د. طيب تيزيني - أوروبا وإشكالية تحرر المرأة

حين كتب أبو الدراما الحديثة “هنريك إبسن” النرويجي مسرحية “نورا… بيت اللعبة” في القرن التاسع عشر، كان ذلك بمثابة هزّة بل انتفاضة في ضمائر الأوروبيين وعقولهم: كما نُظر إليه على أنه تحريض على خروج المرأة هناك، أخيراً، من حِجرها القسْري، فلقد عبّرت (نورا) عن روح الحداثة التنويرية، حين رفضن الاستكانة لـ”حنان” البيت الأبوي ولـ”استقرار” البيت الزوجي، وقررت – بحزم غير مسبوق في تاريخ المرأة – البحث عن ذاتها، وعن تقبُّل نتائجه بشجاعة مفتوحة (غير مشروطة)، وقد جاء ذلك في سياق التطورات الكبرى، التي أفْضت إلى ترسيخ النظام الاجتماعي الجديد، الرأسمالي.
وإذا كان مطلب تحرر المرأة قد جاء بمثابة دعوة إلى توسيع رقعة المجتمع بشرياً بعد أن كان – من حيث الأساس الاقتصادي – محصوراً بالرجال الأحرار، إلا أنه راح يتسع بكيفية هائلة ومطردة بحيث لم يترك كائناً “حياً قادراً على الحركة” إلا وأخذ يسعى إلى توظيفه في خدمة ذلك التقدم، الذي يقود إلى آفاق جديدة مفتوحة في النظام الاجتماعي الجديد.
ولما كانت المرأة تدخل في خانة الكائن الحي المتحرك، فهي قابلة لأن تعمل في خدمة التقدم المذكور تحت هيمنة الرجال عموماً، والمالكين منهم على نحو الخصوص، لكن مطلب تقدم المرأة على صعيد العقل الفاعل ظل غائباً، إلا بقدْر ما يخدم الإنتاج الاقتصادي المركّب. وهذا ما عمل على إخراج المرأة الجديدة العاملة من بيتي الأبوة والزوجية قسراً، دون أن يتيح لها إمكانات الخروج إلى النهوض والتنوير العقلي والسوسيو ثقافي، إلا بنحو ضئيل ومقتصر على نساء الرجال ذوي السلطة والقرار، ومن ثم فإن “نورا” في المسرحية الدرامية تنتقل من بيت الأب المحامي المثقف إلى بيت الزوج المحامي المثقف، لتكتشف – عبر معاناة “ذاتية” – أنها في كلا البيتين لم تخرج عن كونها “لعبة” في الواقع وفي نظر الأقارب والأباعد، وهنا، تقرر الإمساك بمصائرها على نحو خاص، فتغادر البيت الثاني بعد أن غادرت البيت الأول، باحثة عما يجعل منها كياناً يمتلك كرامته واستقلاله.
ومعروف أن تطور حركة تحرر المرأة الأوروبية الحديثة ظلّ يعاني من شرخين اثنين، محدودية الحقل النسوي الذي مرّ بذلك التطور (نسبة كبيرة من النساء الكادحات أُخرجن منه) أولاً، وأحادية هذا التطور التي اتسمت بضآلة الفعل العقلي والثقافي العام ثانياً. ومع ذلك، كان هنالك حراك ملحوظ في أوساط نسائية نشطة باتجاه عملية التجادل التاريخي بين الفعل الاقتصادي والآخر العقلي الثقافي، بيد أن هذا كله أصبح – مع بروز النظام العولمي الجديد – أمام استحقاقات جديدة يمكن أن تهدد تلك العملية، بحيث يُطاح بالكثير بما حققته المرأة الأوروبية في عقود سبقت، مِنْ مِثل: العمل وحق العمل، والاستقلال المادي مع الاستقلال الثقافي النسوي النسبي، وتحقيق مطرد للهوية السوسيوثقافية على أساس التوازن بينها وبين الهوية الفيزيولوجية.
إن ذلك الفعل التاريخي الجديد، الذي ارتبط بنشأة النظام العولمي الجديد منذ عقدين من الزمن، راح ينحسر بعد ظهور المنظومة العولمية الفكرية، وفي مقدمتها إناطة وظيفتين اثنتين بالمرأة، هما التحول إلى مُسوقة للسوق الكونية السلعية، والتحول إلى مُسوقة في هذه السوق، وثمة ما يعطي هذه الكلمات المصداقية أو بعضها فيما أخذ يطرح نفسه على صعيد العلاقة القائمة الآن في ألمانيا بين الفقراء المهمشين من طرف وبين الاقتصاد الأوروبي و(الأميركي) من طرف آخر، الآخذ في اضطراب وتأزم قد يكونان دائمين لوقت غير قصير.
ذلك ما يتصل بالمرأة الأوروبية، جزئياً على الأقل، أما على صعيد المرأة العربية عموماً والعربية الإسلامية خصيصاً، فنلاحظ ما راح يفرض نفسه في كثير من الوضعيات هناك بما يدخل في السياق الذي نحن فيه، فبعد قرن من الزمن حققت فيه المرأة المذكورة تحولات جزئية ذات بعد مستقبلي، تجد نفسها الآن – في عمومها – وقد راحت تعيش حصارات جديدة ترغمها على العودة إلى جسدها على حساب إنسانيتها ذات الأبعاد المتعددة، فبعض المجتمعات العربية تعاني من تعاظم وطأة الفقر والإفقار، وإرغام معظم الرجال على العمل ليل نهار، إذا أتيح لهم ذلك، مع اتساع دوائر الفساد والإفساد، وعودة الأمية بوتائر خطيرة في أوساط الفقراء، والإناث منهم بكيفية خاصة، وانتشار ثقافة الرعب والقهر والرشوة وبيع الضمائر والأجساد إلخ.
لقد راح ذلك يُحدث قلقاً عارماً في الحياة العربية العامة، خصوصاً مع نشوء حركات ظلامية مضادة للمرأة تحديداً، منها ما يصل إلى حد استباحتها، ومنها ما يحوّلها إلى مشروع استباحة بطيئة، ولنقرأ خبراً جرى تعميمه من إسلام أباد في الخامس والعشرين من هذا الشهر الثاني عشر، ويقول: أصدر “شاه دران” الزعيم المحلي في “طالبان” قراراً بمنع الفتيات من التوجه إلى المدرسة اعتباراً من يناير المقبل، وهدد فيه بقتل كل من تتحدى هذا الأمر ابتداء من 26 من هذا الشهر، نعم إنهما خطان متوازيان بين الحالة الأوروبية والأخرى العربية من حيث الخصوصية، ولكنهما يلتقيان من حيث الإشكالية.




أعلى