مقدمة:
ولد أحمد بن خالد الناصري بمدينة سلا، يوم 22 مارس 1835، ونشأ في إطار ثقافة دينية تقليدية، علاوة على كونه ينتسب إلى الزاوية الناصرية التامكروتية الواقعة بوادي درعة. وتولى الناصري عدة مناصب مخزنية كالإشراف على إدارة الأحباس وكأمين لعدة مراسي…
ومنذ بلوغه سن الأربعين، شرع في جمع مواد كتابه الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى، واستمر في ذلك لمدة تناهز العشرين سنة، إلى أن فرغ من تأليفه سنة 1894. ولم يعمر الناصري بعد ذلك طويلا، حيث توفي يوم 12 أكتوبر 1897، عن عمر لا يزيد عن 62 سنة؛ أي أنه قضى الثلث الأخير من عمره في جمع ووضع وترتيب مؤلفه الرئيسي: الاستقصا.
وعايش الناصري أبرز الأحداث التي عرفها تاريخ المغرب الأقصى خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر، تلك الأحداث التي طبعت تاريخ المغرب المعاصر بأزمات داخلية وتدخلات أجنبية وتحولات كبيرة على مختلف مظاهر الحياة المغربية؛ وأدت إلى فرض الحمايتين الفرنسية والإسبانية على المغرب.
1 ـ كتاب الاستقصا بين الطبع والترجمة:
طبع المؤلف كتابه الاستقصا بنفسه لأول مرة، بمدينة القاهرة في مطبعة بولاق، وذلك سنة 1894، في أربعة أجزاء. وبعد حوالي 60 سنة من ذلك، أي في 1954، تمت طبعة ثانية للكتاب، بمدينة الدار البيضاء بمطبعة دار الكتاب، وفي تسعة أجزاء. وصدرت حاليا طبعة ثالثة للكتاب، عن دار الكتاب أيضا بالدار البيضاء، وذلك سنة 1997، في ثلاث مجلدات، تشمل التسعة أجزاء السابقة النشر بنفس المطبعة.
وكان الكتاب قد ترجم إلى اللغة الفرنسية، ونشر على مراحل ضمن المجلدات المسماة الوثائق المغربية (Archives Marocaines)، التي كانت تصدرها سلطات الحماية الفرنسية بالمغرب: فترجم الأستاذ المستشرق Graulle سنة 1906، القسم الأول من الكتاب. وفي سنة 1923، ترجم الأستاذ المستشرق (G.S) Colin، القسم الثاني منه وفي سنة 1925، قام الأستاذ اسماعيل حامد الجزائري بترجمة القسم الثالث. وفي سنة 1927، تكلف ابن المؤلف الأستاذ امحمد الناصري بترجمة القسم الرابع من الاستقصا. وما بين سنتي 1934 و1936، اختتم الأستاذ المستشرق Fumey الترجمات الفرنسية بترجمته للقسم الخامس والأخير، ضمن مجلدات الوثائق المغربية المذكورة آنفا.
كما ظهرت ترجمات لكتاب الاستقصا، باللغات الإسبانية والبرتغالية والإيطالية ثم الإنجليزية..
2 ـ أبرز مواضيع أجزاء كتاب الاستقصا:
يقول، في ذلك، المؤلف نفسه:
"كتاب(…) ذكرت فيه دول هذا القطر المغربي، من لدن الفتح الإسلامي إلى وقتنا هذا الذي هو آخر القرن الثالث عشر [ الهجري/التاسع عشر الميلادي ]؛ سالكا فيما أنقله من ذلك سبيل الاختصار(…) متبركا أولا بذكر رسول الله (ص) وخلفائه الراشدين، متحريا من القول أصحها، ومن العبارات أفصحها…".
عن أحمد الناصري: الاستقصا… دار الكتاب، الدار البيضاء، 1997، الطبعة الجديدة، المجلد الأول، ص58.
ويمكن تصنيف المواضيع الكبرى لكتاب الاستقصا كما سطرها الناصري حيث:
ـ يتضمن الجزء الأول من كتابه تاريخ الفتح الإسلامي للمغرب وفترة ارتباط المغرب الأقصى بالخلافة بالمشرق، ثم قيام دولتي الأدارسة وزناتة. ويشمل ذلك الفترة الممتدة ما بين منتصف القرن السابع الميلادي إلى نهاية القرن العاشر الميلادي.
ـ وخصص الناصري جزءا ثانيا من الكتاب لتاريخ الدولتين المرابطية والموحدية، والتي يوافق عهدهما الحقبة الفاصلة بين بداية القرن الحادي عشر الميلادي ونهاية القرن الثالث عشر الميلادي.
ـ وفي جزء ثالث، يتناول الناصري تاريخ الدولة المرينية، منذ نهاية القرن الثالث عشر الميلادي حتى منتصف القرن الرابع عشر الميلادي.
ـ وفي جزء رابع يتتبع الناصري تواريخ الدولة السعدية ما بين منتصف القرن الرابع عشر الميلادي حتى منتصف القرن السابع عشر الميلادي.
ـ وفي جزء خامس وأخير يتناول الناصري تاريخ الدولة العلوية، منذ منتصف القرن السابع عشر الميلادي حتى نهاية القرن التاسع عشر الميلادي.
فلماذا تعامل الناصري مع مؤلفه الاستقصا بهذه الطريقة؟
3 ـ منهجية الناصري في تأليف الاستقصا:
أ ـ ما طريقته في جمع مواد الكتاب؟
يمكن تلخيص وسائل جمع الناصري لمواد كتابه في محاولته التوفر على ما استطاع من التواريخ الإسلامية الخاصة منها والعامة، وفي انتقائه من تلك التواريخ ما يخص موضوعه حول تاريخ المغرب الأقصى. واطلع الناصري على وثائق الخزانة المخزنية بمراكش أولا ثم على الوثائق الرسمية الموضوعة بمدينة الجديدة على الخصوص وغيرها. وتتبع وزار بقايا الآثار الموجودة بمراكش وفاس وسلا والرباط والجديدة… الخ، وأخذ من أصدقائه ومن الوزراء والكتاب والأعيان والأمناء ما يمس موضوعه. كما استعمل وسيلة الأخذ عن أناس طاعنين في السن، يثق بروايتهم الشفوية حول أخبار المخزن العلوي وحول حوادث جرت بمناطق من المغرب خلال القرن التاسع عشر الميلادي. وكاتب الناصري العديد من الشخصيات المغربية حول ما يمكن أن يطعم معارفه حول الموضوع. وكان الناصري على اتصال وطيد بصديق له، كان يعمل قنصلا أوربيا بالمغرب، فجلب له ذلك القنصل العديد من الكتب والوثائق باللغتين الإسبانية والبرتغالية. فاتخذ الناصري ترجمانا خاصا كان يترجم له مضامين تلك الوثائق.
ب ـ كيف نظم الناصري معطيات مادة كتابة الاستقصا؟
تبنى الناصري طريقة المؤرخين السابقين له، وذلك بتصنيف الأحداث وفق تسلسل كرونولوجي للمواد التي تمكن من جمعها حول تاريخ المغرب الأقصى. وهذا النوع من التأريخ الكرونولوجي، يشمل أحداثا ومعطيات مترابطة أحيانا ومنفصلة أحيانا أخرى. وبين الفينة والأخرى، يقوم الناصري بتعليقات حول بعض الأحداث والمظاهر التاريخية المتطرق إليها. وغالبا ما تنم تعليقاته وآراؤه حول تلك المواضيع عن عمق في الرؤيا للأمور أو عن توجيه منبثق من قناعات مذهبية وعقائدية يلتزم بها.
ويمكن اعتبار كتاب الاستقصا من أوثق ما كتب عن تاريخ المغرب الأقصى الإسلامي، منذ بداية الفتح الإسلامي للمغرب حتى نهاية القرن التاسع عشر الميلادي، وذلك من حيث كونه تأليفا تأريخيا استوغرافيا، أي جمعا لما جاءت به عدة مؤلفات سابقة ومعاصرة له. والكتاب يعد أيضا مرجعا رئيسيا للباحثين والمتخصصين حول تاريخ المغرب. وهو يجسم فكرة وممارسة لصاحبه أحمد بن خالد الناصري، حول تخصيص مؤلف خاص عن تاريخ المغرب الأقصى، لم يسبق إليه من قبل. وربما كانت تلك الفكرة تحمل في عمقها نظرة إيديولوجية معينة حول وحدة المغرب الأقصى وخصوصياته[2].
كما يمكن أن نلتمس لدى الناصري في كتابه الاستقصا بوادر المؤرخ المعاصر، وذلك حينما يدرج أهمية العوامل الواقعية والتاريخية المرتبطة بوقتها؛ أثناء تحليله أو حكمه على وضعية ما. وكمثال على ذلك، وفي معرض جوابه عن مدى استعداد المغرب للانفتاح على المتاجرة والتعامل مع أوربا الإمبريالية، منذ بداية الثلث الأخير من القرن التاسع عشر، فإن الناصري يورد معطيات تاريخية تدعم موقفه المرن من تلك القضية. فكان من أبرز ما أورده حول تلك المعطيات التاريخية: عدم استعداد المغاربة للتعامل المتكافئ مع أوربا الإمبريالية؛ وذلك بحكم عدم الانسجام القائم بين البوادي والمدن المغربية من جهة؛ وبحكم قصور المغاربة –غير الموحدين- عن المواجهة العسكرية للقوات الأوربية، في حالة قيامهم "بالجهاد" ضد الأجانب[3].
ويتخذ الناصري، أحيانا أخرى، موقفا خاصا –لا يجرؤ على تبنيه مؤرخون آخرون- مثل موقفه من تجربة الأمير عبد القادر الجزائري، في علاقته مع المخزن المغربي في عهد السلطان عبد الرحمن بن هشام[4].
وعلى الرغم من كون الناصري يحمل في كتابه الاستقصا نموذج التأليف التأريخي الإستوغرافي فإنه ينطبع أيضا بروح الاستقلال عن الأحداث، وبالنقد المعتمد على معطيات واقعية، وبالجرأة العلمية إزاء التعليق على بعض القضايا الحساسة وقتئذ، وإزاء الموقف الخاص من النظرة الرسمية، إنما وبطريقة تجنح إلى أن تكون جد لبقة ومرنة وأحيانا كامنة أو مشارا إليها عبر بضعة جمل فقط n
- راجع تفاصيل بعض الجوانب من حياة الناصري في كتاب الاستقصا…، المجلد الأول، الطبعة الجديدة، 1997، دار الكتاب، الدار البيضاء، من ص9 إلى ص54، وهي جوانب من وضع إبني المؤلف: جعفر وامحمد بتاريخ 19 دجنبر 1921.
[2] - راجع مقالة الأستاذ بنعبد العالي عبد السلام، (الاستقصا وتوحيد المغرب الأقصى)، دراسات عربية، بيروت، لبنان، ع10، السنة 1983، من ص129 إلى ص133.
[3] - راجع تفاصيل الجواب، في كتابه الاستقصا، المجلد الثالث، ج9، الطبعة الجديدة، دار الكتاب، الدار البيضاء، 1997، من ص184 إلى ص192. ثم راجع أيضا تحليل الأستاذ عبد الله العروي، في هذا الصدد، في كتابه بالفرنسية: الأصول الاجتماعية والثقافية للوطنية المغربية (1830-1912)، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، بدون تاريخ، ص325 و326.
[4] - راجع في هذا الصدد، كتابه الاستقصا، المجلد الثالث، ج9، السابق الذكر، في ص58 و59، خاصة منها الظهير الذي أورده حول مصير حركة الأمير عبد القادر الجزائري، الشيء الذي ينفرد الناصري بالنص عليه، من بين باقي المؤرخين الإستوغرافيين المعاصرين له.
* مجلة فكر ونقد
ولد أحمد بن خالد الناصري بمدينة سلا، يوم 22 مارس 1835، ونشأ في إطار ثقافة دينية تقليدية، علاوة على كونه ينتسب إلى الزاوية الناصرية التامكروتية الواقعة بوادي درعة. وتولى الناصري عدة مناصب مخزنية كالإشراف على إدارة الأحباس وكأمين لعدة مراسي…
ومنذ بلوغه سن الأربعين، شرع في جمع مواد كتابه الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى، واستمر في ذلك لمدة تناهز العشرين سنة، إلى أن فرغ من تأليفه سنة 1894. ولم يعمر الناصري بعد ذلك طويلا، حيث توفي يوم 12 أكتوبر 1897، عن عمر لا يزيد عن 62 سنة؛ أي أنه قضى الثلث الأخير من عمره في جمع ووضع وترتيب مؤلفه الرئيسي: الاستقصا.
وعايش الناصري أبرز الأحداث التي عرفها تاريخ المغرب الأقصى خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر، تلك الأحداث التي طبعت تاريخ المغرب المعاصر بأزمات داخلية وتدخلات أجنبية وتحولات كبيرة على مختلف مظاهر الحياة المغربية؛ وأدت إلى فرض الحمايتين الفرنسية والإسبانية على المغرب.
1 ـ كتاب الاستقصا بين الطبع والترجمة:
طبع المؤلف كتابه الاستقصا بنفسه لأول مرة، بمدينة القاهرة في مطبعة بولاق، وذلك سنة 1894، في أربعة أجزاء. وبعد حوالي 60 سنة من ذلك، أي في 1954، تمت طبعة ثانية للكتاب، بمدينة الدار البيضاء بمطبعة دار الكتاب، وفي تسعة أجزاء. وصدرت حاليا طبعة ثالثة للكتاب، عن دار الكتاب أيضا بالدار البيضاء، وذلك سنة 1997، في ثلاث مجلدات، تشمل التسعة أجزاء السابقة النشر بنفس المطبعة.
وكان الكتاب قد ترجم إلى اللغة الفرنسية، ونشر على مراحل ضمن المجلدات المسماة الوثائق المغربية (Archives Marocaines)، التي كانت تصدرها سلطات الحماية الفرنسية بالمغرب: فترجم الأستاذ المستشرق Graulle سنة 1906، القسم الأول من الكتاب. وفي سنة 1923، ترجم الأستاذ المستشرق (G.S) Colin، القسم الثاني منه وفي سنة 1925، قام الأستاذ اسماعيل حامد الجزائري بترجمة القسم الثالث. وفي سنة 1927، تكلف ابن المؤلف الأستاذ امحمد الناصري بترجمة القسم الرابع من الاستقصا. وما بين سنتي 1934 و1936، اختتم الأستاذ المستشرق Fumey الترجمات الفرنسية بترجمته للقسم الخامس والأخير، ضمن مجلدات الوثائق المغربية المذكورة آنفا.
كما ظهرت ترجمات لكتاب الاستقصا، باللغات الإسبانية والبرتغالية والإيطالية ثم الإنجليزية..
2 ـ أبرز مواضيع أجزاء كتاب الاستقصا:
يقول، في ذلك، المؤلف نفسه:
"كتاب(…) ذكرت فيه دول هذا القطر المغربي، من لدن الفتح الإسلامي إلى وقتنا هذا الذي هو آخر القرن الثالث عشر [ الهجري/التاسع عشر الميلادي ]؛ سالكا فيما أنقله من ذلك سبيل الاختصار(…) متبركا أولا بذكر رسول الله (ص) وخلفائه الراشدين، متحريا من القول أصحها، ومن العبارات أفصحها…".
عن أحمد الناصري: الاستقصا… دار الكتاب، الدار البيضاء، 1997، الطبعة الجديدة، المجلد الأول، ص58.
ويمكن تصنيف المواضيع الكبرى لكتاب الاستقصا كما سطرها الناصري حيث:
ـ يتضمن الجزء الأول من كتابه تاريخ الفتح الإسلامي للمغرب وفترة ارتباط المغرب الأقصى بالخلافة بالمشرق، ثم قيام دولتي الأدارسة وزناتة. ويشمل ذلك الفترة الممتدة ما بين منتصف القرن السابع الميلادي إلى نهاية القرن العاشر الميلادي.
ـ وخصص الناصري جزءا ثانيا من الكتاب لتاريخ الدولتين المرابطية والموحدية، والتي يوافق عهدهما الحقبة الفاصلة بين بداية القرن الحادي عشر الميلادي ونهاية القرن الثالث عشر الميلادي.
ـ وفي جزء ثالث، يتناول الناصري تاريخ الدولة المرينية، منذ نهاية القرن الثالث عشر الميلادي حتى منتصف القرن الرابع عشر الميلادي.
ـ وفي جزء رابع يتتبع الناصري تواريخ الدولة السعدية ما بين منتصف القرن الرابع عشر الميلادي حتى منتصف القرن السابع عشر الميلادي.
ـ وفي جزء خامس وأخير يتناول الناصري تاريخ الدولة العلوية، منذ منتصف القرن السابع عشر الميلادي حتى نهاية القرن التاسع عشر الميلادي.
فلماذا تعامل الناصري مع مؤلفه الاستقصا بهذه الطريقة؟
3 ـ منهجية الناصري في تأليف الاستقصا:
أ ـ ما طريقته في جمع مواد الكتاب؟
يمكن تلخيص وسائل جمع الناصري لمواد كتابه في محاولته التوفر على ما استطاع من التواريخ الإسلامية الخاصة منها والعامة، وفي انتقائه من تلك التواريخ ما يخص موضوعه حول تاريخ المغرب الأقصى. واطلع الناصري على وثائق الخزانة المخزنية بمراكش أولا ثم على الوثائق الرسمية الموضوعة بمدينة الجديدة على الخصوص وغيرها. وتتبع وزار بقايا الآثار الموجودة بمراكش وفاس وسلا والرباط والجديدة… الخ، وأخذ من أصدقائه ومن الوزراء والكتاب والأعيان والأمناء ما يمس موضوعه. كما استعمل وسيلة الأخذ عن أناس طاعنين في السن، يثق بروايتهم الشفوية حول أخبار المخزن العلوي وحول حوادث جرت بمناطق من المغرب خلال القرن التاسع عشر الميلادي. وكاتب الناصري العديد من الشخصيات المغربية حول ما يمكن أن يطعم معارفه حول الموضوع. وكان الناصري على اتصال وطيد بصديق له، كان يعمل قنصلا أوربيا بالمغرب، فجلب له ذلك القنصل العديد من الكتب والوثائق باللغتين الإسبانية والبرتغالية. فاتخذ الناصري ترجمانا خاصا كان يترجم له مضامين تلك الوثائق.
ب ـ كيف نظم الناصري معطيات مادة كتابة الاستقصا؟
تبنى الناصري طريقة المؤرخين السابقين له، وذلك بتصنيف الأحداث وفق تسلسل كرونولوجي للمواد التي تمكن من جمعها حول تاريخ المغرب الأقصى. وهذا النوع من التأريخ الكرونولوجي، يشمل أحداثا ومعطيات مترابطة أحيانا ومنفصلة أحيانا أخرى. وبين الفينة والأخرى، يقوم الناصري بتعليقات حول بعض الأحداث والمظاهر التاريخية المتطرق إليها. وغالبا ما تنم تعليقاته وآراؤه حول تلك المواضيع عن عمق في الرؤيا للأمور أو عن توجيه منبثق من قناعات مذهبية وعقائدية يلتزم بها.
ويمكن اعتبار كتاب الاستقصا من أوثق ما كتب عن تاريخ المغرب الأقصى الإسلامي، منذ بداية الفتح الإسلامي للمغرب حتى نهاية القرن التاسع عشر الميلادي، وذلك من حيث كونه تأليفا تأريخيا استوغرافيا، أي جمعا لما جاءت به عدة مؤلفات سابقة ومعاصرة له. والكتاب يعد أيضا مرجعا رئيسيا للباحثين والمتخصصين حول تاريخ المغرب. وهو يجسم فكرة وممارسة لصاحبه أحمد بن خالد الناصري، حول تخصيص مؤلف خاص عن تاريخ المغرب الأقصى، لم يسبق إليه من قبل. وربما كانت تلك الفكرة تحمل في عمقها نظرة إيديولوجية معينة حول وحدة المغرب الأقصى وخصوصياته[2].
كما يمكن أن نلتمس لدى الناصري في كتابه الاستقصا بوادر المؤرخ المعاصر، وذلك حينما يدرج أهمية العوامل الواقعية والتاريخية المرتبطة بوقتها؛ أثناء تحليله أو حكمه على وضعية ما. وكمثال على ذلك، وفي معرض جوابه عن مدى استعداد المغرب للانفتاح على المتاجرة والتعامل مع أوربا الإمبريالية، منذ بداية الثلث الأخير من القرن التاسع عشر، فإن الناصري يورد معطيات تاريخية تدعم موقفه المرن من تلك القضية. فكان من أبرز ما أورده حول تلك المعطيات التاريخية: عدم استعداد المغاربة للتعامل المتكافئ مع أوربا الإمبريالية؛ وذلك بحكم عدم الانسجام القائم بين البوادي والمدن المغربية من جهة؛ وبحكم قصور المغاربة –غير الموحدين- عن المواجهة العسكرية للقوات الأوربية، في حالة قيامهم "بالجهاد" ضد الأجانب[3].
ويتخذ الناصري، أحيانا أخرى، موقفا خاصا –لا يجرؤ على تبنيه مؤرخون آخرون- مثل موقفه من تجربة الأمير عبد القادر الجزائري، في علاقته مع المخزن المغربي في عهد السلطان عبد الرحمن بن هشام[4].
وعلى الرغم من كون الناصري يحمل في كتابه الاستقصا نموذج التأليف التأريخي الإستوغرافي فإنه ينطبع أيضا بروح الاستقلال عن الأحداث، وبالنقد المعتمد على معطيات واقعية، وبالجرأة العلمية إزاء التعليق على بعض القضايا الحساسة وقتئذ، وإزاء الموقف الخاص من النظرة الرسمية، إنما وبطريقة تجنح إلى أن تكون جد لبقة ومرنة وأحيانا كامنة أو مشارا إليها عبر بضعة جمل فقط n
- راجع تفاصيل بعض الجوانب من حياة الناصري في كتاب الاستقصا…، المجلد الأول، الطبعة الجديدة، 1997، دار الكتاب، الدار البيضاء، من ص9 إلى ص54، وهي جوانب من وضع إبني المؤلف: جعفر وامحمد بتاريخ 19 دجنبر 1921.
[2] - راجع مقالة الأستاذ بنعبد العالي عبد السلام، (الاستقصا وتوحيد المغرب الأقصى)، دراسات عربية، بيروت، لبنان، ع10، السنة 1983، من ص129 إلى ص133.
[3] - راجع تفاصيل الجواب، في كتابه الاستقصا، المجلد الثالث، ج9، الطبعة الجديدة، دار الكتاب، الدار البيضاء، 1997، من ص184 إلى ص192. ثم راجع أيضا تحليل الأستاذ عبد الله العروي، في هذا الصدد، في كتابه بالفرنسية: الأصول الاجتماعية والثقافية للوطنية المغربية (1830-1912)، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، بدون تاريخ، ص325 و326.
[4] - راجع في هذا الصدد، كتابه الاستقصا، المجلد الثالث، ج9، السابق الذكر، في ص58 و59، خاصة منها الظهير الذي أورده حول مصير حركة الأمير عبد القادر الجزائري، الشيء الذي ينفرد الناصري بالنص عليه، من بين باقي المؤرخين الإستوغرافيين المعاصرين له.
* مجلة فكر ونقد