فارس وتّي محمود الوهب - أدب السجون والمعتقلات

كثرت في السنوات الأخيرة الكتبُ عن أدب السجون والمعتقلات، فمنذ رواية (شرق المتوسط) لعبد الرحمن منيف، إلى (القوقعة) لمصطفى خليفة، إلى عشرات الكتب الأخرى التي تناولت الموضوع ذاته كليًا أو جزئيًا.. وهذا أمر طبيعي، إذ إن الأدب يعكس واقع الحياة، على نحو أو آخر، وواقعنا مزر لجهة الاستبداد، وقمع الرأي وصاحبه. فقد غدا الاعتقال والسجن ومعاناتهما خبزًا يوميًا لكل مواطن حر، فلا تكاد أسرة سورية واحدة تنجو من هذه المآسي، إما مباشرة وإما بالقرابة أو الصداقة. ولعلَّ عدد من زار السجون السياسية، منذ أن استلم حافظ الأسد السلطة عام 1970 وإلى الآن، قد بلغ مئات ألوف السوريين، منهم 300 ألف بعد العام 2011 فقط، أي في عهد الابن الوريث. ورغم أنَّ نسبة العاملين في تنظيم سياسي إلى عدد السكان، قليلة جدًا، لكن الذين يفكرون بأوضاع بلادهم وأحوالها كثيرون جدًا، وهذا الأمر يكشف عمق وعي السوريين، ومأساتهم في الوقت نفسه.

وإذا كانت معظم كتب أدب السجون قد ركزت في وصفها على المسائل المادية الخارجية، مصوَّرة أدوات التعذيب وأساليبه المختلفة التي برع فيها الجلادون السوريون، مضيفين الكثير إلى ما هو متعارف عليه، وخصوصًا في ما يمت إلى البيئة الاجتماعية بِصلة، كحساسية المسائل الاجتماعية والعقائدية، مثل الأسرة والجنس والدين.. أقول إذا كان الأمر كذلك؛ فإن بعض الكتب، وبخاصة تلك التي كتبها أدباء مميزون، أبحرت في الجوانب الروحية، سواء في روح الضحية وحساسيتها أم في روح الجلاد وما أصابها من خرابٍ أخرجها عن طبيعتها الإنسانية. ومن تلك الكتب رواية (قهوة الجنرال) للأديب غسان الجباعي الذي أبدعها بلغة أدبية راقية، هي أقرب إلى لغة الشعر؛ إذ فيها الكثير من المجاز اللغوي الذي يتيح للقارئ، بما فيه من غموض أحيانًا، فُسَحًا للتأمل في ما تتركه حياة السجن من تأثيرات على حياة السجين وروحه؛ فالأساليب اللاإنسانية تترك روح السجين رهينة عمق تلك الندوب التي تحفر عميقًا فيها؛ فيظل السجين أسير تلك الحال يدور في فلكها إلى درجة أنَّ ذاكرته السابقة تمحى أو تكاد. ولا يقف الأمر عند هذه الحال بل يتعداها إلى أسرة السجين، وخصوصًا إلى الزوجة التي لا معيل لها.. تتكشف مرارة هذه الحقيقة عبر حوار رامز بين السجين وزوجه، يوضح عمق مأساتهما، فهذا يتحدث عن مأساة اعتقاله وتعذيبه، بينما تأتي المرأة على ما فعلته بها ظروفها الاجتماعية من مذلات؛ إذ هي امرأة بلا سند!

لا مجال للخوض في جماليات الرواية، فقد كتب عنها الكثير، بعد أن فازت بجائزة (المزرعة) التي تشرف عليها رابطة الكتاب السوريين. ولعلّي في هذه العجالة أكتفي بمقالة لـ حامد العظم، نشرت في العدد 9830 تاريخ 16 شباط 2015، جريدة العرب اللندنية، جاء فيها:

“نحن أمام أحجية سردية، تتداخل فيها الذكريات مع الواقع، تتخللها الهلوسات المختلفة، كل هذا مرسوم بلغة شعرية عالية، لنجد أنفسنا أمام لوحة يرسمها الوصف، بالإضافة إلى تقنية سردية تتداخل فيها الأصوات، فكل فقرة من الرواية هي صوتٌ إما للسجين، أو للممثل المسرحي، أو للعاهر، الشخصيات تتحدث وكأنها في رأس القارئ، كل منها تصب ما في جعبتها، لترسم عالمًا سورياليًا، يتحدّى فيه الجسد وجوده، ويتحدّى طاقته على احتمال المكان الذي يتداعى، ليضحي الجسد على المحك في محاولة للنجاة”.

وإذا تجاوزنا رواية الجباعي إلى كتاب آخر هو (خيانات اللغة والصمت) “تغريبتي في سجون المخابرات السورية”، للشاعر السجين أيضًا، فرج بيراقدار الذي دوَّن يوميات توَثِّق لحياة عددٍ من السجناء في سجنَي تدمر وصيدنايا، وتفضح ما يجري في خلف تلك “المملكة المسوَّرة بالرعب والموت والجنون”، يصب فرج اهتمامه كلَّه لا على أدوات التعذيب ووسائله، رغم تعداده لها، ووصفها بدقة، بل على الضحية والجلاد بآن معًا، وقد أتى بأمثلة كثيرة، فهذا جلاد يرغم سجينًا على ابتلاع فأرة، وترى سجينًا كهلًا يصاب بنوبة هستيرية، فيسأل فرج زميلًا له عمّا جرى للرجل، فيحيل الزميل جوابه إلى تاء التأنيث التي لم تمسحه برحمتها، منذ ست عشرة سنة.. فيذهب الكاتب، بعد طول إمعان، إلى أن المرأة هي الحرية: “أجل تصبح المرأة في السجن معادلًا رمزيًا وإنسانيًا وفنيًا للحرية، بل تغدو الحرية هي المرأة ذاتها، ولهذا يتبدد السجين، حتى لا يبقى منه سوى نص غامض مدروز بالأشواك”. ص155

ويتأمل فرج حال الجلاد وقسوته، وفظاعة ارتكاباته! يتأمل بشاعة لغته ووساخة حذائه.. يقارن ما بين مظهره الخارجي وخرابه الروحي؛ فيدرك شمولية الخراب الذي يخلفه المستبد في شعبه. لا يحقد الكاتب على الجلاد بقدر ما يشفق على حاله التي غادرت إنسانيتها، ولعله يذكِّر بقصيدة الشاعر مصطفى البدوي التي كتبها عن شهيد المخابرات السورية عام 1961، إذ يقول فيها:

“وقيل بأنهم ضربوه حتى مات/ ولم تشفع به الأنَّات/ وقيل بأنهم قلعوا ضياء العين بكلابة من نار/ ليكشفوا مكمن الأسرار/ ولا أسرار.. سوى خصب من الحب، وإشفاق على الجزار..!”.

ولعلَّ أهم ما في كتاب فرج، من جهة أخرى، هي مرافعة الكاتب أمام محكمة أمن الدولة العليا؛ إذ استطاع، بما يملكه من عمق وعي وسعة اطلاع، أن يدين نظام الاستبداد ومحاكمه غير القانونية، مستعينًا بنصوص دستور البلاد وبالقوانين أو المراسيم المخالفة له.. ومعروف أن تلك المرافعة لعبت دورًا في فضح ما يجري في السجون والمعتقلات السورية، وخصوصًا أنها هُرّبت ضمن الكتاب طبعًا إلى خارج السجن، وترجمت إلى عدد من لغات العالم، واطلعت عليها منظمات حقوق الإنسان وحكومات العالم المتحضر، وتدخّل بعضهم للإفراج عن العديد من المعتقلين بمن فيهم فرج.

يبقى أدب السجون شاهدًا، لا على بشاعة الاستبداد فحسب، بل على أنَّ للمثقف دورًا مؤثرًا لا يغيب عن الحياتين السياسة والاجتماعية، والأهم من ذلك دوره في تأكيد الحرية، كقيمة إنسانية أولى في بناء مجتمع سليم ومتوازن.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى