألمانية متزوجة من أحد أقاربه ، وصرنا أنا وهي نتحدث بلغتها ، وصدر يومها قرار محايد من طرفين ؛ فلسطيني وألماني ، بأنني أجيد التكلم بالألمانية .
الطريف في الأمر أنني قدمت امتحان الدكتوراه في التخصص الرئيس والتخصصين الفرعيين بالألمانية ، وكان يمكن حسم الأمر هناك ، فالامتحان مسجل على شريط تسجيل ، وقد حضرت العميدة بشخصها الامتحان وكانت شاهدا عليه ، وفي اليوم الثاني لعقده التقينا في ساحة الجامعة لحضور احتفال عام وشربت لمناسبة نجاحي .
غالبا ما كنت أندهش من ذكاء الفلسطينيين الخارق وأتساءل :
- إذا كنا أذكياء لهذه الدرجة فلماذا خسرنا فلسطين ؟
وثمة فرق كبير بين الذكاء والتذاكي ، ونحن متذاكون لا أذكياء ، والدليل أنه منذ ثلاثين عاما ما زلنا ندق " الماء في الهاون " .
أكثر أبناء العربية لا يتقنون ، للأسف ، لغتهم ، والذين أرادوا اختبار لغتي الألمانية لم يكتبوا بلغتهم ما يوازي كتابتي باللغة الألمانية .
مرة قرأت مخطوط رواية لنشيط سياسي أراد اختبار لغتي الألمانية فلاحظت أن روايته تحفل بأخطاء نحوية ، عدا ركاكة الأسلوب .
أقسى مما سبق هو أن يقترح مشرف على رسالة طالبة في الأدب العربي عرض رسالتها على مدقق لغوي حتى لا يحرج هو في المناقشة ، مع أنه يحمل رتبة أستاذ مشارك في الأدب العربي . وأساتذة اللغة الإنجليزية الذين كنت أنشد مساعدتهم بقراءة ما أكتبه بالإنجليزية ليصححوا الأسلوب ، جاؤوني بعد سنوات - حين أخذوا ينشطون بكتابة أبحاث - كي أصحح لهم الملخص الذي كتبوه بلغتهم الأم - أي العربية .
أفظع حادثة شهدتها جامعة النجاح الوطنية كانت يوم حضر القنصل الفرنسي للمشاركة في احتفال أقيم في مدرج الأمير تركي .
يومها ألقى القنصل الفرنسي كلمته بلغته - إن لم تخني الذاكرة - وترجمت من الفرنسية إلى العربية ، فيم ألقى رئيس الجامعة كلمته - من أجل عيون القنصل وعشرة فرنسيين -
بالإنجليزية وترجمها له إلى العربية أستاذ في قسم اللغة الانجليزية .
كان الجمهور غالبه عربا ، وكان يفترض أن تلقى الكلمة بالعربية وتترجم إلى الفرنسية .
يقولون إن المسؤولين الفرنسيين في فرنسا يجب أن يتكلموا بالفرنسية احتراما لها ، وإن تحدث المسؤول بلغة غير لغته فإنه يهاجم بقسوة .
وأنا أصغي إلى كلمة رئيس الجامعة بالإنجليزية وترجمتها لجمهور عربي إلى العربية تذكرت سطر محمود درويش :
" لغة تفتش عن بنيها ، تموت ككل ما فيها ، وترمى في المعاجم "
وتساءلت عن مصير صرخته :
" سجل أنا عربي " ولربما قلت :
" سجل أنا شكسبير "!.
الكتابة تطول وفي الأسبوع القادم أقارب موضوعات أخرى غير اللغة .
الخميس
27 شباط 2020 .

د. عادل الأسطة

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى