محمود سعيد - أرسطو

توفي في مثل هذا اليوم في عام ٣٢٢ ق م أحد أعظم فلاسفة العالم، وأشدها تأثيراً على البشرية والحضارة “أرسطو”، توفي مريضاً او منتحراً بشرب السم، هاربا، بعد أن اتهم بقوله “عدم فائدة الصلاة والقرابين”، وعندما وجد أن محاكمته ستتم وسط جو عدائي، وأن نهايته اقتربت ترك أثينا، لأنه لم يرد أن تقوم المدينة بارتكاب جريمة أخرى ضد الفلسفة، لكنه تمرض، بعدئذ، ومات وحيداً في سن مبكرة ٦٢. وبعد ذلك بمدة قليلة مات تلميذه الأشهر “الأسكندر”، وعدوه اللدود الخطيب “ديمستين” الذي وضع نصب عينيه إنهاء حياة أرسطو، توفي الثلاثة في نفس السنة، فالإسكندر أصغر منه بثلاث عشرة سنة، بينما كان عمر ديمستين ٦٢ سنة أيضاً.
كان أبوه طبيباً لملك مقدونيا، جد الاسكندر، وكان مترفاً مبعثراً للمال حتى ذهب في سن الثامنة عشرة إلى أثينا، ليصبح تلميذا لأفلاطون، فأدرك هذا أنه الذكاء المجسم في الأكاديمية، ولأنه ثري فقد صرف ثروة كبيرة في اقتناء الكتب، وبرزت عبقريته العملية كأول من وضع نظاما لتصنيف وتبويب الكتب، وكما تقضي الحكمة ألا يجتمع ملكان في مدينة، ثبت كذلك ألا يجتمع عبقريان في أكاديمية، إذ أن طموح أرسطو تجاوز أستاذه، فصرح بوقاحة شديدة أن الحكمة لن تموت بموت أفلاطون، بينما شبه أفلاطون تمليذه بمهر وليد يرفس أمه الفرس، بعد استنزافها. ثم اسس أكاديمية لتعليم الخطابة فذاع صيته، حينئذ دعاه أعظم ملوك المنطقة “فيليب” والد الإسكندر، ملك مقدونيا، الذي وحد اليونان بقسوة ووحشية فارطة، ليؤدب ابنه.
وجد أرسطو ان الاسكندر شاباً عنيفاً متوحشاً في الثالثة عشرة، عاطفياً، مصاباً بالصرع، كحولياً، يقضي معظم وقته في ترويض الخيل الوحشية. أخذ أرسطو يوجه الشاب المتمرد بلطف وحزم مدروسين، فأحبه الاسكندر قائلاً: على الرغم من أن أبي كان السبب في رؤية الحياة إلا أن أرسطو هو من علّمني فن الحياة.
وبعد سنتين ترك الاسكندر الفلسفة ليرتقي العرش بعد مقتل والده، وتفرغ لفتح العالم، ليبدأ مشروع مشترك بين الإثنين، أحدهما يوحد العالم بالسيف، والثاني بالقضاء على الفوضى بالحكمة والفلسفة.
تظافرت جهود الاثنين على تحقيق أفضل النتائج، ففي الوقت الذي اخضع الاسكندر الهلال الخصيب وإيران، وأفغانستان، وبلاد السند، وتوجه للهند، استطاع الفيلسوف المرافق له من تجنيد ألف شخص ينتشرون في دول شتى يجمعون له نماذج وعينات حيوانية ونباتية من أراض شاسعة بعيدة وقريبة، وبذلك أنشأ أرسطو أول حديقة حيوان عظيمة شهدتها البشرية.
كان أرسطو ثرياً، لكن ما يملك غير كافٍ لتحقيق هذا المشروع العظيم، فوهبه الأسكندر (٨٠٠) وزنة من المال، ما يعادل ٤٠٠ مليون دولار في يومنا هذا، ولم يقتصر الأمر على هذا، بل قام الاسكندر تحت طلب أرسطو، بإرسال أول بعثة لاكتشاف منابع النيل، ودراسة أسباب فيضانه، ولم يقتصر إنجاز أرسطو على العلم فقط، بل تعداه إلى القانون، فقام بتنسيق مئة وثمانية وخمسين دستوراً خاصاً بالمدن اليونانية، كلاً على حدة، وهذا يعني أن أرسطو حصل على تمويل هائل من الاسكندر، لإنجاز هذه الأهداف، وللصرف على جيش من المعاونين له. هذا الصرف الحاتمي، حرمنا نحن في العراق منه بالرغم من توافره.
ارسطو

يدعي بعض المورخين ان ارسطو كتب نحو ١٠٠٠ كتاب، ثم ينزل بعضهم العدد قليلاً قليلاً حتى يستقر بعضهم على ٤٠٠ كتاب، منها “المقولات” “الموضوعات” “المقدمة” “التحليلات” التالية” “الموضوع والمحمول”” الدحض السفسطائي” وهذه كلها في المنطق، ثم “الطبيعيات” “في السماء” “التطور والانحلال” “علم الظواهر الجوية” “التاريخ الطبيعي” “عن النفس” “أجزاء الحيوان”. وهذه في الأحياء، ثم كتب عدة كتب في السلوك، وكتباً أخرى في الذوق، وثالثة في البلاغة، ورابعة في الأخلاق، وخامسة في السياسة، وسادسة في الميتافزيقيا، “الإلاهيات”. لقد وضع أرسطو تعريفات علمية واصطلاحات فلسفية وفنية للعلم والأحياء، والقواعد الاجتماعية والفلك، والطبيعة، لذلك جاء أسلوبه علمياً جافاً مملاً، عكس أفلاطون الذي عبر عما يجول بخاطره بجمل أدبية بليغة مشوقة.
على أننا نكاد أن نعتبر أن أعظم ما جاء به أرسطو، رغم أهمية أبحاثه كلها هو المنطق، فقد تأثر العالم كله بمنطق أرسطو، ويكاد أن يكون منطق ارسطو وسيلة لفحص وتصحيح الفكرالأنساني، فمنطق ارسطو يعني الفن والأسلوب الذي يساعدنا على تصحيح أفكارنا، وفكرنا، ويعني مثولنا أمام المحكمة، ويعني تشريع القانون، إضافة إلى أنه أسلوب كل علم، وكل نظام، وكل فن، وحسبما يقول أحد دارسي الموسيقى الذي يجزم على تلاشيها إن لم يربط بين جزيئياتها المنطق، وهذا شيء أجهله، لكني أعرف أن الهندسة المستوية عبارة عن سلسة من المنطق، وأستطيع إثبات ذلك.
إن أهم ما جاء به أرسطو في الفلسفة هو القياس، وتأثر به الفقه الإسلامي “الحنفي على وجه الخصوص”، الذي حكم وتحكم بمعظم الشعوب العربية والإسلامية ستة قرون، والذي كان مركزه بغداد، وهناك من يلعن أبا حنيفة ويكفره، هو وتلاميذه العباقرة كل يوم، لأنه أدخل المنطق إلى الإسلام، وجعله أساساً للتشريع مفضلاً إياه على النص
يتجلى القياس والمنطق بالأدب المعاصر بالانتقال من المقدمات إلى النتائج، ويتجلى ذلك ظاهراً، بأسلوب رواية الف ليلة وليلة، المتماسك المنضبط، الذي سرى إلى الرواية الحديثة، وبقية فنون السرد، أما في الحياة العامة فقد أصبح بعد عصر النهضة على كل لسان، فنحن ننهج على مبدأ أرسطو، حتى في كلامنا العادي، كأن نقول على سبيل المثال: التلون نفاق “مقدمة حقيقية أولى”، الصدر متلون “مقدمة حقيقية ثانية،” النتيجة المسلم بها: الصدر منافق.
كان العلم موجوداً قبل أرسطو وأفلاطون وسقراط وغيرهم من فلاسفة اليونان، لكن المساهمة اليونانية قفزت به إلى الأمام، ومن يقرأ أرسطو يذهل لعمق تفكيره، والموضوعات التي ذكرها، فقد قال إن ليس للإنسان عبادة الشمس والكواكب، فهي ليست سوى كرات من نار.
على أن أهم ما جاء به أرسطو هو بحثه في السعادة وبلوغها، وإشارته إلى الطريق الذهبي، أي الوسط الذهب. .



أعلى